|
حزيران يحتل المخيم !!
عبد الكريم عليان
(Abdelkarim Elyan)
الحوار المتمدن-العدد: 4141 - 2013 / 7 / 2 - 15:18
المحور:
ملف - القضية الفلسطينية، آفاقها السياسية وسبل حلها
حزيران يحتلُّ المخيم !! قبل ستة وأربعين حزيران.. كنت حينها لم أتجاوز العشر حزيرانات، لكن المخيم الذي ولدت فيه لم يكن هو مخيم اليوم؛ فاليوم أصبح عاصمة للمحافظة الشمالية ومركزا تجاريا هائلا لها.. وبيوت القرميد البسيطة صارت عمارات ذات طوابق مرتفعة.. والشوارع الترابية التي شقها الاحتلال داخل المخيم صارت مرصوفة، وأزقة اختفى منها التراب.. وبدلا من بيارات البرتقال التي تحيط به من الجهات الأربعة، صار محلها أحياء سكنية منظمة، وكان سكان المخيم يحصلون على قوتهم من الحمضيات بأنواعها بما يشبه المجان، لكنهم اليوم يشترون حمضيات مستوردة يصل سعر الكيلو منها أحيانا لثلاثة دولارات.. عدد اللاجئين فيه بلغ 33100 نسمة أما اليوم فقد زاد عددهم عن المائة ألف لاجئ.. وبما أنه أكبر مخيم للاجئين، وقريب جغرافيا من مدنهم وقراهم التي هجروا منها؛ فقد حمل راية الثورة منذ تأسيسه.. ودفع بآلاف الشهداء من أبنائه.. كان المخيم مدرسة للثورة والكفاح؛ فبعد النكسة استمر المخيم في المقاومة بما يشبه حرب استنزاف، وحرب شوارع ضد جيش الاحتلال استمرت لسنوات طويلة.. لكن الاحتلال بقيادة أريئيل شارون القائد العسكري لقطاع غزة في عام 1971 أضعف من قدرة الفدائيين داخل المخيم عندما قرر هدم مئات البيوت وترحيل أصحابها إلى سيناء وأريحا، وقام بفتح طرقا كبيرة داخل المخيم مما سهل لقوات الاحتلال مطاردة الفدائيين ومحاصرتهم.. والسيطرة على المخيم بسهولة؛ مما أضعف كثيرا من المقاومة، ويمكننا القول بأن ذلك المخطط قد أنهى حرب الاستنزاف، أو حرب الشوارع.. لكن المخيم لم يفقد المبادرة أو المقاومة، إذ لم يتوقف عن ضرب جيش الاحتلال بين الفينة والأخرى وبقى مسرحا لعمليات هجوم متنوعة على ثكنة الجيش التي تحتل مركز المخيم، والدوريات الراجلة والمحمولة في داخل المخيم وخارجه.. وليس غريبا على المخيم بعد عشرين عاما من احتلاله في أن يشعل ثورة من نوع جديد، حيث دشنت تاريخا جديدا في الصراع العربي مع الكيان الصهيوني، ألا وهي ثورة الحجارة أو الانتفاضة المجيدة التي أدت برئيس الكيان الصهيوني، لأن يحلم في أن يبتلع البحر غزة..! الأشهر القليلة التي سبقت حرب حزيران، شهد المخيم نشاطا محموما، وحماسا غير عادي.. لم أتذكر أي من أترابي في الحارة عندما كنا نذهب إلى الساحة الرملية خلف مركز الشرطة الوحيد في المخيم ونشاهد عن قرب تدريب الجيش الشعبي على السلاح، ولم نعجز كأطفال من الذهاب لأبعد من تلك الساحة القريبة، إلى ساحة أبعد من أطراف المخيم، وهي ما كانت تسمى "جميزات أبو غنيمة " التي تلفها بيارات