|
المضحّون المنسيّون هم أسْياد الماضي
نصير عواد
الحوار المتمدن-العدد: 4137 - 2013 / 6 / 28 - 11:36
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
"الماضي هو الحقيقة الوحيدة في حياتي" سالم أبو ضفاف في الوقت الذي عَلتْ فيه الأصوات على ضفتيّ الماضي، صوتٌ يتغنى بقوة الذاكِّرة وآخر يمتدح رحمة النسيان، سكت آخرون، مِمنْ أفنوا سنين العمر في الدفاع عن قضايا الإنسان والوطن، عن الدور المهلك والجميل الذي لعبه الماضي في حياتهم، واكتفوا بروايته فيما بينهم في اللقاءات الشحيحة. فهذا الماضي النديّ، الخارج عن زمنه، والذي كان لشدة بساطته وعمقه يبدو من لونين متناقضين هما الأسود والأبيض، قبضة الجلاد وفكرة الوطن، هذا الماضي يندر أن يشفى أحدا من المضحّين منه بعد الاصابة إلا في حالة حرق المراكب والأوهام والأسماء، بسبب أن أحداثه وأسماء صنّاعه والمواقف التي شكّلت نسيجه لا ينفع معها النسيان والنكران ورش الماء على الرسائل المدعوكة بخبرة وحب كبيرين. لذلك بقيت أطيافه تنبجس من دون توقع، تتكدّس في المنام أو تندلق في لحظة عابرة أو موقف مشابه، تاركة خلفها ألما أكثر من الماضي نفسه، فيه الحسرة على لبن مسكوب وفيه الشوق لوجوه رحلت قبل أوانها. عندما يتجمّد الرصيد النضالي والإنساني لعشرات المضحّين، ولم تجرِ الاستفادة منه وتصريفه في ساحات أخرى، وعندما ترّكض الأعوام وتذبل الأجساد وتتصدّع القيم التي كبروا عليها، سيتحول هذا الرصيد إلى صمت ومعاناة وتأملات غالبا ما يكون بطلها الماضي، يسردون أحداثه ويمنحونها مشاعرا عاطفيّة وإنسانيّة أكثر منها سياسيّة ودموية، يطول مكوثهم عند أسم أو حادثة أو مجزرة، مؤكدين على تفاصيل تقع داخل المعنى، الذي ضحوا من أجله بأجمل سنين العمر. فهذا الماضي المليء بطبقات ملكية وجمهورية وقومية وديكتاتورية لم يكنْ مريحا أو مثاليا لأجيال كثيرة، وقد تكون أفضل لحظاته لا يمكن تَحمّلها اليوم، ولكنه بالنسبة لأصحابه سيد الأزمنة وأساسها وأكثرها حزنا وبهاء. صحيح أن الحكايات التي يرويها هؤلاء المركونون في الظل لا يعرفها كثيرون، خصوصا الأجيال الجديدة، وقد يظنها البعض مبالغ فيها إلا أنها ليست مملة أو متخيلة، فبالرغم من نأي السنين وزحف المخيلة على الذاكرة بقيت حكاياتهم من لحم ودم ورفقة ومعاناة. يوثقون فيها، شفاها، أحداث لا يليق بها سوى الماضي، كما يظنون. يبدو أن الحوادث المأساوية التي تتخذ لها طابعا جماعيا كالمجازر والهجرات ومعتقلات النازيّة، تنتج ذاكِّرات خاصة، وتتوقف عند مفاصل ومواقف هي نسيا منسيا لمن هم خارج مدار التجربة. وفي موضوعنا لن نجد أحيانا لدى كتّاب السّير مخيّلة متمهلة وصبورة في نبش التفاصيل الصغيرة، التي هي من دم ولحم ومعاناة وأسماء، كما نجده عند المضحّين المنسيين. أدى ذلك بمرور الأعوام إلى الانسجام في رواية الحوادث بين عشرات الذاكرات والمستويات المختلفة، من دون شعائر أو تمجيد لرموز أو بكاء على الأطلال أو رقص على دق الطبول. المختلف في هذه العودة لحوادث الماضي أنها محصورة بصنّاعها، أبطال مأساتها، يروُون بصوفيّة وبمفردات خالية من ضمير المتكلم، لا تجميل فيها للفجيعة أو تبرير للأخطاء. يتغير فيها اتجاه السرد صوب الحزن