|
الانتهازية في اليسار السوري
ناسان إسبر
الحوار المتمدن-العدد: 4130 - 2013 / 6 / 21 - 15:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ما زالت أقطاب اليسار تحت تأثير التنويم المغناطيسي لفتات السلطة، يعتقدون أن الامبريالية الروسية هي الاتحاد السوفييتي، أو يتعامون عن ذلك.. والامبرياليات الإيرانية والصينية والأمريكية والأوروبية على الأبواب.. الكل فهمها.. إلا اليسار، فقد بقي أسير الشعارات النضالية البائدة.
وانبطاح اليسار تحت أحذية جيش النظام ضد انتفاضة شعبنا دقت المسمار الأخير في نعش الانتهازية اليسارية، مثلما دق الفتك بالشعب السوري المسامير في نعوش النظام وحزب الله وهيمنة الامبريالية الإيرانية..
هذا لأن الانتهازية تدر الكثير من المال، فقد أتخمت أحزاب اليسار المنضوية تحت ما يدعى الجبهة الوطنية التقدمية بالرشاوي والتسهيلات والتوظيفات والتوزيرات الفارغة والليالي الحمراء، حتى دفنت النظريات الاشتراكية وصارت بياناتها أتفه من بيانات الإدارة السياسية التابعة لأجهزة الأمن..
لقد تحول الحزب الشيوعي الموحد ، والحزب الشيوعي المفتت وفتات اليسار السوري عموما إلى الانتهازية، تبدت هذه الطبيعة في الصراع الحزبي المتواصل داخل هذه الأحزاب، وخلافاتها الفارغة، وانقساماتها كنتيجة طبيعية للتنافس على المكتسبات الهزيلة والفردية التي توفرها السلطة لكل انتهازي وتحريفي ومتسلق وجواب آفاق .. يرمي اليسار بجربه الفكري ضد عناصره ويبدأ ممارسة عمليات الإقصاء نفسها التي تمارسها أجهزة الأمن بحيث فرغت أحزاب اليسار عموماً من المناضلين الشرفاء الذين أعيتهم الحرب الحزبية غير المعلنة، والحرب الأمنية المعلنة ضد كل صاحب ضمير في هذا الوطن.
تحول اليسار السوري إلى بوق من أبواق النظام يردد تخرصاته ضد الثورة.، ويتفنن في صياغة البلاغات الجوفاء حول ذريعة المؤامرة الامبريالية الصهيونية التي يتم تنفيذها بأدوات داخلية على عادة الطغاة وأذنابهم المنتفعين، واقتصرت بياناتهم على هراء العصابات المسلحة بداية، والتكفيريين تالياً، مكررين كالببغاوات أكاذيب إعلام النظام بصيغة اليسار الانتهازي (الصيغة التي تصف الحالة ولا تقدم تحليلاً طبقياً لعناصرها، وتروج لأكاذيب إعلام السلطة على انها حقائق)، مستثمرين مع النظام (للسقوط الفكري الذي تعج به بياناتهم) بعبع المؤامرة الخارجية (ذريعة أعداء الشعوب الابدية) وبعبع السلفية التي أسعدهم اختلاقها من قبل النظام، كي تبرر وتغطي على ما تقوم به الأجهزة الفاشية من أعمال قتل وإبادة، وتعفيهم من تبعات التناقض المبدئي بين النظرية والممارسة الذي يرزحون تحته بدافع التكالب على رشاوى السلطة.. وهم يدركون جيدأً أنهم قد انزلقوا إلى ترسيخ هيمنة الشريحتين الطفيلية (في مقدمتها سماسرة الاقتصاد غير المنتج)والبيروقراطية (أجهزة الأمن والموظفين أولاً).. هاتان الشريحتان اللتان يشتمونهما علناً، ويتذللون لها خفية، محققين إيرادات وخيانات عالية.
إن النظام لم يعد ينظر إلى اليسار إلا نظرته إلى الكلب الذي يطعمه كي يخدمه لحظة الضرورة، تماماً كما ينظر إلى جيشه وشبيحته ومرتزقته الآتون من الخارج.. وقد وفى اليسار إلى هذا الكرم الطائي وفاءً منقطع النظير..
وتبدى نفاق اليسار الانتهازي المهيمن على الساحة في صمته المطبق حيال المظاهرات السلمية، لأنه هو نفسه كان سابقاً يحذر من النقمة الشعبية، هذه التحذير الذي ورثه عن شيوعيي البدايات وحوله إلى لافتة نضالية يستر بها انزلاقه نحو ممالأة السلطة الفاشية..
وما إن بدأت الانشقاقات داخل الجيش وظهرت أولى الجماعات التي حملت على عاتقها الدفاع عن المظاهرات، ومن ثم الدفاع عن الشعب حين تحول النظام إلى عمليات الإبادة الجماعية.. حتى أفلتت حلاقيم اليسار من صمتها وجعجت بالمؤامرة، فقد أنقذتها الانتفاضة المسلحة من عبء تبرير صمتها المريب، ومن ثم انحيازها إلى السلطة ضد شعبها الذي ادعت أنها ممثلته طوال عقود..
