الشرق الأوسط،
30/10/2002
أظهرت مواقف الشرائح اليسارية البريطانية من الموضوع العراقي، وأكدت
مرة أخرى، مدى تأصل موروثات الحرب الباردة في عقول ونفوس أوساط غفيرة من اليسار
الأوروبي، لا سيما الشيوعية، وأقصى اليسار منه. فلا تزال العقلية السائدة هي الصراع
«ضد الإمبريالية الأمريكية» وكأننا في أيام حرب فيتنام. وهذه العقلية تستثمر
النزعات السلمية لدى قطاعات واسعة من الشعب البريطاني لا تريد مشاركة بلادها في حرب
لم تفهم بعد علاقتها بالأمن البريطاني. ويشبه بعض المراقبين هذه النزعة بالنزعة
السلمية، أيام استفحال الخطر النازي، وانصياع رئيس الوزراء شمبرلن للابتزاز الهتلري
مستندا الى جهل البريطانيين بالخطر المقبل. وبالنسبة لليسار الغربي، فعندما يقترن
الموروث العقائدي ـ السياسي بجهل الأكثرية لحقيقة الوضع العراقي بكل جوانبه وعناصره
وتعقيداته، تكون الصرخات المتصاعدة ضد «الحرب على العراق»، مفهومة، وإن لم تكن
مبرّرة. والملاحظ هنا مدى تخلف إعلام المعارضات العراقية في مخاطبة الرأي العام
الغربي، واستغلال كل الإمكانيات المالية والسياسية والفنية والإعلامية لمخاطبة هذا
الرأي العام، إذ انه حتى بين اليسار الغربي نجد شرائح تجهل تفاصيل ما يعانيه الشعب
العراقي من قمع دموي، وإذلال يومي، وجو بوليسي تجسسي، حتى داخل البيوت وبين أفراد
العائلة الواحدة. وبدلا من كثرة المقالات والندوات ومواقع الإنترنيت العراقية
بالعربية، فقد كان من الواجب التفكير الجاد في اختراق الإعلام الغربي بكل الصيغ
الذكية الممكنة وعلى أساس الوقائع الدامغة وليس الإشاعات والتهويل. لقد صعدت موجة
اليسار في العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فاستطاعت الأحزاب الشيوعية في
دول كبيرة كفرنسا وإيطاليا الوصول الى مراكز حكومية كبيرة وأن تحوز مواقع نيابية
كبرى. وتقدمت الحركة الشيوعية في العديد من الدول الآسيوية والعربية والأمريكية
اللاتينية تقدماً كبيراً في مقدمة حركات التحرر الوطنية. ومنذ أواسط الستينات من
القرن المنصرم، قفزت حركات أقصى اليسار من اللون الصيني (سابقا!)، والغيفاري ـ
الكوبي، والفوضوي والتروتسكي، قفزات هائلة على حساب الأحزاب الشيوعية التي اتهموها
بالبيروقراطية والتحجر. وتجلى ذلك مثلا في شعبية غيفارا عالمياً، وفي حركات الشبيبة
والطلبة في فرنسا، وفي بلدان غربية أخرى. لقد حدث تمرد واسع النطاق على القيادات
السياسية التقليدية من شيوعية وحاكمة، ولكن الموجة سرعان ما انحسرت هي الأخرى في
الوقت الذي كانت فيه الأحزاب الاشتراكية المعتدلة تتقدم شعبياً وحكومياً، وهي
الأحزاب التي اعتبرتها الستالينية في الثلاثينات «خائنة للطبقة العاملة» و«عميلة
للبرجوازية». ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، والكتلة الشيوعية، تراجعت
الايديولوجيات الحادة والمتكلسة للوراء، وانتصرت تدريجياً تيارات الاشتراكية
المعتدلة التي تترجم نفسها حين تتحكم بقرن الديمقراطية البرلمانية بحد مناسب من
العدالة الاجتماعية (معونات اجتماعية، تحسين ظروف معيشة العائلة، العناية
بالمهاجرين، الضمانات الصحية.. الخ)، كما أن أحزابا شيوعية عديدة راجعت المبادئ
والممارسات باتجاه الاعتدال. فالأنظمة الشيوعية كانت توتاليتارية تعطي مكاسب
اجتماعية مهمة ولكنها تسلب الحرية وتقيم الحكم البوليسي الذي يخنق الأنفاس، ويضم
بالقوة القوميات والأقليات. وكانت أجهزة المخابرات والأمن تطارد كل همسة حتى في
مخادع النوم ـ وهي الشرور التي تعلم منها حكام طغاة في عدد غير قليل من البلدان
التي تسمى بالنامية. لقد كانت مرحلة الحرب الباردة منذ أعقاب الحرب العالمية
الثانية وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي، مرحلة صراع عالمي، سياسي وايديولوجي، وكان
اليساريون في العالم، ومن كل التيارات، يرفعون علم «الكفاح ضد الإمبريالية
