|
الربيع العربي بين الواقع والطموح
محمد ولد الفاضل
الحوار المتمدن-العدد: 4139 - 2013 / 6 / 30 - 03:42
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
شكل الربيع العربي والانفتاح السياسي النسبي في بعض الدول فرصة مهدت لبروز قوى سياسية واجتماعية تعبر عن واقع الطبقات الوسطى وتطلعاتها بغض النظر عن المنهج المتبع في القياس. منذ أقدم محمد البوعزيزي على إشعال النار في نفسه في عام 2011، امتدت ألسنة النيران إلى جميع أرجاء الدول العربية، وقد سميت الاحتجاجات والاضطرابات التي تلت ذلك بالربيع العربي، و"الانتفاضة العربية" وقد نجحت في إقصاء، وتهديد أو على الأقل تخويف كل الأنظمة في المنطقة . فالانتفاضات باتجاهها الفكري والمادي تشكل قفزة نوعية في إعادة صياغة بنية الواقع العربي من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وتمثل إنجازا تاريخيا كبيرا و مقدمة لانتصارات أخرى، وهي دليل على تنامي الوعي السياسي والطبقي في المجتمعات العربية التي حطمت حواجز الخوف والرعب الذي كانت تفرضه عليها الأجهزة القمعية لتركيعها وتطويعها لخدمة الحكام . ويقول خير الدين حسيب أن المعنى الدقيق للثورة يصف مجمل الأفعال والأحداث التي تقود إلى تغيرات جذرية في الواقع السياسي والاقتصادي وأيضا الاجتماعي لشعب أو مجموعة بشرية ما، وبشكل كامل وعميق، وعلى المدى الطويل، ينتج منه تغيير في بنية التفكير الاجتماعي للشعب الثائر، في إعادة توزيع الثروات والسلطات السياسية (1) . ـ التداعيات السياسية و الاقتصادية لثورات الربيع العربي : تشهد المنطقة العربية منذ فجر الانتفاضات الشعبية حراكا فكريا مرادفا للحراك الشعبي في الشارع، يتمحور حول دور الدين والحركات الدينية في المجتمعات والدساتير ومؤسسات الدولة، ولعل ما يحدث الآن في مصر وتونس من تباينات بين أتباع الحركات الدينية والحركات العلمانية لدليل على هذه الحيوية الفكرية في أوطان تحاول بعد خلع حكامها السابقين بناء ذاتها . لكن النقطة المركزية التي يتمحور الاهتمام السياسي والإعلامي العربي الآن حولها، هي مسألة الديمقراطية كعملية إجرائية ترتبط بآليات انتخابية أو بمؤسسات دستورية، دون الانتباه إلى أن أساس العطب في الجسم العربي هو في الفكر أولا وقبل أن يكون في طبائع نظم الحكم أو كيفية المشاركة الشعبية في الحياة العامة . وقد أجمع جل الباحثين بأن الثورة العربية هي ثورة شعبية قوية تستمد غرسها من التصميم والإصرار، الذي فاجأ الجميع، وركز كذلك على انعكاسات الحراك الشعبي واتجاهاته، من حيث خلق عصر جديد بعد عصر من الانحطاط وانهيار ثقافة الخوف، وبروز دور جديد للشباب، وما جعل الحراك يتمتع بشرعية شعبية وإنسانية، وأدى ذلك كله إلى الحديث عن انتهاء دور الحاكم المطلق، والبدء بالمطالبة الجادة بالانتقال من مفهوم السلطة إلى مفهوم الدولة . إن الآثار والتداعيات التي يمكن أن تنجم عن الثورات والانتفاضات تتوقف على عوامل منها طبيعة الدولة من حيث تركيبتها الديموغرافية ودرجة التجانس المجتمعي التي تتمتع بها، وموقف المؤسسة العسكرية من الثورة أو الانتفاضة، وهنا تتجلى بعض الفوارق الجوهرية بين الثورة في كل من تونس ومصر والثورات، والانتفاضات في دول أخرى مثل ليبيا واليمن وسوريا . ففي حالتي تونس ومصر