والبساطة، تصل ذروته في حضور الشهداء الذين تربعت أسمائهم بقوة الأحداث في الذاكرة. المختلف في هذه العودة للماضي أنّها استعادة للذات وأنّها، على الرغم من الطابع الجماعي للرواية، لا تهمّش الخصائص والادوار الفردية للضحايا. ونجد الرواة في كلّ لقاء جديد يتذكرون ما أهدروا من تفاصيل في اللقاء السابق، يعيدون صقلها، والابتسامة تعلو محياهم، وكأنهم اكتشفوا للتو وسيلة جديدة لإبقاء الحكاية ناصعة ونقية كحصاة النهر. نود الإشارة إلى أن الحوادث التي تَصّنعها المجموعة والتي لا يزال شهودها أحياء لا يمكن للرواة قول أي شيء يتبادر إلى الذهن فيها، إنْ كانوا من داخل المجموعة أو من خارجها، لأنّه سيخترق خطوطا حمر في مستوطنة المنسيين والصنّاع والضّحايا. من يستمع للمضحّين المنسيين، دون أن يعرف حقيقة معاناتهم وطبيعة التجارب التي خاضوا تفاصيلها، سيظن أنهم ليسوا مناضلين وثوريين بل هم رواة حكايات لا يعرفها غيرهم. فالمبالغة في استعادة الماضي وجعله أكثر حضورا من حاضرهم ومستقبلهم أثر سلبا على دور الأزمنة ألأخرى وعطّل بعض مفاعيلها، وصوّر الرواة وكأنهم لا توجد في جعبتهم تجارب أخرى اختبروها باستثناء تلك التي ساهموا بها في الماضي. وهذه نصف الكأس الفارغة. صحيح أنّ قسماً من الثوريين المنسيين اعتزل النضال وكفَّ بحثه عن أعداء مفترضين، وقسم آخر تمسك بالماضي لأنّه لم يعدْ قادرا على اجتراح مغامرات جديدة تساعده في الاستمرار وتتيح له فرصة تبادل المعلومات وتقاسم الذكّريات مع اشباهه. ولكنهم، المضحّون، من الجهة الأخرى ما زالوا ينشطون، والزمن من حولهم يأتي ويمضي، وما زالوا يهتمون بأنفسهم وعوائلهم، وأنهم ما زالوا ينتجون على صعيديّ العمل الفكري واليدوي. تتلألأ عيونهم بالفرح وهم يروُون أحداث الماضي، فيهم الأكثر صمتا هو الأكثر معرفة بالتفاصيل. يروون الحوادث لأشباههم وكأنهم ينظرون إلى أنفسهم في المرآة، يُقلّبون الأسماء والوجوه وهم يدورون في غرفهم الرطبة، يُلمّعون الأحداث ويجلونها كما تحفة، مزهرية أُهديت لهم في مناسبة عزيزة. وإذا عُرِضت أو تداخلت في الحوار مواضيع أخرى ساخنة ومستجدة فلا يجدون حرجا في ليّ عنقها والتوجه بها صوب الماضي أو مقارنتها به، ليس فقط لتنشيط الذاكرة بل لإدامة العلاقة مع الماضي ومسح الغبار عن الأسماء والأفكار والمواقف. وكأنهم بذلك يريدون إيقاف الزمن هناك، عندما كانت ذواتهم نقية، بيضاء كثلج جبل قنديل، كما يخيل لهم. لقد وجد المضحّون المنسيون في اللقاءات القلية بأشباههم محرضات للذاكرة وعزاء متأخر لأرواحهم الطيبة، ولكن لم يحدث لهم أن اتفقوا يوما على التمسك بالماضي أو تحويله إلى هويه لهم. هم ويدركون جيدا أن بضاعتهم كاسدة في الأسْواق، ولكن على ما يبدو أن المصائر المشتركة التي انتهوا إليها هي التي قادتهم إلى التمسك بالماضي والتلذذ بروايته. فعندما يتسابق النّاس على الغنائم، كما هو حاصل بالعراق اليوم، فإنّ أصحاب التجارب الحقيقيّة والضمائر الحيّة يكون مكانهم في الظل، وسيكون الميدان لأصحاب الصوت العالي واللصوص والانتهازيين، الذين سيحاولون جاهدين تسفيه الروايات والمعاناة وألقاء غطاء كثيف من النسيان على التاريخ القريب، على المواقف المهادنة والجرائم