|
الحاكم العربي وعُقدة كوريولانوس
فيصل القاسم
الحوار المتمدن-العدد: 1185 - 2005 / 5 / 2 - 12:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
اعتاد الحاكم العربي منذ القدم أن ينظر شزراً إلى شعبه، فليس من شيمه أن يتودد إلى رعيته أو أن يلاطفها أو أن ينزل إلى ساحتها، فمنصبه ليس مطروحاً للتداول والمنافسة أصلاً، وبالتالي لا داعي لأن يخطب ود الشعب أو أن يتقرب منه كي يرفعه إلى سدة الحكم كما هو الحال بالنسبة للحكام الديمقراطيين الذين تستطيع الشعوب أن تنصبهم أو تطيح بهم من خلال الانتخابات الحرة. لكن هذا التقليد العربي "الأصيل" اهتز قليلاًً بعد أول سابقة من نوعها في التاريخ السياسي العربي الحديث. ولا نبالغ إذا قلنا إن تلك السابقة تعتبر تاريخية بكل المقاييس على بساطتها. لأول مرة في حياتنا وحياة آبائنا وأجدادنا على الأقل نرى زعيماً عربياً يلجأ إلى وسائل الإعلام المحلية والخارجية كي يقنع شعبه بترشيحه وإعادة انتخابه. فقد فاجأ الرئيس المصري حسني مبارك الشعب المصري خصوصاً والعربي عموماً عندما سمح لوسائل الإعلام بأن تجري معه حواراً ماراثونياً لمدة أكثر من سبع ساعات. وقد كان الحوار استثنائيا بكل المقاييس، فهو لم يعتمد الصيغة الإعلامية الدعائية الترويجية العربية المبتذلة والفجة التي تكيل المديح للزعيم "عمـّال على بطـّال" وترفعه إلى منزلة الآلهة والمقدسات بخفة عجيبة، بل لجأ إلى الطرق الدعائية الانتخابية الحديثة والمحببة، فتحدث بكثير من البساطة والدماثة عن شبابه ومسيرة حياته وذكرياته وإنجازاته وأهم المراحل التي مر بها حتى أصبح رئيساً للجمهورية. لا بل إن بعض المشاهدين أثنوا على تلقائية الرئيس وأريحيته بينما صبوا جام غضبهم على المحاور الذي بدا برأيهم متكلفاً ومتملقاً. إن هذا اللقاء التاريخي فعلاً مع رئيس عربي يجب ألا يمر مرور الكرام، بل ينبغي أن يُسجـّل ويُدرس سياسياً وثقافياً لعله يكون نقطة تحول مفصلية في تاريخ العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فكلنا يعرف أن زعماءنا لم يكونوا يوماً بحاجة لرأي شعوبهم فيهم. "واللي مش عاجبوا يشرب من مية البحر الأسود، وأجهزة مخابراتنا تعرف شغلها معه". لهذا فإن محاولة الرئيس المصري النزول من عليائه ليخطب ود شعبه ويقنعه بالتصويت له في الانتخابات خطوة جديرة بالتقدير والثناء حتى لو كانت متأخرة ويجب أن تكون مثلاً يُحتذى لبقية الرؤوساء العرب المقبلين على إعادة انتخابات بشرط أن يتخلصوا أولاً من تقليد الاستفتاءات السخيفة التي يتنافس فيها الرئيس عادة مع نفسه ويفوز بأصوات الأحياء والأموات من "جماهير شعبه". لكن قبل أن يجرفنا التفاؤل المفرط علينا التأكد من صدقية التوجهات والإصلاحات العربية المزعومة وأنها لن تكون موسمية بفعل الأعاصير المحلية والعالمية ثم تعود حليمة لعادتها القديمة. إن وضع الحكام العرب المجبرين على إجراء عمليات تجميلية لأنظمة حكمهم بفعل التململ الشعبي والضغوط الخارجية يذكرني بوضع الارستقراطي الروماني كايوس مارسيون بطل مسرحية "كوريولانوس" لويليام شكسبير التي تحمل اسم البطل والتي أعاد كتاباتها في ما بعد المسرحي الألماني الشهير بيرتولت بريخت لتناسب توجهاته الاشتراكية وأطلق عليها عنوان "كوريولان". لكن قبل أن أوضح أوجه الشبه بين الزعماء العرب والقائد الروماني أود أن أؤكد أن بطل مسرحية شكسبير كان بطلاً حقيقياً وحقق انتصارات عسكرية مثبتة تاريخياً