لقد ابتلع اليسار بكل غباء، وكل تآمر، أكذوبة المقاومة والممانعة ضد المؤامرة، بعد أن ابتعد عن النظرية الاشتراكية، وأحل محلها نظرية المؤامرة القومية الفاشية، لأنها خدمت طغيان العناصر الانتهازية على قوى اليسار، بدعم منقطع النظير من النظام، وهم يرون بأعينهم كيف استغل هذا النظام أحداث الأخوان المسلمين سابقاً ليغرق البلد بالإرهاب الأمني، بعد ان أدى الصراع والتصفيات على السلطة بين أجنحة البعث الستيني إلى فوز أشد عناصره رجعية ويمينية: المقبور حافظ ، بانقلاب عسكري أطاح بآخر من ساندوه بالاستيلاء على السلطة.
يرون بأعينهم كيف انتشر الإرهاب الأمني، وكيف تمت تصفية النقابات وحولت إلى جمعيات خيرية وسياحية، وكيف صفيت القوى الوطنية وأطيح بكل الوطنيين الشرفاء، بما فيها حزب السلطة الذي تحول إلى مدجنة شعبية لتجميع أنصار النظام، وليتبقى معه انتهازيو اليسار وأحزابهم الهزيلة والمفتتة ويندمجوا بالسلطة في بقالة الجبهة الوطنية التقدمية التي أخذت على عاتقها الثرثرة حول تأمين السكر والرز والزيت للجماهير.. متناسية مهمتها الأساسية: استكمال إنجاز مهام الثورة الوطنية الديموقراطية.. المهمة التاريخية المنوطة باليسار حسب الأدبيات الاشتراكية.
لقد أسقطت الانتفاضة السورية المجيدة كل الأقنعة، كشفت تذبذب المثقفين، وانتهازية اليساريين، وفاشية القوميين، ورجعية الأصوليين..
كشفت أكاذيب النظام و حزب الله وأطماع امبريالية إيران التوسعية، المغلفة بحلوى المقاومة والممانعة، من جهة، والطائفية من جهة أخرى،
وكشفت النفاق الدولي حول حقوق الإنسان في الصمت العالمي على ما يحدث في سورية، كشفت تخاذل دول العالم من أجل مصالحها، والمضامين الحقيقة للعلاقات الدولية، التي وضح بفضل الانتفاضة السورية أنها أبعد ما يكون عن مصالح الشعوب، وأنها لا تتضمن غير الصراع المكشوف أو المستتر على المصالح الرأسمالية، غض النظر عن الحروب والدمار والصراعات المختلفة على تقاسم الاسواق، ما لم تؤثر على مصالحها، أو لم تكن هي في مصلحتها.
لقد خدمت المأساة السورية كل الأطراف الفاعلة علناً، والمتخفية، عدا الشعب السوري الذي دفع الثمن غالياً..
خدمت النظام حينما تقاعس العالم عن دعم الانتفاضة في مد عمره المتهالك،
وخدمت الامبريالة الإيرانية في الحفاظ على هيمنها على المنطقة، بخيانة حزب اللات لكل شعاراته، رغم أن سلوكه كان خيانياً بالأصل من تحجيمه المقاومة في عناصره، وحمايته الحدود المحتلة منذ الهزيمة الإلهية عام 1906، وقيامه بتصفية رموز المقاومة الوطنية بدءً باغتيال مهدي عامل وحسين مروة، ودعمه الاحتلال السوري للبنان.. الخ.
وخدمت مأساة الشعب السوري الامبريالية الروسية بفتح سوق جديدة للسلاح تتوسع كلما توسعت رقعة الحرب، وكلما توافدت الجماعات المختلفة للمساهمة في توسيع الأزمة واستهلاكها لمنتجات الموت الروسية..
وخدمت الامبرياليات الغربية والشرقية بتأكيدها مناطق النفوذ والهيمنة، وأساليب تقاسمها وفق توازنات العولمة.. وهو ما يفسر المواقف المائعة لكل دول العالم من الانتفاضة السورية، والمواقف الحازمة لها نفسها من ليبيا ومالي، التي تتبع مصالح الدول اللصوصية الكبرى، وتتجاهل مآسي الشعوب التي تتسبب هي نفسها بالمحصلة النهائية فيها.
وخدمت المأساة الشعب السوري الكيان الصهيوني أعظم خدمة في تاريخ صراعه مع الشعوب العربية، بتحييد الدولة المقاومة الأولى، والقضاء على بنيتها التحيتة، بفضل خيانة السلطة لشعبها، وتحويلها نهائياً، بعد أن كان جزئياً، السلاح نحو الشعب بدل العدو.. وكشفت تحول هذا النظام إلى أداة بيد الصهيونية والامبرياليات الروسية والصينية والإيرانية والأمريكية والأوروبية لسحق شعب المقاومة التاريخي والممانعة الحقيقي، والقضاء على البنية الأساسية للمجتمع السوري على يده، مما قدم أكبر خدمة خيانية تاريخية في العصر الحديث لتلك الامبرياليات.