والأسماء التي رحلت دون قبور، مع أن التجارب الحياتية أكدت في أكثر من مناسبة أن الحادثة، أية حادثة وتحت أي ظرف، لا يمكن أن يكون مصيرها الذوبان والنسيان. من يستمع لأسلوب المضحّين المنسيين المشحون بالمعاناة والحب في روايتهم للحوادث يتبادر إلى ذهنه أنهم يميلون إلى الماضي وكفى، من دون أن يسألوا أنفسهم يوما لماذا ولِدت الحاجة إلى مطحنة الحزن هذه، هل هي الشيخوخة والعزلة وعدم القدرة على تفعيل جين الصداقة من جديد؟ أم هو انخفاض منسوب الأمل بالحاضر والمستقبل؟. فالمعروف عن أصحاب التجارب الحقيقية استمرار حضورهم وتأثيرهم حتى وإن كانوا في الظل، وتبقى حياتهم مكتظة ومنتجة، ولا نظن أن الخيبات وركض الأعوام والعزلة لوحدها هي التي صنعت الميل الجماعي لرواية الماضي بهذا الحب والكثافة. ولابدّ من وجود أسباب أخرى أكثر عمقا، فقد تكون التشويهات التي حصلت للحوادث وتبرير الجرائم التي بقيت دون حساب هي السبب، وقد يكون السبب تصدّع القيم الاخلاقيّة والاجتماعية الذي أوصل الأمور إلى اتفاق الجلاد والضحية على الصمت والنسيان. بالطبع، لسّنا جميعا مجبرين على العودة للماضي، الصعب الحمل، والتسليم له كليا. وليّست كلّ الذاكِّرات قادرة على الحفر لغرض استحضار وملامسة العميق والإنساني فيما وقع من حوادث. وليس كل الرواة وجدوا أنفسهم على حافة النسيان ووجدوا بالماضي أعدل الأزمنة وأزودها إنصافا لتجربتهم، فقرروا المكوث عنده ومسح الغبار عن شذراته. فقد يرى احدهم أن الماضي هو الحقيقة الوحيدة في حياته، كما ذهب "سالم/طالب غزّاي" في نوع من الكشف عن سر ميّل المضحّين المنسيين إلى الزمن، الماضي، الذي شاركوا بصنعه أكثر من ميلهم إلى المستقبل الغامض الذي قد لا تساعدهم الأعوام واعتلال الجسد على بلوغه والمساهمة فيه. وقد يختار آخرون، مِمّن عاشوا حيوات أخرى في ظروف وأمكنة أخرى، دفن الماضي ووضع نقطة في نهاية جملته والانطلاق من جديد، خصوصا إذا كان هذا الماضي لا يُشكّل، في أحد وجوهه، إعاقة لاستمرار حياتهم ومستقبلهم. أما الذين شَرِبت أرواحهم من نهر "ليثية" ورزقوا بالنسيان أو بثقب في الذاكِّرة فسيكونون، في غالب الأحيان، مُبتَلين بنومٍ قلقٍ وتلاحقهم أطياف ووجوه تأتي وتمضي مسرعة في دارة حزن ليس لها أبواب. ملاحظة: كاتب السطور من النوع الأخير.
#نصير_عواد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل تُخطئ الشعُوب؟
-
بشتئاشان.. المجزرة التي تُروى خفية
-
الأول من أيار .. تهنئة أم تعزية؟
-
أمنيات في عيد الشيوعيين
-
الاغتصاب.. أو الموت مرّتين
-
دور المال في خراب العراقيين
-
الشيوعيون الأنصار صفحة أخرى تقاوم النسيان
-
شُهداء في الزحام
-
بشتآشان.. نسيان بعد ارتطام الصخور
-
دَساتير أحْزابنا السياسيّة مِن نسل واحد!
-
حكاية التصاق الثقافة بالشيوعيين
-
باطن الجحيم رواية سلام إبراهيم الجديدة
-
تهديد الذَاكِرة العراقية
-
احذروا عاشوراء
-
الحياةُ لحظةٌ- رواية التفاصيل الخَرِبة للبطولة
-
إنهم يفترون على الشهداء
-
مواقع إلكترونية أم قبائل سياسية؟
-
في مديح الهزيمة
-
حذاءٌ وطنيٌّ آخر من تركيا
-
في ذهاب المهنة وبقاء المهانة
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|