تمكنت الثورة من الإطاحة بالنظامين الحاكمين من خلال فترة زمنية وجيزة بسبب حالة التجانس الاجتماعي الكبير الذي يميز الدولتين، وتكتل الغالبية العظمى من الشعب في البلدين خلف هدف تغيير النظام، فضلا عن رفض الجيش في الحالتين إطلاق الرصاص على المتظاهرين، وتأييده لأهداف الثورة (2) . والقاسم المشترك بين شباب الثورات والانتفاضات في عديد من الدول العربية يتمثل في القدرة على التعامل مع أدوات المعلومات والاتصالات، والمعاناة بدرجات متفاوتة من الإحباط واليأس نتيجة لارتفاع معدلات البطالة في صفوفهم حيث تعتبر الأعلى على المستوى العالمي، واستشراء الاستبداد والفساد في بلدانهم، الأمر الذي جعلهم يفقدون معنى الأمل في المستقبل في ظل النظم القائمة . فضلا عن تركيز الشباب على المسائل والأهداف الواقعية بعيدا عن الرؤى الإيديولوجية الجامدة وما يرتبط بها من توجهات وانقسامات سياسية، والالتزام بالأساليب السلمية في النضال من أجل الحرية والديمقراطية والكرامة. تبدو الثورات العربية، في بعض جوانبها، تأسيسا لجغرافيا سياسية جديدة للعالم العربي، فهناك نظم تسقط، وأخرى تولد، وبين السقوط والميلاد، تحدث توترات عنيفة، مصحوبة بالضرورة بقدر من العنف كما يجري حاليا في سوريا . إن الأزمة السورية في أحداثها اليومية ومسارها السياسي والأمني وتفاعلاتها الإقليمية والدولية وما أنتجتها منذ اندلاعها، أدت إلى حالة من الفرز والاصطفاف على الساحتين الإقليمية والدولية، ولعل مرد ذلك هو أن سوريا بموقعها الجيو سياسي وما تمثله من علاقات وسياسات لها علاقة بالملفات والقضايا الساخنة في الشرق الأوسط والخليج، تشكل مركزا للتوازن في العلاقات الإقليمية والدولية بما تعني هذه العلاقات من شبكة المصالح والصراع الجاري على المنطقة والعالم . بات من البارز في النظام الدولي تعدد أنماط القوة التي تتأسس عليها تراتبية القوى الدولية ووزنها ودورها في النظام الدولي، فقد باتت القوة الاقتصادية، وقوة المعرفة والتطوير التكنولوجي، أخيرا قوة الاتصال والإعلام والثقافة بمعناها الواسع ـ أو ما بات يعرف بالقوة الناعمة ـ من القوة المؤثرة . إلى جانب القوة العسكرية، في التفاعلات الدولية، وفي تحديد أوضاع القوى الدولية وأدوارها وأوزانها . تحتاج دول الربيع العربي، إلى استقرار سياسي واجتماعي وأمني، إذ يؤدي عدم الاستقرار إلى ارتفاع الأخطار ما يدفع استثمارات قائمة إلى الهروب ويوقف تدفق استثمارات جديدة، سواء منها الاستثمارات المباشرة في القطاعات الاقتصادية المختلفة أو الاستثمارات غير المباشرة في أسواق رأس المال . من الطبيعي أن تتأثر اقتصاديات الدول العربية التي شهدت ثورات وتحولات سياسية وذلك كغيرها من دول العالم التي مرت بمثل هذا النوع من الأحداث والتحولات . وبالرغم من كون التداعيات الاقتصادية هي أمر طبيعي لقيام الثورات وحدوث نزيف لاقتصاديات تلك الدول، ولكن في الوقت ذاته يجب الوقوف على طبيعة هذه التداعيات وردها والعمل على وقف النزيف الاقتصادي واتخاذ الإجراءات الملائمة، في سبيل تحقيق الأهداف الاقتصادية لثورات الربيع العربي . فقد أدت الثورات العربية إلى توقف العديد من الأنشطة الاقتصادية في الدول التي قامت بها الثورات العربية إلى توقف العديد من الأنشطة الاقتصادية في هذه