|
كيف اقتحم التكفير الثقافة العربية -الإسلامية
سعيد مضيه
الحوار المتمدن-العدد: 4138 - 2013 / 6 / 29 - 11:17
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يشكل الدين أحد مصادر القيم التي تتغلغل في مختلف الجوانب الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية؛ وبذا يجب أن يعتبر أحد مكونات الواقع، وقوة مادية قائمة في الواقع. بينما الفهم السلفي للدين والفكر الديني يضعهما خارج التجربة الإنسانية، ينأى بهما عن الواقعية إذ يستمد أحكامه من عالم الغموض في تلافيف المطلق، حيث القرآن احد صفات الله الأزلية. ومن ثم ادخل الأشاعرة الذين ظهروا في القرن الثالث الهجري ، ولأول مرة في التاريخ الإسلامي، بند تكفير الخصوم ؛ واحتكروا من ثم الحق في تاويل النصوص، زاعمين لأنفسهم أنهم إنما يرجعون للسلف الصالح . استندت السلفية الأولى إلى مبدأ الحاكمية. و الماركسية، باعتبارها رؤية مادية، تقارب الواقع الموضوعي، لابد أن تأخذ هذه المعطيات المنقولة عن السلفية الأولى بعين الاعتبار . وترى في مناهضة الحاكمية احد إشكال الصراع الطبقي ثقافيا وسياسيا. وعندما تغفل الماركسية تأثير الدين ، ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، لدى تحليل الواقع الاجتماعي فإنها بذلك تتخلى عن علميتها. حين تصدى أبو حامد الغزالي في القرن الخامس الهجري للعقلانية، وكانت في أوج ازدهارها، لم يتناول من الواقع وبالملموس فكر الفلاسفة الذين هاجمهم وكفّرهم . ولو فعل ذلك لما استطاع تجاهل كيف توصل الفارابي او ابن سينا أو الخوارزمي إلى تمجيد العقل . فبعقولهم اجروا البحوث التجريبية على المواد و،ابتكروا المركبات التي جعلت منهم نوابغ ومكنتهم من تخفيف آلام البشر، وحفظت كتبهم مصادر للتدريس في اوروبا حتى القرن السابع عشر الميلادي . تناول الغزالي الفلاسفة من مبدأ أشعري سلفي يعارض السببية وحرية الإرادة البشرية باسم الحاكمية، ومغرق في الغموض الإطلاقي. وجه الغزالي ضربة عنيفة للعقلانية لم تبرا منها طوال العصر الوسيط ،وابتلعت مرحلة الظلامية كل منجزات العقل الإسلامي . اكتشف الغزالي في اعتراف جريء انه لم يبتغ الحقيقة، وانه في ضلال في ما كتب وما درّس؛ فهو يكتب ويدرّس خدمة لسياسات الحكم، والتي زورها مدعيا انها من عند الله وبأمر منه. ونظرا لأن الفكر السلفي يعشق الظلام فقد بقيت استعادة الوعي من جانب الغزالي لغزا، وتعرض الشطر التالي من حياة الغزالي للتعتيم. يقول عن نفسه: " ثم لاحظت أحوالي، فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من الجوانب، ولاحظت أعمالي - وأحسنها التدريس والتعليم ... ثم تفكرت في نيتي في التدريس، فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف بلا قرار . جاوز الأمر حد الاختيار إلى الاضطرار، إذ أقفل الله على لساني حتى اعتقل عن التدريس، فكنت أجاهد نفسي أن أدرّس يوماً واحداً تطييباً للقلوب المختلفة إلي، فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة". رحل سرا إلى دمشق ثم القدس ، حيث امضى أحد عشر عاما في تأليف " المنقذ من الضلال. ترجع حاكمية الغزالي، التي قضى بمقتضاها على عقلانية الفكر الديني في العصر الوسيط، إلى معاوية بن أبي سفيان ، إذ شارف على هزيمة ساحقة في حرب صفين، واستجاب لنصيحة عمرو بن العاص برفع المصاحف على أسنة الحراب. عبثا جاهد الإمام علي لثني أصحابه عن قبول التحكيم؛ وكان ان انقلب الحال وانتصر معاوية. اعتبر حكمه تحقيقا لمشيئة إلهية، وان امور الناس تسير بمشيئة لا قبل لهم معها. ووضع نفسه وحكمه فوق المجتمع.، وما عليه سوى الطاعة.
