|
رحلة وصفية من بنسليمان إلى بن احمد : قرى مهمشة ؛ تنمية معطوبة ؛ إنسان مهدور، وصلابة في مواجهة غوائل الطبيعة وعنف النسيان
عبد الله عنتار
كاتب وباحث مغربي، من مواليد سنة 1991 . باحث دكتوراه في علم الاجتماع .
الحوار المتمدن-العدد: 4137 - 2013 / 6 / 28 - 19:22
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
السهل السليماني هو سهل يمتد امتداد الرؤية ؛ تتقاسمه مجموعة من القطع الأرضية، لكن تبقى هذه القطع صغيرة جدا، فبعض منها عبارة عن حصيدات، و الأخرى عبارة عن برنيشات، أو أراضي راقدة، ويحتلها مجموعة من الرعاة يسهرون على ماشيتهم، فيما يخص المنازل، فقد تراءت لي مبنية بالإسمنت و الآجور، فالقليل منها، إن لم أقل من النادر أن تجد منزلا مبنيا بالأحجار، كذلك نجد أن المنازل مطلية بألوان متعددة، لكن اللون الأحمر هو الطاغي . في طريقي ؛ لاحظت مجموعة من المؤسسات التي شيدت من طرف الدولة، و أهمها المساجد التي تنتشر كالفطر، وتشمل كافة ربوع الدواوير، والقرى، كما تتم العناية بها إلى أقصى درجة، من صباغة، وطلاء، وأفرشة، ناهيك عن المساحة الواسعة والألوان الزاهية والبراقة، فهناك بعض المساجد مطلية باللون الأخضر الفاتح، و أخرى باللون البني الذي يميل أحيانا إلى البرتقالي، وتملأ حيزا كبيرا، كما تطلق كل مؤسسة صومعتها إلى عنان السماء، ناهيك عن صوت الآذان الذي لا يعلو عليه صوت آخر . إن ما يمكن أن نستشفه من هذه العناية هو الدور الكبير الذي تقوم به المساجد في التعمية، وفي ممارسة الوصاية الروحية للدولة على القرويين، ناهيك عن تبرير بؤسهم وأوضاعهم الإجتماعية، فالخطاب الذي يبث عبر المساجد لا يتكلم عن الحقوق وعن المواطنة، بل يتكلم عن الإلتزامات الروحية، وهي إلتزامات هؤلاء القرويين نحو السماء، وبالتالي إنها رحلة عمودية تنسي مرارة الواقع، والخلفيات التي تحركه . إنه واقع مر، يطفو واضحا للعيان، وها هي المدارس والمستشفيات تتبدى صغيرة كالأقزام، فعلى الرغم من كثرتها، فوجودها يبقى إسمنتيا، فهي تفتقد للتجهيزات و الأدوات الضرورية، فهذه القرى لا تتوفر على ثانويات، ولا على أطباء كافيين، و لا على مستوصفات للجراحة، وشتى أنواع التمريض، اللهم بعض الأدوية البسيطة جدا كمبيدات الحشرات .
" تغيب الأدوية و تحضر المساجد، يغيب الأطباء، ويحضر الفقهاء...، وتغيب الثانويات والمكتبات، و تملأ المساجد بالزرابي والطلاء " ؛ هذه هي المفارقة التي تعرفها القرى المغربية، تحضر الواجبات الدينية، ويغيب حق الإنسان في التطبيب و العلم والقراءة، و العمل فتتعطل دولة المواطنين، و تهيمن دولة الرعايا، وتبقى المساجد سلوانا للشقاء والبؤس، فتتبدد التنمية المنشودة " .