البرتقال، حيث التدريب هناك أكبر وأوسع لجيش التحرير الذي كان يسميه الناس جيش " الشقيري" نسبة إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري ـ رحمه الله ـ كم تمنينا لو كنا كبارا كي نحمل السلاح استعدادا للحرب.. لم يملك المخيم سوى عددا قليلا من السيارات الخاصة أو سيارات الأجرة، وطلب من أصحابها أن يقللوا من حركتها في الليل، وإن ساروا عليهم أن يطلوا مصابيح سياراتهم بالأزرق خوفا من الطائرات حسب ما أشيع في ذلك الوقت.. كان لليل المخيم هواجسه، إذ لم يكن به كهرباء.. وكنت ترى بعض أسرجة الكيروسين عند بعض ميسوري الحال، مع أن الأونروا كانت تزود اللاجئين بمادة الكيروسين إلا أنها كانت تستخدم للطهي أيضا ولا تف بالحاجة.. كانت البيوت والشوارع مخيفة في حلكة الليل، أما الليالي المقمرة خصوصا في الصيف فتتحول أزقة المخيم وشوارعه إلى حلقات من السمر يؤنس الناس بعضهم الآخر.. لم يكن حينها التيارات السياسية الموجودة حاليا.. كانت الناس على قلب رجل واحد هدفه الأساسي الرجوع إلى الديار والقرى التي هجروا منها قبل عشرين آيارا أو حزيرانات أُخر من النكبة.. لا أتذكر تاريخ اليوم المشهود للمخيم حينما أوصلوا خطا للكهرباء لمدرسة ذكور الإعدادية (أ) في وسط المخيم، حيث بها ساحة كبيرة تتسع لجماهير كبيرة استعدادا لاستقبال الشقيري؛ مدرسة ذكور جباليا الإعدادية (أ) للاجئين كانت مدرسة للثوار؛ فسبق للشاعر القائد "معين بسيسو" أن اشتغل فيها معلما.. ومما لا شك فيه أنه قاد مظاهرات 1955 ضد توطين اللاجئين في سيناء من هناك.. كيف لا وهو يعيش مع اللاجئين ويعلمهم اللغة والمعرفة والثورة..؟! حدثني أحد المعلمين الذين عملوا مع معين في نفس المدرسة، وعندما سجنته المخابرات المصرية.. حضر الحاكم العسكري لقطاع غزة بصحبة مسئول عسكري كبير ليبرر حبس المعلم القائد، وفي طابور المدرسة قال المسئول أمام الطلبة والمعلمين بأن التحريات تقول أن معين يتخابر مع الصهاينة.. بالطبع كانت المدرسة تعرف معين جيدا، ويعرفون سبب حبسه، وبصوت واحد كان ردّ الطلبة على المسئول: "كذاب كذاب والله العظيم كذاب" طلبة تلك المدرسة حديثة العهد لم يكونوا طلبة إعدادية مثل طلبة اليوم، بل كان معظمهم من الرجال الذين التحقوا بالمدرسة كبارا بعد النكبة.. وإذ سجلت حالات في ذلك الوقت أن عمل خريجون من تلك المدرسة معلمين أيضا.. امتلأ المخيم بصور الشقيري مع عبد الناصر، وارتفعت اليافطات الحماسية، ورفرفت أعلام فلسطين، وكذلك أعلام الجمهورية المتحدة.. وصدحت أغاني الثورة من سماعات الراديوهات القديمة كبيرة الحجم القليلة عند بعض الباعة في سوق المخيم، ومقهى أبو عرفات.. صوت المذيع أحمد سعيد كان حماسيا يعلو على كل الأصوات.. حفظنا في حينها أسماء القيادات العربية المؤيدة بقوة لنا.. جمال