أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - زينة أبو عناب - التمويل الأجنبي | نظرة من الداخل















المزيد.....


التمويل الأجنبي | نظرة من الداخل


زينة أبو عناب

الحوار المتمدن-العدد: 4126 - 2013 / 6 / 17 - 12:57
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


يكثر الحديث بين الأوساط المناهضة للتدخل الامبريالي الاستعماري في الوطن العربي خاصة وما يتعارف على تسميته بالدول النامية عامة، عن دور المنظمات المانحة والتمويل الأجنبي السلبي في تنمية هذه المجتمعات. فهل لهذا الصوت "المشيطن" لما يعرف بقطاع الNGOs من صحة؟

بداية، لا بد من التعريف بكاتبة السطور وخلفيتها العملية قبل الخوض في هذا الحديث. إذ تخرجتْ من إحدى الجامعات الأمريكية، وحال عودتها إلى الأردن اتخذتْ قرارا واعيا بالعمل في إحدى المؤسسات غير الحكومية “الوطنية”، رغم توفر فرص في المنظمات الأجنبية سواء التابعة للأمم المتحدة أو غيرها.

انطلاقا من فكرة تقول، إن دفع الدفة باتجاه يحقق التنمية الحقيقية في المجتمع أمر ممكن في ضوء وجود شيء من التيقظ والوعي.

لكن وبعد التجربة العملية ظهر أن التنمية الحقيقية تتعارض مع توجهات هذه المنظمات الأجنبية (المانحة)، بل ضد وظيفتها الوجودية. فمن السذاجة الاعتقاد أن متلقي هذه المنح، في حال كان وطنيا مسؤولا، قادر على مناهضة “أجندة” تلك المنظمات ودورها الوظيفي من الداخل. الآن، وبعد الممارسة الفعلية لمدة تقارب الثماني سنوات في إحدى أبرز “مؤسسات المجتمع المدني” الوطنية، يتبلور اليقين “الإيمان بإحداث التنمية وتحقيق المصلحة الوطنية من خلال هذه المنظمات وَهَم”.

نبدأ بحقيقة بسيطة يدركها الجميع ربما دون التمحيص فيها، لكن لا بد من الإشارة إليها. إن أغلب الصناديق والمنظمات المانحة الدولية التي تعمل في الأردن تَتَبع أو تموّل من قبل حكومة إحدى الدول العظمى. هذا بالإضافة طبعا إلى الصناديق والمشاريع التي تحمل اسم الجهة التي تمثلها بشكل مباشر، مثل الـUSAID وصندوق الـ EU. هذه البلدان التي تضخ الأموال عبر قنوات مختلفة بهدف “تنمية” البلدان “المتخلفة”، هي نفسها البلدان التي غزت واستعمرت أو دعمت دولا أخرى لاستعمار تلك البلدان “النامية” وإنزال الكوارث الإنسانية عليها، ومن ثم تدّعي أنها معنية بتنمية هذه البلدان.

إذاً؛ فإن هذه القوى العظمى، تهدف على الأقل، وبافتراض أحسن النوايا، إلى “غسل جرائمها” وتحسين صورتها أمام العالم، ولا سيما أمام المجتمع الذي تدخل إليه “بهدف تنميته”. أما إذا فكرنا بشكل أكثر نقداً، فلعل هذه الصناديق والمنظمات تؤدي دوراً داعماً بل وأساسي في تلبية طموحات الدول المتسعمِرة التي أسستها، وتهيئة بيئة ملائمة لها لتنفيذ خططها في هذه المجتمعات. ولا تُستثنى هنا منظمات الأمم المتحدة على اختلافها، والتي أثبتت فعلياً انحيازها إلى قوى الإستعمار، بل وتحكم القوى العظمى فيها بشكل مطلق.