دخلنا إلى إقليم برشيد ؛ على النافذة تتراءى طيور النغاف وهي مجتمعة حول جثة حمار، تمر لحظة، وها أنا أستنشق هبة نتنة . تدخل الحافلة إلى مدينة الكارة ؛ الحافلة من حين لآخر تطلق صفيرها، وها هي الآن تتوقف ؛ على الرصيف أطفال بألبسة رثة يرددون : " بن حمد طلعو"، وعلى جانبي تصعد امرأة، وتجلس بالقرب مني، وهي تحمل رضيعا، فتقول له : " صباح الخير أولدي العزيز " ؛ مدينة الكارة كما رأيتها في الرحلة السالفة ؛ مدينة بملامح قروية ؛ يستوطنها " الشمكارة "، و العاملات الجنسيات ، والمتسولون، وجموع المنسيين ؛ أرصفتها غير مجهزة يطالها الغبار والفوضى، ناهيك عن الوسائل والأدوات الفلاحية، فشوارعها تملؤها الحصادات، والشاحنات، زيادة على" الشاريوات."... يقال عن هذه المدينة أنها مدينة القرويين، أجل إنها تتواجد وسط الحقول والجنان، والأراضي الواسعة التي تحتلها الرزم، وأشجار الزيتون ؛ لقد ظلت هذه المدينة مكانا أثيريا لجموع القرويين المتعطشين لممارسة الجنس، والتنفيس عن الضغوطات الأخلاقية والقيمية السائدة في قراهم ...غير أنها ليست بالطريقة التي توصف بها الآن، بل إن انتشار الدعارة، وأوكار الفساد، فتح جزرا أخرى، وخاصة فيما يتعلق بتعاطي الدولة مع الدعارة، لكن حسب ما يقول أحد القرويين : " يبقى هذا الموضوع بيد الدرك " . تتغلغل الحافلة شيئا فشيئا، وها هي بن احمد تتراءى في الأفق، ما يظهر هنا أن لا فرق بين المناطق الثلاث ( بنسليمان ؛ بن احمد ؛ برشيد )، إنها تحمل نفس الملمح، فالذي يميزها هو الحدود الإدارية، وكثرة التسميات والتقسيمات، أما الإسم الأم فهو واحد : " الشاوية " ؛ في الخارج حصيدة ترتدي وشاحا أصفرا، وحقول فول تكتنفها " خشلاعات " متطايرة، لكن الذي لفتني هو ظاهرة " الترواط "، أو " التكشاط "، فهناك بعض القرويات تحمل مكشطا، وتشرع في جر الغلال، ثم تشكل كتلة من التبن، ثم تحملها قرب المنزل، وهنا قد تشكل " نادر " ( كتلة كبيرة ) فتبلطه إلى حين حلول فصل الشتاء تفاديا لتطايره، أو تعمل على تبياله ( تحويله إلى رزم متراصة محاطة بسلك أو خيط )، وعلى ذكر التكشاط ؛ لقد رأيت مجموعة من القرويين يوظفون بغالا ومكشطة كبيرة وسياطا، و ذلك قصد تجميع كتلة كبيرة ربحا للوقت والطاقة . يستحوذ على السهل السليماني النظام الفلاحي القائم على البور، ويعني هذا استحواذ البور، أي الاعتماد على الأمطار، فهناك القلة القليلة ممن تعتمد على السقي، و في طريقي رأيت : حقول البصل، والطماطم والبطاطس، ويشتغل فيها عمال موسميون مهمتهم هي الجني والنقل على ظهور الشاحنات. في هذه الآونة أسمع هسيس الركاب، وعبير بن احمد ينساب عبر النافذة ؛ هنا لم يلفتني أي حقل من حقول الحمص، اللهم حقول الصبار، فحقل واحد للحمص هو الذي لفتني في طريقي يقبع في عقبة وادي نهر النفيفيخ، بالإضافة إلى حقول الذرة المتناثرة على طول شريط الوادي.. تتوقف الحافلة في محطة بن احمد، ينزل ركاب، سرعان ما يصعد ركاب آخرون، وها هي تنطلق الآن ؛ على العموم تبقى المحطة جد ملوثة، فلا عناية، ولا رعاية ؛ يستوطنها المتسولون والكلاب والمشردون، ويحتل جوانبها دكاكين، وباعة للخضر والفواكه يشيدون خياما .........
" حنطونا بالخجل، فتحولنا إلى مومياءات تعاني الفاقة والعوز " .
" قرب بئر ؛ فتاة في ريعان الطفولة ؛ يركلها أبوها، فتسقط، فتقبل التراب بقبلة صفراء، وها هي تنهال بسوط على أثان عجفاء " .
" طفل يحمل الأثقال، بينما أبوه يتفرج على المأساة " .
عبد الله عنتار - الإنسان - 28 حزيران 2013 -
#عبد_الله_عنتار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إمتحان البكالوريا
-
مشاهد كرزازية
-
مطارحات
-
ضفاف
-
ضحك ( هههههههههههه )
-
الحشرة
-
لماذا أكتب ؟
-
خواطر على السهل السليماني
-
يد على الجرح
-
منزلنا الريفي ( 6 )
-
وداع
-
حلم
-
سقط القناع
-
مشاهد الطفولة
-
الوتد
-
منزلنا الريفي ( 5 )
-
دروب الكتابة
-
منزلنا الريفي ( 4 )
-
غصن دون جذور
-
موقفي من المرأة
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|