|
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق2/ ف2
عبدالوهاب حميد رشيد
الحوار المتمدن-العدد: 4131 - 2013 / 6 / 22 - 12:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ازمـة الديمقراطية في العراق
بالاضافة الى السمات العامة المشتركة لازمة الديمقراطية في العراق بالعلاقة مع ازمة الديمقراطية في الوطن العربي، كذلك يمكن الحديث عن جوانب خصوصية لهذه الازمة في سياق المجتمع العراقي. وقبل الحديث عن هذه الخصوصية علينا ان نتدارك منذ البداية ان مظاهر ازمة الديمقراطية في العراق، رغم خضوعه للفترة المظلمة على مدى ستة قرون تقريبا، فهي تبقى نسبية. اذ يمكن ان نجد لها او لبعضها امثلة عديدة في البلدان العربية الاخرى والبلدان المجاورة، بل وحتى في بلدان العالم الثالث. ترتبط ازمة الديمقراطية بأزمة الوعي السياسي. ولا يتولد هذا الوعي والمشاعر الوطنية من فراغ، بل هو حصيلة الوعي الاجتماعي- الحضاري، باعتباره بما في ذلك توحد الولاءات المتناثرة نحو وحدة الولاء للوطن. من هنا يشكل الوعي السياسي جزءا متكاملا من الوعي الاجتماعي. ويتطلب مسبقا وجود الدولة واقعا فعليا وموضوعيا. . ومع ذلك يلزم التنبيه الى تحاشي الربط العفوي بين نمو الوعي السياسي وبين نمو الوعي الديمقراطي. فقد تصل الحركة الوطنية الى الذروة في نموها واتساعها دون ان ترتبط بالتحول الديمقراطي. وهذا يعني ان معضلة الديمقراطية لا تتعلق بنمط الوعي السياسي من حيث اتساعه افقيا فحسب، بل بنموه عموديا ايضا. اي مستوى الوعي الاجتماعي- الحضاري باتجاه تعميق قيمة الانسان وتقديس حقه في الحياة واحترام وجوده وكرامته، باعتباره الكينونة الاصيلة في المجتمع. وهذا يتطلب ان يقوم الوعي السياسي على فهم واستيعاب فكري وممارسة عملية للعملية السياسية ذاتها منظورا اليها طريقة سلمية لادارة الحكم والتعامل الاجتماعي. من هنا يحاول هذا الفصل دراسة ازمة الديمقراطية في العراق وفق خطوتين: اولاهما مناقشة مظاهر البيئة الاجتماعية التي طبعت ممارسة العراقيين في اطار العائلة والمحلة والعشيرة واماكن الاجتماعات الشعبية والشارع والمزرعة ولغاية مؤسسات نظام الحكم. هذه المظاهر التي امتدت بطبيعتها الى الشارع السياسي العراقي مع ولادة الحركة السياسية الوطنية العراقية لاحقا.. وثانيتهما متابعة نمو الوعي السياسي ونشوء الحركة الوطنية في العراق. اي تنامي مشاعر العراقيين وولاءاتهم نحو مجتمع موحد ودولة عراقية موحدة. علاوة على محاولة دراسة وتحليل نمط تنامي هذا الوعي وهذه الحركة من حيث توجهاتها وممارساتها، اي مدى نمو الوعي السياسي افقيا. وفيما اذا كان هذا الوعي الافقي قد صاحبه توسع عمودي باتجاه تعميق هذا الوعي السياسي وعلى نحو متوازن.
1- المظاهر الاجتماعية لازمة الديمقراطية في العراق مرّ المجتمع العراقي منذ سقوط الخلافة العباسية بفترة انحطاط دامت حوالي ستة قرون استمرت لغاية القرن التاسع عشر عندما شهدت بصيصا من الفكر الحضاري الجديد وشيئا من وسائل الحضارة الحديثة القادمة من الغرب ببطئ شديد. اقترنت هذه الفترة باندثار الحضارة السابقة والانحطاط الاجتماعي وسيطرة قيم بعيدة عن التحضر وركود المجتمع العراقي وتراجعه الحضاري ودون ان يشهد اية خطوات اصلاحية تستحق الذكر. كما واجهت البلاد مختلف اشكال الغزوات الخارجية علاوة على الحروب الطائفية الفارسية- التركية الطويلة المتقطعة من اجل السيطرة على العراق، مع ما صاحبتها من تعميق الانقسام والتناحر الطائفي بين اغلبيته المسلمة. عانى المجتمع العراقي خلال هذه القرون المظلمة من استمرار عوامل الضعف والانهيار الحضاري ولتغطي بصفة شاملة كافة مظاهر حياته الاقتصادية والاجتماعية. بلغ الانحطاط اسفل درجاته لغاية القرن الثامن عشر عندما انخفض سكان العراق الى حدود نصف مليون نسمة.(73) مقارنة بعدد سكانه المقدر بـ 30 مليون نسمة في عصر الازدهار العباسي.(74) مقابل انتعاش سلطة القبائل الرحل، وانتقال زمام الحكم فعليا من الحكومة الى ايدي رؤساء الاتحادات القبلية. وفي غياب سلطة الدولة يختفي الشرط المسبق لقيام الحضارة.(75) وكانت الحكومة المركزية في استانبول خلال هذه الفترة- وبسبب ضعفها وتفسخها- غير مهتمة بأقاليمها سوى جباية الضرائب منها، وفرض الجندية على ابنائها. وفي غياب سلطة الحكومة انهارت سلطة القانون وحل العرف العشائري. وشاعت قيم البداوة من عصبية وغزو ونهب وسلب وقطع الطريق وغسل العار، واحترام القوة (العنف) والغلبة والانتصار والتفاخر، كما شاعت هذه القيم ايضاً في المدن بالتعصب للمحلة.(76) وهذه الانقسامات عبّرت عن نزعة فطرية للحصول على الحماية من خلال وحدة الجماعة (العشيرة، الطائفة، المحلة..) في غياب حماية الدولة.(77) ويرتبط بذلك ان التراث الاجتماعي الذي ظلّ سائدا في العراق طيلة هذه الفترة- ولا زالت آثارها باقية- قد تميّز بأمرين: اولهما التعصب الطائفي.. وثانيهما المد القبلي.. وهما في الواقع وجهان لظاهرة واحدة.. فالطائفية هي نوع من الانتماء القبلي. يقوم على الانتماء لجماعة معينة وزعامة شخصية محددة. ويستمد الفرد الطائفي مفهومه وممارساته من التعصب للجماعة والولاء لها قبل الولاء للمجتمع. والطائفية- كما في القبلية- ينشأ عليها الفرد منذ طفولته وتولد لديه شعورا بالولاء يصل الى درجة العقيدة غير القابلة للجدل. وبهذا المعنى فهي لا تختلف عن المذهب الديني من حيث اعتقاد الفرد. من هنا- وبغض النظر عن مدى ادراكه لما في هذا المذهب من مبادئ خلقية او روحية- فهو يتعصب لقيم الجماعة ويقدسها ويعتقد بصحتها المطلقة. وبالتالي فهو مستعد للدفاع المستميت عنها على اساس المثل البدوي القائل"انصر اخاك ظالما كان او مظلوما".(78) ويرفض اي نقد- مهما كان موضوعيا- يمس بأي شكل مفاهيمه ومشاعره ومعتقداته تجاه جماعته. وكان العراقيون رغم اختلاف مذاهبهم وولاءاتهم، لا يختلفون في التراث الاجتماعي المسيطر عليهم، اي في العادات والقيم والمفاهيم التي توجه سلوكهم في الحياة. اذ كانوا جميعا يدينون بالتعصب للعشيرة- الطائفة- المحلة. وكانت قيمة الرجل لدى جماعته تقاس بما يبديه من نخوة وكرم نحوهم من جهة، وما يظهره فعليا من جرأة وشجاعة في مقاومة او غزو الآخرين من جهة اخرى، وذلك في سياق انتشار المفاهيم البدوية المعبرة عن السلب والنهب وقطع الطريق مثل"السبع" و"سبع الليل".. وفي غير ذلك قد ُينعت الشخص بـ "مخنث" او"حرمة" كناية بالمرأة وتدني قيمتها في المفاهيم البدوية. مثل هذه النعوت كانت منتشرة حتى بين اطفال المدن الذين كانوا ينشأون على تبجيل القوة.(79) وخلال هذه الفترة المظلمة كانت القيادة الشعبية والروحية للسكان بيد الوجهاء ورجال الدين. اما الناحية الفكرية فقد شاع بين النخبة المحدودة من المتعلمين والمثقفين الفكر الارسطي- الافلاطوني القائم على المثالية الجدلية وصياغة افتراضات عامة مع القناعة بصحتها المطلقة ودعوة الناس عن طريق الوعظ الخطابي الى الاخذ بها دون ان ترتبط بواقع الحياة العملية او تتوفر لها اسباب تنفيذها.(80) اما نظام التعليم في العراق فتركزت في نوعين من المؤسسات التعليمية: اولهما مدارس دينية وجدت في كافة انحاء العراق. وكانت ملحقة بجوامع ومساجد كل من الطائفتين الاسلاميتين الرئيستين. ‘عرفت تلك المدارس عند السنة بـ (الكتاتيبب او التكية) وعند الشيعة بـ (الملا او المكتب). واشتمل التعليم في هذه المدارس على دراسة القرآن واللغة العربية والفكر الديني.. وثانيهما المعاهد الحكومية في بغداد واستانبول حيث اختصت بتدريس العلوم العصرية، بالاضافة الى المدارس العسكرية. وكان للطالب الخيار في الانتقال من الكتاتيب الى المدارس الحكومية. اما طلبة الملا- فلم ‘يسمح لهم بدخول المعاهد الحكومية. واذا ما رغب هؤلاء في مواصلة دراساتهم العليا فكان عليهم الاستمرار في المواضيع الدينية في حوزات التعليم الديني في المدن المقدسة في العراق وايران. ونتيجة لحرمان الطلبة الشيعة من التعليم والثقافة المدنية والعسكرية فقد ركزوا على الدراسات الفكرية الدينية وممارسة التجارة والاعمال الحرة، بينما استحوذ السنة على وظائف الدولة المدنية والعسكرية.(81) ويرتبط بذلك ان هذا الانقسام الطائفي أتخذ نوعا آخر من الانقسام الاجتماعي الا وهو الانقسام الطبقي.(82) وهذا التمايز التعليمي ربما ساهم في تعميق تقسيم المجتمع العراقي الى فكرين منفصلين ومجموعتين متغايرتين في السلوك الاجتماعي، بل وفي التفكير والسلوك السياسي لاحقا. إذ حصر احدهما في الفكر المثالي المطلق بعيدا عن السياسة وامور الحكم والحياة النسبية، ومنح الآخر فرصة الاحتكاك بالحضارة الحديثة وممارسة ادارة الحكم والعلمانية والحياة الدنيوية. استمر العراق يعيش وضعه الراكد حتى مطلع القرن التاسع عشر. وعند ذاك بدأ تاريخ حضاري جديد تمثل في نمو السلطة الحكومية. واخذ المجتمع العراقي يتحول في اتجاهاته الفكرية من الشرق(ايران) الى الغرب(مصر والشام). او بعبارة اخرى بدأ التحول من الوعي الطائفي الى الوعي الوطني. واخذت رياح التحديث تهب من جهة الغرب، ولتشهد البلاد ظاهرة اجتماعية لم تعاصرها من قبل. فبعد ان كان الصراع الطائفي هو الذي يشغل اذهان الناس واحاديثهم، ظهرت بوادر من نوع جديد تجسد في الصراع بين القديم والحديث.(83) جاءت بدايات الاتصال الحضاري للعراق مع مجيء داود باشا الذي تولى ولاية بغداد (شباط/ فبراير 1817) ليستمر خمسة عشر عاما. وتابعه في عملية التحديث البطيئة عدد من الولاة الذين جاءوا بعده. اهتم داود باشا بتقوية الجيش وتدريبه على النظم الحديثة. واقدم على شراء مصانع للبنادق من اوربا وجلب الفنيين لادارتها. وأسس مصانع المنسوجات لتفي بحاجات الجيش. ورصد المرتبات المنظمة للجنود لكي تغنيهم عن فرض الاتاوات على الناس. وحارب القبائل وعمل على كسر شوكتهم واخضاعهم لسلطة الحكومة. وحاول تقليد محمد علي باشا في مصر بادخال المخترعات الاوربية الحديثة الى البلاد. كما تميز عهده ايضا بكثرة ما قام به من اعمال بناء وترميم الجوامع والمساجد والمعاهد الدينية. ويعتبر جامع الحيدرخانة ببغداد من اعماله. واخذ يجتذب اليه الشعراء والكتاب والفقهاء وارباب الطرق الصوفية. ويعتبر البعض عهده بداية النهضة الحديثة للادب العراقي. وبالمقابل عرف عن داود باشا ممارساته- كبقية السلاطين والولاة- اعمال الظلم من مصادرات وفرض الضرائب الثقيلة والافراط في جباية الاموال التي اثقلت كاهل عامة الناس خاصة الفقراء وعبّرت عن استهتاره بالرعية.(84) ويذكر روفائيل بطي ان من بين الامور التي استحدثها داود باشا في العراق هو انه اصدر اول جريدة في بغداد باسم"جرنال العراق". كانت تطبع في مطبعة حجرية باللغتين العربية والتركية وتوزع على نحو محدود.(85) سجل عام 1869 حدثين تاريخيين بارزين مؤثرين من حيث اهميتهما الاجتماعية وتأثيرهما الحضاري في العراق هما افتتاح قناة السويس وتعيين مدحت باشا واليا على بغداد. قاد الحدث الاول الى تقريب المسافة البحرية مع اوربا، وسهّل سبل السفر ونقل البضائع، بالاضافة الى اسراع التأثير الفكري الاوربي في البلاد.(86) احدث مدحت باشا (1869-1872)- وهو رجل مصلح عرف بجهوده في الاعمار والتجديد في العراق، خاصة بغداد- ما يشبه الثورة. بدأ عهده بمحاربة الرشوة والفساد وتنظيم الجهاز الاداري وفق قانون الولايات العثماني الصادر عام 1864. اذ شمل كل من الولايات الثلاث تقسيما اداريا متدرجا ترتبط بكل منها مجموعة اقضية، وكل قضاء مقسم الى عدد من النواحي، وارتبطت بكل ناحية مجموعة قرى. وبذلك تم ارساء دعائم الادارة الحديثة لاول مرة بخلق ادارة مركزية منظمة يكون مركزها بغداد وتتولى الاشراف على شؤون العراق بأجمعه.(87) كما تقرر تشكيل مجالس محلية شبه منتخبة في كل وحدة ادارية. وبقيت تمارس اعمالها، خاصة مجلس ولاية بغداد حتى الاحتلال البريطاني للعراق(1914-1918). وبانسحاب الموظفين الرسميين بعد انهيار الدولة العثمانية اصبح مجلس الولاية هذا- حسب بعض المصادر- نواة لما عرف فيما بعد بـ "مجلس الوزراء العراقي".