عبد الناصر، شكري القوتلي، أحمد بن بيلا، عبد السلام عارف، عبد الله السلال، الحبيب بورقيبة.. من حظي أنني كنت أسكن بالقرب من السوق الكبير الذي يحاذي مدارس الذكور وبالقرب من موقف السيارات التي تنقل إلى مدينة غزة والمسجد الرئيس للمخيم مما كان يسهل لنا نقل الأخبار والنشاطات والفعاليات بسرعة كبيرة.. استقبال الشقيري في المخيم كان له الأثر الكبير في نفوس اللاجئين وحماسهم وتشجيعهم للالتحاق بجيش التحرير المرتقب وتأييدا كبيرا لمنظمة التحرير الفلسطينية التي تأسست للتو.. أكثر من أسبوع قبل الزيارة والاستعدادات على أكمل وجه، انتشرت قوات كبيرة راجلة ومحمولة، قوات من كتيبة مصطفى حافظ ، وقوات مصرية، وقوات من جيش التحرير، ورجال المباحث.. شباب من الفتوة الذين تدربوا على السلاح في مدرسة الفالوجا الثانوية للبنين.. أما مدرسة الفالوجا للبنات خرجن في مظاهرة وهتفن بأعلى صوت: " يا شقيري هات هات.. هات سلاح للبنات..." . قبل الحرب تناقلت النسوة إشاعة تفيد بأن امرأة يهودية قد وضعت مولودا ذكرا بقبضتين مغلقتين، وعندما فتحت كفاه بقوة، وجدوا مكتوبا عليهما " النصر للعرب" فقام اليهود بقتل الأم ووليدها.. لا نعرف مصدر تلك الإشاعات، لكن النسوة كن يتداولن أكثر من إشاعة من هذا القبيل.. إلا أن أجمل أغنية كانت تغنيها النساء في ذلك الوقت هي: "طوعني معك" وجاءت مطالبة بالنضال أسوة بالرجل، والتطوع بدأ قبل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية؛ إذ شكل الجيش المصري كتيبة من المتطوعين المقاتلين الفلسطينيين، وعرفت باسم (السحرتي) وكان يقودها المناضل: قصي العبادلة الذي عمل فيما بعد قاضيا في الكويت، واستطعت تجميع بعضا من كلماتها كما يلي: طوعني معك.. طوعني معك يا رايح متطوع طوعني معك.. ماني مودعك.. ماني مودعك مالي قلب يودع.. ماني مودعك على المطوع على المطوع.. والله لأبدع وأقول على المطوع.. قلبي متلوع.. قلبي متلوع من حزني والفراق قلبي متلوع.. بس ارفع ايدك.. بس ارفع ايدك سلم سلام حباب.. بس ارفع ايدك لو كنت أريدك.. لو كنت أريدك ويش ينفع الحراس لو كنت أريدك.. بفَي الليمونة.. بفَي اللليمونة لأَفرش وأنام الليل بفي الليمونة.. حُب المزيونة.. حُب المزيونة يِسوى الأهل والمال حُب المزيونة..
( أبو وجيه ) شخصية مشهورة في سوق المخيم إذ كان يمتهن تصليح الأحذية منذ شروق الشمس حتى مغيبها في شارع السوق الرئيسي المؤدي إلى المدرسة، وإذا ما مررت من هناك في أي وقت من النهار ستجد الزبون تلتف من حوله.. وقيل أنه التحق بالتجنيد الإجباري فيما بعد، من درجة يقظته وحماسته أشيع بأنه أمسك بجاسوس في السوق وسلمه للجهات المختصة.. تبقى يوم أو يومان لزيارة الشقيري.. الجميع يتحدث عن زيارة القائد، وأن التحرير والعودة باتت قريبة..