تكثر الأوراق والمقالات بل وحتى الدراسات والكتب التي تتحدث عن الدور الهدّام لهذه المنظمات في المجتمعات التي تهيمن عليها، في حين يهدف هذا المقال إلى سرد بعض التأملات المستندة لخبرة عملية ومعاشة في قطاع التنمية الاجتماعية في الأردن عموماً، وقطاع الأسرة والطفولة خصوصاً.

أولا: العائد الفعلي للتمويل

من الأسئلة التي يُتجنب الخوض فيها عندما يتعلق الأمر بعائدات التمويل، أو بصيغة أخرى الأثر الحقيقي الذي يحدثه، هو سؤال: هل كان لهذا التمويل أن يحقق فائدة أكبر للمجتمع الذي “سُمّي على اسمه” إذا ما تم استثماره في منحى آخر؟ هل المبلغ المرصود لأي مشروع، مبرر أمام النتائج التي حققها المشروع (على فرض أن المشروع كان له أثر إيجابي أساساً)؟ سؤال أرّق ضمير كاتبة السطور أثناء عملها في قطاع التنمية ولم تلق إجابة له من إدارة المؤسسة التي عملت بها، أو من المنظمات العديدة التي كانت تقدِّم المنح لمشاريعها.

إذا ما نظرنا إلى ميزانيات المشاريع في قطاع التنمية الاجتماعية، نجد أن نسبة كبيرة منها تعود للبلد الذي قدّم التمويل، إما على شكل “استشارات” و”خبراء”، أو على شكل موظفين أجانب مرصودين على المشروع. هنا، يجب ألا يفوت العاملين في قطاع التنمية الاجتماعية إدراك أن الميزانية التي يقدمونها لمشاريعهم لا تشكل ميزانية المشروع الكلية والتي يتم تمويلها من المصدر الرئيس، وعليه فقد لا يكونوا على دراية تامة بهذه التكاليف التي يتم رصدها للمشروع دون علمهم. إنما تظهر عمليا على الأرض على شكل موظفي المنظمة المانحة المراقبين للمشروع (سواء مالياً أو فنياً أو إدارياً)، والخبراء الذين يتم الاستعانة بهم من قبل المنظمة المانحة نفسها على مدى المشروع. فعلى سبيل المثال إحدى المنظمات الأمريكية التي افتتحت مركزاً لها في الأردن، والذي ينفذ برامج على حساب تمويل مخصص للأردن من إحدى منظمات الأمم المتحدة، تخصص نسبة تفوق ال 40% من ميزانية المشروع لسفر وإقامة وخدمات “خبراء” المنظمة الأمريكية!

ثانياً: توجيه دفة التنمية

لا يفوتني هنا أن أستحضر قول الدكتور إبراهيم علّوش في كل مناسبة يتحدث أو يكتب فيها عن التمويل الأجنبي: “الشيطان يكمن دوماً في التفاصيل، إنما في حالة التمويل الأجنبي فهو يكمن في الصورة الكبيرة قبل التفاصيل”. سواء اعترفنا أم لم نعترف، كمؤسسات وطنية متلقية للتمويل وكأفراد عاملين في قطاع التنمية، فإن المنظمات المانحة تضع أولوياتها للتمويل على شكل “دعوات لتقديم مقترحات”، وعليه فإن الحصول على أي تمويل مشروط بظهوره ضمن أولويات تلك المنظمات ومدى قدرة المؤسسة على إقناع الممول بأن المشروع الذي تحاول تنفيذه يدخل ضمن تلك الأولويات. إذاً؛ فإن “شروط اللعبة” تحددها من الأساس أجندات هذه المنظمات المانحة ومن يقف خلفها، وليس ثمة تمويل “غير مشروط”. فأي تمويل مشروط بأولويات المانحين على أقل تقدير، ومن ثم ننتقل للشروط الأخرى التي يتم تحديدها لكل منحة.