الدول، كقطاع السياحة والاستثمار، وفقدان الإيرادات النفطية بالنسبة لليبيا كدولة مصدرة للبترول . ووفقا للتقارير الصادرة عن البنك الدولي بداية عام 2011، نجد أن مؤشر الناتج المحلي الإجمالي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قد انخفض عموما من 4,5% إلى 3,1% . بداية يجب إسراع عملية التحول السياسي في دول الربيع وتحقيق الاستقرار السياسي حيث أنه يؤثر مباشرة في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والتمكن من وقف هذا النزيف الاقتصادي ومعالجة الاختلال وإرساء وتنفيذ السياسات والإصلاحات الكفيلة بالتأسيس لمرحلة اقتصادية واعدة . وقال أحمد لقمان المدير العام لمنظمة العمل العربية " إن ثورات الربيع العربي أثرت بصورة سلبية على أسواق العمل العربية وخاصة في كل من مصر وتونس واليمن وسوريا وليبيا" . وأضاف أن الأمن والاستقرار سيحتاج للمزيد من الوقت حتى تستقر الأمور وهذا سيؤثر بلا شك على حركة تدفق الاستثمارات، وتوقفت العديد من المصانع عن العمل وبالتالي فقد عدد كبير من العمال لوظائفهم لذلك فإننا في منظمة العمل العربية نتوقع أن ترتفع معدلات البطالة على المستوى العربي إلى 16 أو 17% بدلا من 14 وأن يتجاوز عدد العاطلين العرب ال 20 مليون شخص بعد أن كانوا في حدود 17 مليون شخص (3) . وتناول زاير بلقاسم إخفاقات التنمية في العالم العربي بالتركيز على المغرب العربي كنموذج فأوضح أن هذه الدول عجزت عن تحقيق معدلات نمو عالية من أجل استيعاب نسبة كبيرة من البطالة مما أدى إلى تزايد أعداد الفقراء وتفاوت توزيع الدخل وظهور الفساد وعجز مسيرة الإصلاح السياسي عن اللحاق بركب الإصلاحات الاقتصادية مما أدى إلى اتساع الفجوة بين الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي وترتب على ذلك زيادة الفساد وإتباع سياسات مضرة للفقراء وتوزيع غير عادل للثروات واتساع علاقات التحالف ما بين أصحاب القرار وأصحاب الأموال والثروات (4) . ويرى كثير من المحللين أنه بدون الدعم الإقليمي لدول الربيع العربي فإن الضرر سوف يزداد ولن يقتصر على الدول التي شهدت انتفاضات شعبية، بل سيتجاوزها إلى الدول المستقرة بحكم الجغرافيا والتاريخ المشترك . ويقدر صندوق النقد الدولي أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ستكون بحاجة إلى مساعدات مالية بقيمة 160 مليار دولار خلال السنوات الأربعة المقبلة لمواجهة التحديات في المدى القصير، بالإضافة إلى الضرورة الملحة لدعم ميزان المدفوعات والمالية العامة للاقتصادات العربية المتأثرة بالاضطرابات، كما ستكون بحاجة إلى المرور بما يسمى "انتقال جذري" في نماذجها الاقتصادية بهدف ضمان إيجاد حلول للتحديات الاقتصادية ـ الاجتماعية والسياسية التي أطلقت الثورات . كما يتمثل التحدي أمام الاقتصاديات العربية التي قد تضطر إلى التوجه إلى الأسواق العالمية والمدينين الأجانب للحصول على مساعدة في المدى القصير، بأن يضمن أن تسديد الديون والالتزامات بها لا تتحول إلى عبء مالي يفوق قدراتها أو مسائل ذات حساسية . وفي الواقع جاء تصريح وزير المالية المصري مؤخرا بأن مصر لن تقترض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بمثابة جواب على ذلك. كما أن المشهد العربي الراهن يطرح احتمالات