(88) كذلك امتدت هذه الاصلاحات الى مجالات اخرى بإنشاء ديوان التميز للنظر في الدعاوى القانونية المستأنفة. وتطبيق نظام القرعة في اختيار المكلفين بالخدمة العسكرية وتطبيق التجنيد الاجباري لاول مرة في البلاد. لكنه تجنب تطبيقها بين القبائل خشية اثارة حفيظتها واقدامها على التمرد. مفضلا ان يقتصر التجنيد على سكان المدن والفئات المستقرة حولها. ولم يتردد في استخدام القوة لحمل السكان على قبول مشروعه للتجنيد الاجباري.(89) كانت لسياسة مدحت باشا اثر في استقرار بعض القبائل الرحل ونشوء مدن جديدة. اتسمت سياسته في هذا المجال بالحذر والذكاء. اذ استخدم وسائل ترغيب متعددة، ونجح في اقناع بعض زعماء القبائل بفوائد التجديد وحصل على موافقتهم لانشاء بعض المدن والمرافق الحكومية في مناطقهم. وفي نفس الوقت تم ادخال قانون الاراضي العثماني لعام 1858 الى العراق بهدف تحويل القبائل المتنقلة الى قبائل مستقرة وتشجيعهم على الاستيطان والزراعة. وبغية تسجيل العقارات واصدار الوثائق الخاصة بها تم انشاء اول دائرة للطابو (التسجيل العقاري)، بالاضافة الى تشكيل لجنة تسوية الارض والتي اقتصر عملها على منطقة الفرات الاوسط والبصرة. شكلت هذه المبادرة اول خطوة جدية نحو ارساء الملكية العقارية وتسجيلها في العراق. وكانت لها آثارا بعيدة خلال المرحلة التالية باتجاه دمج القبائل بالمجتمع العراقي.(90) رغم ان هذه السياسة ادت الى تعزيز ظاهرة طبقية جديدة لصالح اغنياء المدن وشيوخ القبائل.(91) من جهة اخرى، ساعدت هذه السياسة على ظهور عدة مدن جديدة على ضفاف الانهار مثل الرمادي والناصرية والعمارة. واخذ سكان العراق بالزيادة ليقدر بـ 25و2 مليون نسمة عام 1900 و 97و2 و 21و3 مليون نسمة عامي 1927 و1935 على التولي وفق الاحصاء الاول والاحصاء الثاني للسكان في العراق.(92) كذلك نالت التربية والثقافة شيئا من اهتمامات مدحت باشا. تم انشاء مدرستين حديثتين بالاضافة الى المدرستين العسكريتين في بغداد. اولاهما مدرسة مهنية سميت"مدرسة الصنائع".. والثانية اعدادية لتخريج الموظفين عرفت بـ"الرشدية الملكية". كما اشتهر عهده باصدار اول جريدة عراقية حديثة لجمهور المتعلمين "الزوراء". وصدر عددها الاول في حزيران/ يوليو 1869. كما زاد عدد المدارس الابتدائية والمتوسطة حتى بلغت زهاء مائة مدرسة). وتم انشاء مدرسة متوسطة للبنات (1899) زاد عددها الى اربع عام 1900. كذلك افتتحت مدرسة خاصة لتخريج المعلمين (دار المعلمين) ومدرسة تطبيقات ملحقة بها. وزاد عدد المتعلمين مما ساعد بعض المثقفين على اصدار صحف جديدة غير رسمية في مرحلة تالية من اواخر العهد العثماني. وفي السنوات الاخيرة من العهد العثماني اجريت بعض الاصلاحات المحدودة مثل اصلاح نظام الجندية (1919) وانشاء غرفة تجارة بغداد (1910) وافتتاح سدة الهندية (1913).(93) لعلّ واحدة من اكثر الدعوات الاجتماعية جرأة والتي هزّت المجتمع البغدادي مع نهاية الفترة العثمانية هي تلك التي اطلقها الشاعر العراقي المشهور جميل صدقي الزهاوي عندما نشر مقالة بعنوان "المرأة والدفاع عنها" (7/8/1910) دعا الى تحرير المرأة ومنحها حقوقها ورفع الحجاب عنها واعطائها حق الطلاق اسوة بالرجل. فقامت عليه ضجة في بغداد كادت ان تؤدي بحياته. وسارت مظاهرة من الجمهور- بتحريض رجال الدين- نحو سراي الوالي تطالب بانزال العقوبة الرادعة على الكاتب"الزنديق". اتخذ الوالي اجراءات مضادة ضد الزهاوي بعزله من وظيفته. كما سيطر الرعب عليه خشية اعتداء الغوغاء على حياته. فاعتزل في بيته لا يخرج منه. ومع ذلك لم يسلم من تهديد اشقياء بغداد ومحرضيهم.(94) عبّرت الفترة منذ الحرب العالمية الاولى عن مرحلة جديدة للتطور الحضاري في العراق من حيث السرعة مقارنة بفترة التحديث البطيئة لما قبل الحرب. اذ اتسمت بنمو السلطة الحكومية من حيث القوة والانتشار في البلاد. فكان ذلك ايذانا بدخول المجتمع العراقي المرحلة الانتقالية، والتي تتميز بشدة الصراع بين قيم التراث القديم وبين قيم الحضارة الواردة من الغرب.(95) ورغم تعرض البلاد لمظاهر التحضر مع بداية القرن التاسع عشر، الا ان المجتمع العراقي بقي يواجه تعددية الولاءات في مطلع القرن العشرين. اذ لم يكن العراقيون في هذا الوقت جماعة سياسية موحدة. ذلك ان الهوة العميقة استمرت تفصل بين المدن والريف. وبقيت الروابط المادية بين المدن العراقية ضعيفة. واستمرت الولاءات الفرعية، رغم انها كانت تتجه نحو التآكل في ظل التأثير التراكمي للحضارة الحديثة. مقابل ذلك قاد انتشار النقود وفكرة الربح الى انتقال العشائر من اقتصاد الكفاف والمقايضة الى اقتصاد السوق والتبادل النقدي وتحول الشيخ من أب الى ملاك ارض.(96) كما ان السلاطين العثمانيين الاصلاحيين الذين عرفهم القرن التاسع عشر وجماعة تركيا الفتاة (ثورة 1908) ساعدوا على كسر شوكة العشائر ونمو المدن. الا ان هذه المسيرة التوحيدية في دمج العشائر بالمدن توقفت نسبيا بسبب السياسة الانكليزية تقوية العادات العشائرية والاعتراف بها رسميا من خلال اقرارها لانظمة العشائر (ق1/ف1). وبالمقابل فإن تكوين الجيش العراقي وتعزيز قوته، علاوة على تطور سبل النقل والمواصلات الحديثة، عوامل ساعدت على تعميق مشاعر الوحدة الوطنية. كذلك كان وجود الملك في حد ذاته خلال الفترة 1921- 1939 ذو مغزى اجتماعي متعارض عمليا مع اوضاع الشيوخ الذين كانوا لا يزالون الحكام الفعليين لجزء كبير من الريف. إذ كان الشيخ يشكل رمز المجتمع المفكك، بينما كان الملك يعبر عن فكرة المجتمع الموحد"شعب عراقي واحد وامة عربية واحدة". الا ان هذا المعنى الاجتماعي للملكية قد تغير في عهد عبدالاله ولغاية نهاية الملكية. ومع اندلاع حركة مايس 1941 اندمجت مشاعر العراقيين بطوائفهم ومذاهبهم وقومياتهم في بغداد والمدن الاخرى وسادت بين الناس والفئات الاجتماعية الدنيا قوة معنوية وروحية وطنية لم يعرفونها منذ ثورة العشرين. ومنذ هذه اللحظة تحرك الهاشميون والقوميون في خطين متغايرين. وفقدت الملكية ملامحها القومية. كما ان تحالف الملكية مع الشيوخ عبّر عن توقف دورها الساعي الى التوحيد الاجتماعي. وفوق ذلك فإن التزام الملكية بنية اجتماعية ريفية كانت تشكل رمزا للظلم الاجتماعي لاغلبية سكان البلاد ومانعا قويا لتقدم الاقتصاد، جعل من الملكية نفسها عامل تخلف اجتماعي.(97) ساهم نشوء الدولة العراقية الحديثة في اسراع التطور الحضاري للبلاد، رغم ان سرعة مظاهر التحديث والحياة المدنية مقارنة بالفترة السابقة، لم تؤد الى ازاحة الانقسامات الاجتماعية والولاءات الفرعية. من هنا استمر الوعي السياسي ضعيفا حتى عام 1958. ومع ان الفترة التي مهّدت لثورة تموز 1958 بما تخللتها من صراعات سياسية وانتفاضات جماهيرية قد شهدت قمة تصاعد الحركة الوطنية وتحرك الفئات الدنيا واندماجها في الحياة السياسية، الا ان الوعي الاجتماعي بمغزاه الحضاري ظلّ ضعيفا وأثر بدوره في الوعي السياسي. بل ان احداث الصراع التناحري في اعقاب ثورة تموز 1958 ، رغم انها شكلت، على الاقل جزئيا، حصيلة ضعف الوعي الحضاري، (البيئة الاجتماعية )، فإنها اطلقت العنان لقيم البداوة بأشكالها الاجتماعية المتعددة التحرك على نحو اسرع من الفترة السابقة. نظرا للترابط المباشر القائم بين قيم البداوة- التخلف والاستبداد- وبين العنف. ان التوجه نحو العنف السياسي بين الاطراف التي رفعت راية الحركة الوطنية والقومية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، اطلق العنان للقيم البدوية- التي كانت آثارها ما زالت سارية في عقول وممارسات العراقيين. ومنحها قوة دفع للتحرك، ولتشكل المظلة الفعلية في الساحة العراقية بأفرادها وجماعاتها وتنظيماتها. وفي السطور التالية متابعة لعشر من قيم التراث الاجتماعي للفترة المظلمة التي طغت عليها قيم البداوة، وما تضمنتها من مظالم اجتماعية سادت المجتمع العراقي قرونا عديدة واستمرت بقايا مؤثرة في افكار وتصرفات العراقيين، بل وانتقلت- بهذا القدر او ذاك- الى الساحة السياسية العراقية.(98) الاولى: البداوة والغزو والانتصارات(تبجيل العنف)- العنف وسيلة قسرية لفرض رأي او حل او موقف أوحد. ويجسد التطرف الفكري والمثالية العقائدية من منطلق"الاعتقاد الجازم" لكل طرف انه صاحب "الحق المطلق". وهو بهذا المعنى يقوم على الغاء حق الغير و/او وجوده. ويتراوح في مداه بين التعذيب النفسي، بما في ذلك الوعيد والتهديد واستخدام لغة الشتيمة وتحقير الغير، وبين التعذيب الجسدي بدءاً بالضرب ولغاية القتل باشكاله. ويقترن العنف بالتخلف والاستبداد وسيادة عقلية الغزو والانتصار. ولكن لماذا يستخدم الانسان العنف وهو المتميز عن الحيوان بصفته الاجتماعية؟ المعروف في علم الاجتماع ان التنازع صفة طبيعية ملازمة للبشرية الى جانب صفة التعاون الملازمة لها. أي ان التنازع والتعاون صفتان في الانسان لا ينفصلان. وتعتمد درجة الميل نحو التنازع او التعاون في اطار المجتمع الواحد على مدى تطوره الحضاري. بمعنى ان صفة الاختلاف/التنازع وصفة التآلف/التعاون قائمتان لدى كل فرد. وان غلبة احداهما على الاخرى في تعامل الفرد مع طرف آخر تتعلق بدرجة تحضرهما وطبيعة التعامل بينهما ومستوى فهم واستيعاب كل منهما للآخر وللظروف الموضوعية محل الاختلاف وتقديرهما لحصيلة النزاع او التعاون. وهذا ينطبق على مستوى المجتمعات والدول في تعاملها مع بعضها. من هنا كان ضروريا وضع هذه الاختلافات في المكونات الشخصية محل اعتبار في التعاملات الاجتماعية، بالاضافة الى اهمية دراسة شخصية الفرد(المجتمع) لخلق فهم اوسع من اجل تسهيل التعامل معه وايجاد نقاط التقاء مشتركة لحل التنازع سلميا. وتجد صفة التنازع البشري (وكذلك التعاون) منطقها في ثلاثة امور:(99) اولها الحاجات البشرية اللانهائية.. وثانيها الموارد البشرية المحدودة.. وثالثها اختلاف العوامل الوراثية والبيئية المكونة لشخصية الفرد. من هنا يواجه الانسان باستمرار الخلاف مع غيره في الحياة اليومية. وهو امام احد خيارين لحسم هذا النزاع: اما استخدام العنف من منطلق الغاء حق و/او وجود الآخر او التعاون في محاولة لايجاد نقطة وسطية مشتركة تلتقي عندها المصالح المتنافرة للاطراف المعنية، اي القبول بمنطق التآلف والمصالحة بدلا من منطق الانتصار والهزيمة. ومما يجدر ذكره ان الحيوان يمارس العنف بطبيعته ولكن من اجل حفظ وجوده فقط. لكنه لا يمارس- في الغالب- العنف مع نوعه. اذن فممارسة الانسان للعنف مع ابناء جنسه يتعارض مع نواميس الطبيعة ويرتب- على الاقل- ثلاث نتائج ضد طبيعته البشرية: اولاها انها تقود الى تدمير جزء من موارده المادية والمعنوية المحدودة.. وثانيتها تقود الى الالغاء القهري لصفة التعاون الملازمة لطبيعته.. وثالثتها تدفع الى الحط من قيمته الانسانية والعقلية الى دون ممارسات الحيوان المفترس. ان مواجهة ظاهرة العنف هذه التي نشأ عليها الفرد وتعمقت في دمائه واستفحلت في الساحة العراقية لا تقف عند الحلول الآنية بالتطوير النوعي للعملية التعليمية والثقافية والاعلامية فحسب، بل تتطلب ايضا معالجات جذرية طويلة الامد لتمتد الى اعادة بناء اصول التنشئة والتربية المنزلية كنقطة بداية للتربية الاجتماعية. الثانية: البداوة والحرية الفطرية (عداء السلطة الحكومية)- تقوم حياة البداوة على الحرية الفطرية. لذلك فهي تنفر من سلطة النظام والقانون، وتنظر الى الحكومة نظرة شك وعداء. تعززت هذه النظرة في ظل الحكم العثماني الذي اتصف بشدة ظلمه للناس وعدم اهتمامه بحقوقهم وتركيز وجوده على جانب الواجبات(الضرائب والتجنيد الاجباري). من هنا انتشرت ظاهرة الخوف والعداء والكراهية للسلطة الحكومية. ولعلّ هذا يفسر اندفاع البعض نحو نهب وتخريب المؤسسات العامة في حالات ضعف السلطة الحكومية.