أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - خلدون جاويد - هل ينتفع العراقيون من نيتشه التحرري ؟















المزيد.....


هل ينتفع العراقيون من نيتشه التحرري ؟


خلدون جاويد

الحوار المتمدن-العدد: 1183 - 2005 / 4 / 30 - 11:05
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


لابد لقارئ نيتشه من العراقيين ان يتمعن
بكون هذا الفيلسوف الالماني المولد والعالمي الظلال ، قد اختط مسارات فكرية وتطورا في الوعي الفلسفي وتحول من قناعات الى اخرى محركا ميكانزم الذهن في كل اتجاه ، وكما يقول جان بول سارتر ان تشغيل حرية الفكر لايضر ( من مقدمة لمسرحية الذباب ) .. كما ان هذا الفيلسوف لم يأخذ حقه من الناحية الايجابية لأفكاره وذلك لأن منظومة الفكر الديني في اوروبا ورصيدها من جهة وقبول الماركسية العاصف في السعة القاعدية للشغيلة في كل شعب من شعوب اوروبا قد حالت دون الانتباه له . وقد جرى استعماله من قبل النازيين فظل بعيدا عن الاستفادة منه من قبل شعوب اخرى . مايهمنا الآن هو التمعن الحيادي – ايجابي ولكيما نرى كم من الجدوى والفائدة المستخلصة في فترة مابعد هيمنة الدين والماركسية على الحلبة الفكرية ايام نيتشه ؟ وكم من الدروس والعبر يمكن ان تستقى باتجاه توظيف مواصفات لمشروع انساني يرتقي فيه الانسان الى مجتمع التضامن، لا ان ينحدر الى غابة التطاحن . وتبعا لذلك لابد من مرافقة خطى نيتشه ولابد من الأخذ منه ايجابيا :
بمعزل عن أهمية نيتشه في تاريخ الفكر ، فانه على الصعيد الوجودي وحق الاختيار ، واستنادا الى الحرية الذاتية في التناول ، نموذج ديناميكي متميز . تكمن ديناميكيته في كونه لم يركن الى ارتداء ثوب سياسي او طاقية فلسفية واحدة بل ان عنصري التناقض الايجابي والتغاير الديالكتي هما سمتان خصتا هذا البطل الهيليني الانتماء والذي لم يؤمن بالرسو على قاعدة سلفية فلسفية او مسيحية . ان تلافيفه المؤتلقة بالتحليل والاستنتاج جموح معرفي واستشرافي . يقول عن نفسه : " لست محدودا ذهنيا وضيق الافق الى درجة تجعلني انسجم مع الانظمة الفلسفية ولا حتى مع نظام خاص بي " . انه يذكرنا بانيشتاين الذي يناضل من اجل تغيير ماتوصل اليه هو بنفسه من قناعات ! والبحث في جوهر آخر قوانينه ومسلماته عن قنوات الجدة والاستمرار في نهجه الابداعي المتصاعد .
ولد نيتشه في ( 15/10/1844 ) ابناً لقس لوثري ورع ، ووريثا لما لايقل عن أجيال ثلاثة من الكهانة من جهة أبيه وامه ، لكنه وصف نفسه بأنه أكثر المفكرين مناهضة للمسيحية ! وكما يشير ( يانكو لافرين ) بأن هذه المناهضة هي وسام تحرري لنضال مبكر ! . ومن نافل القول أن الانسلاخ عن الرحم الأول لأية فكرة او طبقة او مدرسة او تيار ليعني تحليقا راقيا في مجال التحرر ! واذا كان كارل ماركس قد انسلخ من طبقته وظل وفيا لاتجاه فكري ضروري ، فان نيتشه قد انسلخ لعدة مرات من اغلفة واجواء ومنظومات ... الخ .
زاد من انطلاقته في عالم الذات المتحكمة والعالمة ، أنه اطلع على شوبنهاور وظل يعيد قراءة كتابه ( العالم كارادة ومفكر ) في حالة ذهول ، ومن ثم سقط أول غلاف مثالي عن ( جسد ) نيتشه .
ومثل ذلك حصل له ازاء مسرحيات فاغنر الموسيقية والموقف من انتصارات المانيا ( 1870- 1871 ) وبهذا الصدد كتب لامه واخته " انني افقد تدريجيا كل عطفي على حرب الفتوحات الألمانية الحاضرة " .
ولايعني التحرر هنا عند نيتشه – على كافة الاصعدة المشار اليها – نكوصا عن قمم اللآهوت والوطنية الى ليبرالية مبتذلة . كلا فقد واجه – هنا وفي هذه الفترة بالذات – الظاهرة الديونيسية ب (الأبولونية ) ومعنى ذلك : " ان تدخل عنصر الانسجام والشكل والقياس والتشخيص الابولوني المضاد لطقوس العربدة الديونيسية – الخمر العري النار الرقص حول تمثال ديوسنيسيوس حتى ذوبان الجسد وبقاء الروح شفيفة في الهواء ! - " .
انه لمن الجرأة بمكان ان يقول المرء في زمن الرجعية خاصة انه عبر الظاهرة الجمالية فقط يبدو وجود الانسان والعالم مبررا بل يعلن نيتشه " الفن هو المهمة العليا والنشاط الماورائي الحقيقي في هذه الحياة " .
