|
فكر اخوان الصفا
حامد رمضان المسافر
الحوار المتمدن-العدد: 4140 - 2013 / 7 / 1 - 20:07
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ليس من الغلو أن يعدَّ البحث في موضوع إخوان الصفا بحثاً عن لغز، بل عن كنز ثقافي عربي إنساني النزعة، تود فئات من المفكرين والعقائديين الاعتزاء له، إن لم يسعفها ادعاء انتمائه إليها، كما حاول أنصار فرق إسلامية شتى، وما يزالونوعلى الرغم من الغموض الذي يلف هذه الجماعة وأشخاصها بسبب الطابع السري لنشاطها ولجوئها إلى التقية . إلا أنها تركت لنا ميراثًا فكريًا وروحيًا بقيت آثاره فاعلة في الثقافة الإسلامية عبر عصورها المختلفة ، يتمثل في اثنتين وخمسين رسالة لا يُعرف مؤلفوها ، وتستغرق في الطبعات الحديثة نحوًا من ألفين وخمسمئة صفحة ، حيث تبحث في شتى معارف عصرهم من فلسفة وعلوم وإلهيات ، وتهدف من وراء ذلك إلى التأسيس لمذهب إسلامي ذي طابع كوني ، يستغرق ويستوعب المذاهب كلها ويحقق وجوده بينها . وهذا المذهب مبثوث في ثنايا الرسائل وفي كل رسالة تجد منه طرفًا ، بحيث لا تتوضح غاية الإخوان إلا بعد الإنتهاء من قراءة الرسائل من قبل قارئ نبيه قادر على ربط شتات الأفكار والتأليف بينها . هذا النثر للأفكار التي تخدم موضوعًا واحدًا نجده في كل محور من المحاور الرئيسية التي تشكل مذهبهم . من هنا فإن الباحث لا يستطيع استقصاء أي محور منها إلا بعد قراءته للرسائل جميعها ليستخلص منها الأفكار المؤلفة لهذا المحور ويعمل على تنسيقها والربط فيما بينها . وهذا هو المنهج الذي استخدمته لإلقاء الضوء على نظرية الإخوان في الخلق والتكوين ، والتي تشكل بؤرة مذهبهم . إن ما سيلي من هذه المقالة هو عبارة عن مقتبسات من الرسائل توضح بالتدريج نظرية التكوين الصفائية بلغة الإخوان نفسها . وقد ذيَّلتُ كل مقتبس بثلاثة أرقام ، الأول يشير إلى رقم الرسالة ، والثاني إلى رقم المجلد في طبعة دار صادر ، والثالث إلى رقم الصفحة ، على الشكل التالي : (38: 3، 296). تشكل نظرية التكوين المحور الرئيسي في مذهب إخوان الصفاء ، وعنها تتفرع بقية المحاور ، على الرغم من أن الإخوان لم يبسطوها في نص مطرد يشغل حيّزًا محدّدًا من رسائلهم . ولسوف نعمد فيما يلي إلى استقصاء هذه النظرية من خلال مقتبسات من رسائلهم توضح بالتدريج نظرية التكوين الصفائية ، لنزود القارئ بالمفاتيح الرئيسية التي تعينه على فهم فكر الإخوان ومتابعته عبر بقية المحاور. ولسوف نبتدئ أولاً في استجلاء أفكار الإخوان في طبيعة الإلوهة وماهيتها وصفاتها وعلاقتها بالعالم : إعلم أن مِلاك الأمر في معرفة حقائق الأشياء ، هو في تصور الإنسان حدوث العالم وكيفية إبداع الباري تعالى العالم واختراعه إياه ، وكيفية ترتيبه للموجودات ، ونظامه للكائنات بما هي عليه الآن ، لم كان ذلك . ثم اعلم أن كل عاقل إذا سمع كلام العلماء في حدوث العالم ، وأقاويل الحكماء في كيفية إبداع الباري العالم . واختراعه له بعد أن لم يكن ، وتفكر فيما قالوه ، فإنه يشتهي ويتمنى لو علم كيف صنعه ، ومتى عمله ، ولم فعل ذلك بعد أن لم يكن قبل . فإن فكر في هذه المباحث ولم يتصور كيفية ذلك ولا متى ولا لمَ ، لصعوبتها ودقتها فربما تحير عقله وتشكك نفسه فيما قالت الحكماء ، وارتابت وتبلبلت . ثم اعلم أن العلة في صعوبة التصور لحدوث العالم ، وكيفية إبداع الباري تعالى له من غير شيء ، هو من أجل العادة في الشاهد ، أن كل مصنوع فإن صانعه يعمله من هيولى ما ، في مكان ما وفي زمان ما ، بحركات وأدوات . وليس حدوث العالم وصنعته وإبداع الباري له هكذا ، بل إنه أخرج من العدم إلى الوجود هذه الأشياء كلها ، أعني الهيولى والمكان والزمان والحركات والأدوات والأعراض . فمن أجل هذا لا يُتصوّر كيفية حدوث العالم وإبداعه . ثم اعلم أن الله تعالى قد علم بأنه يعرض للعقلاء هذه الشكوك والحيرة حيث تفكروا في كيفية حدوث العالم ، ولا يُتصوّر بهذه الطريقة لصعوبتها ، فجعل له طريقًا آخر أسهل من هذه وأقرب ، وركزها في نفوسهم كأنها مكتوبة فيها كتابة إلهية ، لا يمكن لأحد من العقلاء إنكارها إذا أنصف عقله ، لأنه يجد صدقها في نفسه شاهدًا له بها ، وهي كيفية صورة العدد ومنشؤه من الواحد الذي قبل الاثنين . ثم اعلم أن مسألة الخلاف للذات والصفات هي من إحدى المسائل الخلافية بين العلماء والمذاهب . وذلك أن كثرة الظنون والتخيلات العارضة للإفهام ، إذا تفكّرت النفوس في ماهية الله وكيفية صفاته اللائقة ، فلا تسكن النفوس حتى يعتقد الإنسان رأيًا من الآراء وتسكن نفسه إليه . فمن الناس من يرى ويعتقد أن الله تعالى شخص من الأشخاص الفاضلة ، ذو صفات كثيرة ممدوحة وأفعال كثيرة متغايرة ، لا يشبه أحدًا من خلقه ولا يماثله سواء من بريته ، وهو منفرد عن جميع خلقه في مكان دون مكان . وهذا رأي الجمهور من العامة وكثير من الخواص . ومنهم من يرى ويعتقد أنه في السماء فوق رؤوس الخلائق جميعًا . ومنهم من يرى أنه فوق العرش في السماوات ؛ وهو مطّلع على أهل السماوات والأرض وينظر إليهم ويسمع كلامهم ويعلم ما في ضمائرهم ؛ لا يخفى عليه خافية من أمرهم . وأعلم أن هذا الرأي والاعتقاد جيد للعامة ومن لا يعرف شيئًا من العلوم الرياضية والطبيعية والعقلية الإلهية ؛ لأنهم إذا اعتقدوا فيه هذا الرأي يتقنوا عند ذلك وجوده ؛ وتحققوا وعلموا وصاياه التي جاء بها الأنبياء من الأوامر والنواهي .. وكان في ذلك صلاح لهم ولمن يعاملهم ويعاشرهم من العام والخاص ؛ وليس يضر الله شيئًا مما اعتقدوه . ومن الناس طائفة أخرى فوق هذه في العلوم والمعارف ، ترى بأن هذا الرأي باطل ، ولا ينبغي أن يعتقدوا في الله تعالى أنه شخص يحويه مكان ، بل هو صورة روحانية سارية في جميع الموجودات ، حيث ما كان لا يحويه مكان ولا زمان ، ولا يناله حِسّ ولا تغيير ولا حدثان ، وهو لا يخفى عليه من أمر خلقه ذرة في الأرضين والسماوات ، يعلمها ويراها ويشاهدها ، وكان يعلمها قبل كونها وبعد فنائها . ومن الناس طائفة أخرى فوق هؤلاء في العلوم والمعارف والعقل ، ترى وتعتقد أنه ليس بذي صورة، لأن الصورة لا تقوم إلا في الهيولى ، بل ترى أنه نور بسيط من الأنوار الروحانية لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار . ومن الناس ممن فوق هؤلاء في العلوم والمعارف والنظر والمشاهد، يرى ويعتقد أنه ليس بشخص ولا صورة بل هوية وحدانية ، ذو قوة واحدة وأفعال كثيرة وصنائع عجيبة ، لا يعلم أحد من خلقه ما هو ، وأين هو ، وكيف هو ، وهو الفائض منه وجود الموجودات ، وهو المُظهر صور الكائنات في الهيولى ، المبدع جميع الكيفيات بلا زمان ولا مكان ، بل قال : كن فكان . وهو موجود في كل شيء من غير المخالطة ومع كل شيء من غير الممازجة ، كوجود الواحد في كل عدد . ثم اعلم أن الله تعالى جعل بواجب حكمته ، في جبلة النفوس معرفة هويته طبعًا من غير اكتساب ولا تعلّم ، لتكون تلك المعرفة داعية لها ، ومؤدية إلى طلب ماهيته ومعرفة آنيته ، ولتكون طلبتها في هذه المعارف داعية لها ، ومؤدية إلى إحكام جميع العلوم والمعارف الإلهية ، والطبيعية والرياضية والعقلية والحسية . حتى إذا أحكمت (أي النفوس) هذه العلوم والمعارف ، عرفته عند ذلك حق معرفته ، وسكنت إليه واطمأنت وثبتت معه ، ونالت السعادة القصوى التي هي سعادة الآخرة
#حامد_رمضان_المسافر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اشراف الشرف
-
عقد الشرق
-
كيف انساها
-
الأفاعي قادمون
-
اللعيبي : لعب ام نهب
-
مساؤي الصيام في رمضان
-
فستان احلام
-
القران عاريا -- الجزء الثالث
-
القران عاريا -- الجزء الثاني
-
القران عاريا -- الجزء الاول
-
مغربيه
-
ايمان
-
مأساة العراق
-
خنازير نوري
-
قبل ان تهوى النجوم
-
يوتوبيا
-
كافكا
-
الى سيدي الحسين وانا في غربتي
-
ماذا حدث لي في العراق؟
-
هل يكفي الدين لتطوير بلد؟
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|