|
كيف ألحدت؟ الباب الأول: هل يوجد إله؟ الفصل الثالث: العقل المؤمن و اللوازم المحرجة
معتز أحمد كرم
الحوار المتمدن-العدد: 4137 - 2013 / 6 / 28 - 00:53
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
-1- في الفصل الأول من هذا الباب، عرضتُ عليك - عزيزي القارئ - اللوازم المنطقية التي يؤدي إليها التسليم بوجود خالق للكون، و تبين أنه بالمنهجية نفسها يمكن أن نقف على عدد غير محصور منها. و في هذا الفصل سأناقش المواقف التي يتخذها العقل المؤمن إزاء بعض تلك الإلزامات الإشكالية. ونظرا لصعوبة الإحاطة بكل تلك المواقف، لاختلاف وجهات نظر الأديان التعددية من جهة، و الأديان التوحيدية من جهة ثانية، و لاختلاف وجهات النظر داخل الديانة الواحدة، بل حتى في النص الديني الواحد.. نظرا لذلك كله، فإني سأكتفي بعرض مختصر لأهمّ تلك المواقف، لأناقش محتواها وقيمتها العلمية، و أحدد أسبابها الذاتية )الشخصية( والموضوعية، و أبرز نقاط الاشتراك بينها، جاعلاً الديانتين المسيحية و الإسلامية )باعتبار أنهما الديانتان الأوسع انتشارا في العالم( في بؤرة اهتمامي.
-2- يجب التمييز بدايةً، بين نوعين رئيسيين من تلك المواقف: المواقف الشخصية، و هي التي يتخذها الشخص المؤمن حين يواجه ما يهدد نقاء علاقته الشخصية بالخالق، و مثل هته المواقف يمكن ردها بالأساس إلى النوازع النفسية الذاتية من جهة، و إلى البدائي في كياننا البشري من جهة أخرى. و النوع الثاني هو المواقف المؤسسية: أي تلك التي تتخذها المؤسسات الدينية بمعناها العام حيال المآزق المنطقية للإيمان بالخالق. إننا نلاحظ أنه بالرغم من تمايز شخصيات المؤمنين، فإن مواقفهم من الإشكاليات المنطقية للإيمان تكاد تكون متطابقة، وذلك راجع إلى أنه "في المجتمعات التقليدية تأخذ العقليةُ صورةَ العقلية الجمعية و القطيعية.. فالفرد لا يستطيع أن يتصور وجوده على أساس مستقل لأنه يشعر بأنه جزء عضوي في الجماعة التي ينتمي إليها. فهو فرد في قطيع تحكمه معايير و قيم واحدة و هو بالتالي نسخة متكررة.." )1 ( و عليه فستكون المواقف التي يتخذها الشخص المؤمن أمام اللوازم الإشكالية للإيمان، منتزعةً من مواقف المؤسسات الدينية التي ينتمي إليها، مع اختلافٍ في الدرجة تبعا لمدى تدين الشخص، و علاقته بالمؤسسة الدينية، و مستواه التعليمي.. لكنها عموما تتميز بكونها ردود أفعال انفعالية معبرة عن النفور و الاشمئزاز. و رد الفعل هذا يقوم بمجموعة من الوظائف الدفاعية تجاه استشعار الخطر الذي يداهم البنية العقدية للمؤمن، فهو أولا يؤمّن "نوعا من الاستقرار الحياتي.. فيعطي الإنسان شيئا من الطمأنينة للوضع الراهن ذي الأبعاد المعروفة و التحديات المألوفة التي يمكن التكيف بحسبها.. و هو يبعد عن الإنسان المقهور خطر مجابهة قلق المجهول، و قلق التغيير." )2( غير أن درجة ردود الأفعال هته قد تبلغ حد التطرف أحيانا، خصوصا في البيئات التقليدية المغلقة. وفي أحسن الظروف فإن العقل المؤمن يتعامل كالهندي الذي يعتقد بـ"الفرضية الهندوسية .. التي تقول إن العالم يرقد على ظهر فيل، و الفيل يرقد على ظهر سلحفاة، ثم حين يُقال: وماذا عن السلحفاة ؟ يبادر الهندي بالإجابة : دعنا نغير الموضوع !" )3(