قوية حول استمرار المرحلة الانتقالية في دول الثورات العربية، واستمرار الأزمات الاقتصادية والأمنية بصورة أكثر تهديدا للاستقرار في تلك الدول، ولعله من المفيد أن تدرك باقي الدول العربية أن عدم استقرار الأوضاع واستمرار الأزمات يمكن أن يهيئ المناخ لحضور العنف وتنامي تيارات التطرف العابرة للدول المهدد للاستقرار في المنطقة بصفة عامة، وأن مصلحة كافة الدول في المنطقة أن تدرك أن يعمق في النهاية مكاسب للجميع، ويحصن المنطقة من الاختراقات الخارجية قدر الإمكان . موقف القاعدة من الثورات العربية : شكل تنامي نشاط أذرع تنظيم القاعدة، بعد فترة من السكون، خطرا داخل الدول العربية، التي لا تزال تعاني أزمات داخلية، بعد ثورات الربيع العربي، ورغم أن البعض توقع تواري التنظيمات الجهادية المسلحة عقب الثورات إلا أنها عادت لتطل برأسها كما حدث في العديد من الدول العربية، مثل أحداث سيناء التي شهدت نشاطا مكثفا لعناصر القاعدة . تعد التيارات الجهادية المنتشرة حاليا في المنطقة بشكل عام أحد نماذج تنظيم القاعدة، لأنها تتبع نهج وأفكار وأيديولوجية مشابهة لتنظيم القاعدة، وهذه التيارات لم تنشأ بأمر من قيادة القاعدة المركزية، ويعبر عن هذه التنظيمات: تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وجماعة أنصار الدين في مالي، وتنظيم أنصار الجهاد في سيناء، وتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، وجبهة النصرة في سوريا، ومع الصعود العام لهذا التيار إلا أنه لم يشمل كل التيارات الجهادية في المنطقة . فهذه الثورات من زاوية أخرى، أضعفت عدوا شرسا متربصا بالقاعدة، أي الأنظمة العربية الحالية، وهي أنظمة كانت معادية بقوة وشراسة للقاعدة والحركات الإسلامية عموما، كما فتحت هذه الثورات الطريق أمام الشعوب العربية لتكون أكثر حرية واستقلالا، وتمتلك القدرة على المشاركة في اختيار حكوماتها، كما هي الحال مع تونس ومصر(5) . يعيد تنظيم القاعدة ترتيب أولوياته ويطبق إستراتيجية جديدة تقضي بملء الفراغات التي تركتها الأنظمة التي سقطت أو تفككت بفعل الربيع العربي . ويرى العديد من المراقبين والخبراء، أن تنظيم القاعدة لم يكن يحلم بمثل فرصة هبوب رياح الربيع العربي، وقد كان لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الدور المحوري لتنفيذ خطة السيطرة على المنطقة، وقد ضحى التنظيم من أجل ذلك بعدة مناطق مختلفة . إن تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي سوف يمثل خطرا حقيقيا على الأنظمة الموجودة في المنطقة لأن لديه مشروعه الإسلامي الجهادي الذي يسعى إلى تصديره إلى جميع البلدان العربية، خاصة دول الجوار، كما أنه سيكون الذريعة التي ستتخذها الدول الغربية للعودة من جديد إلى المنطقة . لقد كان تنظيم القاعدة العالمي يهدف إلى إيجاد مناطق إعداد وانتشار خلفية في الصومال، وشمال مالي، وشمال نيجيريا، لكي يستوعب الكم الهائل من الأفارقة الناقمين على أوضاعهم الاجتماعية، ويستفيد من قلة المراقبة الأمنية، وقرب آبار البترول والغاز ومعادن الذهب واليورانيوم التي تعتبر قلب المصالح الغربية والإستراتيجية بأفريقيا، ومن جهة أخرى فإن العنصر الإفريقي هو المعول عليه لاختراق المراقبات الأمنية بأوروبا وأمريكا، حيث إن الأفارقة