(100) الثالثة: العصبية والنسب(غياب مبدأ الفردية)- تقوم الحضارة الحديثة على مبدأ الفردية في التعامل الاجتماعي، اي ‘تقيِّم الفرد على اساس افكاره وممارساته، وبالتالي مسؤولية المواطن عن افعاله امام القانون والمجتمع دون ان يتحمل جريرة افعال غيره. بينما القيم البدوية تقدر الشخص ليس بأفعاله فحسب، بل كذلك بأفعال اهله واقربائه وعشيرته والموقع الاجتماعي لعائلته. ويرتبط بذلك الاهتمام المفرط بالانساب بما يوقعه في حالات كثيرة من الظلم الاجتماعي نتيجة احترام الشخص او احتقاره بسبب نسبه. إذ لا زالت الالقاب تلعب دورها في الحياة الاجتماعية- السياسية العراقية. واستمرت علاقاتنا في تقييم الفرد تنطلق من اعتبارات العصبية والقرابة والصداقة والفضل والجيرة وما يماثلها. وهنا يلاحظ ان هذه القيم والممارسات اتسعت وامتدت من مجالها الاجتماعي، بما في ذلك اختيار المراكز والوظائف،الى المجال السياسي بحيث اصبح الفرد يحاسب على فعل غيره من اصدقائه واقربائه واهله وعشيرته. يضاف الى ذلك ان هذه الظاهرة المتفشية في المجتمع العراقي يمكن الوقوف عندها ايضا حتى في شتائمنا العامية. فالشتيمة لا تقتصر على الفرد، بل يمكن ان تمتد الى عائلته ولغاية عشيرته. الرابعة: القبلية والسلطة الابوية ( النظرة الشخصية للحاكم) - من المبادىء الاساسية الاخرى في الحضارة الحديثة والتي تخص ادارة المجتمع السياسي هي النظرة الوظيفية للمسؤولية، والفصل بين شخص الحاكم وبين المسؤولية الوظيفية. هذا المبدأ يتناقض مع منطق القبيلة الذي يقوم على السلطة الابوية وينطلق من النظرة الشخصية لشيخ العشيرة. وسواء ادركنا ام لا، فما زالت نظرتنا محصورة بشخص الحاكم دون نظام الحكم. ولا زالت لا تختلف عن نظرة البدوي الى شيخ القبيلة. بمعنى انها لا زالت نظرة شخصية تقوم على الاقرار الضمني بأن الحاكم هو الاب المثالي الراعي لابناء العائلة- العشيرة. ويحاول الحاكم نفسه تعزيز هذه النظرة. من هنا تركزت مناقشاتنا على الحاكم شخصيا في المدح والقدح. نجعله زعيما اوحدا ورئيسا مؤمنا وقائدا تاريخيا، ونصفه بكل ما يعظم شأنه، بل ونرفعه الى السماء لنجعل منه شبه آلهة اذا رضينا عنه. وننعته بأردأ الوصفات، بل ونمحقه الى اسفل الدركات عندما لا نرضى عنه. ننسب اليه كل ما يتحقق من انجازات واخفاقات. متناسين اننا بذلك نمحق ذاتنا وغير واعين بأننا غارقون في الاتكالية والتهرب من المسؤولية والتمسك بتلاليب القيم البدوية. وبالنتيجة يكون تركيزنا على تغيير الحكام في سياق اهمالنا او عجزنا عن الاتفاق على عقد اجتماعي يوفر اولا اسس بناء نظام اجتماعي- سياسي مقبول من الاغلبية. الخامسة: العصبية والغلبة والمغالبة (النظرة المتدنية للعمل/الواجب)- تقوم البداوة على كسب الرزق بحد السيف. لذلك فهي تحط من قيمة العمل خاصة الحرف اليدوية. من هنا شاعت في المجتمع العراقي النظرة المتدنية الى العديد من الحرف اليدوية مثل البقال والحداد والحائك وما اشبه. بل حتى المزارع في الجنوب كان يركز على الزراعة دون الخضار. اذ ان ممارسته لزراعة الخضار كانت تضعه في خانة المنبوذين. وهناك عامل اجتماعي آخر وراء الحط من قيمة الحرف اليدوية، وهو عامل طبقي نجم عن النظرة المزدرية للفئات الغنية الى تلك الفقيرة والحرف التي يمارسونها. هذا الموقف الاجتماعي من الحرف اليدوية كان وراء الزخم الشديد للناس التوجه نحو الوظائف الحكومية. وهنا يذكر الدكتور علي الوردي حادثة طريفة شهدها عام 1958 وراء السدة الشرقية ببغداد التي كانت تسكنها جماعات من المهاجرين الريفيين: بائع خضار متجول ينادي عليها بين البيوت.. يخاطبه رجل آخر من المنطقة (فراش) شاتما اياه بقوله- انك صرت بقالا فمن ذا الذي يتزوج بناتك.. اجاب البائع- البقال افضل من الفراش.. رد الاخير- الفراش حكومة اما البقال فهو حقير!(101) كما ان نظرة المفاخرة للغزو والنهب والسلب والغلبة والمغالبة تركت آثارها في الممارسات غير النزيهة في التعامل الاجتماعي- التجاري والمالي. بما في ذلك المفاخرة بابتلاع حقوق الآخرين كالديون مثلا، ومحاولة البائع او الحرفي غش المشتري من حيث الاسعار او النوعية او الكمية. وكانت هذه العادات شائعة كثيرا في الاسواق العراقية. كذلك رسخت القناعة بنظرة المغالبة لدى الناس من خلال المطالبة بحقوقهم اولا دون اعارة نفس الاهتمام للواجبات. وهذه المسألة ظاهرة ايضا في التعامل والعمل في مجال الادارات والاعمال الحكومية. من جهة اخرى، فإِن نظرة المغالبة التي تفتخر بالغالب/المنتصر، عززت عوامل دفع النزاعات غير التناحرية في الساحة السياسية العراقية نحو العنف والتناحر. هذا في بيئة مشجعة للافكار والمواقف المثالية الصلبة، والنظرة المطلقة للحقوق والامور الدنيوية النسبية، وتجاوز المراحل في الدعوة الى تبني الاهداف والشعارات المعلنة. بينما حطت باستمرار من الافكار والممارسات الوسطية السلمية القائمة على الواقعية المبدئية رغم انها تشكل احد مبادىء الحضارة الحديثة. السادسة: البداوة والرجولة (مأزق المرأة)- قبل الحديث عن مأزق المرأة علينا ان نتدارك ان الغرض هنا ليس الدعوة للحرية الجنسية وتجاوز القيم الاجتماعية، بل محاولة إثارة مناقشة موضوعية من اجل خلق درجة من المرونة والنظرة الحضارية في التعامل مع هذه المعضلة الاجتماعية، بعيدا عن الخنجر- العنف و"غسل العار" وما صاحبتها من مآسي لم تقتصر احداثها على داخل الوطن بل تعدتها الى العراقيين في المنافي ومنها بلاد الغرب. من المعروف ان استمرار الوجود البشري يعتمد على اربعة مصادر رئيسة: الهواء، الماء، الغذاء، الجنس. ويفترض خضوع هذه المصادر لممارسات الانسان الطبيعية. فهو يتنفس ويشرب ويأكل كما يفعل الحيوان مع فارق نسبي. بقيت هذه المصادر الثلاثة بعيدة عن الخضوع للقيود الاجتماعية لأِنها حاجات آنية لحفظ حياته. اي ان المسافة الزمنية بين حاجة الانسان الى الهواء والماء والغذاء وبين ضرورة اشباعها للمحافظة على حياته هي مسافة قصيرة لم تسمح طيلة العهود الحضارية البشرية اخضاعها للطقوس والنواميس الاجتماعية ووضع قيود تنظيمية على كيفية ممارساتها. اما المصدر الرابع (الجنس) فرغم انه كذلك نزعة طبيعية في الانسان، كالحيوان، الا انه خضع لهذه الطقوس والنواميس الاجتماعية متضمنة اشكالا متعددة من القيود باختلاف الزمان والمكان. وذلك لأن الجنس حاجة آجلة وتخص حفظ الوجود البشري ككل. ومع ذلك، وكما في بقية المصادر الرئيسة اللازمة لحفظ وجود الانسان- البشرية فإن حرية الجنس ولدت مع ولادة الانسان. وهذا ما تؤكده الاديان نفسها بما فيها الدين الاسلامي. ان قصة آدم وحواء(رجل وامرأة/عائلة واحدة) برهان ساطع على اعتراف واقرار الدين نفسه -الله- بالنزعة الطبيعية للجنس وحق الانسان في ممارسة هذه النزعة حالها كحال الهواء والماء والغذاء. والا اما كان من السهل خلق آدم وحواء آخر(عائلة اخرى) بدلا من الاكتفاء بخلق عائلة واحدة يضطر ابناؤها من الذكور والاناث الى ممارسة الجنس (الزواج) مع بعضهم ليرزقوا بالصبيان والبنات؟! قصة آدم وحواء تقدم دليلاً آخر على النظرة الدينية المتسامحة لنزعة الانسان الطبيعية نحو الجنس عندما اخضعت آدم وحواء الى التجربة المعروفة ولكن بالعلاقة مع الغذاء(التفاحة) وليس بالعلاقة مع الجنس!! وهذه القصة تنبه الى ان مشكلة البشرية ليست في الجنس بل في الحياة المادية! ولأن المجتمع العراقي هو احد اقدم المجتمعات البشرية وصانع اكثر الحضارات الانسانية قدما في التاريخ، لذلك ليس غريبا ان تخضع مسألة الجنس لمختلف اشكال القيود المجتمعية. زادتها تزمتا بصفة خاصة مرحلة الفترة المظلمة وسيطرة القيم البدوية على السلوكية الاجتماعية للعراقيين. هذه السلوكية التي قامت على الحط من قيمة المرأة في سياق قيم وممارسات تجلّت في: نظرة الاحتقار الى الحرف اليدوية بما في ذلك عمل المرأة في المنزل.. النظرة المتدنية الى الضعف البدني وازدراء فئة غير المقاتلين في القبيلة.. تعظيم"الرجولة" متمثلة في القوة والمنزلة الرفيعة لمقاتلي القبيلة.. تقدير واحترام الشخص اذا كان غالبا منتصرا، وباختصار تبجيله اذا كان"فاعلا" في حياته الاجتماعية حتى الجنسية واحتقاره اذا كان"مفعولا به". من هنا جسدت المرأة في التراث القديم سلعة غير مرغوب في وجودها. وشاع المثل الخاطىء "المرأة ناقصة عقل...". وتحولت في زواجها الى سلعة تباع وتشترى. وحصرت واجباتها في الخدمة المنزلية وانجاب الاطفال. ورغم انحسار هذه القيم الا ان آثارها لا زالت باقية. واذا كان الرجل يتأفف في داخله- على الاقل- حتى من زواج اخته او ابنته، ناهيك عن شعوره بالعار من زواج امه ثانية، عليه اصبحت المرأة مصدر عار في المفهوم البدوي مما استوجب وضعها تحت قيود ثقيلة في سياق الطقوس القبلية واصبح خروجها على تلك الطقوس مسألة تستحق القتل"غسل العار" من وجهة نظر القبيلة، حتى وان تزوجت بصورة شرعية، ولكن من غير موافقة "ولي امرها". ورغم ان هذه القيم البدوية اخذت بالاضمحلال، الا ان الشعور بالعار تجاه المرأة ما زال قائما. ويمكن الاستدلال على هذه الظاهرة حتى بين العراقيين في المهجر، رغم استقرارهم لسنوات عديدة في المجتمعات الحضارية الجديدة. يضاف الى ذلك ان الشتائم العامية لا توجه الى الفرد اذا كان"فاعلا" بل توجه اليه اذا كان"مفعولا به". ومرة اخرى يلاحظ على هذه الشتائم انها تعبر عن طبيعة القيم الاجتماعية المتخلفة المتواجدة حتى الوقت الحاضر في سلوكية العراقيين، وتكشف الابعاد الواسعة لاحتقار المرأة (الجنس) والتي شكلت الخلفية لتبرير وضعها تحت هذا الكم الهائل والقاسي من القيود الظالمة. وفوق ذلك تكشف ممارسات الرجل مع المرأة عن الازدواجية في شخصيته تجاهها. فهو يرغب في معاملتها كما يعامل الرجل الغربي للمرأة بالعلاقة مع الجنس بخاصة. اما في حالة اتخاذه قرار الزواج فهو يبحث عندئذ عن امرأة اخرى تنطبق عليها المواصفات والقيم الاجتماعية السائدة. هذه الازدواجية يمكن رصدها حتى بين العراقيين في البلاد المتقدمة. فهو يسمح لنفسه بممارسة الجنس مع الفتاة الغربية، اي الحرية الجنسية، ويحرمها على اخته مثلا. وحتى في تراثنا الديني والادبي وممارساتنا العملية فالرجل- الفاعل- هو الذي يبادر ويدعو ويقوم بمهمة "النكاح"! وهكذا ارتبط الجنس بالمرأة فقط في سياق نظرة احادية الجانب. ولما كانت المرأة في المفهوم القبلي تقع في خانة "المفعول به"، لذلك خضعت ومعها الجنس الى اشد القيود والمظالم الاجتماعية، بحيث اصبحت حقوق المرأة تثير من الحساسيات وردود الفعل الشديدة الى حدود تتجاوز حتى حساسيات الدين والكفر والزندقة. المفارقة في مأزق المرأة هي ان هذه المرحلة من حياة المجتمع العراقي بحاجة اكثر الى نصفه الآخر لمعالجة اخطر مشكلتين تقفان حائلا امام تطوره الحضاري على طريق التحول الديمقراطي، وهما: الاولى- مشكلة العنف التي ارتبطت بالدور القيادي للرجل في المجتمع، حيث تشرّب منذ الولادة- فكرا وممارسة- على احترام القوة والعنف في سياق دوره الاستبدادي. من هنا فإن غياب المرأة العراقية او ضعف وجودها في حركة التحضر المجتمعية يشكل عقبة لمعالجة ظاهرة العنف. عليه تتطلب مهمة الاسراع بحركة التحضر مساهمة المرأة، بل ومنحها الاولوية في قيادتها. الثانية- نظام الحكم، فالمرأة كانت ولا زالت ضحية المظالم الاجتماعية والانظمة التسلطية، وليس جلادها. اي انها لم تنشأ على المفاخرة بالقوة ولم تمارس السلطة. كما انها لم تساهم عمليا في الاحداث القبلية- الاجتماعية سواء في مجال الغزوات القبلية او الممارسات التسلطية الحكومية. لذلك من المتوقع ان تساهم في بناء النظام السياسي والتحول الديمقراطي على نحو اكثر فعالية وملاءمة وقبولا. وهذا يدعو الى تأكيد دورها، بل ومنحها الاولوية في قيادة المؤسسات المجتمعية- السياسية. هذا رغم ان مساهمة المرأة وفق هذا المنظور تتطلب التأكيد على مسألتين، على الاقل، اولاهما حصولها على حقوق المواطنة الكاملة في حياتها العائلية والاجتماعية والسياسية والقانونية.. وثانيتهما تعزيز مستواها التعليمي والثقافي ومنحها الاولوية على الرجل في المساهمة الاجتماعية- السياسية، خاصة المراكز القيادية، في حالة تماثل الخبرة والكفاءة. السابعة: العصبية والتفاخر والحماسة (غياب النقد والموضوعية)- الموضوعية objectivity هي البحث في موضوع ما دون التأثر بأي من الدوافع الذاتية سواء كانت عاطفية او مصلحية او عقائدية وما اشبه. بل تركيز الجهد على استكشاف سرائر الموضوع محل البحث كما هو في واقعه. بمعنى ان يكون الشخص/الباحث محايدا غير متحيز في نظرته للموضوع (المشكلة) ويعمل على اظهار ما ينطوي عليه من ايجابيات وسلبيات بالاستناد الى أدلة محايدة وملموسة. ومثل هذا المنهج العلمي في البحث لا يمنع، بل ويتطلب، ان يكون للشخص/الباحث موقفه الفكري (النقد الموضوعي) في الحكم على معطيات الموضوع للخروج بالنتائج وتقديم المقترحات المناسبة.