حاكمية الأشاعرة تتماهى قاعدة لتزوير الوعي ونفق مظلم لتمرير مصالح غير مشروعة . وعلى نفس القاعدة نهضت جبرية لاهوت ما قبل الألفية ،الذي أخذت به المسيحية الأصولية، حيث يزعم أن سيرورة العالم محكومة باكتمال بنود المشروع الصهيوني بفلسطين. وبذا يضفي القداسة على أحط المقاصد الشريرة لحكم القهر والسطو المسلح على حقوق الشعوب. يختزل المفكر الإسلامي ، الدكتور نصر أبو زيد محنة العالم العربي والإسلامي في الحاكمية." إن بنية النظام السائد للدولة القبلية بشتى أنماطه في الأقطار العربية والإسلامية يعد تجسيدا حيا لمبدا الحكمية من حيث انها تركز على احتكار المعرفة، ومن ثم اتخاذ القرار بيد شخص واحد . لكن خطر الحاكمية يتعدى الدلالة السياسية ويمتد عميقا في بنية الوعي الاجتماعي. الحاكمية تنتظم كل مؤسسات المجتمع بدءا من الأسرة ، فتركز السلطة في يد الذكر في علاقته بالأنثى ، وفي يد الأب في علاقته بالأبناء ، والرئيس بالمرؤوس.ويتحول الأمر إلى كارثة حين نرى للمبدأ حضورا في المؤسسات الفكرية والعلمية "[د. نصر حامد ابو زيد :النص السلطة الحقيقة ـ لماذا أجهض المشروع التنويري العربي؟ ، ص 144]. " وإذا أضفنا ان منتجي هذا النمط من الخطاب الديني هم في الغالب من اساتذة الجامعات وفي المؤسسات العلمية أدركنا فداحة المصاب في عقل الأمة ووعيها العلمي.." [ نفس المرجع ص145]
ينفصم الفكر عن الواقع في الفكر السلفي . فهو يفارق الواقعية لدى تناول الحكم العثماني او التاريخ العربي ـ الإسلامي او العديد من أحداث الحاضر، كما يمزق علاقات السببية، ويغرق النشاط الفكري في التبرير . " إن سيادة الذهنية التبريرية على مجمل النشاط العقلي العربي حتى الآن يمثل في حد ذاته دليلا يناقض اولوية القاعدة المادية على الفكر "[ المصدر السابق ، ص61]، بمعنى انفصام الفكر عن الواقع . والدين عندما يؤدلج ويسخر في خدمة الحكم يتلوث بلوثة التبريرية ، وكما حصل مع فقه الغزالي وهو في حظيرة الحاكم، يفقد طاقته الروحية؛ إذ يكف عن ان يكون دينا. احتفظ التأويل السلفي للدين بقاعدة تقديم النقل على العقل ، وهذا ما اورث التضارب في الاجتهادات وجعل بنية هيكل الفقه متعارضة احيانا مع النصوص المقدسة . وجاءت تأويلات خطاب النهضة تجديدات لم تمس البناء الفقهي؛ إذ "اعتمد مبدأ النفعية الانتقائية التي تختار من القديم ما لا يمس هيكل بنائه.وعلى المبدأ ذاته اعتمدت الأصولية ." [د. نصر حامد ابو زيد :المرجع السابق ، ص62] . قرن الدكتور محمود حمدي زقزوق استثمار الدين بالمتاجرة الضاربة في باب الإفتاء، وقال إن داء الاتجار قد لحق بالدين لأغراض لا صلة لها بالدين. "والذين يستخدمون هذه الفتاوى يعرفون ما للدين من أثر عميق في النفوس، وما له أيضا من تأثير علي السلوك. ومن هنا فإنهم إذا أرادوا أن يروجوا لتوجهاتهم أو لتجارتهم فإنهم يلجأون إلي الدخول علي الجمهور ـ المتدين بفطرته ـ من مدخل الدين. وهذا الأمر يعد امتهانا للدين وتلاعبا بمقدساته ".