لأول مرة أرى فيها جنودا بالزي العسكري المبرقع إنهم رجال الصاعقة، جارنا (طلعت) الشاب الطويل كان منهم وغاب عن الحارة فترة قبل أن نراه في لباس الصاعقة.. تعودنا أن نرى سلاح الكارلوستاف في أيدي فدائيي مصطفى حافظ ، إلا أننا لأول مرة نرى فيها سلاح الكلاشينكوف في أيدي الجنود.. أما السلاح الذي كانوا يتدربون عليه خلف مركز الشرطة فكان بندقية من نوع ( برن )، ومؤخرا بدأت تظهر أسلحة ثقيلة من نوع: اجرينوف ودكتريوف وسيمينوف.. نحن الصغار كنا ننشد أغنية انتشرت حديثا تلحين الموسيقار (علي إسماعيل) الذي لحن النشيد الوطني الأول "فدائي .. يا شعبي" أما الأغنية الأولى كلماتها تقول:
يا ولاد حارتنا .. يويا / نصبوا طارتنا.. يويا / وطارتنا تطير طير العصافير.. يويا / تروي الأحزان كان ياما كان / يوم سبت سبات أجو الخواجات.. يويا / أخذوا حارتنا.. يويا / كسروا لعبتنا .. يويا / دولاب الدم قد عم وطم.. / ورفضنا نهاجر.. قال اللي بيقول.. شدة وبتزول/ لا شدة زالت .. ولادتنا طالت/ صرنا لاجئين .. كرت التموين/ زي طير مهاجر .. في الدنيا مسافر / يعني الموضوع.. عيسى اليسوع/ رجعوا صلبوه.. برصاص طخوه/ والأمر الواقع .. قمع ومدافع/ ممنوع نشكي.. ممنوع نحكي/ طب نسكت ليش.. لقمة العيش/ يلعن أبوها.. للي جابوها/ ليش السكوت.. ما كله يموت/ ونموت بعزّة.. لا موتة معزة/ قررها الشعب.. الطريق الصعب/ في كرم التين.. بننصب كمين/ ارجم يا مسخمط.. حجرك المزغمط/ وفي المجاميع.. نجهز مقاليع/ يا وطن مجروح.. ع كف الروح/ وبالمولوتوف.. دسنا ع الخوف/ حررنا شوارع.. عنها بندافع/ إذا قلعوا شجرة.. ابنزرع عشرة/ يالله يا أبطال.. ما في محال/ صامد بالدار.. / هامة محنية.. لكنها أبية/ منه بنتعلم.. نمشي ونتقدم/ وأم الجدايل.. حرة وبتقاتل/ وأم الزغاريد.. عرس الشهيد/ راح نستمر.. منطول النصر/ شعبنا قرر.. لازم نتحرر/ نبني للمجد.. دولة الوعد/ فلسطينية .. حرة .. عربية..
بالطبع كنا ننقسم فريقين، فريق حافظ للأغنية وفريق يقول اللازمة "يويا.."، أما أغنية النشيد الوطني الذي كتب كلماتها الشاعر (سعيد المزين) ولحنها الموسيقار (علي إسماعيل) في العام 1965 قد أصبحت النشيد الوطني الذي كنا ننشده في طابور المدرسة الصباحي، وهو:
فدائي فدائي / فدائي فدائي يا أرض الجدود/ فدائي فدائي يا شعب الخلود/ بعزمي وناري وبركان ثأري/ وأشواق دمي لأرضي وداري/ صعدت الجبال وخضت النضال/ قهرت المحال عبرت الحدود/ بعزم الرياح ونار السلاح/ وإصرار شعبي لخوض الكفاح/ فلسطين داري ودرب انتصاري/ فلسطين ناري وأرض الصمود/ بحق القسم تحت ظل العلم/ بأرضي وشعبي ونار الألم/ سأحيى فدائي وأمضي فدائي/ إلى أن أعود .. فدائي .. فدائي..