(102) يمكن القول انه لا مكانة لمثل هذا المنهج الموضوعي في قيم التراث القديم التي تقوم على العصبية والولاء المقدس للجماعة. والاعتقاد بالصواب المطلق لافكارها وممارساتها. وهذا ما عبّر عنه الشعر البدوي الذي يقوم على المفاخرة والحماسة للعشيرة من جهة والقدح والذم لاعدائها من جهة اخرى. وهذا المنهج الشعري الحماسي انتقل ليس فقط الى شعرائنا وكتابنا، بل كذلك طغى على الساحة السياسية العراقية حكومات واحزابا. ان صحفا عراقية عديدة اما ان تحتوي على مدح مخلّ او قدح مخلّ. اما الموضوع في حد ذاته فهو ضائع بين الطرفين. وهو ما سنلاحظ له نموذجا في القسم التالي. الثامنة: البداوة والشهامة والنخوة (الولاء على حساب الكفاءة)- يقوم منطق البداوة على الشهامة والنخوة والدخالة ومبدأ الخطية واحترام الجيرة والفضل والملح والزاد والصداقة والقرابة وعلاقات النسب- الدم والالقاب وما يماثلها. وهي قيم لها مزاياها في ظل السلطة الابوية والعلاقات الشخصية التي تنظم المجتمع البدوي. لكنها لا تتفق مع العلاقات الحضارية الحديثة التي تقوم على مبدأ الفردية والنظرة الوظيفية للمسؤولية والتزام مبدأ الكفاءة والخبرة في ادارة شؤون المجتمع. ان بقايا آثار هذه القيم البدوية في العراق المعاصر تجلّت- على الاقل- في مجالين: اولهما اعتماد الوساطة للحصول على الوظائف والمراكز الحكومية وتمشية الامور المعلقة بين الاشخاص وبين مؤسسات الدولة (العقود والمناقصات مثلا). فالحالة الاولى تقود الى الاخلال بأحد المبادىء الرئيسة للعدل الاجتماعي الا وهو مبدأ تكافؤ الفرص، بالاضافة الى الاخلال بمبدأ وضع الشخص المناسب في المكان المناسب. اما الحالة الثانية فهي تساعد اولئك الافراد على ابتلاع حقوق الدولة وغض الطرف عن الواجبات الملقاة على عاتقهم او الاخلال بحقوق الآخرين ايضا.. وثانيهما ان آثار هذه القيم البدوية قد تطورت في السياسية العراقية الى قلب احد اهم مبادىء الادارة الحديثة، الا وهو تطبيق مبدأ الولاء قبل الكفاءة. التاسعة: العصبية والتعصب(غلبة المثالية/الطوباوية والتطرف)- يقوم منطق العصبية على ولاء الفرد المطلق الى جماعته والايمان بأحقية الجماعة- افكارا وممارسة- الى درجة العقيدة التي ينشأ في ظلّ بيئتها منذ طفولته. مقابل النظر الى الجماعات الاخرى نظرة رافضة- متدنية و/او عدائية. وتقترن العصبية بالمثالية والاحكام المطلقة والعنف في سياق عدم الاعتراف بحق و/او وجود الطرف الآخر. من المعروف ان العصبية للعشيرة- القبيلة كانت قائمة قبل ظهور الاسلام. ومع ان الدين الجديد دعا الى الغاء العصبية القبلية وتحريمها، الا انه لم يلغ العصبية في حد ذاتها. بمعنى ان الاسلام اتجه من الناحية العملية الى تحويل العصبية القبلية لصالح العصبية للدين الجديد مع ملاحظة ان العصبية الدينية (المعتقدية) مسألة ترتبط بالعالم الآخر. وفي ظروف غلبة الافكار السلفية واصرارها على اعتبار الدين نظاما اجتماعيا شاملا، من هنا عاشت العصبيتان جنبا الى جنب وبقوة نسبية متفاوتة. ذلك ان الدين بطبيعته يقوم على الافكار العقائدية المثالية المطلقة. حيث شهدت مراحل الحضارة العربية الاسلامية اشكالا من التعصب الديني والمذهبي والطائفي، والدعوة احيانا الى استخدام العنف وتصفية الآخرين بتهمة الكفر والزندقة. تعمقت العصبية في الفترة المظلمة مع زحف البداوة على المدينة. وتعددت اشكالها لتمتد من العصبية القبلية والدينية والمذهبية والطائفية الى العصبية للمدينة والمحلة. وظلّت آثارها تطبع سلوك العراقيين حتى بعد نشوء دولتهم المعاصرة. بل انها تطورت لتزحف على الساحة السياسية العراقية. فظهرت احزاب سياسية تفتخر بالادعاء على انها احزاب "عقائدية" دون ان تدرك انها تكون وفق هذا الادعاء قد تحولت من كونها منظمات سياسية- اجتماعية في افكارها وممارساتها الدنيوية الى هيئات دينية تقوم على المثالية والاحكام المطلقة والموعظة الخطابية في غياب وتحريم النقد والموضوعية والنظرة النسبية الى الحياة الدنيوية. تقترن العصبية بأفكار المنهج الارسطي القديم وجمهورية افلاطون والمدينة الفاضلة لـ فارابي والافكار المثالية- الطوباوية غير القابلة للتطبيق في الحياة الدنيوية. اذ كان هذا المنهج يصطنع مثلا عليا للانسان- المجتمع ويدعو الناس من خلال الموعظة الخطابية الى تبنّيها وتحقيقها في غياب القدرة على تنفيذها لارتباطها باحكام مطلقة تخص العالم الآخر. مثال ذلك اقتراح اختيار الحاكم العادل لبناء المجتمع الفاضل الذي يسوده الحق والعدل ، دون ادراك غياب مثل هذه الشخصية المثالية في الحياة الدنيوية، لأن شخصية كل انسان تضم بطبيعته الشيء ونقيضه بنسب متفاوتة. كما ان النظرة التقديسية للافكار المثالية- الطوباوية وما تتضمنها من الاحكام المطلقة والتطرف والعنف وعدم الاعتراف بالطرف الآخر خلقت بيئة طاردة للنظرة الواقعية والحلول الوسطية في مواجهة مسألة التنازع والتعاون المتجسدة في شخصية الفرد- المجتمع. بل وخلطت بشكل مخلّ بين مبدأ الواقعية الذي يقوم على العمل بالممكن للصالح العام في اطار الهدف المرسوم، اي الواقعية المبدئية، وبين مبدأ الانتهازية الذي وان كان يقوم ايضا على العمل بالممكن الا انه يعمل في غياب نظرة مبدئية وبغية تحقيق المصلحة الذاتية.(103) كذلك تتسم العصبية بتصنيف امور الحياة الدنيوية وفق نظرة احادية مطلقة: خير او شر، حق او باطل، وطني او خائن. وهذه النظرة المثالية تهمل بشكل تعسفي نسبية الحياة الدنيوية. لأِن في حكمها لصالح احد طرفي الثنائية، تتناسى ما بينهما من حالات وسطية (بدائل) واسعة لا نهائية. العاشرة: صراع البداوة والحضارة (تناقضات فردية واجتماعية/الازدواجية)- عندما تبدأ ولادة حضارة جديدة في مجتمع حقق درجة مناسبة من النضوج والتطور عندئذ تأخذ عملية النمو والتحديث في صورتها العامة التوازن والشمولية على مستوى المجتمع، بالاضافة الى السرعة المناسبة في حسم الصراع بين القديم والجديد، بحيث يقود نمو الجديد الى ضمور القديم اما بالتخلي عنه نهائيا او تكيفه واندماجه ليكون جزءا من الجديد. ولكن عندما تكون الحضارة "مستوردة"، اي عندما تزحف وسائل الحضارة الجديدة بافكارها وقيمها ومخترعاتها الى مجتمع راكد عندئذ تتصف عملية زحفها بعدم التوازن والشمولية، خاصة في مراحلها الاولى، علاوة على امتداد فترة الصراع وحدته بين القديم والجديد. وهكذا يبقى القديم الى جانب الجديد في صراع مستمر يخضع امر حسمه بسرعة ونجاح الى مدى سرعة واستمرارية ونمطية نمو المجتمع واستقراره، بما في ذلك سرعة العملية التعليمية والثقافية، ودرجة قوة الجماعات الاصلاحية، ودور الدولة في بناء مؤسسات قادرة على توليد عناصر الحضارة الجديدة وامتصاصها. هذا التعايش المضطرب يولد- على الاقل- ثلاث تناقضات: اولها: تناقضات في افكار الفرد وممارساته- وتعود الى نموه في طفولته ومن ثم نضوجه تحت سقفين حضاريين متغايرين. اذ ينشأ في طفولته على قيم التراث القديم(العصبية، الغزو، الانتصار، الشقاوة، الشهامة..). ويتشبع الفرد بهذه القيم لتعيش في دمائه بمنزلة العقيدة. اما في شبابه فهو يعيش افكارا جديدة مثل الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان. ان افكاره الجديدة هذه تنكر عليه- بحق- افكاره القديمة. وبالمقابل تمنعه معتقداته القديمة من الخروج عن قوقعة الطقوس الاجتماعية، خاصة في بداية التحديث، حيث لا زال صوت القديم جهورا ومسموعا في المجتمع. وهكذا يعيش الفرد في صراع داخلي قاس بين منطقه العقلي المتجه نحو التحديث وبين عواطفه ومشاعره المتشربة بالقيم القديمة. وهذا الصراع الداخلي يجد ترجمته في ممارساته الاجتماعية المتناقضة سواء في مجال العمل او العائلة او الدين. فهو يدعو مثلا الى محاربة الوساطة ويجد نفسه مجبرا على ممارستها من منطق القرابة والصداقة والجيرة والنخوة والشهامة. وهو يدعو الى حقوق المرأة، وقد يمارس الحرية الجنسية بشكل ما، لكنه عند الزواج يختار اخرى، بل وربما يقدم على"غسل العار" اذا مارستها واحدة من عائلته، كما سبقت المناقشة. ولم يكن منظرا غريبا حتى بعد ثورة تموز 1958 ملاحظة عناصر من الفئة المتنورة قاضيا كان ام مدرسا ام محاميا وهم يمارسون شعائر محرّم وعاشوراء بالمشاركة في"اللطمية" والممارسات العنيفة الاخرى المماثلة القائمة على تعذيب الذات. وهذه التناقضات تقود الى الفصل التعسفي بين اقوال الفرد وافعاله. وهو امر سبقت ملاحظته في الفصل السابق على مستوى القادة والحكام بما يعنيه من"ازدواجية الشخصية". وثانيها: تناقضات في افكار المجتمع وممارساته- وتظهر هذه التناقضات على مستوى السلوكية الاجتماعية نتيجة الصراع بين الجديد والقديم، او ما يسمى بـ "الازدواجية الاجتماعية". وهنا يسود في المجتمع خطابين: احدهما قديم يقوم على الوعظ بدعوة الناس الى التمسك بالقيم المثالية المطلقة القديمة.. وثانيهما حديث يقوم على الواقع الذي يهتم بحياة الناس الدنيوية وممارساتهم الفعلية. وثالثها: وهم الجمع بين القديم والحديث- ففي سياق زحف الجديد على القديم في هذا التبلور الحضاري، يدعو البعض من اهل الفكر القديم الى الجمع بين مزايا الحضارتين. وهي يمكن ان تستخدم عادة لمحاربة القادم الجديد. وقد تعبر عن ضعف ادراك مفهوم الحضارة و/او ضمان مصالح ثابتة. لأن الحضارة ظاهرة كلية لا يمكن تجزئتها.(104) وهنا يلجأ اهل الفكر القديم الى الدين واستمالة الهيئات الاجتماعية المحافظة النافذة للوصول الى سلطة الدولة بغية استخدام وسائل قسرية لايقاف او ابطاء حركة التطور والتحديث، وهو ما يزيد من حدة التناقضات المجتمعية. تتصف الحضارة البشرية بالتواصل، اي انها ليست مقطوعة الجذور، بل هي حصيلة تراكمات حضارية بشرية سابقة. لذلك تشترك الحضارات البشرية كافة بمجموعة قيم انسانية عامة مثل الحق والعدل والخير والمساواة. وهي قيم وردت بهذا القدر او ذاك في مختلف الاديان والعهود، كما سبقت الاشارة. الا ان الفرق بين الحضارتين القديمة والحديثة هي في كيفية التعامل مع هذه القيم المثالية. فالحضارة القديمة تنظر اليها باعتبارها اهدافا انسانية وحلولا اجتماعية. وتدعو الناس من خلال الوعظ الخطابي الى بلوغها. بينما الحضارة الحديثة تنظر اليها باعتبارها قيم فلسفية وتتعامل معها على انها مظلة اجتماعية عامة بقيمها المطلقة. وتتركها للفرد دون تدخل السلطة في سياق مبدأ العلمانية والحياد الديني وعدم اتخاذها موقفا متمايزا تجاه الاديان المختلفة في المجتمع. بمعنى ان الحضارة الحديثة تقوم على الواقعية والنظرة النسبية وتقدم وسائل جديدة من افكار وقيم وسياسيات وبرامج تستهدف دراسة الانسان- المجتمع واكتشاف طرق جديدة ومخترعات حديثة لمساعدته على تحقيق التطور المتصاعد في حياته المعيشية- الاجتماعية. من هنا فالحضارة الحديثة لا تبرر الفقر مثلا ولا تدعو الى السكوت على الظلم الاجتماعي بوعود دخول الجنة في العالم الآخر. بل تقوم اصلا على منطق بناء الانسان- المجتمع جنته في الارض.