-3- و أقصد بالمواقف المؤسسية تلك التي تتخذها المرجعيات الدينية عامة: و هي النصوص الدينية نفسها، أو تفسيراتها من طرف تنظيمات مؤسسية ذات سلطة دينية كالكنيسة مثلا، أو تنظيمات معنوية كسلطة القديسين في السياق المسيحي، أو "السلف الصالح" لدى السنة أو الأئمة لدى الشيعة.. فما المشترك بين هته المواقف المؤسسية؟ يقوم الدين بالأساس على « المقدس » تمييزا له عن « المدنس » بعبارة دوركهايم )4(، حيث تضفي المجموعة الإنسانية على أشياء محددة إجلالا و احتراما يقتضي طقوسا خاصة، و تحرُم إذاك حتى محاولة التجرؤ على حمى هته "الدائرة المقدسة"، وقد يكون الموت عقوبة من ارتكب ذلك الجرم.)5( كان هذا في عهد الشعوب البدائية، لكن و للأسف، لا يزال الدين، محافظا على نفس تلك الصفة الوحشية. إذن فالدين باعتباره الامتداد التاريخي للحياة الطوطيمية، بالغ في تحريم المس بدائرة المقدس/المطلق. هذه الدائرة التي أضحت مع الديانات التوحيدية أكثر اتساعا، إذ لم تكتف بمجموعة من الأشياء و الرموز كما عند الإنسان البدائي، بل إنها تعدتها إلى كل ما يرتبط من قريب أو بعيد بالدين، فالكتب الدينية مقدسة، و أمكنة العبادة مقدسة، و الرسل مقدسون ، بل و أصدقاء الرسل مقدسون، والطرق التي يعتقد أنهم ساروا عليها مقدسة.. و هكذا تستمر سلسلة القداسة! يتبين إذن أن التأكيد على "القداسة" باعتبارها صفة ملازمة للشأن الديني، دليل "استحاثي" على التفاعل )الصراع( الجدلي بين العقل المؤمن - منذ نشأة الأديان - و ما يحاول أن يحط من شأن الإيمان بالخالق. و بذلك يمكننا القول باطمئنان: إن التأكيد على القداسة هو جوهر موقف العقل المؤمن عبر التاريخ حيال الإلزامات المنطقية المحرجة التي يقتضيها الإيمان بالخالق.
-4- اعتمادا على هته النتيجة الأخيرة، تنكشف أمامنا نقطة الاشتراك الرئيسية بين الكثير من المواقف الجزئية التي يتخذها العقل المؤمن المؤسسي أمام اللوازم المحرجة للإيمان. فالعنف المادي و الفكري، و المغالطة المنطقية، و الإحالة على الغيب.. كلها مواقف نابعة من نظر الدين إلى نفسه بنظارة القداسة. إن النص الديني باعتباره المؤسسة الدينية الأولى، هو المؤسس لجميع هته المواقف: تصريحا أو تلميحا، فأما التأسيس للعنف المادي فإن النصوص الدينية تنضح به حتى لا يكاد مقطع من كتاب مقدس )على الأقل في المسيحية و الإسلام( يخلو منه. أما العنف الفكري فمن اللوازم المباشرة للإيمان بقداسة الدين، فكم هي الآيات و الروايات الدينية التي تنهى عن الخوض في المسألة الإلهية بالعقل وحده، فمثلا في تفسير آية: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى } )6( يورد أغلب المفسرين الإسلاميين حديث: "لا فكرة في الرب" )7(، و يستنتج أغلبهم حرمة المعالجة العقلية للمسألة الإلهية. و حينما يقول النص القرآني: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} )8( فإنه يؤسس لهذا النوع من العنف ، ضد من يسميه بالأفاك، والإفك في اللغة هو القول الذي لا أصل له، و يطلق على ضعيف العقل: المأفوك أي الأحمق أو الجاهل، و هو عين الوصف الذي نجد الكتاب المقدس يصف به الملحد: {قَالَ الْأَحمَقُ فِي قَلْبِهِ: «لَيْسَ إِلهٌ».