في مدرسة ذكور جباليا الإعدادية (أ) للاجئين لم أتذكر تاريخ ذلك الصباح، لكنه في العشرة الأخيرة من شهر آيار من العام 1967، بدأت جماهير المخيم وربما من خارجه تأخذ مكانها في ساحة المدرسة ونشيد فدائي يصدح من مكبرات الصوت التي جهزت لخطاب الشقيري.. ما هي إلا ساعات قليلة، وامتلأت المدرسة بالجماهير، واكتظت الشوارع بالمستقبلين.. وصل الرئيس أحمد الشقيري برفقة الحاكم الإداري لقطاع غزة الفريق يوسف العجرودي، ويرافقهم الدكتور حيدر عبد الشافي ـ عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومدير مكتب منظمة التحرير في غزة: الأستاذ مجدي أبو رمضان، وجمع غفير من الوجهاء وثلة من الحرس وقيادات الجيش المصري في غزة.. استقبلتهم النساء بالزغاريد والهتافات الوطنية، اعتلى المنصة مع قيادات الأحزاب السياسية في ذلك الوقت.. بدأ عريف الحفل الأستاذ: يونس الكتري ـ عضو المجلس الوطني الأول والمنتخب حديثا ، بالترحيب، ومن ثم أعطى الكلمة الأولى للقيادي: أسعد الصفتاوي عن حركة الأخوان المسلمينن، وأكد في كلمته على أهمية الفكر الإسلامي في تحرير فلسطين وتوحيد الصفوف.. أما القيادي عن حركة القوميين العرب، الأستاذ: محمد شعبان أيوب، قرأ الفاتحة أولا وطالب بعدم التعاون مع الشيوعين الذين هتفوا بسقوط جمال عبد الناصر في العام 1955، حينها ضج الجمهور معترضا، مما دعا الحاكم: يوسف العجرودي للتدخل؛ فزجر محمد أيوب قائلا: "لم أحضر إلى هنا.. لأسمع كلام فارغ مثل هذا الكلام.." ودعى محمد أيوب للجلوس... بعدها تحدث الشاعر الأستاذ: معين بسيسو عن (الحزب الشيوعي الفلسطيني) وبدأ كلمته بالقول: "كنت معكم صريحا لأبعد الحدود في هذا المخيم، وإذا ما سقطت قنبلة على هذا المخيم فلن تفرق بين أحد منكم.. نعم! هتفنا بسقوط عبد الناصر في العام 1955 لأنه وافق على مشروع توطين اللاجئين في سيناء.. ونحن لا نخجل من تاريخنا، لكننا اليوم نهتف لعبد الناصر الذي يقف مع الشعب الفلسطيني، ويبني الاشتراكية في مصر... ". بعدها تكلم الأستاذ علي هاشم رشيد عن حزب البعث العربي الاشتراكي، ودعى في كلمته للوحدة الوطنية.. ومن ثم تحدث الرئيس: أحمد الشقيري رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ودعى إلى رص الصفوف والالتفاف حول جيش التحرير الفلسطيني وتسليحه.. وفي أثناء الخطاب دخل شيخ مسن يعرفه كل أبناء المخيم، اشتهر بكنية (الشيخ لمون) الذي حاول جاهدا من بين الجماهير الوصول إلى المنصة رافعا عكازته بدلا من يده ويهتف: شقيري.. شقيري.. وما أن رآه الشقيري يقترب من المنصة؛ فقطع خطابه وقال: "إن جيش التحرير الفلسطيني سيشق طريقه إلى فلسطين مثلما يشق هذا الرجل العجوز طريقه إلي وهو يقول شقيري شقيري.." في الإجازة المدرسية الصيفية، حاولت اكتشاف عالما آخر غير عالم المخيم.. عمي الذي أحبه كان يسكن مخيم الشاطئ، ولأن شاطئ البحر لم يبعد إلا خطوات قليلة من بيت عمي، فكان هو مقصدي وعالمي الكبير.. مكثت هناك يومين أو أكثر بصحبة ابن عمي الذي يساويني في العمر.. كنا نلهو على الشاطئ تارة، وتارة أخرى ننزل في مياه البحر الذي كانت تقذفنا أمواجه هنا، وهناك.. غادرنا مخيم الشاطئ والبحر لقضاء شيء من الإجازة تحت أشجار البرتقال الجميلة والكثيفة في بيارة كان يملكها