2- نمـو الوعي السياسي في العـراق رغم ان الحضارة العربية الاسلامية- كما سبقت المناقشة- كانت ولا زالت غنية بمبادىء وقيم ديمقراطية عديدة لتنظيم امور الدولة والحياة الاجتماعية، الا ان الاسلام في حد ذاته لم ينه عن العنف او يحرمه بشكل قاطع. ولم يعترف بالاحزاب السياسية التي نظر اليها كبدع واعتبر مبادئها مخالفة لسنة الحكم. ولم يبذل اي جهد مقصود لاشراك المحكومين اشراكا فعالا في شؤون الحكم. بل ان دولة الخلافة الاسلامية قامت على نظرية الحق الإِلهي المقدس بمنح الخليفة الوارث، الذي جمع في شخصه امور الادارة الدنيوية والدينية، سلطات مطلقة دون ان يكون للناس رأي سواء في توليته او استمرار حكمه او ممارساته. وقلما حاول علماء الدين التأثير في الخليفة بإثارة الرأي العام للضغط عليه او تبديله. بل كانوا يدعون الرعية الى الهدوء وطاعة الخليفة حتى في ظروف انحرافه وظلمه. هذا اذا اعتبرت انحرافاته ومظالمه خروجا على الشرع الديني في ظل التبريرات الجاهزة لفقهائه واستعدادهم الدائم لتفسير ومنح افعاله صفة الشرعية الدينية. وكان فقهاء المسلمين عموما يرون ان الانصياع للحكم الاستبدادي والحاكم الجائر هو خير من مقاومته لقناعتهم ان بقاءه يضمن سلامة النظام العام وان مقاومته قد يسبب الفوضى.(105) وفي ظل الحكم العثماني الذي دام حوالي اربعة قرون، اتسمت هذه الفترة بسيادة الوعي الجماعي: الديني/ الطائفي/ المذهبي/ القبلي/ المديني.. في ظروف تعدد الولاءات وغياب الوعي السياسي- الطبقي. ذلك ان ولادة الوعي السياسي تتطلب الدخول في مرحلة التحضر بوجود سلطة الدولة. كما ان عامة الناس في هذا العهد كانوا بعيدين عن ممارسة السياسة وميالين الى الابتعاد عنها ويعتبرونها من المستنكرات وخروجا على المألوف وانحرافا لحياتهم الاعتيادية، نظرا لانشغالهم بأمور معيشتهم وما يسد رمقهم، ولأِنها لا تعطيهم"خبزا". علاوة على خوفهم من بطش السلطة. عليه انتشرت مقولات او امثال شعبية بين الناس بهذا الخصوص منها "عمي هذا مو شغلي" و"انا اريد شغل ينطيني خبز".(106) وعموما يمكن تجزئة فترة العهد العثماني الى ثلاث مراحل: الاولى منذ احتلال العراق ولغاية ما قبل تعيين مدحت باشا (1534-1869). سادت هذه الفترة مرحلة المركزية المطلقة في الحكم. اي دون مشاركة عراقية في الحياة السياسية.. ا لثانية فترة تعيين مدحت باشا واليا على بغداد(1869-1972). تميزت بعدد من التغييرات الحديثة التي استمرت حتى مطلع القرن العشرين.. الثالثة فترة نمو الادارة العثمانية (1900-1917) ويمكن اعتبارها فترة انتقالية لنمو الوعي السياسي في العراق.(107) ولتشهد ظهور الوعي السياسي تحت المظلة الدينية.(108) بدأ الصراع في تركيا بين القديم والحديث في سياق انتشار النفوذ الاوربي منذ منتصف القرن التاسع عشر. ووجد له انصارا متحمسين من الشباب التركي المتطلع الى احداث تغييرات جوهرية في الامبراطورية العثمانية لإِخراجه من انظمة القرون الوسطى الى العصر الحديث. تكللت جهود انصار التحديث في صدور(التنظيمات) التي اعلنها السلطان عبدالمجيد (23/11/1839) مستهدفة احداث تغييرات في النظام العسكري والاداري للامبراطورية وبنائها وفق اسس قانونية متطورة. الا ان جهود الاصلاح هذه جوبهت بمعارضة شديدة من طرف الوجهاء المحافظين خوفا على امتيازاتهم ومصالحهم. ونجحوا في عرقلة مسيرة الدستور ووأده وعزل المصلحين في مجلس الوزراء وهذا ما اتاح الفرصة للسلطان عبدالحميد (14 /2/1878) الى ارجاء العمل بالدستور لفترة استمرت حوالي ثلاثين عاما. نشأ ضعف موقف المصلحين بسبب غياب حركة جماهيرية واعية، ومساندة اغلبية الجماعات التركية لشخص السلطان. علاوة على ان الدعوة الى الدستور كانت مرتبطة ايضا بضغط الدول الاوربية كوسيلة للتدخل في شؤون الدولة العثمانية وبلوغ اطماعها المرحلية. وهكذا عندما خفّت حدة هذا التدخل عمد السلطان الى تعطيل الدستور وعاد الى الحكم الفردي المطلق. وارسل مدحت باشا- زعيم الحركة الدستورية في مرحلتها الاولى- الى المدينة المنورة منفيا وليتم اغتياله هناك فيما بعد.(109) واصل عناصر الاصلاح في تركيا نشاطاتهم السياسية من اجل اقرار الدستور والحياة النيابية. وفي اواخر القرن التاسع عشر اسس عدد من الضباط الاتراك منظمة سرية "جمعية الاتحاد والترقي" عرفت عند بداية تأسيسها في استانبول عام 1889 باسم"تركيا الفتاة" ورفعت شعار"الحرية والاخاء والمساواة" ومن ثم "العدالة". وبتاريخ 10/7/1908 تم الاعلان عن موافقة السلطان- بناء على انذار الاتحاديين ضباط الجيش- اعادة العمل بالدستور واجراء انتخابات برلمانية في الامبراطورية العثمانية. وبعد ثلاثة عشر يوما (23 تموز) قامت الجمعية بحركة انقلاب عسكرية واجبرت السلطان عبدالحميد على اصدار الدستور. وفي العام التالي (16/4/1909) اقدم الاتحاديون على خلعه.(110) شكلت احداث الحركة الدستورية- التي بدأت في مرحلتها الثانية مطلع القرن العشرين- بداية لنمو الوعي السياسي في العراق. وسميت هذه الحركة المطالبة بالدستور في الامبراطورية العثمانية بحركة "المشروطية". وكانت ايران قد سبقت جارتها تركيا في نشوء هذه الحركة مدة سنتين. وسميت هناك بحركة "المشروطة".(111) وهي اول حركة نبّهت اذهان العراقيين الى السياسة حين وصلت الى النجف انباء النزاع الذي استفحل في ايران بين انصار"المشروطة" وانصار"الاستبداد". إذ حمى وطيد الجدل بين جبهتي "المشروطة" و "الاستبداد". وانتقلت من النجف الى بغداد والمدن المقدسة. واستمرت هذه الاحداث مع صدور دستور عام 1908 العثماني. كما تركت هذه الحركة اثرا اجتماعيا وفكريا ملموساً في المجتمع العراقي. وكان انصارها يمثلون"الجبهة التقدمية" بالنسبة الى المرحلة الاجتماعية التي عاشوها. اذ كانوا يطالبون بتأسيس المدارس الحديثة وتعلم اللغات والعلوم الاوربية ومطالعة الجرائد والمجلات.. وهذه كانت من الامور المحرّمة او المستنكرة في ذلك الوقت في نظر عامة الناس. فالفرد كان ينشأ منذ طفولته على قيم تضم نزعات واختلافات تقليدية افقية ويظلّ عليها في كبره (التنازع الديني/ المذهبي/ الطائفي والقبلي والمديني وحتى التنازع بين المحلات). اما الاحداث الجديدة فصارت تثير في الناس تنازعا عموديا بحيث تغير موقع الجدل بين الطائفة والطائفة وبين المذهب والمذهب الآخر الى جدل بين الجماعة الواحدة ذاتها معلنا التحول من الوعي الجمعي، اي الولاء التقليدي الى الاقتراب من الوعي السياسي- الطبقي. وهذا ما شكل البداية لتآكل الولاءات التقليدية. الا ان نشوء الوعي السياسي- الذي ولد وترعرع تحت المظلة الدينية والولاءات الطائفية والقبلية- لم يكن وعيا ناضجا في بدايته، بل خليطا من الواقعية السياسية والجدلية الطوباوية. ويرتبط بذلك ان الناس وقد انقسموا بين انصار"المشروطية" وانصار "الاستبداد" لم تعنيهم كثيرا قضايا ادارة الحكم ومصالح العامة بقدر ما كانت مناقشاتهم تدور حول ما اذا كان الدستور"حلالا" اي متماشيا مع الشريعة الاسلامية ام كان"حراما" اي معارضا لها.(112) ومع انتصار الاتحاديين عمّت مظاهر الفرح في المؤسسات الرسمية. وفوجئ اهل بغداد يوم 24/ 4/1908 بمظاهر الزينة واللافتات المتضمنة "حريت، عدالت، مساوات، اخوت". يقول توفيق السويدي في مذكراته "ان اهل بغداد كانوا لا يعرفون شيئا عن تلك المفاهيم ولا يحيطون بجزء من مغازيها، والمفهوم الوحيد الذي كان ظاهرا لدى الجمهور هو ان هذا العهد الجديد سيجعل من المسلم وغير المسلم اخوانا في الوطن وانه سيحد من سلطة السلطان عبدالحميد، وهذا ما لا يرضاه احدهم".(113) استمرت الاحداث السياسية وما رافقتها من مظاهر الفرح، وادت الى الانطلاق في السلوك العام لتشهد بغداد ثلاث ممارسات اجتماعية جديدة هي كثرة تداول الاسلحة.. انتشار الملاهي.. واستفحال الشتائم الصحفية.. ويرتبط بذلك ان الكثيرين من الناس لم يستوعبوا مفهوم وحدود الحرية التي وفرها دستور 1908. فهناك من وجد في الحرية التحرر من القيود الاخلاقية والخروج على القيم الاجتماعية. وهناك من فسّر الحرية باقتناء الاسلحة والاعتداء على الناس كما في اشقياء بغداد. وهكذا عندما سطا احدهم على احد المنازل وقتل صاحبه ثم حكم عليه بالاعدام، صرخ محتجا بقوله "اين الحرية التي تنادون بها"!(114) اما الصحافة، فحتى عام 1908 وجدت في البلاد ثلاث صحف فقط واحدة منها في كل ولاية. وكانت تصدر باللغة التركية. وخلال الفترة 1908-1911 صار ممكنا اصدار الصحف بحرية وباللغة العربية. وارتفع عددها الى سبعين صحيفة. وكانت اغلبها معارضة للاتحاديين وسياستهم القائمة على المركزية والتتريك. وبدأ الشعور الوطني/ القومي بالانتشار عن طريق المقالات الصحفية. ونتيجة لذلك اتخذت الادارة العثمانية سلسلة اجراءات ضد تلك المطبوعات بحضر العديد منها.(115) ساعد على ذلك ان ممارسة حرية الصحافة لم تخل من تصرفات سلبية. وصف روفائيل بطي وضع الصحافة في بغداد خلال هذه المرحلة بقوله "ان الازدياد الفاحش في عدد الصحف مع نقص الخبرة والدربة عند محرريها جعلهم يشتطون في كتاباتها ولا سيما في الجدل السياسي والحزبي، فظهرت مهاترات شخصية (يندى لها الجبين) مما جعل الرجعيين يقعون على فريسة باردة فخرجوا من اوجارهم وطفقوا ينددون بحرية الصحافة".(116) وفي اعقاب انتصار ثورة "تركيا الفتاة" عندئذ جرت "الانتخابات" في العراق تمهيدا لاختيار ممثلي البلاد للبرلمان العثماني في استانبول. ومع ذلك فالانتخابات لم تكن حقيقية بقدر ما كانت اشبه بالتعيين. كذلك لم يكن في البلاد آنذاك سوى عدد قليل ممن يفهمون الانتخابات. وعموما انتهت هذه الانتخابات في ت2/ نوفمبر 1908 بفوز 17 مرشحا من الوجهاء. من جهة اخرى استبشرت النخبة المتنورة بمجيء الاتحاديين الى السلطة. فبعد ثلاثة عشر يوما على اعلان الدستور(5 /8/1908) اجتمع عدد من وجهاء العرب في استانبول بضمنهم نفر من العراقيين امثال ناجي السويدي، حمدي الباججي، شاكر الآلوسي،عبدالوهاب الآلوسي، وغيرهم. واسسوا "جمعية الاخاء العربي العثماني" بهدف مساعدة الاتحاديين على تنفيذ الدستور، وتمتين اواصر العلاقة بين العرب والاتراك. الا ان الاتحاديين اغلقوا هذه الجمعية (31/3/1909) اثر خلع السلطان عبدالحميد بدعوى ان معظم اعضائها كانوا من الرجعيين الذين آزروا الثورة المضادة.(117) كانت حركة الاتحاديين حركة قومية تأثرت بالافكار القومية العلمانية الاوربية منذ اتصال الاتراك بالحضارة الغربية الحديثة. كما نشأت الحركة الطورانية- وهي حركة داعية للقومية التركية- منذ بداية هذا الاتصال التركي الاوربي. وتأسست جمعية "ترك اوجاعي" اي الوطن التركي (3/7/1911) للدعوة الى الطورانية وتنبيه الاتراك الى امجادهم القومية ودراسة تاريخ ابطالهم القدماء امثال جنكيز خان وهولاكو وتيمورلنك. والتوجه نحو اقامة الدولة على اساس قومي بدلا من قيامها على الاساس الديني. وكان شعارهم في ذلك "نحن اتراك قبل ان نكون مسلمين". وبدأ العرب يشعرون بسياسة التتريك ليس اكثر من مرور عام على انتصار الاتحاديين عندما صدر"قانون التنسيقات" لتطهير الجهاز الاداري. اذ شعروا ان نصيبهم من التطهير فاق نصيب زملائهم الاتراك.(118) اخذ الصراع العراقي(العربي) بالنمو ضد الاتراك كما حصل في بقية اجزاء الامبراطورية العثمانية لمقاومة سياسة التتريك. وكانت هذه السياسة في حد ذاتها باعثا على تنشيط الحركة الوطنية والوعي السياسي. وبدأ العراقيون(والعرب) الانسحاب من جمعية الاتحاد الى الاحزاب العلنية المعارضة المؤيدة لنظام اللامركزية حيث كان العرب ميالين الى هذه السياسة. هذا علاوة على تشكيلهم العديد من المنظمات والاحزاب خاصة السرية منها للمطالبة بالحقوق الوطنية/ القومية مثل جمعية العهد. كذلك لعب السيد طالب النقيب، كما مرّ ذكره، دورا مؤثرا خلال هذه الفترة في نشوء الحركة الوطنية ونمو الوعي الوطني/القومي في البصرة. وعموما، شهدت الفترة 1908-1913 اختمارا حضاريا ونموا في الوعي السياسي في العراق. اذ اتسع نشاط الفئة المتنورة سواء بالانضمام الى احزاب المعارضة العلنية والمنظمات المماثلة او تأسيس جمعيات واحزاب سياسية وثقافية تدعو الى اللامركزية والاعتراف بالعرب في ظل المساواة بين القوميات في الامبراطورية العثمانية. وللاستدلال على هذا النشاط المتسع يقال ان حزب العهد الذي تأسس في 28/ 10/ 1913 انتشر في معظم المدن العربية وازداد عدد اعضائه من 400 الى عشرة آلاف لغاية عام 1914. وكان سبعة من كل عشرة ضباط عراقيين خلال هذه الفترة منتمين لهذا الحزب الذي اقام له فروعا في الموصل والبصرة.