ومرة اخرى يقف ضد فاغنر لغروره وانتهازيته اذ صار الأخير يغازل موضوعات صوفية مسيحية . مرة اخرى ايضا ، عارض شوبنهاور في استسلامه الفلسفي ، وراح يحمل بيرق القائلين نعم للحياة . يقول الكاتب يانكو لافرين :" في سنوات آلامه المتزايدة صمم نيتشه على ان يقول للحياة ( نعم ) رغم كل شئ . كان هذا هو السبب الذي جعله يتحول عن فاغنر وشوبنهاور مهما يكن من أهمية الدور الذي لعبه كل منهما في فترة رجولته الاولى .
ترك نيتشه منصبه في جامعة بال في سويسرا ، وبراتب تقاعدي متوسط راح يتجول في اوروبا معتل الصحة ( امراضه : الصداع ، آلام المعدة ، والأرق ) وفي فترة لاحقة ، السفلس " .
لقد راح يبني هرمه الأكثر شموخا ازاء المرحلة الاولى مستندا الى اعجابه الهائل باليونان القديمة وفكرها وفلسفتها وعلم تحسين النسل عند داروِن ، وبذا قد راح نيتشه يبحث عن صور ذاتية حالمة لينتشه المستقبل عبر بايالوجيا صحيحة متعافية مضافا الى بطل هيليني أصلح على البقاء ، نخبوي رفيع المستوى .
الاّ أن كعب أخيل نيتشه ( الميكافيلي ) لايمنح ستراتيجا دفعة واحدة بل ينضو الثياب تبعا لتعلقه بالحياة في كل مرة ، فتدور حركة الافكار المتحررة عن سابقاتها حول مدار الذات العليلة لدى الفيلسوف في هذه الفترة او تلك ، فالكذب مثلا لابأس به – امارسه مادام ينعشني بقليل من الصحة ، ومن أجل الانعتاق من أتون العلل الدائمة - وبذا راح يؤمن بالفائدة الستراتيجية . وهكذا بلغ في المرحلة الثالثة من تيار الوعي الفلسفي لديه بالدعوة الى السوبرمان أي الرجل المتفوق كما صورته وعبرت عنه اسطورته ( زرادشت ) .
ومهما يكن فقد أسقط نيتشه غلافا آخر باتجاه الحرية بمقولته العاصفة والتي هي انعكاس عنده لمبدأ الشدة وعدم الشفقة ( السبارطي ) : " المعتقدات سجون فهي لاتترك مجالا بعيدا للرؤية ولاتشرف من ارتفاع كافٍ ، ولكي يكون للانسان رأي في المسائل ذات القيمة والاخرى التي لاقيمة لها ، عليه ان يكون له خمسمائة معتقد – تحته – وخلفه ... الخ " .
ان نيتشه معذور ميكافيليا ازاء صحته الشخصية ! لكنه شجاع في مواجهة العصر والجمود العقادي ... ولو اعتبرنا ان رأس نيتشه هو الذخير الراقي لفلسفة العصر، فان هذا ليس بمعزل عن ( عقل سالم يقف ازاءه جسد معلول ) . ان هناك افتراضا بأن جسده الشخصي هو جسد البشرية المليئ بالدونية والسلفية والارهاب والتطرف والترهيب والنفاق والترغيب وعلل السقوط الاجتماعي ، لو قارنا الأمر هكذا لظهر لنا أن رد فعل الدماغ النيتشوي في أحد كتبه هو صفعة ضد الألم والتشاؤم وضد الخوف من التغيير نحو القوة والتطور .
أدناه مقايسة غريبة : في رسالة منه الى جورج برانديس ، اعترف مرة ان أكثر كتبه فرحا ( فجر النهار ) قد كتب في جنوى في شقاء من التعاسة التي لاتصدق ، بعيدا عن الأطباء والاصدقاء والاقارب ." هذا الكتاب هو نوع من " آلات قياس القوة " بالنسبة لي وقد كتبته في أدنى حالة من حالاتي من حيث الصحة والقوة " .
انه أمام شحة الواقع يعلي مناسيب معنوياته وخزين الطاقة الذهنية لا لكي يعادل الضعف فحسب بل ليترك قصيدة رؤيوية ثائرة على عوامل الاحباط والانخذال . انه ومهما غرق المرء في عتمة فان نيتشه في روحيته مثل بطل فيكتور هيجو في ( مذكرات محكوم بالاعدام ) والقائل بانه لو كان هناك موضع قدم واحدة على صخرة في اعتم عتمات البحر لفضل الانسان ان يقف عليها على ان يعدم صباح غد ، وان حب الحياة سحر لايضاهى .
ان طقس نيتشه الفلسفي المتأخر وبالذات حالة النواح في ( كهف ) هكذا تحدث زرادشت ، ومخاطبة الآلهة اثر رحلته الجريحة في شعاب الفكر الدامية ، ليعتبر في نظر بعض العلماء والتاريخيين رجعة الى جذوره الدينية . ولو ان البعض من ينفي ذلك من منطلق مواقف حازمة في اللآايمان ودفاعا عن قداسة الانسان الحر وادعاء السوبرمانية والربوبية والنبوّة .
انها واقع الحال مواجهات روحية ! تتخبط في غموض الوجود وغرائبيته . ولاريب ان ظهرت هذه المكابدات لدينا أيضا ، في تاريخنا العربي القديم والمعاصر ، مرة على هيأة تباريح حلاجية يتوحد بموجبها الحلاج حسيا ( بالفكرة المطلقة ) ليقول : " أنا انت بلا شكٍ ..... فسبحانك سبحاني " والتحليلية عند أبي العلاء المعري القائل : " قالوا لنا خالق عظيم
قلنا نعم هكذا نقولُ
زعمتموه بلا مكانٍ
ولازمان ألا فقولوا
هذا كلام له خبيئ ٌ
معناه ليست لكم عقولُ "