الأمريكية» ويرون في كل مكان «الأصابع الأمريكية المتآمرة». وكانت هذه الشعارات
تعبيراً عن عقلية راسخة لا ترى في الولايات المتحدة غير الشر، ولا تكن لها غير
الكراهية و«الحقد المقدس». وكان اليساريون في البلدان النامية يرجعون كل مآسي
شعوبهم إلى «الاستعمار»، في حين كانت بلدانهم قد تحررت وانتقلت السلطة إلى حكام
محليين. وكان كل تحرك أمريكي يفسر بالأطماع البترولية والرغبة في السيطرة على
العالم. والحقيقة أن كثيراً من تلك الاتهامات لم يكن بدون أساس، بل كان صحيحاً. غير
أن اليسار كان يخطئ في تفسير دوافع الدول الشيوعية الكبرى كالاتحاد السوفييتي
والصين في مواقفها من قضايا الشعوب. فقد التقت مواقف تلك الدول مرات ومرات مع مصالح
الشعوب الصغيرة والطبقات الكادحة. غير أن السوفييت والصينيين كانوا ينطلقون من
المصالح والحسابات الوطنية الخاصة بهم، وليس من أية مبادئ إنسانية مجردة. فسياسات
ستالين وخلفائه الخارجية، بما في ذلك العلاقات بالأحزاب الشيوعية الأخرى، كانت من
منطلق مصالح الدولة السوفييتية، وهكذا وقفت مع العرب في معارك التحرر الوطني بعد
الحرب الثانية ولكنها سارعت لتأييد قرار تقسيم فلسطين، ثم رعت الحياد الإيجابي،
وساعدت على كسر الاحتكار الغربي للسلاح، ووقفت ضد العدوان الثلاثي، وأيدت مصر
الناصرية، في حين كان الشيوعيون المصريون في المعتقلات ويتعرضون لأبشع أنواع
التعذيب، وضغطوا على شيوعيي مصر ليحلوا منظماتهم في الاتحاد الاشتراكي الحكومي،
وحاولوا شيئا من هذا في العراق عام 1964.
إن الدول، كل دول العالم، تسيّرها
مصالحها وحساباتها، التي قد تلتقي أحياناً مع مصالح الآخرين في هذا الوقت أو ذاك.
فليست الولايات المتحدة وحدها بالتي تسيّرها مصالحها وحساباتها الاستراتيجية.
فستالين اتفق مع هتلر قبل الحرب ثم تحالف مع «الإمبرياليات الغربية» لقهر الهتلرية
والفاشية. وقد يقال إن أمثال هذه التحالفات الوقتية مقبولة بين الدول، ولكن مدانة
حين تلجأ لها قوى معارضة لأنظمة بلدانها. ولكن كيف يفهم اليساريون العرب والغربيون
اتفاق لينين عام 1917، مع القيصرية الألمانية، التي كانت في حرب مع بلاده، فعاد
سراً بحماية الألمان لدك القيصرية الروسية وانتزاع روسيا من الحرب مع الألمان؟ أهل
كانت تلك «خيانة وطنية» أو «عمالة»؟.
إن الوضع العراقي بالغ التعقيد، إن أسئلة
كثيرة يمكن توجيهها لمن هم ضد كل مساعدة أجنبية (حتى لو كانت أمريكية) لضرب النظام
العراقي ومن هذه الأسئلة:
1 ـ هل النظام المذكور يضطهد شعبه ويسحق حقوقه كلها
منذ سنوات طوال إلى حد التهجيرات والإعدامات الجماعية وتحريم كل أنواع الحريات؟ هل
حاول النظام ولو جزئياً تغيير نهجه الشمولي والانفتاح على الشعب وحرياته، أم ازدادت
الأحوال سوءاً خلال العقد الأخير؟، وهل لا ينبغي إبداله بنظام ديمقراطي؟ هل يمكن أن
يكون أي وضع قادم أسوأ من جحيم اليوم؟ ولليسار الغربي، وللفلسطينيين ولبقية العرب
من ساسة ومثقفين والسائرين وراءهم، يجب أن يُقال: هل تعتقدون حقاً أن العراقيين
يستحقون هذا الإذلال المستمر، وجحيم المخابرات، والتعذيب والسجن، ونهش الكرامة،
واستخدام الورقة التموينية سلاحاً مقيتاً للدعاية والابتزاز؟ وهل أطفال العراق
يستحقون التسرب من مدارسهم للتشرد والشحاذة والعمل الشاق في حين تنعم الفئة الحاكمة
وتجار الحظر الاقتصادي، من مسؤولين ورجال أعمال، بطيبات البلد وخيراته، وثرواته؟،
وهل هذه عاقبة العراقيين الذين كانوا حتى عقود قريبة أهل مرح و«فرفشة»، وحيث كانت
الشواطئ الجميلة لدجلة تحت تصرفهم ليل نهار، وهي اليوم أسلاك شائكة، وحمايات قصور،
وأوكار مخابرات، ومن يقترب منها قد يواجه الرصاص؟، ولماذا يقبل العرب بهذا المصير
البائس لشعب عريق قدم لفلسطين وللعروبة خدمات وتضحيات؟، وهل يليق بالفلسطينيين
اسقاط معاناة شعبنا وتمجيد جلاديه في الشوارع، وحيث صارت كثرة من العمليات
الانتحارية هي لخدمة النظام العراقي وبالضد من مصلحة فلسطين؟.