حمو عمي (محمود الغول) وهو من ثوار فلسطين قبل النكبة، بالقرب من وادي غزة ويحدها من الشرق خط السكة الحديد المتجه من غزة إلى مصر.. فرحنا ومرحنا وأكلنا تحت أشجار البرتقال.. كانت متعتي مع ابن عمي ومن كان معنا.. الشقيقان عمر وعدنان محمود الغول، ولا أذكر أسماء البقية.. لكن متعتنا كانت تزداد عندما كنا نفتش عن أعشاش الطيور في أحضان الأشجار الكثيفة.. حالفنا الحظ مرة عندما أمسكنا أربعة أزواج من فراخ الحمام البري، وقمنا بذبحها وتنظيفها وأشعلنا النار لشوائها.. لذة الطعام كانت تفوق أشهى المأكولات في أرقى الفنادق.. في صباح يوم الاثنين الخامس من حزيران صحونا على أشياء غريبة.. السيد محمود صاحب البيارة كان مشغولا بتفقد سلاحه الذي فهمت فيما بعد أنه رشاش من نوع برن، وهو يمتلكه قبل العام 1948، كان أكبر حجما من الكلاشينكوف وله حامل يستند إليه ليصبح التحكم فيه أسهل وأكثر قدرة على القنص، وقام بنصبه فوق غرفة قديمة في البيارة مبنية من الحجر والطين.. كان محمود يستمع إلى مذياع صغير.. لم نفهم شيء إلا أنه قال: الحرب بدأت.. لحظات وأصم آذاننا صوتا غريبا لم أعرفه من قبل.. كنت أراقب المدى من الغرب، خطفت بصري طائرتان حربيتان سوداوتان متجهتان إلى سيناء.. قيل فيما بعد أنهما من نوع ميراج، ازداد القلق والتوتر عند جميع من في البيارة.. أصوات الرصاص صارت تسمع عن قرب، مرّا من البيارة جنديان كانا يحملان سلاحهما وشنطة ممتلئة بالذخيرة، أخبرا محمود الغول بأشياء لم أفهمها، أخذ منهما محمود بعضا من الذخيرة وغادرا صوب الجنوب.. محمود الغول أعطى تعليماته لنا بأن لا نبقى في غرف البيت، والأفضل لنا أن نحتمي بين الشجر خوفا من استهداف البيت بالمدفعية أو غيرها.. انتشر الجميع تحت أشجار البرتقال الكثيفة والوارفة الظلال.. لعلعة الرصاص اقتربت أكثر، ودوي الانفجارات ازدادت.. كان الرصاص يئزّ بين الأشجار كمن يمشط بكثافة.. رصاصة كبيرة وملونة مرت من جنبي واستقرت في جذع شجرة الموز.. هربت من تحتها وكمنت في بطن من الرمل بعكس اتجاه الرصاص القادم من الشرق.. استغرق ذلك لأكثر من ساعة حيث ابتعد صوت الرصاص تدريجيا باتجاه الشمال.. يبدو أن رتلا لجيش العدو قادما من الجنوب باتجاه الشمال، كان يمشط بين الأشجار علي جانبي الطريق الشرقي القريب من البيارة.. في اليوم التالي وردت إشاعة لا أعرف كيف وصلتنا، لكنها تفيد بأن علينا الخروج لاستقبال الجيش العراقي الذي سيصل لتحرير غزة.. حاولت الوقوف على سياج البيارة من الجهة الشرقية وإذ برتل من الدبابات تحمل العلم العراقي كان يتخللها سيارات فيها جنود يعتمرون كوفيات حمراء.. خرجت بعض الناس لاستقبالهم بالتصفيق.. لم تطلق تلك القوات أية رصاصة.. اتضح فيما بعد أنها خدعة وتلك القوات كانت صهيونية.. يا إلهي! أي غباء وجهل لدى الناس أو القيادة؟! أية قوة هذه التي قد تصل من العراق إلى غزة خلال يوم؟! وإن كانت كذلك فلماذا قدمت من سيناء؟ أو من جنوب الأرض المحتلة؟! أليس حريا بهذه القوات أن تصل من الشمال أو الشرق الفلسطيني وتحرر تلك الأراضي قبل وصولها إلى غزة..؟! أليست هي نفس الخديعة والمؤامرة التي صنعت النكبة وهجرت الفلسطينيين عام 1948...؟! مرّ يومان وجاء عمي بعربة كارو ليعيدنا إلى مخيم الشاطئ.. سارت بنا العربة في شارع صلاح الدين من وادي غزة حتى المدينة.. الصمت هو الشاهد الوحيد الذي يلفنا، والفزع في قلوبنا من هول المفاجأة.. بقايا لبعض الجثث كانت ملقاة على جانبي الطريق، غالبيتها لجنود.. سيارات عسكرية محترقة.. لا يوجد أية حركة سوى نفر قليل من المشاة كانوا يحملون رايات بيضاء.. كذلك عمي كان قد ثبت راية على عود في سرج الحمار الذي يجر عربتنا.. بالقرب من مستشفى الشفاء في شارع الوحدة قابلتنا مدرعة ضخمة تحمل علم الصهاينة، طلبت منا عبر مكبر الصوت أن نغير اتجاهنا إلى شارع النصر.. كانت الساعة تقترب من السادسة مساء، وبدأت تنادي ممنوع التجول.. وصلنا بسلام إلى بيت عمي في مخيم الشاطئ، وبدأ الليل يرخي الخوف وغموض المستقبل... في صبيحة اليوم التالي اصطحبني عمي إلى بيتنا في مخيم جباليا مشيا على الأقدام.. سرنا وسط الرمال المكشوفة من طرف مخيم الشاطئ الشمالي وحتى بداية جباليا النزلة من الجهة الغربية.. بالطبع هذه الرمال كانت صافية بيضاء نقية، أما اليوم لم يظهر لها أي أثر حيث امتلأت بالمباني والشوارع المرصوفة.. استقبلتني والدتي ببكاء الفرح المملوء بالحزن.. فرح لسلامتي، لكنه لا يغطي مساحة الحزن والألم والنكسة التي حلت بالجميع... بيت جدتي الذي حفر فيه خالي ملجأ قبل الحرب قد دمر نصفه بقذيفة مدفعية.. بيوت متناثرة في المخيم أصيبت بالقذائف، والرواية كانت أن تلك البيوت قد كانت تطلق منها النيران صوب مروحية كانت تمشط بعض المواقع شرقي المخيم.. منع التجول كان يفرض من قبل الغروب وحتى الشروق.. وضعت الحرب أوزارها، والناس تتساءل: ما الذي جرى؟؟ هرب الكثير من الناس والرجال.. ونزح كثيرون خلف الحدود إلى مصر والأردن.. وانقطعت الأوصال.. أين جيش الشقيري؟ أين الجيش المصري؟ أين الجيوش العربية؟ أين أحمد سعيد؟ مرة أخرى تنهزم القوة العربية.. نعم انهزمت سواء كانت حرب حقيقية، أم خدعة مارستها قوات العدو.. لكن بعد ستة وأربعين حزيران استمرت المهزلة ولم تنتهي.. تخلت الجيوش العربية عن غزة وبقيت غزة مشتعلة تحارب العدو الصهيوني.. إلى حرب غزة في العام 2008 صحيح أننا واجهنا الحرب لوحدنا، لكن العدو الصهيوني لم يخدعنا هذه المرة، بل خطط لها وأعلن عنها مسبقا.. انتهت الحرب وتركت دمارا وخسائر فادحة فاقت كل الخسائر السابقة في البشر والحجر والشجر.. لكننا خدعنا أنفسنا (بالنصر..!) الذي ما زلنا ندفع ثمنه حتى اليوم..
#عبد_الكريم_عليان (هاشتاغ)
Abdelkarim_Elyan#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عاصمة الفصول
-
منفذ رفح البري نموذج لنظام الفساد والاستبداد المصري
-
الفساد الإداري والمالي للأونروا بغزة وصل إلى التعليم ؟؟
-
الأزمة المالية الفلسطينية ورواتب الموظفين
-
-إبيجرامات- الشاعر عثمان حسين ذاتية المحنة وطنية الهوى
-
الدستور الفلسطيني إلى أين؟؟
-
لحظة انطلاق الانتفاضة المجيدة
-
حرب غزة والحقيقة الغائبة!!
-
رؤيا
-
الوجه الآخر للفكر الوهابي..؟!
-
صلاة
-
نبؤة النجوم
-
الاتصالات والجوال، أم الحكومة، أم المواطن؟؟
-
أبيجراما
-
أيتها الشاعرة !
-
شركة الاتصالات تربح 150 مليون دولار وشبابنا يحترق؟!
-
ستموت بعد حين؟!
-
عيدٌ للوجع
-
تذكار
-
شهرزاد
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
|