|
ظاهرة اشتداد الطَّلَب على الفتاوى!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 4133 - 2013 / 6 / 24 - 21:27
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هي ظاهرة جديدة، لجهة اتِّساعها وانتشارها؛ ولقد لَقِيَت من رواج الإعلام الفضائي والإلكتروني مَصْدَر تغذية لها. إنَّها ظاهرة تزايد واشتداد الطَّلَب على الفتاوى في كل أمْرٍ وشأن، ولو كانا من توافه حياتنا الشخصية واليومية؛ وخطورة هذه الظاهرة تزداد وتَعْظُم لِكَوْن الفئة الشبابية من مجتمعنا، والتي أَفْتَرِض تحلِّي أفرادها بكل ما هو إيجابي وجيِّد من صفات الشباب، كالطموح والثقافة والتعلُّم والمَيْل إلى الجديد والتجديد وروح التمرُّد على النمطية في العيش والتفكير، هي الأكثر إقبالاً على استفتاء شيوخ ملتحين، أو غير ملتحين، سلفيي أو غير سلفيي الشكل والمظهر واللباس، في أمور وشؤون ضئيلة الأهمية، ولا عدَّ لها، ولا حصر؛ لأنَّها تشتمل على كل تفاصيل الحياة العامة والشخصية واليومية للشاب. و"العرض" في "سوق (أو أسواق) الفتاوى" يزداد هو أيضاً؛ فهذه صناعة لا رقيب عليها، ولا حسيب، ولا تُكلِّف الصُّنَّاع والمنتِجين (الكثيرين المتكاثرين في زمن استفحال البطالة) إلاَّ قليلاً، وقليلاً جداً، من الوقت والجهد؛ أمَّا "المعروض" من منتجاتهم (والتي هي على وجه العموم عديمة "القيمة الاستعمالية" إلاَّ إذا كانت مضارها الاستهلاكية هي "قيمتها الاستعمالية") فتتقاسمه دكاكين ومراكِز تسوُّق كبيرة. ولقد راعني أنْ شاباً جامعياً يسأل، في برنامج ديني لمحطة فضائية، يتوفَّر أصحابه على تحضير ما يشبه الوجبات السريعة من الفتاوى، عن حُكْم الشَّرع في أمْر "الديمقراطية"، فيجيبه المفتي (الذي يبدو من ذوي الآفاق التي تَسَع كل شيء، ولا يسعها شيء) على البديهة قائلاً (في زمن "الربيع العربي") إنَّ الديمقراطية ليست من عقيدتنا (السياسية) الإسلامية في شيء؛ ثمَّ علَّل وفسَّر هذا "الرأي ـ الفتوى"، والذي ألبسه لبوس الكلام الجامع المانع، قائلاً إنَّ السيادة في مجتمعنا العربي ـ الإسلامي يجب أنْ تكون لله، لا للشعب، وإنَّ "الشرعية (في الحُكْم، وفي عالَم السياسة الإسلامي على وجه العموم) يجب أنْ تكون مستمدَّة من "الشريعة"، وإلاَّ فَقَدَت معانيها. ودرءاً لسوء الفهم، أو تعقيده، وتوخِّياً لمزيدٍ من البساطة في شرح "الفكرة"، قال المفتي وهو يبتسم ابتسامة العليم الخبير إنَّ الأمر في منتهى الوضوح؛ فكل ما يُوافِق "شرع الله" في "السياسة"، بفكرها وعالمها، نأخذ به، وكل ما يخالفه ننبذه ونطرحه جانباً. أمَّا من ذا الذي يُقرِّر، ويحقُّ له أنْ يقرِّر، ما إذا كان هذا الأمر السياسي، أو ذاك، موافِقاً، أو مخالِفاً، "شرع الله"، فهُمْ الرَّاسخون في هذا "العِلْم"، المختَّصون فيه، والذين يستنفدون وقتهم وجهدهم اليومي في الاستزادة منه؛ إنَّهم، في اختصار، أمثال هذا المفتي، الذين جعلوا أنفسهم حلقة وصل بين السماء والأرض، ونصَّبوا أنفسهم مرجعية عليا للعامَّة والخاصَّة من المسلمين في أمور وشؤون دنياهم السياسية؛ والأمر لا يحتاج إلى ذكاء لإدراك أنَّ "حُكْم الشَّرع" يُتَرْجَم عملياً وواقعياً بحكمٍ ينفردون هُم به، ويستبدُّون؛ فإمَّا أنْ يكونوا لهذا الحكم (السياسي) رأساً، وإمَّا أنْ يكونوا له الرَّقبة التي تحرِّك هذه الرأس؛ وأنَّ مبدأ "السيادة (السياسية) لله"، والذي هو حربٌ على مبدأ "السيادة للشعب"، فيُتَرْجَم عملياً وواقعياً، أيضاً، بـ "سيادة ثالثة"، تلبس لبوس "السيادة لله"، لمحاربة "سيادة الشعب"؛ وهذه "السيادة الثالثة" هي سيادتهم هُمْ. ومع أنَّ "الديمقراطية" هي تجديف بـ "الدِّين السياسي"، ومروق من "حُكْم الشَّرع"، فإنَّهم يُبْدون تسامحاً، أو شيئاً من التسامح، مع "الانتخاب"؛ فِلَم يكفِّرونه، ويناصبونه العداء، إذا ما وفَّقَهم الله في تغيير طريقة التفكير والنَّظر إلى الأمور لدى الناخبين بما يَحْمِل هؤلاء على "التصويت الحلال"، أيْ على الإدلاء بأصواتهم لمصلحة المرشَّحين المؤتمنين على التأسيس لحكم يقوم على "شرع الله"، ويَنْقُل