المؤسسات الوطنية المتلقية للمنح في الأردن نوعان، الأولى: تحاول “تطويع” استراتيجياتها وبرامجها لملاءمة أجندات المانحين وبالتالي “استغلال” التمويل المقدم لها لتحقيق جزء من أهدافها (وبالطبع الأهداف التي لا تموّل تسقط أو تقلّص على أفضل تقدير)، والثانية تبني برامجها وأنشطتها بشكل كلي بناء على أولويات المانحين لتضمن قدرتها على العمل، ولو مرحلياً. النتيجة النهائية هي أن شكل “التنمية” يأخذ الشكل الذي رسمته الجهات المانحة، لا المؤسسات والاستراتيجيات الوطنية (إن وُجدت).

ثالثاً: بناء القدرات الوطنية

نرجح ولا نجزم، بأن البند الذي يحظى بأكبر نصيب من موازنات مشاريع التنمية الاجتماعية مجتمعة هو بند التدريب و”ورشات العمل”. الغاية من ذلك، وفق المنظمات المانحة، هو الاستثمار في بناء القدرات والكفاءات المحلية وضمان الاستدامة. عبارات جميلة جدا توحي بغايات نبيلة. إلا أننا إذا نظرنا للتدريبات التي قدمت للعاملين في مجال الأسرة والطفولة، نجد أنها كثيرة ومبعثرة وتخلو من أي رؤية حقيقية. كثيرة لدرجة أنها تصبح عبئا على الموظفين والموظفات وأوقاتهم وأدائهم لعملهم. مبعثرة لدرجة أنها لا يمكن أن تراكم أي تقدّم حقيقي في الأداء. معدومة الرؤية بمعنى أنها تجرّد الموظف/ة من السياق الذي يعمل أو تعمل فيه، فلا تأخذ بعين الاعتبار محددات السياق والعمل التي قد تحول دون تطبيق ما تعلّم.

كل هذا بالطبع دون الخوض في محتوى هذه التدريبات، والتي تأتي بالغالب “مغلفة ومبكتة” كما يراد لها أن تكون، تتبع، مرة أخرى، لأولويات المانحين وتوجهاتهم، لا المجتمع الذي يُفترض أن تخدمه.

في المحصلة النهائية، ورغم ادعاءات المنظمات المانحة باهتمامها وتقديرها للقدرات والكفاءات الوطنية، تسقط جميع هذه الادعاءات إذا ما اختلَفت معها أو مع “خبرائها” بالرأي، وتصبح جميع الشهادات الأكاديمية والتدريبات التي تم خوضها – عن طريقهم أو بدونهم- غير ذي اعتبار أمامهم.

رابعاً: الأثر على النظام الوطني

تدّعي هذه المنظمات (الأجنبية)، والقائمون عليها، لدى دخولهم أي مجتمع، باهتمامهم العميق بالإمكانات المحلية وضرورة البناء عليها وتدعيمها. يحاولون من خلال برامجهم ومشاريعهم التشارك مع مؤسسات وطنية، حتى الحكومية منها. إلا أننا نجد أنهم – في نهاية المطاف- يخلقون نظام خدمات موازيا للنظام القائم، لخدمة الفئات التي وضعوها ضمن أولوياتهم. تكون النتيجة أن المستفيدين والمستفيدات من خدمات النظام الوطني القائم، بغض النظر عن نجاعته، يصبحون مستفيدين “من الدرجة الثانية”، ولا يتلقون ذات الاهتمام الذي تتلقاه الفئات التي تضعها المنظمات المانحة ضمن أولوياتها. فخدمة الفئات المستهدفة من قبل المؤسسات المانحة هي التي تدر دخلا على مقدمي الخدمة، وليس بالضرورة من هم بحاجة للخدمة فعلياً.