(119) عامل آخر خارجي اثر باتجاه نمو الوعي السياسي والحركة الوطنية في العراق خلال هذه الفترة هو دور الانكليز وسياستهم في بث ودعم انتشار المبادئ السياسية الجديدة في التحرر والاستقلال ودعم الحركة القومية بين العرب. اذ عمل الانكليز على نشر هذه المفاهيم بين العرب قبل الحرب واثناءها طالما كانت موجهة ضد الدولة العثمانية. ومما اعلنوه عبارتهم المشهورة "جئنا محررين لا فاتحين". هذا علاوة على صدور البيان الانكليزي الفرنسي (28/11/1918) والمبادئ الاربعة عشر للرئيس الامريكي ويلسون بشأن حق تقرير المصير للشعوب المستعبدة (2/1/1918). ولكن عندما لم يف الانكليز بوعودهم بعد انتصارهم بدأ التوتر بين النخبة الوطنية وبين ادارة المحتل البريطاني. يذكر علوان الياسري وهو احد قادة ثورة العشرين في هذا الصدد مخاطبا الحاكم البريطاني بقوله "نحن عشنا قبل هذا مئات السنين في وضع بعيد جدا عن الاستقلال. انكم عرضتم علينا فكرة الاستقلال في وقت نحن لم نطلبه منكم. ولم نكن نحلم به حتى جئتم فوضعتم الفكرة في رأسنا، والآن وفي كل مرة نطالبكم بالاستقلال تسجنوننا"!(120) عندما هاجمت القوات البريطانية البصرة واحتلتها (6-22/11/1914) كان شعور العراقيين بالوحدة الوطنية ضعيفا.(121) لكن فترة الحرب نفسها بما اثارتها من مقاومة الغزو اولا ومن ثم الاحتلال البريطاني فيما بعد ساهمت بقوة في تقدم الشعور الجديد ونمو الوعي السياسي تحت المظلة الدينية.(122) ساعد على ذلك ايضا محاولات السلطات التركية تحريك الشعور الاسلامي في البلاد ضد القوات البريطانية. ومن جانبهم اصدر علماء الدين في المدن المقدسة فتاوى الجهاد الى كافة المسلمين لمحاربة الغزاة "الكفار". ولكن عامة الناس كانوا يمقتون الحكم العثماني ويتمنون زواله لما الحقه بهم من مظالم اجتماعية. لذلك اصبح الفرد العادي في صراع بين الرضوخ لارادة المؤسسة الدينية والدفاع عن حكومة يراها ظالمة وبين ظروفه الواقعية التي تدفعه نحو عصيان الحكومة.(123) وربما كان هذا الحدث اول تجربة للعراقيين دفعتهم الى اعمال تفكيرهم وفتح اذهانهم بخصوص كيفية التعامل مع الفتاوى والدعاوى الدينية عندما لا تتطابق مع حقوقهم الاجتماعية. شهدت فترة الاحتلال الاهتمام بتنظيم الحياة الادارية من مؤسسات حكومية وتعليمية وتأسيس المجالس البلدية. استمر الشعور السياسي الوطني/القومي بالنمو في ظل هامش اوسع من الحريات مقارنة بالعهد العثماني. وجاء نمو الوعي السياسي الجديد حصيلة وقائع وتأثيرات متعددة منها تزايد عدد الشباب العراقيين الملتحقين بمدارس التعليم التركية وخصوصا الاكاديمية العسكرية في استانبول، زيادة التعرض لطرق التفكير الغربية، نمو الجامعة التركية وتسارع ايقاع التتريك، ضعف تجاوب الاتراك مع الحاجات المحلية، انتشار الكتب والصحف، تزايد الاتصالات العربية- العربية، ظهور النوادي والجمعيات الثقافية والسياسية. ولكن ما ساهم اكثر من اي شيء آخر في تقدم الشعور الجديد هو الغزو البريطاني (1914-1918). او بالاحرى المقاومة التي استحثها هذا الغزو ووصلت نقطة الذروة في ثورة العشرين.(124) بدأت الادارة البريطانية في العراق منذ ت2/ نوفمبر 1918 الاعداد لاستفتاء ظاهره التعرف على رأي العراقيين بشأن نظام الحكم الذي يرغبونه. بينما كان مخططا اخراجه بما يؤيد الحكم البريطاني المباشر في العراق. تضمن الاستفتاء ثلاثة اسئلة هي: هل ترغب في اقامة دولة عربية تحت الوصاية البريطانية من شمال الموصل الى الخليج؟ وهل ترغب ان يرأس هذه الدولة رجل عربي من اولي النسب؟ ومن هو هذا الرئيس الذي تفضله؟ كان الاستفتاء في نظر العامة مفاجأة غير مفهومة. اذ للمرة الاولى في تاريخ العراق يسأل المنتصر اهل البلاد عن نوع الحكم الذي يرغبون فيه والحاكم الذي يفضلونه. إذ لم يصدق الناس آذانهم عندما قيل لهم ان السلطة البريطانية- التي فتحت بلادهم بحد السيف- تتنازل لهم لتسألهم: ماذا تريدون؟ من هنا اخذت الاشاعات بالانتشار بينهم ومضمونها انها قامت بالاستفتاء لكي تختبرهم وتكشف اصدقائها من اعدائها فتكافئ الاصدقاء وتعاقب الاعداء.(125) من جهة اخرى، اطلقت عملية الاستفتاء موجة جديدة من النشاط السياسي بين انصار الاحتلال وانصار الاستقلال المطالبين بالحكم العربي. وشكلت الفئة الثانية البذرة التي انبثقت عنها ثورة العشرين. اطلق الناس على هذه الفئة اسم "الوطنيين". اما المخالفون لها في نظرهم فهم خونة وموالين للكفار.(126) ظهر النشاط السياسي اثناء فترة الادارة البريطانية بصورة متعددة. فكانت الفئة الطليعية من المواطنين الواعين يجتمعون في المقاهي والبيوت والمدارس والجوامع والمساجد والحسينيات لمناقشة امور السياسة وبث الوعي المعادي للاحتلال البريطاني وحث الناس على المطالبة بالاستقلال.(127) ويمكن القول ان الاستفتاء كان حافزا على نشوء ما نسميه بـ"الحركة الوطنية" في العراق . وهي الحركة التي تبناها المعارضون للحكم البريطاني واتخذوا لهم من فكرة "الاستقلال" شعارا. كما ان الجهود التي بذلتها الادارة البريطانية في العراق اثناء الاستفتاء لجعل العراقيين يطالبون بالحكم البريطاني المباشر انتجت ردود فعل معاكسة وزاد في اندفاع "الوطنيين" للمطالبة بالاستقلال. كذلك فإن المقاومة التي ابداها ممثل السلطة البريطانية في بغداد(ويلسون واعوانه) ضد اختيار احد ابناء شريف مكة ملكا على العراق زادت من رغبة المعارضين للمحتل البريطاني في الاصرار على هذا الاختيار وجعله رمزا لحركتهم.(128) شعر الوطنيون المعارضون للوجود البريطاني بضرورة تنظيم انفسهم سريا. وفي اواخر شباط/ فبراير 1919 تم تأسيس حزبين هما: حرس الاستقلال الذي دعا الى تحقيق الاستقلال الناجز والخروج الفوري للمحتل البريطاني من البلاد، وحزب العهد الذي دعا الى بناء الدولة العراقية الموحدة المستقلة ولكن بالتعاون مع بريطانيا وتحقيق الاستقلال تدريجيا، كما سبقت المناقشة.(129) تطورت الخلافات بينهما الى اتهامات خطيرة بالعمالة للانكليز او الترك. وانهار الحزبان بعد فترة قصيرة. وبالعلاقة مع موضوع التمايز التعليمي- السابق الذكر- بين الطائفتين الاسلاميتين الرئيستين في ظل الحكم العثماني بخاصة والتباين التعليمي المذهبي بينهما بعامة. وحيث ان حرس الاستقلال ضمّ اغلبية شيعية لهم مقلدوهم من علماء الدين في المدن المقدسة. بينما ضمّ "العهد" اغلبية عسكرية من الشريفيون ممن احتكوا بالحضارة الاوربية ومارسوا امور الحياة الدنيوية العلمانية.. لذلك فإن الخلاف بين الحزبين لم يكن مجرد خلاف سياسي يخص السياسات والبرامج المتباينة، حيث كان بالامكان ملافاتها، بل وربما بناء التعاون على اساسها. انما كان في واقعه خلافا بين حضارتين: الاولى تقوم على الفكر المثالي القديم الذي يستند الى دعوات خطابية من منظور ما يجب ان يكون وبغض النظر عن المراحل الزمنية وحجم الاهداف المعلنة ومدى توفر القدرة على تنفيذها.. والثانية تأخذ بالواقعية في سياق العمل بالممكن، والتي تتطلب قيامها وفق اعتبارات مبدئية لتحاشي عوامل الانحراف. وفي ظروف التباعد بين هاتين المجموعتين بدلا من التقائهما في مواجهة المحتل، مقابل بيئة اجتماعية كانت اكثر ميلا لتبجيل المثالية والبطولات، ودون الغاء العوامل الاخرى.. هذه الظروف ساهمت في فترة لاحقة في صيرورة ونمو نتيجتين خطيرتين- على الاقل- هما: الاولى سقوط الفئة الثانية في مستنقع المنفعية الذاتية في ظروف استمرار انعزالها. اي سقوط النظرة الواقعية الاكثر التصاقا بالمفاهيم الحضارية الحديثة.. والثانية حسم الصراع السياسي بين الفئتين المثالية والواقعية لصالح الاولى لتساهم في دعم وانتصار الاحزاب المثالية "العقائدية" في مرحلة تالية. وهكذا اخذت بذرة ثقافة العنف هذه في النمو بدءاً من المدارس في سياق نمو الوعي باتجاه تحقيق استقلال البلاد.(130) نشأت الحركة الوطنية على اثر الاستفتاء. وظهرت بوادرها الاولى في بغداد وكربلاء ثم انتشرت الى بقية المدن والمناطق الرئيسة في البلاد. تأثرت الحركة في بغداد بالشريحة الفكرية، خاصة جماعة حرس الاستقلال. بينما ارتبطت الحركة في كربلاء بالشريحة الدينية ممثلة بالمرزا محمد رضا مؤيدا من والده المجتهد الاكبر المرزا محمد تقي الشيرازي. وكانت العلاقة بين الشريحتين في بغداد وكربلاء علاقة متينة في سياق اواصر الدين- المذهب بينهما. نشطت الحركة الوطنية وامتدت الى الفرات الاوسط اثر نشر اعلان الانتداب (25/4/1920). واخذ الناس يتذمرون ويعلنون استياءهم من الانتداب. وانتشر بين تلاميذ المدارس نشيد يضم هذين البيتين: الحماية والوصاية كلها معنى الاسـر وعلى العيش بــذل ابداً ما نصطبــر ومقابل الاحزاب السياسية السرية في بغداد لمقاومة الاحتلال البريطاني، بادر المرزا محمد رضا- لولب الحركة الوطنية وقطبها في كربلاء- الى تأسيس جمعية سرية باسم "الجمعية الاسلامية". انتمى اليها اغلب رؤساء كربلاء وسادتها. وكان هدفها رفض الحكم البريطاني والمطالبة بالاستقلال واختيار ملك مسلم لحكم البلاد. واصدر الشيرازي فتواه المشهورة بتأييد هذه الجمعية ونصها "ليس لاحد من المسلمين ان ينتخب ويختار غير المسلم للامارة والسلطنة على المسلمين". وربما كان فتوى الشيرازي عاملا مهما في تطوير الوعي السياسي في العراق، اذ جمعت بين الدين والوطنية. وكان هذا امرا جديدا لم يألفه الناس من قبل. وبذلك اصبح الوطني متدينا والمتدين وطنيا، وانتشر بين الناس الحديث المنسوب الى النبي"حب الوطن من الايمان"، وصار شعارا للحركة الوطنية الوليدة.(131) ومع الاقتراب من حرارة منتصف صيف وثورة العشرين، برزت على سطح الحركة الوطنية العراقية حدثين كان لهما ان تلعبا دورا مركزيا في الاحداث المقبلة: الاولى نضوج الحركة الوطنية في الفرات الاوسط بعد ان التقت جهود قادة الحركة الوطنية في كل من بغداد وكربلاء لنشرها بين عشائر المنطقة لمقاومة الاحتلال.. والثانية التقارب بين الطائفتين الاسلاميتين الرئيستين باقامة المناسبات الدينية بصورة مشتركة في جوامع ومساجد الطائفتين منذ اواسط مايس/ ايار (رمضان). وكان المبدع لهذه الفكرة كل من الشيخ كاظم الدجيلي والشيخ محمد مهدي البصير.(132) بينما ساهم فيها بنشاط وحيوية محمد جعفرابوالتمن حتى"اصبح رمزا للوطنية والوحدة العراقية، بين طلائع حزب حرس الاستقلال".(133) وارتباطاً بهذه التطورات، بدأت المطالبات تتسع منذ الاول من حزيران/ يونيو من اجل الاستقلال. وكان رجال الدين وبالذات الشيرازي ضد استخدام العنف ومن الداعين الى الاثارة والمقاومة السلمية ضد الانكليز. بينما كان ولده المرزا محمد رضا من مؤيدي قيام الثورة المسلحة. وبسبب غضب بعض الشيوخ من سوء المعاملة البريطانية لهم، مقابل الدعايات التي ضخمت احداث انتصارات تحرير تلعفر ودعوة المركز العام لحزب العهد اطلاق الثورة ضد الانكليز من الموصل، بالاضافة عوامل اخرى (ق1/ف1).. تجمعت كلها لاعلان ثورة العشرين (30 حزيران). شكلت ثورة العشرين، رغم ما رافقتها من مثالب واخطاء، مرحلة متميزة لنضوج الحركة الوطنية ونمو الوعي الوطني. فللمرة الاولى يتحقق في العراق الالتحام الطائفي- الطائفي والقبلي- المديني باندماج الفئتين الاسلاميتين من جهة وانضمام القبائل الى بغداد والمدن المقدسة، معلنة ولادة وعي جديد متجه نحو تقليص الولاء الطائفي- القبلي لصالح الولاء والوعي بوحدة المجتمع- الوطن.(134) اقنعت ثورة العشرين المحتل البريطاني التخلي عن فكرة الحكم المباشر للبلاد. تم تشكيل "الحكومة المؤقتة" في آب/ اغسطس 1920 تمهيدا لتأسيس دولة عراقية تحت الحماية البريطانية وتغيير شكل الانتداب الى معاهدة. ولأول مرة بدأت الاحزاب السياسية العلنية بالظهور بعد ترخيصها من قبل الحكومة (آب/ اغسطس 1922). كما ان تأسيس الدولة العراقية الجديدة وما تطلبتها من انشاء بنية مؤسسية بما في ذلك المدارس وانتشار الصحف وظروف انتخابات المجلس التأسيسي والدستور والمعاهدة (1922) خلقت اجواء واسعة للحوار والمناقشة من تأييد ومعارضة.