منتشرون في تلك البلدان، وليسوا مراقبين مثل العرب لذلك يلاحظ أن غالب المحاولات الإرهابية استعمل فيها عناصر ذات أصول إفريقية مثلما وقع من قبل في أكثر من محاولة إرهابية . ـ مواقف القوى الكبرى من الثورات العربية : لا ترسم ملامح الجغرافيا السياسية الجديدة للعنف في العالم العربي في فراغ، إنما هناك قوى ومصالح ونظم هي التي تؤسس لتلك الجغرافيا، والغرب الذي تقوده الولايات المتحدة وأوربا هو الطرف الرئيسي في التأسيس لتلك الجغرافيا الجديدة. صحيح أن الثورات في تونس ومصر بدأت شعبية ومفاجئة لأجهزة المخابرات الغربية، بيد أن الغرب سرعان ما حاول استيعاب تأثيرها والتكيف معها لتحقيق مصالحه، وكان أهم ما عبر عنه الغرب في هذا السبيل هو التعامل مع القوة الإسلامية الجديدة القادمة إلى السلطة، بدلا من الأنظمة الاستبدادية البائدة . وفيما بدأ النظام يشهد عددا من التحولات في موازين القوى في السنوات الأخيرة، شهد العالم العربي مؤخرا تحولات سياسية عميقة، تمثلت في الثورات العربية وإسقاطاتها المختلفة، مما أحدث حالة من الارتباك في المشهد السياسي الإقليمي، وهذا ينسحب على المواقف الدولية من هذه الثورات أيضا؛ حيث عكست مواقف القوى العظمى تباينا واضحا في الرؤية الإستراتيجية، مما يجعل محاولة معرفة أثر التوازنات الدولية على مستقبل المنطقة العربية أكثر إلحاحا من ذي قبل، لاسيما في ظل تنافس حاد بين القوى الدولية على المصالح والنفوذ في العالم (6). عندما اجتاح الربيع العربي المنطقة، اكتشفت الولايات المتحدة أنها قد استثمرت بصورة مبالغ فيها في أنظمة غير ديمقراطية، وبالتالي أصبح حتميا على واشنطن أن تركز اهتمامها في المستقبل على عدم قيام أنظمة معادية لها و أن تحافظ على مصالحها الحيوية في المنطقة. ولتحقيق الاستقرار الحقيقي يجب أن يدرك صانعو القرار في الولايات المتحدة أن تحقيق آمال الشعوب العربية في الديمقراطية هو الطريق الوحيد المستدام للوصول إلى ذلك. وقد لعب الغرب دورا كبيرا في مساندة بعض الدول لتحقيق التغيير ولاسيما في الحالة الليبية التي قام الناتو فيها بقيادة فرنسا وبريطانيا بتدخل عسكري مباشر للقضاء على نظام القذافي، وتدخل بصورة بطيئة في حالة اليمن للضغط على الرئيس اليمني علي عبد الله صالح للقبول بالمبادرة الخليجية وتسليم السلطة لنائبه، ولكن في حالات تونس ومصر كان الدور الغربي تاليا لقيام الثورة، ولم يكن بصورة حاسمة إلا بعد أن اتضحت معالم الخريطة السياسية في كلا البلدين، ونجح الثوار في إسقاط نظمهم . أما الوضع في سوريا فهناك ضغوط متوالية على الرئيس بشار الأسد للتنحي، ولكن تواجه الضغوط مقاومة من دول دائمة العضوية في مجلس الأمن ( روسيا والصين) (7) . لقد نتج عن الحالة السورية الراهنة مجموعة من التفاعلات الدولية بسبب تأثير الداخل السوري في المحيط الدولي من ناحية، وتأثير الداخل السوري في المحيط الخارجي للجوار الإقليمي من ناحية أخرى، ووفقا لأوليات المصالح واعتبارات جني المنفعة، تتحدد توجهات القوى الدولية تجاه القضية السورية، والتي يلعب بها عامل المصلحة دورا حيويا في تحديد مواقف هذه الأطراف . أما الثورة السورية، فقد وصلت إلى مفترق طرق، فقد عجز الثوار عن إسقاط نظام بشار الأسد بسبب الدعم الروسي والصيني والإيراني، في