2 ـ هل الوضع
العراقي يحمل أي متنفس للقوى الوطنية لكي تمارس في الداخل نضالاً فعالاً لوحدها
كافياً لتحقيق ذلك الهدف؟.
3 ـ هل ان قبول العون الدولي لتحقيق هذا الهدف محرم
من حيث المبادئ، أم يمكن قبوله في ظرف معين ولهدف يخدم ما تريده غالبية الشعب
العراقي، وهو الخلاص من الطغيان الشمولي، وقيام حكم ديمقراطي؟ ان الوضع الراهن هو
بمثابة دمل سرطاني لا نقوى لوحدنا على استئصاله، فلماذا نرفض مساعدة من لديهم
القدرة على الرغبة في الاستئصال ـ ولو بثمن بعض الآلام؟.
ليس التحلي بموقف واقعي
«براغماتي» من مسألة تعاون المعارضة العراقية مع أمريكا سهلاً بالنسبة لمن تأصلت
فيهم عقلية الكراهية والعداء تجاه السياسات الأمريكية (وكان منهم كاتب هذه السطور)،
غير أن المصلحة العامة هي الأهم وهي المعيار. وسياسات واشنطن تجاه عدد من قضايانا
لا تزال ظالمة ومدانة، ولكنها من الجهة الأخرى مع لندن وحدهما اللتان تريان من
مصالحهما اليوم إزاحة النظام العراقي بعد عقود من مراعاته وحتى دعمه. فالمصالح
والتحالفات تتغير بالنسبة لكل دول العالم، ولا سيما الكبرى منها. فمن المؤسف أن
الدول والقيادات السياسية العربية والإسلامية هي اليوم مع بقاء النظام العراقي دون
أي اهتمام بمعاناة الشعب العراقي. ودول كبرى كفرنسا وروسيا تعارضان مؤقتاً تبديل
النظام لا من موقع المبادئ بل من حسابات المصالح، فإذا جرت ترضيتها تبدلت مواقفها
الراهنة. وكان الأفضل لو جاء العون الفعال لشعبنا من الدول والقيادات العربية
والإسلامية، ولكن مواقفها تدعو للدهشة والأسى، فلماذا يستنكرون قبول الدعم الأمريكي
والبريطاني وهو الوحيد المعروض لقوى التغيير العراقية؟ وكيف يلام رجل واقع في قبضة
زمرة مغتصبة تهم بقتله وتكاد تهلكه فقبل كل مساعدة ـ ومن أي كان ـ للخلاص؟ هل سيسأل
عن نيات منقذيه وأهدافهم البعيدة التي قد تتعارض مع مصالحه البعيدة؟ وانه لمن
الضحالة السياسية الحديث عن الدافع النفطي في الموقف الأمريكي، فأولا ان استراتيجية
وحسابات أمريكا تبدلت منذ 11 سبتمبر وصار الدافع الأكبر هو البعد الأمني، وإن كان
ذلك لا يعني التخلي عن الأغراض الأخرى. وثانيا، ان تحليلا كهذا يفرض ضمنا أن النظام
العراقي حريص على المصالح الوطنية النفطية وغير النفطية، في حين أن كل الاحداث
والمواقف برهنت على أن الدافع الوحيد للنظام هو البقاء، ومن أجل ذلك، فهو مستعد لأي
تنازل عن حقوق البلد كما فعل مراراً وتكراراً. ولو عرف أن أمريكا لا تريد غير نفط
العراق وسوف تكف عنه لو حصلت على ذلك، للبى الطلب حالا، وهذا ما تعرفه واشنطن جيدا،
فلماذا تستخدم البديل العسكري لو استطاعت تحقيق (الغرض النفطي) بمجرد
الإشارة؟.