(135) وقبل ان يمر على تتويج فيصل (23/8/1921) اكثر من عام واحد عاد الانشقاق بين القوى الوطنية. وهذه المرة بين معارضي المعاهدة ومؤيديها. وليمثل طرفيها - في الغالب- نفس الشريحة او التوجهات السياسية لكل من حرس الاستقلال والعهد. واخذ الانشطار تسمية القوى الوطنية او المعارضة ونخبة البلاط. اذ كان الملك ومعه الشريفيون على قناعة بأن تطوير المملكة العراقية الجديدة (بحدودها المعروفة اليوم) لا يمكن ولو مرحليا دون اسناد البريطانيين اقليميا ودوليا، خاصة في ظروف عدم انضمام بقية اجزائها (الموصل) والافتقار الى قوة مسلحة (الجيش) لحماية حدودها في وجه المناوئين المحيطين بها. بينما رفضت المعارضة بدعم من القوى الدينية نفسها هذا المنطق دون تقديم دليل على قدرتها طرح بديل عملي ملموس.(136) وكان اكثر من رأي يؤيد ان العراق في هذا الوقت لم يكن مجتمعا موحدا نتيجة لعدم نضوج الشعور بالوحدة الوطنية.(137) شهدت مسيرة الحكم الوطني (1922- 1924) تصاعد الوعي السياسي في خضم احداث معاهدة 1922. الا ان مسيرة هذا الوعي بقيت افقية. وبرزت احداث مؤثرة في الحركة الوطنية شكلا وموضوعا خلال السنوات التالية. لعلّ الاحداث الثلاثة التالية كانت ابرزها: الاول مواجهة المعارضة التي برزت في مقاطعة المشاركة بانتخاب المجلس التأسيسي بوسائل سلطوية قسرية بما في ذلك الاعتقالات والنفي خارج البلاد.. الثاني تقليد السلطة الحكومية لادارة الاحتلال البريطاني في اخذ التعهدات من المنفيين قبل السماح لهم بالعودة الى البلاد. هذا الاسلوب الذي تحول الى طريقة روتينية للحكومات العراقية المتعاقبة لاحقا من خلال اجبار السياسيين على تقديم ما اصطلح عليه بـ""البراءة" من احزابهم.. الثالث وربما يكون الحادث الاكثر تأثيرا في الحركة الوطنية هوان اجراءات نفي رجال الدين وعودتهم (1923 - 1924) انهت مرحلة تاريخية في العراق كانت الزعامة السياسية فيها لرجال الدين. ساهمت الفترة الملكية بحكم نموها المؤسسي في تعزيز الوعي السياسي باتجاه الوحدة الوطنية بما في ذلك بناء المدارس وتعزيز دور المفكرين من الفئات المتوسطة التي تحمل بطبيعتها المشاعر الوطنية/ القومية. وجاء تكوين الجيش (1921) ونمو قدرته بعد تطبيق التجنيد الاجباري (1934) عاملا آخر لفرض الوحدة الوطنية وكسر شوكة العشائر والقيم البدوية. الا ان الوعي السياسي الوطني استمر بالنمو الافقي في ظروف الانحراف الدستوري وتصاعد حدة الصراع السياسي وانحراف الممارسات الدستورية السلمية الى استخدام العنف سواء بتحريك العشائر او استخدام الجيش. هذه الممارسات قادت الى تحريف دور المؤسسة العسكرية ووفرت لها الفرصة بالتدخل في السياسة، بل وخروجها من ثكناتها دون رجعة، لادارة نظام الحكم والجماهير المدنية وفق العقلية العسكرية. شكل انقلاب عام 1936 نكسة سياسية لم تقتصر على فشل مؤسسة التاج وانحراف العملية الدستورية فحسب، بل كذلك ضربة موجعة لنمو القوى الديمقراطية الوليدة التي تجسدت في انهاء جماعة الاهالي، بالاضافة الى آثاره البعيدة في تصعيد العنف المنظم للدولة من ارهاب واعتقالات ونفي واسقاط حقوق المواطنة. علاوة على خلق سلسلة من العداءات والاحقاد والثارات الشخصية التي سممت العملية السياسية وعمقت ازمتها. كما ان سلسلة الانقلابات العسكرية التي ختمتها حركة مايس 1941، رغم مشاعر الوحدة الوطنية التي استحثتها، جاءت اعلانا عن توجه السياسة العراقية وعلى نحو متصاعد نحو العنف في التعامل مع مشكلات البلاد وادارة نظام الحكم. غطت المعاهدة (1922/1930) والعلاقات البريطانية العراقية، ومن ثم سياسة الانحياز للاحلاف الاقليمية والدولية، الساحة العراقية في العهد الملكي واصبحت محور الصراع السياسي الى حدود اهمال او ضعف الانتباه الى المشكلات الاخرى، ولتحتل الهموم الاقتصادية والاجتماعية المرتبة التالية، علاوة على القفز الى السلطة من خلالها. كما ان طبيعة الملكية المتحالفة مع الانكليز والشيوخ والعائلات الثرية افرزت المزيد من سوء توزيع الدخل والثروة وغياب تكافؤ الفرص. وكلها عوامل ابقت عامة الناس في مستوى الفقر والجهل والمرض بعيداً عن الوعي الحضاري. من جهة اخرى، عبّرت نهاية الانتداب(1932) عن انحدار نخبة البلاط والملكية وسقوط ممارساتهم- التي قامت على تبني مبدأ الواقعية- في مستنقع المصالح الشخصية. ذلك ان البلاد في هذه المرحلة حققت مستلزمات وحدتها (عودة الموصل) وحصلت على الاعتراف الدولي بحدودها، وبنت مقومات جيشها، وبالتالي استنفدت مبررات التصاقها بالحماية والوجود البريطاني. وبدلا من ان تبادر الملكية ونخبة البلاط الابتعاد التدريجي عن العلاقة غير المتكافئة مع بريطانيا نحو ترسيخ علاقات اقرب الى التكافؤ ووفق مبدأ التعاون معها ومع كافة دول العالم، فإنها لم تكتف بتعميق النفوذ البريطاني في العراق بل انحازت الى المعسكر الغربي بكامل ثقلها في سياق الاحلاف والمعاهدات. هذه التطورات سواء بأحداثها السياسية التي تفجرت في المظاهرات الطلابية والانتفاضات الشعبية او بِأوضاعها الاقتصادية- الاجتماعية التي هبطت بمعيشة اغلبية الناس وابقتها في مستوى الفقر وانتشار الصرائف حتى حول العاصمة، ساهمت في تعزيز ثقافة العنف، واحتضان الشعارات المثالية، وتشجيع افكار الحسم والانتصار، وابعدت عامة الناس باحزابها السياسية الوطنية عن تنمية ممارسات حضارية في تعاملاتها السياسية، وحصرت الوعي السياسي الممتد في محتواه الافقي عنيفا. وهكذا اخذ الوعي السياسي بالنمو وفق خطين متكاملين: اولهما معاداة الملكية والعملية الدستورية الليبرالية التي اقترنت بها.. وثانيهما تصاعد الصراع التناحري باتجاه استخدام القوة الغاشمة. ساعد على ذلك ايضا صلابة النظام الملكي وجموده وغياب الحياة الحزبية السوية وابتعاده بسرعة عن المرونة السياسية النسبية التي تمتعت بها في فترتها الاولى. فنشأت وتركزت قيم وتقاليد حزبية اثرت نوعيا في الوعي السياسي بعيدا عن القيم والتقاليد البرلمانية. واصبحت الطليعة الواعية التي تشكل عادة محور الاحزاب السياسية- العلنية والسرية- اكثر ميلا نحو التطرف في ظروف القهر السياسي كما عكستها شعاراتها مثل"الحزب العقائدي" و"العنف الثوري".(138) من هنا بقي الوعي السياسي في البلاد ضعيفا عندما اندلعت ثورة تموز 1958. وفي ظلّ الولاءات الحزبية والفئوية التي تصاعدت في اعقاب الثورة، وغياب بنية مؤسسية دستورية بديلة وملائمة للمرحلة الجديدة، وفي ظروف الهرولة وراء السلطة من قبل القادة الجدد، وبروز الاحزاب السرية السابقة احزابا قائدة ومتصارعة في الساحة السياسية، فهي جميعا كانت عوامل فاعلة في دفع العملية السياسية نحو التناحر الدموي بين اطرافها. وفي حين فشلت الملكية طوال حوالي اربعة عقود من حياتها في اضعاف وحدة القوى الوطنية واحزابها السياسية، بل وكانت ممارساتها ومناوراتها دافعا لتلاحم الاطراف الوطنية باشخاصها واحزابها العلنية والسرية، فإن الصراع على السلطة في اعقاب الثورة لم تتطلب سوى اياما معدودة او بضعة اشهر لتشتيت وحدة هذه القوى، بل وتمزيقها واغراقها في برك دماء متسعة ومتوالية. المفارقة في هذا الصراع انه كان صراعا نوعيا جديدا لم يألفه المجتمع العراقي سابقا. صراع بين القوى الوطنية ذاتها، بل بين تلك الفئات التي تحمل عادة مشعل الوطنية والقومية من الفئات الشعبية الدنيا ودون المتوسطة واحزابها السياسية. وهذا الصراع التناحري قاد الى الاضرار الجسيم بمسيرة الحركة الوطنية والوعي السياسي. وكانت واحدة من محصلاته البارزة وربما الاكثر خطورة هي تشتيت الشعور المجتمعي بوحدة الوطن، بل وتمزيق الولاء للدولة لصالح اولوية الولاءات الحزبية والفئوية المتعددة. وبالنتيجة عبّرت ثورة تموز عن ارهاصة اخرى من ارهاصات انتشار الوعي السياسي افقيا دون عمقها العمودي في ظروف تنامي قيم التراث القديم التي سادت العراق في القرون المظلمة من تبجيل للقوة والقتال والتحدي والانتصار وفي غياب احترام حقوق الطرف الآخر ووجوده. هذا بعد ان امتدت هذه القيم الاستبدادية من الساحة الاجتماعية لتسود ايضا الساحة السياسية العراقية. ان المرحلة التي اعقبت ثورة تموز بما افرزتها من احداث العنف والعنف المضاد في سياق سلسلة الانقلابات والمؤامرات والدسائس التي طبعتها كطريق وحيد لكسر جمود انتقال السلطة واحتكارها، ولتقود الى بروز انظمة حكم جديدة في اشخاصها ومتماثلة في محتواها وجوهرها المستند الى القوة الغاشمة.. هذه المرحلة شكلت تراجعا حضاريا شاملا وانحدارا عميقا لمحتوى الوعي السياسي ولتنتهي في فتراتها التالية الى الحروب والكوارث والخراب والمجاعة. من محصلات هذه المرحلة تصاعد الشعارات والدعوات المثالية القائمة على تبني المطلقات، والادعاء بامتلاك الحقيقة، والنظرة الاحادية لمظاهر الحياة الاجتماعية، واهمال فكرة النسبية، والطلاق بين النظرية والواقع، والحط من مبدأ الواقعية والخلط بينها وبين مبدأ المنفعية الذاتية والانتهازية، وتضخيم الشعارات المرفوعة المنطلقة من الافكار الافلاطونية المثالية في غياب توفر اسباب تنفيذها او غياب القدرة على تنفيذها ودون الالتفات الى طبيعة الانسان- المجتمع وكشف رغباته وقدراته ورسم الاهداف وفق متطلباته وامكانياته، والتربية الحزبية القائمة على تقديم المزيد من التضحيات والضحايا في ضوء النظرة المتدنية لقيمة الانسان ووجوده والاصرار على هدر الامكانيات البشرية والموارد المجتمعية والتغافل عن حسابات العوائد والتكاليف الاجتماعية حتى في ظروف الابتعاد عن الاهداف المعلنة التي بقيت مجرد شعارات معلقة. من المحصلات الاخرى لهذه المرحلة بالعلاقة مع تخلف الوعي السياسي في محتواه الحضاري، ولعلها الاكثر خطورة، هي ما احدثتها ثورة تموز من قطيعة تكاد تكون تامة مع البنية السابقة للدولة والمجتمع، وخصوصا مسألة الديمقراطية.(139) ظاهرة الطلاق هذه مع الفترة السابقة "العهد المباد" تكررت في سياق سلسلة الانقلابات التي اخترقت السلطة. وهكذا مع كل نظام حكم جديد حدث طلاق وقطيعة مع الفترة السابقة. وربما كانت هذه الممارسات واحدة من النقاط المحورية القاتلة في السياسة العراقية للمرحلة الشمولية. اذ انها مثلت تراجعا حضاريا مع كل انقلاب جديد. وجسدت عقلية متصلبة تقوم على النظرة الاحادية المثالية لوقائع الحياة الدنيوية النسبية، واعتبار الفترة السابقة شرا على اطلاقها. هذه القطيعة المتكررة شكلت مع كل مرحلة منها اهدراً فكريا واداريا وبشريا وماديا في مواجهة جهود التنمية المجتمعية. وذلك نتيجة ما رافقتها من تصفيات او عزل او تهجير الكفاءات والخبرات واحلال عناصر جديدة حتى وان كانت غير مدربة من منطلق الولاء قبل الكفاءة، والغاء الافكار والمشروعات والخطط السابقة وانتظار فترات زمنية مهدرة حتى تتضح معالم السياسة الجديدة ليكون بالامكان رسم خطط وافكار ومشروعات جديدة، وليتم الغاؤها ايضا مع كل دورة انقلابية آتية عاتية، ولتستمر الدوامة في ضوء استمرار الهدر البشري والمادي المجتمعي. واخيرا، برزت محصلة اخرى لهذه المرحلة الاستثنائية التي خضعت للدساتير المؤقتة على مدى تجاوزت اربعة عقود، تمثلت في عودة الناس الى نفس الظاهرة التي سادت بين عامة العراقيين في العهد العثماني الا وهي الابتعاد عن العمل السياسي الحزبي، بل والابتعاد عن العمل السياسي، طالما لم يلمسوا من السياسة سوى العنف والعنف المضاد، وبعد ان اصبحت الممارسات السياسية عامل انشطار وانقسام وتنمية الاحقاد والعداءات بين اخوة الوطن الواحد. اذن فالوعي السياسي وان بلغ اقصاه، لكنه ظلّ وعيا افقيا فارغا من محتواه الحضاري. ويقوم على المثالية العقائدية والتطرف والعنف والغاء الطرف الآخر. انه وعي مليء بكل قيم البداوة والتراث القديم المتخلف المستبد التي عاشها العراقيون طيلة القرون المظلمة. وهنا من الضروري التنبيه الى ان مشكلة تخلف الوعي السياسي في العراق لا تكمن في العملية السياسية ذاتها والتي تقوم في مفهومها ومحتواها على قيم الحضارة السلمية، بل تكمن في المفاهيم المقلوبة والخاطئة في هذا الوعي ومن ثم ممارساته السياسية المستبدة وفي ظروف استمرار البيئة الاجتماعية المتخلفة التي عجزت الحركة الوطنية عن اعادة بنائها باتجاه قيم حضارية جديدة. ومع ذلك علينا ان نتدارك ان تخلف الوعي السياسي في العراق لا يعني بأي حال عجز المجتمع عن تبني التحول الديمقراطي، بل ان هذه المهمة قد تكون العلاج الحضاري الافضل المتاح لتفكيك حلقات التخلف والاستبداد. ولكن قبل هذا كله علينا نحن العراقيين ان نصل الى تلك النقطة المركزية التي نستطيع عندها تحقيق اتفاق بالتراضي والاقتناع الشامل من اجل الغاء العنف السياسي بكافة اشكاله وممارساته. وفي غير ذلك قد نبدأ مرة ومرات وربما بنفس القوة والاندفاع والصرخات والشعارات السابقة، وقد نجعل من الدعوة الى الديمقراطية موضة جديدة لنعود الى المحصلة القديمة المتكررة بالوقوع في دوامة التراجع مع كل هزة انقلابية . ان "الاصلاحات الديمقراطية تتطلب اولا رفض العنف بكافة اشكاله وصوره.. لأن العنف يحمل بذور جريمتين مزدوجتين: اولاهما امتهان كرامة الانسان ليصل في صورته القصوى الى القتل.. والقتل... جريمة كبرى مهما كان شكله واسلوبه ومبرراته.. وثانيهما ان العنف هو اساس الاستبداد، بكل ما يحويه من ظلم وقهر.. لذلك فالعنف والديمقراطية لا يلتقيان.. فأما ان تكون ديمقراطيا تحترم آدمية مواطنك وتقبل بالحوار وترضخ لقرار الاغلبية وتستخدم الطريق السلمي للتعبير عن رأيك ونشره بين الناس على اساس الاقناع والقناعة.. واما ان تكون مستبدا بغض النظر عن موقعك، سواء كنت راعيا لبيتك ام لمدرستك ام لحقلك ام لمصنعك ام كنت قائدا سياسيا... اما القول بالاثنين معا فهو محض افتراء ومحض ازدواجية في الشخصية.. وهو تعبير مقيت عن وجهين متضادين".(140)