حين رفض الغرب التدخل العسكري لمساندة الثوار، على نحو ما فعل في ليبيا، خشية أن يؤدي التدخل إلى حرب إقليمية كبرى، فإذا بالثورة السلمية تنقلب إلى حرب أهلية بسبب جنوح النظام السوري إلى الاستخدام المفرط في العنف، وكانت النتيجة هي تدمير الدولة السورية، ومقتل آلاف المواطنين وتشريد قرابة المليون (8) . ولا يقتصر الصراع الدائر في سوريا بين القوى الموالية لنظام بشار الأسد والمعارضة التي تعارض استمرار الأسد في سدة الحكم على الداخل السوري، ولكنه امتد إلى دول الجوار في وقت تنذر فيه تطورات الأوضاع في سوريا بالتحول إلى حرب أهلية تهدد الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والإخلال بالتوازنات في المنطقة، وقلب معادلة التنافس بين القوى الإقليمية والدولية الساعية إلى الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، لتصبح دمشق ساحة للصراعات السياسية والأيديولوجية والاستراتيجيات الجيوسياسية للقوى الإقليمية والدولية، حيث يعتمد طرفا الصراع ( النظام وقوى المعارضة) على الدعم الخارجي(9) . وتقدم الأزمة السورية مثالا آخر على تغيير القوى الكبرى نمط تعاطيها وحساباتها تجاه الأزمات الإقليمية، فقبل أشهر قليلة، أعلنت الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا ـ وهي كبرى الدول الغربية المنخرطة في الأزمة ـ أن تسليح المعارضة السورية أمر تقابله عقبات وأن الحل السياسي هو الأمثل وهو المتاح أيضا . وبالفعل، فإن تحركات دبلوماسية نشطة تمت في اتجاه تأمين حل سياسي توافقي بين المعارضة السورية، بضمانة أمريكية ـ روسية على أرضية تفاهمات جنيف في نهاية يونيو 2012 . إلا أن انقلابا مفاجئا في المواقف بالتزامن من جانب المعارضة السورية، وكل من بريطانيا وفرنسا، ثم بدرجة أقل من جانب الولايات المتحدة، ففي توقيت واحد، أعلنت المعارضة السورية تشكيل حكومة مؤقتة، وهو ما يعني القضاء على صيغة جنيف، ورفض أي حل سياسي يتضمن وجود أو استمرار النظام السوري الحالي، الأمر الذي يعني مباشرة اختيار استمرار المواجهة المسلحة منهجا لإدارة الصراع، إذ لم يكن من المتصور بحال إمكانية التوصل مع النظام السوري إلى حل سياسي لا يكون طرفا فيه، وبعد أن تم نزع الشرعية عنه (10) . أما نجاح واشنطن في إسقاط نظام الأسد، فسيؤدي إلى مكاسب إستراتيجية عديدة لإدارة الرئيس أوباما، في مقدمتها فقدان روسيا حليفها القوي والوحيد في العالم العربي وهذا بدوره يعني أن روسيا ستخسر منطقة الشرق الأوسط برمتها، وأن النفوذ الأمريكي في المنطقة سينتشر بلا حسيب ولا رقيب في المنطقة . كما أن سقوط النظام السوري الحالي يعني أن جبهة المواجهة مع الغرب سوف تقترب من الحدود الروسية في منطقة القوقاز، وجمهوريات آسيا الوسطى التي تعد مجالا حيويا طبيعيا لروسيا (11) . إن روسيا حريصة على استمرار روابطها مع العالم العربي، وتنمية التعاون المثمر في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والإستراتيجية. لذلك تميل إلى ترجمة أهدافها ومصالحها في شكل علاقات تعاونية تخدم مصالحها ومصالح الأطراف العربية . وبقدر قراءتها السليمة والمبكرة للتغيرات في المنطقة، سيكون نجاح السياسة الروسية في تجاوز التحديات التي تفرضها، واستغلال الفرص المتاحة ورصيدها التعاوني