في قطاع الأسرة والطفولة تحديداً، ومن الممكن قياس الحالة الراهنة على قطاعات أخرى، انصب اهتمام المنظمات المانحة في العقد الأخير على خدمة فئات اللاجئين (العراقيين أولا ومن ثم السوريين)، فنجد أن ثقل التمويل الذي يمنح لأي مؤسسة يشترط خدمة هذه الفئة تحديداً (بنسب تتفاوت ما بين 90% أحياناً إلى 50% من المستفيدين، والنسبة الباقية منحت لباقي الفئات خجلاً!). في المحصلة هي تفرض على المؤسسات التي تقدّم الخدمات والتي تتلقى تمويلا منها، أن ترجح كفة لاجيء سوري بحاجة لخدمات على سبيل المثال لا الحصر، على كفة أردني أو ابن مخيم أو لجوء فلسطيني يطلب خدماتها. تصبح المؤسسة التي تتلقى التمويل وتنفّذ المشروع، “تعد رؤوس” متلقي الخدمة من الفئة ذات الأولوية، على حساب غيرهم ممن يحتاجون ويطلبون الخدمة. أي تمييز هذا الذي تفرضه المنظمات الدولية، والتي تدّعي بل وتدافع عن إيمانها المطلق بمبدأ “عدم التمييز المبني على العرق أو اللغة أو الدين الخ”…! بل وأي نعرة تساهم في تعزيزها بين شرائح المجتمع عندما تجد شريحة نفسها مقصاة من خدمات يفترض أن تكون مجتمعية.

من الظواهر المقيتة الأخرى التي أدخلتها المنظمات الدولية ومساعداتها للخدمات الاجتماعية في الأردن هي “الرشاوى” التي تقدم لمتلقي الخدمات مقابل حضورهم لتلقي الخدمة، والتي تصرف بأشكال مختلفة “حسب الموسم”، أحياناً على شكل “بدل مواصلات”، وأحياناً أخرى على شكل “سلة غذائية”، وأحيانا كثيرة بدون غلاف، بل يُمنح المستفيد “حافزاً” مادياً لمجرّد أنه/ها حضر لتلقي الخدمة. بل إن المستفيدين أنفسهم، حتى الأطفال منهم، باتوا يستخدمون ويكررون المصطلحات الفنية التي تريد هذه المنظمات تعزيزها جرّاء العدد المهول من المرّات التي اشتركوا فيها في أنشطة تمولها المنظمات المانحة، وباتوا يستفسرون صراحة عن “المبلغ” الذي سيتلقونه جراء اشتراكهم في نشاط جديد!

فإذا كانت هذه المنظمات تلبي حاجة حقيقية عند المستفيد (كما تدّعي وتجاهر)، فلماذا تدفع له/لها مقابل تلقي الخدمة؟ وكيف للمؤسسات الوطنية أن تلبّي هذا التوقع الذي أوجدته المنظمات الدولية عند أفراد المجتمع؟ من يتحمل هذا العبء المادي الإضافي الذي فرضته هذه المنظمات عندما تنقطع أو تتقلص المبالغ المادية التي تخصصها الدول العظمى لدرء آخر كارثة سببتها بعد أن تنتقل أولوياتها لكارثة أخرى في بلد آخر؟

ولا تتوقف هذه “الإغراءات المادية” عند المستفيدين، بل تمتد لموظفي المؤسسات (خاصة الحكومية منها) التي تختارها المنظمات الدولية كشريك محلي لها، حيث تدفع المنظمة المانحة “بدل تدريب” للموظف الذي يلتحق بإحد التدريبات التي تقدمها من خلال مشاريعها! النتيجة أن الموظف/ة لا يختار أو تختار التدريب الذي قد يحقق فائدة فعلية، بل يلتحق بالتدريب الذي يعود عليه/ها بالفائدة المالية الأعلى، وتصبح التدريبات التي لا تدر دخلاً على متلقيها لا تلقى قبولا ورواجاً بغض النظر عن قيمتها الفنية.

هنا، لا بد من الإشارة إلى التضخم في الرواتب الذي تحدثه هذه المنظمات في مستويات الأجور، حيث أنها تقدم لموظفيها رواتب أعلى من متوسط الأجور الوطنية، وبالتالي تفقد المؤسسات الوطنية قدرتها على التنافس في استقطاب الكفاءات الوطنية، فضلا عن مساهمتها في تعميق الفجوة الاقتصادية بين شرائح المجتمع.