على أعداء الامبراطورية ولم يصل إلى دفة القيادة ويتشبث بها كما هو الحال مع العديد من قادتنا بالرغم من هزائمه السياسية والعسكرية والاقتصادية المتواصلة، بل كان لديه شرعية عسكرية مدعومة بأكاليل الغار. لكن مع ذلك فهو يشترك مع العديد من الحكام العرب في الكثير من المزايا التراجيدية البائسة، خاصة في ما يتعلق بموقفه الازدرائي ونظرته الدونية إلى الشعب. لقد أراد كوريولانوس أن يستثمر انتصاراته العسكرية بأن يترشح لمنصب القنصل وهو منصب روماني رفيع في ذلك الوقت، لكن مشكلته كانت تكمن في أنه مغرور جداً ومعتد بنفسه اكثر من اللازم لا بل يحتقر الجماهير وليس مستعداً أن يتنازل من أبهته ويتكلم معها حتى لو كان بحاجة لأصواتها في الانتخابات. وقد لاحظنا كيف كان كوريولانوس يستخدم عبارات ومفردات تحقيرية في حديثه مع عامة روما. فكان يصفهم مثلاً بأنهم ليسوا أكثر من جراء وقاذورات وكلاب وأرانب وثعالب. ولم يتردد في وصفهم أيضاً بالسفلة والأنذال. وبدوره كان الشعب يعرف موقف كوريولانوس منه، فقد وصفه أحد العامة في المسرحية بأنه "كلب" في تعامله مع الجماهير بينما اعتبره آخر "عدو الشعب". وتظهر محنة بطل المسرحية في أجلى صورها وهو يستمع إلى مجموعة من المستشارين الذين يحاولون إقناعه بالنزول إلى الشعب ومجاملته كي يختاره قنصلاً. لكن كوريولانوس يدخل في نوبة غضب عنيفة رافضاً التودد إلى عامة الناس. وعندما كانوا يقولون له إن الإجراءات تقتضي أن يخوض القنصل حملة انتخابية في صفوف الشعب قبل أن يتم انتخابه كان كوريولانوس يرد عليهم بأن يستثنوه من هذا التقليد السخيف. فهو يعتقد أنه يستحق الزعامة رغماً عن أنوف الجميع ويرفض التوصل إلى حل وسط مع الجماهير حتى لو أدى ذلك به إلى الموت السياسي والجسدي. لكن البطل الروماني المغرور يخضع في النهاية لرغبة الشعب بعد تعرضه لضغوط هائلة حيث نراه يدخل في أحد فصول المسرحية وقد بدا عليه التواضع والخشوع. إلا أن تخليه عن كبره وكبريائه لم يكن نهائياً بل جاء لأغراض سياسية تكتيكية محضة أو بالأحرى كان يضحك على ذقون الجماهير بدليل أنه اعترف سابقاً بأنه في ما لو اضطر إلى مداهنتها فهو لا يحمل لها في أعماق أعماقه سوى الاحتقار. إن ورطة القائد الروماني المذكور تذكرنا هذه الأيام بمحنة الكثير من الزعماء العرب الذين جـُبلوا على ازدراء الشعوب ومعاملتها معاملة الجراء والأنعام، لكنهم اصبحوا مضطرين تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية أن يتنازلوا قليلاً كي يتقربوا من الناس ويعترفوا بوجودهم كعربون ديمقراطية بعد أن كانت الشعوب على مدى أكثر من خمسة عقود في نظر الكثير من الأنظمة الحاكمة مجرد ثلة من الرعاع والدهماء والمارقين الجديرين بالسوق كالقطعان. لكن كما هو الحال مع كوريولانوس، فإن بعض الإصلاحات الشكلية التي تجريها بعض الأنظمة العربية قد تكون مجرد لعبة مكشوفة لذر الرماد في العيون والضحك على الذقون. فليس من المعقول أن بعض حكامنا الذي تربوا على إذلال الشعوب وقمعها واحتقارها وسومها سوء العذاب اصبحوا فجأة قادة حضاريين يحترمون مشاعر الجماهير ومستعدين للنزول عند مطالبها ورغباتها. فهناك عبارة شهيرة لأحد طغاة أمريكا اللاتينية أوردها الروائي العظيم ماركيز في إحدى رواياته. تقول العبارة «إن مجموعة من المستشارين طالبت أحد المستبدين هناك بأن يغير طباعه وسياساته لأن الشعب ضاق ذرعاً بها فأجابهم الطاغية بعنف شديد