} )9(. و قد جعل العقل المؤمن من هذه الركيزة التي أسسها النص الديني قاعدة لتشييد بُنىً لاهوتية ضخمة، كالتي أقام القديس أنسلم بحجته الوجودية، و التي اعتمد فيها على نص آية المزامير آنفة الذكر. )10( و على نفس الدرب سار مؤلهون كثيرون ليس آخرهم عباس محمد العقاد الذي رآى أن فكرة الله فكرة بدهية لا تحتاج إلى برهنة. )11( و هي مصادرة على المطلوب تحمل عنفا فكريا فجا. و من أظهر الأمثلة على العنف الفكري قول نبي العرب لعمر ابن الخطاب و قد أتاه بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه، فغضب النبي و قال: " أمتهوكون فيها يا بن الخطاب، والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية. لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوا به، أو بباطل فتصدقوا به. والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيا ما وسعه إلا أن يتبعني" )12( أما المغالطات المنطقية فإنها تكاد تنطبق على أغلب محاولات النص الديني الاستدلالَ للرد على إحراجات العقل. تأمل معي هذين المثالين: -;- { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } )13( -;- عن النبي أنه جاءه ناس من أصحابه فقالوا : يا رسول اللهِ ! إنَّا نَجِدُ في أنفُسِنا ما يتعاظَمُ أحدُنا أن يتَكَلَّمَ بِهِ . قالَ: وقَد وجدتُموهُ ؟ قالوا: نعَم، قالَ: ذاكَ صَريحُ الإيمانِ " )14( يقدم هذان النصان مثالين جيدين للأسلوب المغالط في النص الديني، ففي الآية نجد أن إبراهيم ينسب إلى ربه الذي لا يؤمن به خصمه، الموتَ و الحياة، فيقع الخصم في الفخ، و يدخل لعبة المغالطة المكشوفة: و يبرهن بالعيان أنه يملك ذلك أيضا - و كان أولى به أن يسأل إبراهيم برهانا حسيا على قدرة ربه على الحياة و الموت! - فينسب إبراهيم إلى ربه بنفس الطريقة التي سلّم بها الخصم، ظواهرَ كونية لا يُعرف المسؤول عنها: فبهت الذي كفر! أما الحديث فيصور عجز النبي القاتل عن الإجابة على الإحراجات العقلية التي تعرض لعقول أصحابه، فيلجأ إلى المغالطة الأكثر بدائية، إذ يصوّر الإلزامات العقلية التي تهدد الإيمان بأنها صريح الإيمان، متفاديا الدخول في متاهة مناقشة العقل للدين، وأكبر دليل على تهافت هذا الموقف، اتخاذ النبي موقفا مناقضا له إزاء نفس الحالة حين يقول: "يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول من خلق ربك؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك، فليستعذ بالله ولينته."(15) فالمسؤول عن أسئلة الوجود الحقيقية ليس العقل، بل الشيطان: المشجب التقليدي للدين! و يأخذنا سياق هذا الحديث إلى موقف ديني آخر أكثر تقليدية، و هو الإحالة على الغيب، و الأمثلة على هذا الموقف كثيرة في هذا السياق، سأكتفي بذكر بعضها: -;- " و يَسْأَلُونَكَ عَن الرُّوحِ، قُل الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَ مَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً " )16( -;- " تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذات الله، فإن الله تعالى خلق ملكا ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة ثلاث مائة سنة. " )17( و كل هته الأمثلة و أخرى كثيرة غيرها، إنما تعبر عن عجز العقل المؤمن أمام اللوازم المنطقية للإيمان بالخالق، فأنت تراه يجيب على سؤال حول ماهية شيء يدعي وجوده، بأنه من اختصاص الله! و تجده حينما يسأل العقلُ عن ماهية الرب خالق الكون، يكون الجواب بإحالة على أمر غيبي أيضا وهو الملاك، و إن لمعت صورته بوصف مادي!