إن العديد من الشباب والشابات المهتمين بالشأن العام يطمحون، بل ويتهافتون للعمل ضمن إحدى المنظمات الدولية، لارتفاع رواتبها بالمقارنة مع غيرها من المؤسسات الوطنية أولا، ولأن طبيعة عملها تأخذ طابع “العمل العام” الذي يستهوي هؤلاء الشباب والشابات. فيصبح “نشاطهم العام” منصاعاً لتعليمات هذه المنظمات وقوالب عملها. تصبح هذه المنظمات تُملي على الشباب شكل العمل السياسي “المسموح به”، والمستند إلى آليات “الدمقرطة” الليبرالية الطابع، بغض النظر عن مدى توفر الظروف والعوامل التي تؤهله للنجاح، مقابل العمل القاعدي والثوري. من اللافت هنا ملاحظة أن الرواج للعمل ضمن هذه المنظمات يستهوي حتى الشباب والشابات المنخرطين في الحراك السياسي في الأردن.

خامساً: دائرة “المساءلة”

من المسائل المثيرة للاهتمام لدى الحديث عن المنح أو التمويل الأجنبي هي القنوات التي تمر بها قبل “وصولها” من المصدر للمستفيد النهائي. فكما المؤسسة التي تعمل على الصعيد المحلي (في هذه الحالة الأردن) تتقدم بطلب تمويل من المنظمة المانحة، فإن تلك المنظمة المانحة المقدِمة للتمويل تقدّم بدورها طلباً لمنحة من مصدر آخر، لتلبية طلب المؤسسة المحلية. هذه السلسة من المانحين قد تتعدد لأربعة أو خمسة مستويات. النتيجة الحتمية هنا هي سلسلة من المساءلات، فكل متلقّ للتمويل مساءل أمام مقدّم التمويل، وكل متلقّ للتمويل سيفعل كل ما بوسعه لعكس نجاح المشروع المموّل. المهم هنا هو إظهار نجاح هذا التمويل بغض النظر عن النتائج الفعلية على أرض الواقع. فكل متلق للتمويل، سيحرص كل الحرص على استحقاق التمويل الذي قُدّم له، وعلى ضمان فرصه بقبول مشاريع أخرى والمزيد من التمويل مستقبلا. فالتنافس على التمويل لا يطال المؤسسات المقدمة للخدمة والتي تتلقى التمويل فقط، بل أيضا المنظمات المانحة. وبالطبع، فإن هذا التنافس ينعكس جلياً في العمل على الأرض، سواء من خلال التزاحم لتقديم خدمات لفئة معينة، وضعف التنسيق بين المنظمات خوفاً من “خسارة مستفيديها”، أو تقديم مصالح المنظمة على مصالح الفئات المخدومة.

في النتيجة، نرى العديد من التقارير التي تُتَداول بين المنظمات المانحة وتلك المتلقية للتمويل، والتي في أغلبها تظهر أعداد المستفيدين وأعداد الأنشطة التي قدمت لهم، ويصبح الهدف هو بلوغ هذه الأعداد بغض النظر عن نوعية الخدمة المقدمة أو الأثر الفعلي الذي أحدثته في حياة أي فرد. يخرج المشروع بعدد مهول من التقارير التي لا تقدّم ولا تؤخّر ولا يتسنى لأي موظف متابعة ما تخرج به من “توصيات” نتيجة عبء ملاحقة أرقام المستفيدين وضمان تحقيق مستهدفات المشروع (هذا أو الذي يليه). تتراكم التقارير، بعضها معد من قبل الموظفين المحليين، وأخرى يتم الاستعانة “بخبراء أجانب” لكتابتها، الأمر الذي يشكل عبئاً إضافياً على موظفي المشروع لتقديم كافة متطلبات “الخبير الأجنبي” والإجابة على جميع أسئلته/ها.