السياق النهضوي الباحث عن التحرر والتقدم يربط الوعي بالهوية بإرادة صد التهديد الخارجي ؛ والمشروع التحرري جاء ببدايات هوية جديدة " قيد الإنجاز" تقرأ العلاقات جميعا بما فيها التراث واللغة والدين من وجهة نظر وظيفتها التحررية، تنظر للموروث في ضوء الحاضر وحاجاته. ولكل زمن حاجاته والحاجات المتجددة تقضي بهوية ثقافية متجددة، تلبي وقائع المعيش. استند مشروع نصر حامد ابو زيد إلى التصدي بمنطق علمي وبجرأة لا تتردد امام البلطجة الفكرية والتفسيرات اللاعقلانية للدين، حيث السلفية تثير الأغبرة، وتعمد للترويع ، تملأ الفضاء بالارتباك والإحباط، خاصة حينما تسلط الجهلة وذوي السوابق الجرمية. فمن سمات التخلف أن الجاهل لا يقر باختصاص ولا يحترم رأيا علميا، ويتجاسر من يطلع على كتابات قديمة على تنصيب نفسه أميرا يتوجب الانقياد له. العقل السلفي الملتحق بالسلاطين والمبرر لجورهم، العقل الكسول والمتطفل على السلف، رتب أولوياته على تقديم النقل على العقل، الأمر الذي شكل حاجزا منيعا بوجه التجديد والابتكار واكتشاف الجديد، أو النظر في تغيير الواقع الموروث عن العصر الوسيط. والتفكير السلفي بذلك أشاع السقم الثقافي او الاختلالات في المجتمع العربي .. اختلالات في القيم والمعايير و في الهوية والمكانة الحضارية فاحتل تجار الدين مكانة رفيعة على منابره. فهل نستغرب إذ نجد العرب في مؤخرة المجتمعات البشرية المعاصرة في ميادين التنمية وقراءة الكتب وتأليفها وترجمتها وفي ميدان البحوث العلمية، وكذلك في ميدان الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان ومكانة المرأة ؟ ولم يعد لغزا كون المجتمعات العربية هي الأعلى في باب الفساد ونهب المال العام. ولعل الجهلة أعفوا الإسلام من مشقة الخوض في أمر العبودية؛ فقد ألغي الرق والقنانة بفضل التقدم العلمي والتقني .
والملاذ يكمن في التفكير العلمي ركيزة أساس للتحديث والعصرنة، وهما مشدودأن لبعضهما بحبل صري. التفكير العلمي يعتبر الشرط الأولي لتعقيل مظاهر الحياة الاجتماعية كافة، ومنها الوصول إلى الحل العادل للقضية الفلسطينية. العقلانية تنشط العقل ويترعرع في الميدان العلمي. إن إدخال العلم في الحياة الاجتماعية، من شأنه أن يطلق الإبداعات في مناحي الحياة كافة، ويحرك قاطرة التقدم والتحرر الإنساني. وهذا يفرض على المثقفين التصدي بجرأة لكل أنماط التضييق على حرية الرأي والبحث والتعبير. وفي كتيب أصدره المفكر الفلسطيني الراحل ، ادوارد سعيد ، عام 1994، أوجب فيه على المثقف " أن يقول الحق بوجه السلطة ، ولا يقل مبدئية عن المسيح وسقراط، يدافع عن المعايير الأزلية للحق والعدل".
#سعيد_مضيه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيري يسوق مشروع نتنياهو للسلام الاقتصادي
-
اليسار العربي وفلسطين
-
للتخلف انكساراته وللتقدم انتصاراته
-
تبادل الأراضي يعني شرعنةممارسات إسرائيل
-
جدار من حقول ألغام
-
مصائد مغفلين في ميادين النضال الفلسطيني
-
لا انتفاضة ولا عسكرة بل حركة شعبية مستمرة ومتنامية
-
رفض قاطع لأجندة تمكين الاحتلال والمحاور لمتسقة معها
-
لن تكون لإسرائيل كلمة الفصل
-
في يوم الثقافة الفلسطينية
-
التخلف يضاعف أعباء المرأة ويفاقم همومها
-
التمزق الفلسطيني لمنفعة إسرئيل
-
حركة متعددة القوميات من أجل دولة غير صهيونية بفلسطين
-
برنامج التطهير العرقي لم يرفع من جدول الأعمال
-
فرض علينا اعباء اكثر مما منحنا امتيازات
-
شهوة الدم الفلسطيني .. أهداف ودلالات
-
ذراع إسرائيل تطال المنطقة وتنذر بفواجع شاملة
-
خواطر في ذكرى وعد بلفور
-
انتخابات في الولايات المتحدة
-
حاتم الجوهري و-الصهيونية الماركسية
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|