-5- أسست النصوص الدينية إذن لمجموعة من المواقف المختلفة من اللوازم المحرجة للإيمان. فكان أبرزها العنف المادي و الفكري تجاه مجرد التساؤل الوجودي، و الاستخفاف، و المغالطة المنطقية، والإحالة على الغيب.. و بناءً على هته القواعد المؤسسة اتخذ العقل المؤمن مواقفه. ففي ما يخص العنف المادي يحفظ التاريخ في السياق المسيحي مثلا، مئات أحكام الإحراق أو التعذيب حتى الموت لمن وسمتهم محاكم التفتيش "بالمهرطقين" ! أما في السياق الإسلامي فإن "الهرطقة ترادفها البدعة في الفقه و علم الكلام الإسلاميين.." )18( و لذلك فالمحاكم التي تعاقب عليها لا تزال قائمة حتى هته الأيام باسم هيئات النهي عن المنكر حينا، أو مستترة تحت اسم الرقابة أحيانا.. "وهل من الصدفة أصلا أن يكون المصدر الاشتقاقي للبدعة و الإبداع في اللغة العربية واحدا؟" )19( و غالبا ما ينبني العنف المادي على عنف فكري، فأحكام التكفير و هدر الدماء مقدمة للقتل و مشاركة فيه، و الأمثلة كثيرة. أما في ما يخص المغالطات المنطقية فإن العقل المؤمن أبدع فيها بشكل استثنائي، فأغلب براهين اللاهوتيين مسيحيين وإسلاميين، تحتوي مغالطات منطقية فاضحة أو مستترة، فمثلا الحجج الوجودية التي اعتمدها أنسلم و ديكارت و حتى ابن سينا، تقوم بالأساس على مغالطة منطقية بيناها في الفصل السابق. و حجة المسبب الأول ثبت بما لا يدع مجالا للشك أنها تقوم على مغالطة منطقية فاضحة، فكما يقول برتراند راسل: " إن مبدأ المسبب الأول هو مبدأ مغالط ومسفسط. فإذا كان لكل شيء مسبب، فيجب أن يكون لله مسبب أيضاً. " )20( و الخطاب الديني المعاصر مليء بالأمثلة المغالِطة. و قد سبق أن لاحظتُ في الفصل السابق أن مستعرضي الأدلة العقلية لإثبات الإله يحاولون - في مغالطة مكشوفة - الإدلاء بها مجتمعة )21(، متناسين أن بعض هذه البراهين يتناقض مع بعض، فبرهان النظم مثلا، ينطلق من التصميم البديع للكون و الانسجام البالغ حد الإعجاز، و هو بذلك يتعارض مع براهين العلية التي تقوم على أساس افتقار العالم المادي للموجد و نقصه وحاجته.. و برهان الحدوث لدى المتكلمين نقضه الفلاسفة المسلمون أنفسهم! و هكذا فبعض براهين وجود الإله ينقض بعضا. كما يلجأ العقل المؤمن إلى الإحالة على الغيب، و هو آخر خنادقه الدفاعية، فمثلا يقف أمام سؤال الشر الوجودي - والذي سننقاشه لاحقا في مبحث الإله و الأخلاق - مسلّما باستحالة الجواب على هته الإشكالية الوخيمة. فترى المفكر الإسلامي عدنان إبراهيم الذي يدعي إقامة البرهان على وجود الإله عقليا، يتبجح بأنه فك هذا الإشكال بأن قال إننا لن نستطيع فهم خطة الإله في الكون أبدا! )22( و من ثمة فعلينا أن نؤمن بأن هناك خطة إلهية ما لكننا لن نفهمها!! -6- و هاهنا ملاحظة جديرة بالإشارة، و هي أن العقل المؤمن حاول خلال صراعه الطويل مع العقل العلمي و إحراجاته المستمرة، حاول تطوير نفسه والتأقلم مع مستجدات العلم و الوعي العقلي المنطقي لدى إنسان عصر الحاسوب، فتخلص من كثير من معتقداته الرئيسية، و صار أغلب المؤمنين - مسيحيين و مسلمين - يبحث عن طرق تحفظ لنصوصه المقدسة ماء وجهها، وفي الوقت عينه تساير المستجدات العلمية، فقد ألغى مثلا المجلس الملكي في بريطانيا الإيمان بالنار كجزء أساسي من معتقدات المسيحيين. )23( و كروية الأرض و قد صارت حقيقة علمية، لم تعد هرطقة إلا في النادر الأقل )24( و الكنيسة الكاثوليكية قدمت اعتذارها لغاليلي قبيل نهاية القرن العشرين.. و بعد انتصار نظرية التطور الداروينية، نجد في العقدين الأخير من القرن العشرين و الأول من هذا القرن، أن عددا متزايدا من رجال الدين يتبنونها ويدعمونها بنصوص دينية، ويتأولون النصوص