مثال: إحدى المنظمات الدولية ذات الصيت العالي والعالمي بين منظمات المجتمع الدولي المعنية بالطفولة، اختارت شريكاً محلياً حكومياً لها، واستهدفت من خلال مشروعها استحداث “دليل اجراءات” وتدريب العاملين ضمن المؤسسة الحكومية على تنفيذه. يخرج المشروع بدليل اجراءات مليء بالأخطاء الفنية والنحوية وحتى المطبعية. ينتهي عمر المشروع، وإذ بالمنظمة المانحة تصدر تقريراً يتغنّى بإنجازات المشروع والأثر الذي أحدثه على الموظفين والموظفات والمستفيدين والمستفيدات على حد سواء (رغم يقيني بأن المعلومات الموثقة في التقرير ملفّقة من واقع تعاملي وتفاعلي مع المؤسسة الحكومية المعنية). ليتبيّن لاحقاً بأن موظفي المؤسسة الحكومية المعنيين بتطبيق الدليل، وبعد سنوات قليلة من “إصدار” الدليل، لم يكونوا على علم بوجوده أصلاً!

سادساً: المراوغة بالأدوات

تنهال المنظمات الدولية على المجتمعات التي تخترقها بمفاهيم ومصطلحات يراد لها أن تهيمن على تلك المجتمعات وأن تصبح بوصلتها الأساسية، وتأتي بالطبع بأدواتها التي تصوغ المفاهيم وتحددها. (أمثلة على المصطلحات: الإستدامة، الحوكمة الرشيدة، الشفافية، الخ… أمثلة على الأدوات: النهج المستند لحقوق الإنسان، المواثيق الدولية، الخ). تصبح هذه المصطلحات الهم الشاغل للمؤسسات الوطنية – تحقيقا لتوقعات المانحين- وأقصى ما تصبو إليه. المشكلة ليست بالضرورة في المصطلح أو الأداة بحد ذاتها، بل تصبح هي الهدف وليس وسيلة لبلوغه، فتنصب جميع موارد وجهود المؤسسة في الوصول إلى هذا “الهدف” الذي هو وسيلة لبلوغ أهدافها! كما أن هذه الأدوات تضع وصفة واحدة أمام الجميع هي المقبولة، وصفة لم يطورها المجتمع نفسه بالطبع بل أسقطت عليه اسقاطاً.

فماذا حققت المواثيق الدولية عملياً لابن معان أو الطفيلة أو عماّن؟! لقد شكلت أداة في يد النشطاء وعاملي المؤسسات للتلويح بها، إلا أن واقع حال “حقوق” الإنسان والمرأة والطفل وذوي الإعاقة الخ…. لم تتأثر بفضلها.

من الأمثلة العملية التي صادفتها ضمن مسيرتي والتي تبيّن كيف يمكن لهذه الأدوات أن تتناقض مع السياق المحلي كانت إبان “هبة تشرين” في الأردن والتي أتت نتيجة قرار الحكومة رفع الدعم عن المحروقات ورفع الأسعار. تفاجأت ببيان يصلني من شبكة مهنية أنتمي إليها تدين ممارسات القمع والعنف ضد الأطفال المشاركين في الاعتصامات من قبل قوى الأمن، لكنها تحمل مسؤولية مشاركة الأطفال (دون سن الثامنة عشرة) في الاعتصامات لذويهم بناء على اتفاقية حقوق الطفل التي صادق الأردن عليها عام 1999 ونشرت في الجريدة الرسمية عام2006. البيان يدين، بالاستناد إلى الاتفاقية المذكورة، مشاركة الأطفال في هذه الانتفاضة الشعبية، دون الالتفات لحقيقة أن هذا الشأن يمس كل طفل أردني، خاصة في ظل تزايد نسب عمالة الأطفال. بل ويتناسى البيان بأن القانون الأردني يبيح عمل الأطفال (فوق سن الخامسة عشرة)، وبالتالي يشكل ارتفاع الأسعار هما حقيقيا للأطفال ضمن هذه الفئة. الأدهى بالموضوع أن اتفاقية حقوق الطفل نفسها، والتي تعذّر بها مصدرو البيان، تؤكد أهمية احترام الطفل/ة كفرد في المجتمع و”مشاركته/ها” في كافة المناحي التي تؤثر بحياته/ها! هذا البيان مثال حي يوضح كيف تصبح الأداة هي الغاية وكيف تعمل بالمحصلة على تفتيت القضايا الوطنية لتعويم المسؤولية من تلك التي تحمّل النظام مسؤولية سياساته، إلى تلك التي تدفع لإدانة المجتمع نفسه (الأسرة في هذه الحالة).