لإعادة صياغة وترتيب علاقاتها مع الدول العربية والحفاظ على وجودها ومصالحها، وسيكون موقفها من سوريا أساسيا لتعزيز الثقة في روسيا كحليف وشريك قادر على الدفاع عن مصالحه وشركائه، كما فشلت المساعي الغربية المتكررة لإصدار قرار من مجلس الأمن الدولي يدين النظام السوري لاستخدام العنف في قمع المتظاهرين بسبب معارضة روسيا والصين (12) . ولكن بالطبع لن تترك روسيا حليفتها سوريا تسقط دون أن تبذل أقصى ما في وسعها من أجل انتشاله وترسيخ دعائمه من جديد فمصالح روسيا في المنطقة مهددة بصورة كبرى بعد أن فقدت أهم عملاء السلاح لها برحيل القذافي ونظامه، كما أن سوريا تعد من أكبر مستوردي السلاح الروسي أيضا، وميناء طرطوس الاستراتيجي يعد نقطة ارتكاز هامة للأسطول الروسي في البحر المتوسط، لذلك ستظل روسيا حريصة على أن يستمر نظام الأسد على حساب شعبه. وبالنسبة للصين، شكلت الثورات العربية تحديا حقيقيا للنفوذ الصيني في المنطقة حيث يدخل الحراك والثورات الشعبية في عداد المحظورات السياسية بالنسبة لبكين، فالنظام السياسي الصيني يتمتع بقدر كبير من المركزية ويعارض بشكل واضح الانفتاح السياسي والإعلامي . من ناحية أخرى، وبخلاف الاعتبارات السياسية الداخلية، فإن الصين لم تكن ترغب في فقد حلفاء تقليديين لها في المنطقة في وقت بدأ مركز الصين العالمي في التنامي بشكل ملحوظ، ومع أن الصين لا تعتمد بشكل كبير على النفط الليبي، بينما لا تملك سوريا إمكانات نفطية تذكر، إلا أنه من الناحية الإستراتيجية فإن سقوط النظام السوري، وما يترتب على ذلك من انكسار محور سوريا ـ إيران، سوف يصب في مصلحة القوى الغربية، فوفقا للمعادلة الصفرية في العلاقات الدولية فإن زيادة نفوذ القوى الغربية في مناطق جديدة يعتبر خسارة إضافية للصين التي تسعى لتعزيز نفوذها ومصالحها في المنطقة العربية معتمدة في ذلك على قوتها الاقتصادية وحضورها في الأمم المتحدة (13) إن الأطراف الدولية الرئيسية، بعد أن فوجئت بثورات الربيع العربي، سعت للاستفادة منها وتوظيفها لخدمة مصالحها وأهدافها، سواء في الإقليم أو في العالم، وسواء كانت متعلقة بتأمين مصادر الطاقة، أو الأسواق، أو التحكم في طرق المواصلات، أو مكافحة الإرهاب، أو غير ذلك. كما أن أطرافا دولية وإقليمية سعت لاستغلال أحداث الربيع العربي إما لإحياء أدوار لها، أو البحث عن أدوار جديدة، وبناء على ذلك، تباينت المواقف، وتعارضت السياسات، وتناقضت ردود الأفعال تجاه هذه الأحداث (14) . تذهب الدراسة إلى أن فرص نجاح الثورات العربية في المستقبل ونجاح القوى الإسلامية تتوقف على عدة أمور منها مدى التنسيق وتوزيع الأدوار بين هذه القوى الإسلامية التي تتصدر المشهد السياسي في أنظمة الربيع العربي، ومدى توظيفهم لمهارات إدارة التنوع مع القوى الأخرى، كما تعتمد على نجاحهم في كسر حلقات الاستبداد الموروثة عن العهد السابق. ومدى نجاحهم في تفكيك شبكات التحالف والتبعية مع القوى الخارجية، وفي إدراكهم لمدى مفصلية اللحظة الراهنة في تاريخ المشروع الإسلامي وفي تاريخ المنطقة، وفي استعدادهم لخدمة الوطن بأكمله وعدم الاقتصار على خدمة المنتمين لهم فقط، وأخيرا وعلى المستوى الخارجي في تخطيهم لحواجز الحدود القومية وصياغة نمط تفاعلات أوسع على مستوى الأزمة .