التي تناقضها، فالمفكر الإسلامي عدنان إبراهيم يقول مثلا: "أنا أومن بالاصطفاء الطبيعي بخلفية قرآنية." )25( ويقول ليتدارك تناقض هته النظرية مع القصة الدينية عن خلق آدم: "آدم قد يكون حلقة متأخرة في سلسلة غير تطورية )26(." بل إن هذا المفكر وعلى طريقة أصحاب الإعجاز العلمي، يؤكد أن وجود الحياة على كواكب أخرى - و الذي أصبح احتماله أكبر على الأقل من أيام جيوردانو برونو - فكرة "مش ) ليست( مطروحة بل منصوص عليها في كتاب الله رب العالمين!!" )27( نعم "إن الحرب بين العلم و اللاهوت كادت أن تنتهي" )28( بعبارة برتراند راسل، لكن ليس لأن العلم تراجع عن آرائه بخصوص العقائد الدينية، و إنما لأن رجال الدين توسعوا في التأويلات اللغوية لكتبهم المقدسة. " إن المتدينين و المتدينات في الوقت الحاضر صاروا يشعرون أن معظم عقيدة العالم المسيحي كما كانت سائدة في العصور الوسطى غير ضرورية" )29( و لذلك فليّ أعناق النصوص الدينية بالتأويلات التي لا يقبلها المؤمن العادي، لا يستطيع مهما حاول أن يدرأ التعارض بين الدين و العقل العلمي. و بناء على وعي بعض العقول المؤمنة "المتنورة" بهذا الواقع، نجد أن أحدث الدراسات الدينية تحاول أن تغلق باب تعارض الدين والعقل العلمي نهائيا، بفصل اختصاص كل منهما عن الآخر، كما فعل ستيفن جاي غولد في كتابه: صخور العصور )30( أو مثلما نجد في دراسة أديب صعب: وحدة في التنوع: مَحاور وحوارات في الفكر الديني، الذي يرى أن المشادة الطويلة التي نشأت بين العلم و الدين ترتكز إلى خطأ فادح في إدراك نطاق كل منهما. )31( -7- إنني أرى أن هؤلاء الذين يكلفون أنفسهم عناء البحث عما من سبيله أن يوائم بين العقل العلمي و العقائد الدينية، ويجدّون دون جدوى، لإيجاد حلول للوازم الإشكالية للإيمان بالإله، إنما يبرهنون يوما عن يوم عن استحالة هته المواءمة و تلك الحلول. لأن الإيمان كما يصرح أديب صعب مثلا: " إيمان بمعجز، والدين يدور على معجز، وإلا لا يكون ثمة دين ولا إيمان على الاطلاق.. وحده المعجز يجعل من الدين دينًا أو يعطيه صفته الأساسية ". إن الصفة الجوهرية للدين هي الإيمان بالمعجز، أي الإيمان بقداسة شيء ما. و هذا الإيمان بالمعجز و المقدس هو جوهر ما يرفضه العقل النقدي و العلمي. و لذلك سيظلّ "رجال الدين من مختلف الطوائف.. يعانون من تقدم العلم كما يعاني السحرة من موعد شروق الشمس." بعبارة جفرسون.)32( إنني ختاما، لأجد معنى عميقا لقول الفيلسوف العظيم برتراند راسل: " نريد أن نقف على أقدامنا وأن ننظر للعالم بعيون واسعة، وأن نقول أن هذه حقائق جيدة، وتلك حقائق سيئة. ذاك قبيح وذاك جميل. أن ننظر للعالم كما هو وأن لا نخاف شيئاً. وأن نقهر الصعاب عبر الذكاء وأن لا نتخذ من الخوف النابع من الدين سيداً لنا." )33(
هوامش الفصل الثالث: 1- علي أسعد وطفة - بين العقلية البدائية و العقلية التقليدية: مكاشفات أنتروبولوجية مقارنة - مقال على الأنترنت. 2- مصطفى حجازي - التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور - المركز الثقافي العربي - الطبعة التاسعة:2005، ص: 106-107 3- برتراند راسل - لماذا لست مسيحيا؟ - نسخة إلكترونية - ص: 3 من الترجمة العربية، إعداد: موقع الاتجاه المعاكس للفكر النقدي والتنويري: http://itijahmu3akes.blogspot.com 4- É-;-mile Durkheim , Les formes élémentaires de la vie religieuse : livre premier, P :42 5- الطوطم و الحرام - سيغموند فرويد ص: 12 6- سورة النجم، الآية: 42 7- انظر مثلا تفسير ابن كثير لآية النجم. 