الاستنتاج:

إذا ما أخذنا بعين الاعتبار هذه الأبعاد المختلفة والمتداخلة للبرامج والمشاريع الممولة “أجنبياً”، نجد أنها على أقل تقدير لا يمكن أن تساهم بتحقيق أي تنمية حقيقية تطال الشرائح المضطهدة. بل إنها تحشد الجهود وتراكم العمل في مسار كتب له أن يفشل، وبالتالي فهي تعمل على استنزاف الطاقات وتوجيهها لقضايا مجتزأة تصرف النظر عن مسببات الاضطهاد الحقيقي في المجتمع، وبالتالي تحول دون تطور فكر وتراكم جهود لإيجاد حلول جذرية. الأمر الذي يعزز ويسهّل من هذه “المهمة الخفية” للمنظمات الدولية هو التغييب الممنهج للوعي السياسي، والذي يعمل على “تحييد” قضايا الاضطهاد سياسيا وعزلها عن سياقها المحلي.

في الختام، أؤكد على أنني لا أشكك بصدق نوايا وجهود العديد من الموظفين والموظفات الذين عملت معهم وصادفتهم خلال مسيرتي العملية، أو الشباب والشابات الذين يعملون في هذه المنظمات، إنما الخطر الذي تشكله سياسات المنظمات الدولية والمانحة يطغى في المحصلة على “حسن وصدق النوايا”. كما لا يمكن توجيه لوم فردي ضمن سياسة الدولة المنصاعة تماماً لرغبات وتوجهات “الغرب” بحيث لا تترك أيا من مؤسساتنا الوطنية خارج هذه المنظومة المتواطئة. المطلوب هو التحرك لتفكيك هذه المنظومة المنصاعة كلياً، سواء في القطاع الحكومي أو غير الحكومي أو حتى القطاع الخاص الربحي، واستثمار هذه الجهود في بناء حراك يرفض هذه التبعية ويدفع باتجاه المصلحة الوطنية باستقلال ومعزل عن إرادة وتوجيهات القوى العظمى.

لعلّ الشيطان يكمن فعلا في الصورة العامة، لكن إذا أمعنّا النظر، نجده أيضاً في التفاصيل!



#زينة_أبو_عناب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
- متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
- نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
- اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا ...
- الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
- اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»
- مؤتمر«أسر الصحفيين المحبوسين» الحبس الاحتياطي عقوبة.. أشرف ع ...
- رسالة ليلى سويف إلى «أسر الصحفيين المحبوسين» في يومها الـ 51 ...
- العمال يترقبون نتائج جلسة “المفاوضة الجماعية” في وزارة العمل ...
- أعضاء يساريون في مجلس الشيوخ الأمريكي يفشلون في وقف صفقة بيع ...


المزيد.....

- الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي ) / شادي الشماوي
- هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي ... / ثاناسيس سبانيديس
- حركة المثليين: التحرر والثورة / أليسيو ماركوني
- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - زينة أبو عناب - التمويل الأجنبي | نظرة من الداخل