أنا لا أتغير أيها السفلة والمنحطون وبالتالي على الشعب أن يتغير». قد تبدو هذه الحكاية أقرب إلى النكتة السمجة، لكنها واقعية وتلخص موقف الكثير من الطغاة تجاه شعوبهم. جدير بنا طبعاً أن نرحب بهذا التحول البسيط في طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم على ضوء التجربة المصرية الأخيرة التي كغيرها من التجارب العربية جاءت على مضض، لكننا كنا سنرحب بها بحرارة أكثر لو أن الأنظمة العربية بدأت تتقرب من شعوبها قبل أن وصل السيل الزبى وقبل أن تتعرض للضغط الأمريكي كي تحسن صورتها لدى الشعوب المقهورة. بعبارة أخرى فإنها تبدو مرغمة على كياستها وتواضعها المفاجىء. فما نراه هذه الأيام من إرخاء للقبضة الأمنية في بعض الدول العربية والتظاهر بمعاملة الناس بقليل من الاحترام في المطارات والمؤسسات العامة لم يأت بطيب خاطر، واستطيع أن أؤكد أن كبار الجلادين والجلاوزة والجنرالات العرب الذين اعتادوا على إهانة الشعب والتنكيل به يشعرون في داخلهم بغيـظ شديد بسبب الضغوط التي كفت أيديهم عن رقاب الجماهير مؤقتاً، تماماً كما شعر كوريولانوس عندما طـُلب منه النزول إلى الشعب والتودد إليه، مع فرق بسيط وهو أن القائد الروماني المتكبر كان يحقق انتصاراته العظيمة على أعداء شعبه لا على ابناء جلدته كما فعل الكثير من حكامنا. لقد حدثني أحد المعارضين العرب المغضوب عليهم في أحد البلدان العربية أنه تلقى كلاماً من مسؤول أمني كبير بأن الأجهزة تشعر بحنق كبير وتكاد تموت من الغيظ بسبب عدم قدرتها هذه الأيام على التنكيل بالمعارض المذكور وبأمثاله. ولو كان الأمر عائداً لها لما سمحت له بأن ينبس ببنت شفه وأخرسته على الفور وقدمته لحماً مفروماً للقطط والكلاب. ولا يخفى على أحد أن الأجهزة الأمنية في العديد من بلاد العُرب تعتبر الشعوب ألد أعدائها وهي تعاملها على هذا الأساس. وكم شعرت ذات مرة بكثير من القرف عندما سمعت مسؤولاً كبيراً يمنن الشعب في أحد البلدان العربية بأن الأجهزة رفعت حذاءها الثقيل عن رقاب الناس قليلاً في الآونة الأخيرة تقديراً لها على بعض المواقف الطيبة. وبما أن الذات الحاكمة في العالم العربي هي "ذات أمنية" بالدرجة الأولى فهذا يجعلنا نضع ألف علامة استفهام واستفهام حول محاولات بعض القادة العرب التقرب من شعوبهم واستبدال الكرباج بقفاز من الخيش. لكن مع ذلك، لنفترض فيهم حسن النية لعلهم جادون فعلاً قبل أن نردد المثل العربي الشهير:الطبع غلب التطبـّع.
#فيصل_القاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تدويل العرب!
-
بلادي وإن جارت علي لئيمة!
-
فيفا أوكرانيا...فيفا أوكرانيا!
-
الصفر الوطني والصفر الاستعماري
-
باي باي إصلاحات
-
متى نتخلص من عقدة القائد التاريخي
المزيد.....
-
في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً
...
-
مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن
...
-
مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة
...
-
ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا
...
-
كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة..
...
-
لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
-
صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا
...
-
العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط
...
-
الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|