هوامش القسم الثاني (1) الدوري، عبدالعزيز، "حول التطور التاريخي للامة العربية"، ندوة القومية العربية في الفكر والممارسة، ص 225-227. (2) انظر: 1- ابراهيم، سعدالدين، اتجاهات الرأي العام تجاه مسألة الوحدة، ص330-331. 2- الدجاني، احمد صدقي، "ملاحظات حول نشوء الفكر القومي العربي وتطوره"، ندوة القومية العربية في الفكروالممارسة ، مرجع سابق، ص 309-310. (3) خلف الله، محمد احمد، مرجع سابق، ص 17-29. (4) ندوة القومية العربية والاسلام، مرجع سابق، ص 50-60، ولاحظ بصفة خاصة مداخلة كل من جوزبف مغيزل، ص 56 ومنير شفيق ص 58. (5) يسين، السيد، تحليل مضمون الفكر القومي العربي، دراسة استطلاعية، ص 22-23.. وايضا، نفسه، تقرير ملخص، ندوة القومية العربية في الفكر والممارسة، ص 91. (6) وردت هذه المحاولة عند: Wirth, Lewis,"Types of Nationalism",Amdrican Journal of Sociology,vol.xli,1963,P.723-727. مقتبسة عن: سعدالدين، مرجع سابق،ص 20-21. (7) يسين،السيد،دراسة استطلاعية، مرجع سابق، ص 35-36..، انطونيوس، جورج، مرجع سابق، ص 149. (8) يسين، السيد، دراسة استطلاعية، مرجع سابق، ص 71-72. (9) نفسه، ص 35-42، 71-76، 109-117، 157-163. (10) تم جمع وترتيب ارقام الجدول من قبل الباحث اعتمادا على: المصدر نفسه، ص 46-48، 81-84، 122-126، 167-172. (11) يختلف هذا الرقم عن مثيله في مصدره وهو 829 وهذا الرقم نفسه لا يتطابق مع مجموع التكرارات الفرعية في مصدره. كما ان اعادة حساب التكرارات الفرعية تبين اختلافات اخرى خاصة في فئة (2- مبررات الفكرة القومية) وفئة (11- العقبات والتحفظات).. (12) نفسه، تقرير ملخص، ص 100-110. (13) الهرماسي، محمد عبدالباقي، "القومية والديمقراطية في الوطن العربي"، ندوة ازمة الديمقراطية، ص 169-170. (14) نفسه، ص 170. (15) ابو ديب، كمال، (تعقيب)، ندوة ازمة الديمقراطية، ص 145-153. (16) الهرماسي، محمد عبدالباقي، مرجع سابق، ص 172. (17) امين، سمير، مرجع سابق، ص 312-313. (18) الجمل، يحيى، "انظمة الحكم في الوطن العربي"، ندوة ازمة الديمقراطية، ص 360-364. (19) انظر هذه الاقطار- صفحات متعددة- في: The Europa Yearbook, Vol.1,2, 1997. (20) الرميحي، محمد، "تجربة المشاركة السياسية في الكويت1962-1981"، ندوة ازمة الديمقراطية، ص 643-661.. كذلك انظر في نفس المصدر مداخلات كل من: عبالله النيباري، جاسم القطاعي، يحيى الجمل، عبدالله النفيسي، ص 665-667.. (21) الجمل، يحيى، مرجع سابق، ص 362-363. (22) الهامش 19، صفحات مختلفة. (23) الجمل، يحيى، ص 363-364. (24) قارن:نفسه، ص 364-0370. (25) انظر، المقدمة- التقسيمات المعاصرة للسلطات الحكومية. (26) رشيد، عبدالوهاب حميد، العجز الغذائي ومهمة التنمية العربية، ص 173-186،وايضا، مستقبل العراق، مرجع سابق، ص 107- 123. (27) قارن: ابراهيم، سعدالين، "مصادر الشرعية في انظمة الحكم العربية"، ندوة ازمة الديمقراطية، مرجع سابق، ص 404. (28 نفسه، ص 413. (29) غليون، برهان (تعقيب)، ندوة ازمة الديمقراطية، ص 437. (30) الجمل، يحيى (تعقيب)، ص 450. (31) انظر، المقدمة- تصنيف الانظمة الحكومية. (32) ابراهيم، سعدالدين، مرجع سابق، ص 420. (33) نفسه، ص 420-421. (34) رشيد، عبدالوهاب حميد، التجارة الخارجية وتفاقم التبعية العربية، ص 132-141. (35) ابراهيم، سعدالين، ص 431. (36) ــــــــ ، النظام الاجتماعي العربي الجديد، ص 265-269. (37) البيطار، نديم، من التجزئة... الى الوحدة، 1979، ص 9. (38) شفيق، منير،"نظرات مستقبلية في تطور الاتجاهات الوحدوية في الوطن العربي"، ندوة القومية العربية في الفكر والممارسة ، ص 506. (39) مستقبل الامة العربية، مجموعة باحثين (فريق عمل) 1988، ص 446. (39) الدجاني، احمد صدقي، ص 312-313. (41) بركات، حليم، "مستقبل الاندماج الاجتماعي والسياسي في المجتمع العربي"، ندوة القومية العربية في الفكر والممارسة، ص 543-566. (42) للتوسع في موضوع العلمانية، انظر، العظمة، عزيز، العلمانية من منظور مختلف.. (43) مغيزل، جوزيف، "الاسلام والمسيحية العربية والقومية العربية والعلمانية"، ندوة القومية العربية والاسلام، ص 383- 384. (44) كنعان، طاهر (تعقيب)، ندوة ازمة الديمقراطية، ص 837. (45) عبدالله، اسماعيل صبري (تعقيب)، ندوة القومية العربية في الفكر والممارسة، ص 579-582. (46) بركات حليم(تعقيب)، ص 584-585. (47) نفسه، ص 560. (48) نفسه، ص 563. (49) نفسه، ص 564. (50) نفسه، ص 566. (51) ابراهيم، سعدالدين، مقدمة، ندوة ازمة الديمقراطية، ص 28. (52) مستقبل الامة العربية، مرجع سابق، ص 46،552. (53) الرميحي، محمد(تعقيب)، ندوة القومية العربية في الفكر والممارسة، ص 567. (54) السعداوي، نوال (تعقيب)، ندوة القومية العربية في الفكر والممارسة، ص 574. (55) يسين، السيد(تعقيب)، ندوة القومية العربية في الفكر والممارسة، ص 572 (56) البيطار، صلاح الدين(تعقيب)، ندوة القومية العربية في الفكر والممارسة، ص 583 (57) برادة، محمد (تعقيب)، ندوة ازمة الديمقراطية، ص 853. (58) ابوعيسى، فاروق(تعقيب)، ندوة ازمة الديمقراطية، ص 844-845. (59) المجتمع المدني كما يعرفه سعدالدين ابراهيم هو "مجموعة المنظمات التطوعية الحرة، التي تملأ المجال العام بين الاسرة والدولة لتحقيق مصالح ازدهارها، ملتزمة في ذلك بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والادارة السلمية للتنوع والخلاف".. والمجتمع المدني كما يراه فالح عبدالجبار"هو كل تجمع بشري خرج من حالة الطبيعة (الفطرية) الى الحالة المدنية التي تتمثل بوجود هيئة سياسية قائمة على اتفاق تعاقدي. وبهذا المعنى فأن المجتمع المدني هو المجتمع المنظم سياسيا، او ان مفهوم المجتمع المدني يعبر عن كل واحد لا تمايز فيه، كل يضم المجتمع والدولة معا". * انظر: عبالجبار، فالح، مرجع سابق، ص 5،43. (60) برادة، محمد (تعقيب)، مرجع سابق، ص 853. (61) سيف الدولة، عصمت(تعقيب)، ندوة ازمة الديمقراطية، مرجع سابق، ص 842-844. (62) الجمل، يحيى (تعقيب)، ندوة ازمة الديمقراطية، ص 867. (63) نفسه،ص 767-768..، غليون، برهان، ص 878. (64) نظمي، وميض (تعقيب)، ندوة ازمة الديمقراطية، ص 879. (65) برادة، محمد (تعقيب)، ص 855. (66) انظر التعقيبات التالية في المرجع نفسه: ابوعيسى، فاروق، ص 846-847..، حنا، ميلاد،ص 881..، نظمي، وميض،ص 879. (67) حنا، ميلاد، ص 880-881 68) خدوري، وليد، "القومية العربية والديمقراطية"، المستقبل العربي، العدد 228، ص 43. (69) الربعي، احمد، "اتنمية العربية... وازدواج الشخصية"، الشرق الاوسط: 12/7/1997.. مقتبسة عن: خدوري، ص 47-48. (70) مطر، سليم، ص 69. (71)نفسه، ص 378. (72) الاهرام: 13/1/1968.. مقتبسة عن: الوردي، علي، ج1، ص 318. (73) الوردي، علي،ج2، ص 8. (74) رشيد، عيدالوهاب حميد، مستقبل العراق، ص 23. (75) الوردي، علي، ج4، ص 402. (76) التميمي، خالد، ص 13..، الوردي، علي،ج4، ص 401-402..، (77) بطاطو، حنا،ج1، ص 40. (78) الوردي علي،ج1، ص 9..،ج2، ص 6. (79) قارن: الوردي، علي، في الطبيعة البشرية، ص 151-152. (80) التميمي، خالد، ص 15..، الوردي، علي، في الطبيعة البشرية، ص 151-152. (81) التميمي، خالد،ص 25-26..، الوردي، علي، ص 262-2263 (82) بطاطو، حنا، ج1، ص 36. (83) الوردي، علي، ج2،ص 3-4..،ج4،ص 402. (84) نفسه،ج1، ص 232-256. (85) بطي، روفائيل، الصحافة في العراق، القاهرة 1955.. مقتبسة عن: الوردي، علي، ج3، ص 163. (86) الوردي، علي، ج1، ص 278. (87) التميمي، خالد، ص 18-19..، الوردي، ج2، ص 239. (88) العراق في التاريخ، ص 642-643. (89) الوردي، ج2، ص 240. (90) العراق في التاريخ، ص 643. (91)التميمي، خالد، ص 14. (92) نفسه، ص 16-17. (93) العراق في التاريخ، ص 645. (94)الوردي، علي، مرجع سابق،ج3، ص 110-111،179-181. (95) نفسه،ج1، ص 288..،ج4، ص 402. (96) بطاطو،حنا، مرجع سابق،ج1، ص 32-40. (97) نفسه،ج1، ص 50. (98) تعتمد خلفية الموضوع على كتابات الوردي المشار اليها سلقا.. مع محاولة الباحث هنا مد التحليل الاجتماعي الى المجال السياسي.. (99) الوردي، ج2، ص 328-329. (100) رشيد،عبد الوهاب حميد،مستقبل العراق، ص 83. (101) الوردي، في الطبيعة البشرية، ص 48. (102) قارن: الوردي ج5،ق1، ص 327. (103) مطر،44،50،52. (104) الوردي، ج1،ص 304..، في الطبيعة البشرية، ص 125. (105) خدوري، ص 62..، الوردي، ص 9. (106) الوردي،ج1، ص 28-29..،ج6، ص 301. (107) التميمي، ص 27-28. (108) الوردي، ج6، ص 301-302. (109) التميمي،ص 29. (110) قارن: الوردي،ج3،ص 128-129..، التميمي، ص 29-30. (111) الوردي،ج3،ص 103..، الملاح، عبدالغني، ص 7-8. (112) الوردي، علي،ج3، ص 115..، ج6، ص 302-303. (113) نفسه،ج3، ص 161. (114) نفسه،ج3، ص 162. (115) التميمي، ص 35. (116) بطي، روفائيل، ص 10. (117) الوردي، علي،ج3، ص 168،203-205..، الهامش102، ق1. (118) نفسه،ج3، ص 207-208. (119) التميمي، ص 54. (120) الوردي، ج6، ص 308. (121) بطاطو، ج1، ص 32..، التميمي، ص 82. (122) بطاطو، 1، ص 41-42. (123) قارن: الوردي، ج6،ص 306-307. (124) بطاطو، ص 41. (125) الوردي، ج5، ق1، ص 88. (126) نفسه،ج6، ص 301. (127) التميمي، ص 55. (128) الوردي، ج5، ق1، ص 92. (129) ق1،ف1..، الهامش 13،14، نفس القسم. (130) الوردي، ج5، ق1،ص 95-96. (131) نفسه،ج5، ق1، ص 103-104. (132) نفسه،ج5، ق1، ص173. (133) التميمي، ص 104. (134) قارن: بطاطو، ج1، ص 41-42. (135) التميمي، ص 9-11. (136) نفسه، ص 228. (137) بطاطو، ج1، ص 32..، الوردي، ج2، ص 4..،ج4، ص 401. (138) رشيد، ص 141-143. (139) مطر، ص 358-359. (140) رشيد، ص 142.
#عبدالوهاب_حميد_رشيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق2/ ف1
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق1/ف2
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية- ق1/ف1
-
العراق المعاصر: أنظمة الحكم والأحزاب السياسية
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- الخاتمة
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الثاني/ا
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ال
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ال
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ال
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ال
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد- القسم الأول/ ف
...
-
البيانات تكشف أن الفلسطينيين يملكون حالياً 8% فقط من أرض فلس
...
-
الأحوال الاجتماعية للجالية العربية في السويد
-
مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-ف7
-
مستقبل العراق- الفرص الضائعة والخيارات المتاحة-ف6
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|