كشفت نفاق وكذب الدول التي تدعي صداقة سورية، والتي تدعي أنها لن تسمح بـ (حماه) ثانية، والتي تدعي أنها لن تسمح باستخدام السلاح الكيماوي، وقصدية منع السلاح عن الشعب السوري كي لا يدافع عن نفسه ضد الإبادة، والتواطؤ مع النظام وإعطائه الفرصة تلو الأخرى للقضاء على الانتفاضة...
كشفت الرعب والخوف في قلوب الحكام العرب وغيرهم من امتداد الانتفاضة السورية إلى عقور دورهم، واستعدادهم للمد بعمر النظام إلى الدرجة التي يضمنون فيها أنه لن تقوم قائمة مرة أخرى لشعب مقاوم الاحتلال والظلم.
كشفت تقصد حكام العالم ترك الانتفاضة السورية لمصير أسود، كي يُسوَّد وجه الربيع العربي، ويُبث الرعب في قلوب الشعوب العربية وغير العربية كيلا تنتفض هي الأخرى..
ومع كل هذا الوضوح في الرؤى، وفي صراعات القوى القائمة على الساحة، ما زال اليسار يغط في آخر سكراته، منتعلاً عقيدة وإعلام السلطة في دماغه، ليمد عمر سكرته التي تدر ذهباً، وتكالب عناصره على استغلال الانتفاضة للفوز بمكتسبات مخزية، كتوسل السلطة الاستيزار، والانقسامات الحزبية نتيجة الخلافات اللصوصية على اقتسام غنائم انحدار اليسار نحو فضلات السلطة بفضل حلفه المعلن مع البيروقراطيين والطفيليين.
لقد زعم اليسار أنه يساهم في حملة تنظيف الجسد السوري من أمراض السلطة، ولكنه بدلاً من أن يستأصل المرض، استأصل الوليد ورماه مع ماء السلطة الوسخ، كي يجمل جسدها الأشمط، كما كان دأبه منذ أن قام المقبور حافظ أسد بتدجين القوى الوطنية، والقضاء على بقيتها.
لقد أخرجت خيانة اليسار جناحاً كبيراً من القوى الوطنية خارج الفعل التاريخي، وبذلت جهدها لوضعه في خدمة النظام، والهدف الفعلي هو استمرار استغلالها لدورها التاريخي في تقاسم نهب الشعب مع السلطة، بدلاً من أن تقوم بمهماتها التارخية المنوطة بها: استكمال تحويل المجتمع إلى رأسمالية ناضجة، كي يمكن العمل على تأسيس للاشتراكية.. ولكن ما حصل هو العكس، فقد التحم اليسار الانتهازي بالفاشية العسكرية للسلطة، وبقي يمارس دوره الذيلي لصالحها، ويشوه كعادته كافة مساعي القوى الوطنية إلى تحقيق التقدم الاجتماعي (استكمال ثورة انتقال المجتمع من الاقطاعية إلى الرأسمالية الناضجة)..
ولسخرية وتفاهة اليسار فقد قام بالدور المعاكس، قام بدعم السلطة وهي تدمر المجتمع السوري وتعيده إلى عصر الإقطاعية بتدميرها لكل مقومات المجتمع الحديث، البشر، المصالح، المساكن، الأراضي.. بتدميرها البنية التحيتة للمجتمع، تلك البنية التي يجب أن يتأسس عليها المجتمع الرأسمالي الديموقراطي، كمقدمة لتحقيق الانتقال الطبيعي نحو الاشتراكية، وبذلك يكشف اليسار الانتهازي وجهه القبيح على الملأ، بفضل انتفاضة الشعب السوري العظيمة التي أكرهت كل الأقنعة على السقوط.
#ناسان_إسبر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
كيف يمكن إقناع بوتين بقضية أوكرانيا؟.. قائد الناتو الأسبق يب
...
-
شاهد ما رصدته طائرة عندما حلقت فوق بركان أيسلندا لحظة ثورانه
...
-
الأردن: إطلاق نار على دورية أمنية في منطقة الرابية والأمن يع
...
-
حولته لحفرة عملاقة.. شاهد ما حدث لمبنى في وسط بيروت قصفته مق
...
-
بعد 23 عاما.. الولايات المتحدة تعيد زمردة -ملعونة- إلى البرا
...
-
وسط احتجاجات عنيفة في مسقط رأسه.. رقص جاستين ترودو خلال حفل
...
-
الأمن الأردني: تصفية مسلح أطلق النار على رجال الأمن بمنطقة ا
...
-
وصول طائرة شحن روسية إلى ميانمار تحمل 33 طنا من المساعدات
-
مقتل مسلح وإصابة ثلاثة رجال أمن بعد إطلاق نار على دورية أمني
...
-
تأثير الشخير على سلوك المراهقين
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|