وقد كان غريبا أن يشارك يساريون عراقيون في مظاهرة لندن مؤخرا تحت
شعار وحيد «ضد ضرب العراق» (مع أن الهدف هو ضرب النظام لا البلد)، ودون رفع شعارات
تندد بالنظام وجرائمه وتدعو لإزاحته حالاً؟ وبعض من ينادون في مناسبات أخرى بمحاكمة
أقطاب النظام لا يستطيعون إفهامنا كيف يتم ذلك من دون ضرب النظام واعتقال المطلوبين
كما جرى للصربي ميلوسوفيتش، ومن اليساريين الغربيين من يتحدثون عن حقوق الإنسان في
كل مكان وحتى في حالة إرهابيي «القاعدة» المعتقلين، ولكنهم يستثنون الشعب العراقي
من المطالبة بضمان حقوقه وبوجوب رفع الكابوس عنه، ويتناسون القرار الدولي رقم 688
حول الديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق كما تتناساه الدول العربية والإسلامية
وروسيا والعديد من الدول الغربية، كما يعمدون إلى تناسي مماطلات النظام وتعنّته في
التعامل مع سلسلة قرارات مجلس الأمن عن الأسلحة العراقية ثم مقاطعة المجلس أربع
سنوات كاملة دون أن تحرك الدول والأمانة العامة ساكناً، حتى إذا أصبح مطلوباً فرض
قرار جديد يوقف التلاعب والمناورة راحوا ينادون بالويل والثبور من كل حدب
وصوب.
ان النظام العراقي هو الذي يضطهد الشعب ويصرف الأموال العامة على التسلح
والقصور وشراء ذمم الحكومات والصحف والقنوات والأفراد، وهو الذي ربط البلد
بالقرارات الدولية، وهو الذي لا يدع أي منفذ للحرية والمعارضة الداخلية، هذا كله من
فعل النظام لا فعل أمريكا، فإذا التقت اليوم مؤقتا مصلحتها الخاصة مع هدف تغيير
النظام، وهو ما يطلبه الشعب، فلماذا الاعتراض والإدانة والضجة؟ ولماذا يحرّمون على
الوطنيين العراقيين ما يستبيحون في حالات شعوب أخرى، ولا سيما الإخوة الفلسطينيين
الذين يلجأون لأمريكا بالذات طلبا للعون ضد وحشية شارون ـ ناهيكم من البوسنة
وكوسوفو وجزر تيمور الشرقية والأفغان!، ولماذا يباح تقديم أنظمة عربية للعون المالي
والتسلحي لمنظمات وحركات خارج بلدانها، وأكثريتها تقوم بأعمال القتل والدمار، ثم
يراد حرمان الشعب العراقي من فرصة نادرة قد لا تتكرر للخلاص الوطني والحياة الحرة
والآمنة؟ وثمة من يقولون إن جماهير العراقيين صارت تتقبل العون من أية جهة جاءت،
ولكن النخب السياسية والمثقفين العراقيين كلهم يحرمون ذلك بسبب تقييمهم السلبي
«الصحيح» لسياسات واشنطن وعدم الثقة بها، لكن ما هو معروف جيدا هو أن أكثرية القوى
السياسية العراقية العاملة من أجل التغيير مقتنعة بضرورة تلقي العون الخارجي ما دام
التغيير سيكون عراقياً، والنظام القادم باختيار عراقي، أي التغيير لمصلحة العراق.
أما بعض القوى السياسية الأخرى، فإنها إما تحت تأثير بعض الأنظمة العربية، المنتفعة
من التجارة وتهريب النفط العراقي، وإما أنها لا تزال في عالم الحرب الباردة. وخطيئة
هذه القوى الوطنية أنها تريد عرقلة عملية تاريخية قد تعود عليها هي، فضلا عن الشعب
كله، بالخير. فلماذا مهرجانات الإدانة مسبقاً بدلاً من الانتظار والترقب، فإذا تم
التغيير الديمقراطي لأمكن لهم العمل السياسي الحر داخل الوطن من أجل أهدافهم، أما
إذا لم تتحقق الآمال فإنهم لن يتحملوا أية مسؤولية، بل سيتحملها غيرهم. فأنتم يا
إخوان غير قادرين على ترحيل النظام بقواكم الخاصة المحدودة جدا، ومع ذلك تعارضون في
الوقت نفسه القوى التي تؤكد أن التغيير الداخلي ممكن بالعون الدولي، دعوهم يعملوا
ولا تلقوا في وجوههم بتهم العمالة وما أشبه، ولا ترددوا دعايات النظام وأنصاره عن
أخطار موهومة حول التقسيم وتفتيت البلد إلى دويلات، وهذه مجرد فزاعة يذهب ضحيتها
حتى بعض الذين سيرتاحون لرحيل النظام، والمستقبل، على أية حال، كشاف!.
* كاتب عراقي مقيم في باريس