الهوامش : 1 ـ خير الدين حسيب: حول الربيع الديمقراطي: الدروس المستفادة، مجلة المستقبل العربي، العدد 386، إبريل 2011 . 2 ـ حسنين توفيق إبراهيم: التحول الديمقراطي من منظور عربي، مجلة الديمقراطية، العدد رقم 50 ، إبريل 2013 . 3 ـ محمد عبد الجواد : ربيع العرب يضرب أسواق العمل، مجلة الأهرام الاقتصادي، مايو 2012 . 4 ـ أمال الزياتي: توابع ثورات الربيع العربي على الاقتصاد، مجلة السياسة الدولية، العدد 187، يناير 2012 . 5 ـ محمد أبو رمان: أيديولوجيا القاعدة ومحاولة "التكيف" مع الثورات العربية، مجلة السياسة الدولية، العدد 185 ، يوليو 2011 . 6 ـ خالد بن نايف الهباس: التنافس الدولي وأثره على العالم العربي، مجلة شؤون عربية، العدد 153، 2013 . 7 ـ سعيد شحاتة: الغرب والربيع العربي: الديمقراطية تصارع المصالح، مجلة الديمقراطية، العدد رقم 49 ، إبريل 2012 8 ـ أبوبكر الدسوقي: الحصاد الهزيل للثورات العربية، مجلة السياسة الدولية، العدد 192، إبريل 2013 . 9 ـ رضا محمد هلال: التداعيات المحتملة للتدخل الدولي في الأزمة السورية، مجلة السياسة الدولية، العدد 187، يناير 2012 . 10 ـ سامح راشد: عودة القوة: الإدارة المسلحة للأزمات الإقليمية والدولية، مجلة السياسة الدولية، العدد 192، إبريل 2013 . 11 ـ أحمد قنديل: مستويات متعددة: التأثيرات المحتملة للأزمة السورية، مجلة السياسة الدولية، العدد 190، أكتوبر 2012 12 ـ نورهان الشيخ: مصالح ثابتة ومعطيات جديدة.. السياسة الروسية تجاه المنطقة بعد الثورات العربية، مجلة السياسة الدولية، العدد 186 ، أكتوبر 2011 . 13 ـ سامية بيبرس: إشكالية غياب الدور السوري في الشرق الأوسط، مجلة السياسة الدولية، العدد 185،يوليو 2011 . 14 ـ وليد محمود عبد الناصر: المعادلات الجديدة: تحولات موازين القوى في النظام الدولي، مجلة السياسة الدولية، العدد 187، يناير 2012 .
#محمد_ولد_الفاضل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كوريا الشمالية: وسياسة التصعيد النووي
-
أزمة مالي وتداعياتها على منطقة الساحل والصحراء
المزيد.....
-
الجيش اللبناني يعلن تسلمه 3 معسكرات تابعة لفصائل فلسطينية لب
...
-
منظر مذهل في تركيا.. تجمد جزئي لبحيرة في فان يخلق لوحة طبيعي
...
-
إندونيسيا تحيي الذكرى العشرين لكارثة تسونامي المأساوية التي
...
-
ألمانيا تكشف هوية منفذ هجوم سوق الميلاد في ماغديبورغ، وتتوعد
...
-
إصابات في إسرائيل بعد فشل اعتراض صاروخ حوثي
-
شولتس يتفقد مكان اعتداء الدهس في ماغديبورغ (فيديو+ صور)
-
السفارة السورية في الأردن تمنح السوريين تذكرة عودة مجانية إل
...
-
الدفاع المدني بغزة: القوات الإسرائيلية تعمد إلى قتل المدنيين
...
-
الجيش الروسي يدمر مدرعة عربية الصنع
-
-حماس- و-الجهاد- و-الشعبية- تبحث في القاهرة الحرب على غزة وت
...
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|