8- سورة الجاثية، الآية: 7و8 9- المزامير: المزمور 14 - نسخة إلكترونية مترجمة: كنيسة الأنبا تكلا هيمانوت - الإسكندرية - مصر http://St-Takla.org 10- راجع مثلا تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط - يوسف كرم - دار القلم - د.ت. ص: 87، و قد سبقت مناقشة هذه الحجة في الفصل الثاني. 11- الله: كتاب في نشأة العقيدة الإلهية - عباس محمود العقاد - المكتبة العصرية - بيروت لبنان: 1949 - ص: 211 12- جابر بن عبد الله - أخرجه أحمد بن حنبل في المسند )3/387( وحسنه الألباني في إرواء الغليل برقم: 1589 وشعيب الأرناؤط عند تعليقه على" شرح السنة " ) 1/ 270 ( 13- سورة البقرة، الآية: 258 14- أبو هريرة - أخرجه مسلم في الصحيح برقم: 132 - و أبو داود في السنن برقم: 5111 و صححه الألباني في صحيح أبي داود بالرقم نفسه - و له رواة آخرون و مخرجون آخرون. 15- متفق عليه: البخاري: 3276 ، مسلم: 134. 16- سورة: الإسراء الآية: 85 17- رواه الطبراني في “ الأوسط “ ( 6456 ) و اللالكائي في “ السنة “ ( 1 / 119 / 1 - 2 ) و البيهقي في “ الشعب “ ( 1 / 75 ) و حسنه الألباني بمجموع طرقه في “ السلسلة الصحيحة “ 4 / 395. 18- جورج طرابيشي - هرطقات - رابطة العقلانيين العرب - دار الساقي - الطبعة الأولى: 2006 ص:7 19- المرجع نفسه و الصفحة نفسها. 20- برتراند راسل - لماذا لست مسيحيا؟ - نسخة إلكترونية - ص: 2 من الترجمة العربية 21- انظر مثلا: الله: كتاب في نشأة العقيدة الإلهية - عباس محمود العقاد - سبق ذكره، ص-ص: 211-232 أو: الأدلة على وجود الله - عمر سليمان الأشقر - نسخة إليكترونية، أو الدورة العقائديّة الكاملة للشهيد مرتضى مطهّري على موقع: http://www.almaaref.org. 22- عدنان إبراهيم: خطبة جمعة بعنوان: هل نفكر؟ على موقعه الرسمي. 23- برتراند رسل- لماذا لست مسيحيا؟ - مرجع سبق ذكره - ص:2 24- من هذا النادر الأقل تصحيح مفتي المملكة السعودية عبد العزيز آل الشيخ فتوى سابقه عبد العزيز بن باز القاضية بتكفير من اعتقد أن الأرض كروية! 25- سلسلة محاضرات بعنوان: مطرقة البرهان و زجاج الإلحاد - عدنان إبراهيم - المحاضرة: 8 )يمكنك العودة إلى التفريغ النصي لهته المحاضرة تجده على الشابكة.( 26- نفس المرجع، المحاضرة: 9 27- نفس المرجع، المحاضرة: 9 28- برتراند راسل - العلم الدين - ترجمة رمسيس عوض - دار الهلال د.ت. ص 247 29- المرجع السابق، ص: 6 30- فيكتور ستينغر - الإله الفرضية الخاطئة - ترجمة: إبراهيم جركس - مقال على موقع الحوار المتمدن. 31- أديب صعب، وحدة في التنوع: مَحاور وحوارات في الفكر الديني، بيروت، دار النهار، تشرين الثاني 2003 ص 72-73. 32- ريتشارد دوكنز - وهم الإله - ترجمة: بسام بغدادي - نسخة إلكترونية - ص: 113 33- برتراند رسل- لماذا لست مسيحيا؟ - مرجع سبق ذكره - ص: 10
#معتز_أحمد_كرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كيف ألحدت؟ الباب الأول: هل يوجد إله؟ الفصل الثاني: مناقشة حج
...
-
كيف ألحدتُ -الباب الأول: هل يوجد إله؟ - الفصل الأول: مناقشة
...
-
كيف ألحدت (المقدمة)
المزيد.....
-
وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور
...
-
بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
-
” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس
...
-
قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل
...
-
نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب
...
-
اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو
...
-
الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
-
صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
-
بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|