السيادة من الشعب (على افتراض حيازته لها) إلى الله؟! لقد بدأوا جهادهم في سبيل إحكام قبضاتهم على عقول الشباب بنشر ثقافة "ميزان الحلال والحرام"؛ فعلى كل شاب أنْ يَزِن بميزان "الحلال والحرام" كل تصرُّف من تصرُّفاته (ويفضَّل قبل الإقدام عليه) ولو كان من قبيل دُخوله الحمَّام برجله اليمنى أم اليسرى. ثمَّ نفثوا في روع شبابنا أنَّ هذا الميزان لا يملكه، ويجب ألاَّ يملكه؛ بل يجب ألاَّ يستعمله، إلاَّ فئة رجال الدِّين والشيوخ، وأنَّهم، أيْ شبابنا، عاجزون عن تمييز الحلال من الحرام في تصرُّفاتهم؛ فليتركوا هذه المهمَّة الشَّاقة العظيمة لأهلها الذين يرتزقون منها، ويشتغلون، من طريقها، بالسياسة. استمعتُ إلى كثيرٍ من الفتاوى؛ وكَمْ راعتني وأدهشتني وحيَّرتني شموليتها؛ فَلَمْ أجِد تصرُّفاً ينبغي لصاحبه، الشَّاب نفسه، بَتَّ أمْر الإقدام عليه من عدمه، بيُسْرٍ وسهولة، إلاَّ ويضرب جذوره عميقاً في عِلْم ذوي الاختصاص من الشيوخ والمُفْتين؛ وعلى هذا الشَّاب أنْ يَحْمِل همه هذا، ويذهب به إلى "أحد الراسخين في العِلْم" من أصحاب ومعدِّي البرامج الدينية التلفزيونية، فيأخذ منه من الرأي، أو الفتوى، ما يريح ضميره الدِّيني، ويعينه على تمييز الحلال من الحرام، والغث من السمين، في فعله وتصرُّفه وموقفه؛ فصاحب الشأن (والذي قد يكون شأنه، لجهة أهميته، من الضآلة بمكان) لا عقل له، ولا رأي، ولا حتى أقدام! ولكَ أنْ تتخيَّل حجم هذا الاختلاط للمأساة والمهزلة في حياة شبابنا العامة والشخصية واليومية إذا ما استبدَّت برأس الشاب فكرة أنْ لا تصرُّف يمكن أنْ يتصرَّفه إلاَّ ويتطلَّب (قبل الإقدام عليه) أنْ يذهب إلى أصحاب "الميزان" ليَزِنوا له به حلاله من حرامه؛ عِلماً أنَّ الفتاوى في الأمر نفسه، ولو كان أمْراً ضئيل الأهمية، تكثر وتتكاثر، ويناقِض بعضها بعضاً؛ فتختلط الفتاوى اختلاط الحابل بالنابل، وتعمها الفوض، ويضطَّرِب عقل وتفكير وشعور وسلوك مستهلكيها، وتختل موازينهم، فيتحوَّلون، مع مرور الوقت، وإدامة تعاطيها، إلى بشرٍ آليين، مبرمجين، يُسَيَّرون، عن بَعْد، بما تشتهي مآرب مسيِّريهم، الذين لهم المصلحة الكبرى (والدنيوية في المقام الأوَّل) في نماء وازدهار هذه التجارة، وفي جعل الناس في احتياج متزايدٍ إلى منتجاتهم التي تضرُّ، ولا تنفع.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الثلاثون من يونيو!
-
لماذا -المادة الداكنة-؟
-
بينيت وقصة التملُّك بالاغتصاب والأسطورة والجريمة..!
-
حربٌ وقودها الأحياء ويقودها الموتى!
-
-مِنْ أين لكَ هذا؟-.. عربياً وإيرانياً!
-
إطالة أمد الصراع في سورية هي معنى -الحل السياسي-!
-
حركة الزمن عند تخوم -ثقب أسود-
-
ما معنى -بُعْد المكان الرابع- Hyperspace؟
-
-الخطأ- الذي تحدَّث عنه عريقات!
-
ما سَقَط في سقوط القصير!
-
الصحافي والسلطة!
-
أين -الربيع العربي- من -السلطة القضائية-؟!
-
مصر هِبَة النِّيل لا هِبَة أثيوبيا!
-
جوهر التفاهم بين كيري ولافروف
-
أسئلة -جنيف 2-
-
ما معنى -الآن-؟
-
كيف تؤسِّس حزباً سياسياً.. في الأردن؟
-
لا خلاص إلاَّ ب -لا المُثَلَّثَة-!
-
أعداء الديمقراطية الأربعة
-
خطاب يؤسِّس لعهد جديد من الصراع!
المزيد.....
-
اللجوء.. هل تراجع الحزب المسيحي الديمقراطي عن رفضه حزب البدي
...
-
بيان الهيئة العلمائية الإسلامية حول أحداث سوريا الأخيرة بأتب
...
-
مستوطنون متطرفون يقتحمون المسجد الأقصى المبارك
-
التردد الجديد لقناة طيور الجنة على النايل سات.. لا تفوتوا أج
...
-
“سلى طفلك طول اليوم”.. تردد قناة طيور الجنة على الأقمار الصن
...
-
الحزب المسيحي الديمقراطي -مطالب- بـ-جدار حماية لحقوق الإنسان
...
-
الأمم المتحدة تدعو إلى ضبط النفس وسط العنف الطائفي في جنوب ا
...
-
الضربات الجوية الأمريكية في بونتلاند الصومالية قضت على -قادة
...
-
سوريا.. وفد من وزارة الدفاع يبحث مع الزعيم الروحي لطائفة الم
...
-
كيفية استقبال قناة طيور الجنة على النايل سات وعرب سات 2025
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|