لقد خلد زماننا الأول غرائبيات عديدة من هذا النوع وهي تعبير عن اعتمال الجزء ازاء لا متناهي الكل ، والمقايسة أمام الغموض .
ان نيتشه الطالع من اصلاب واتراب الهيلينية وداروين والظهير المادي الرياضي ، والجذور الضاربة في تواريخ البلدان المتقدمة ثقافيا ليجد رفاق درب حزانى مولهين ينحدرون من كل حوب وصوب ، من رواقية زينون حتى المعري وسورن كيركيجارد وبطل الاديب الخالد دسيتويفسكي الا وهو ايفان كارامازوف الذي " ثار بسبب آلام الآخرين " اضافة الى عشرات من عشاق الجدة والجرأة .
يقيّم يانكو لافرين كتاب هكذا تكلم زرادشت بوصفه " تحفة خلقية عظيمة ، على اساس مناهضة الدين ، انه كتاب مدمر لكل العقائد التقليدية والخلقيات المتعارف عليها . كل دين هام يختار رمزا له ، رجلا مثاليا يستخدم صورته لونا زاهيا وطريقة حياة لمن يرغب في السير في هذا السبيل ، والمسيح وبوذا مثلان واضحان على ذلك . الا ان ذلك لاينفي وجود نماذج اخرى للكمال . لم يجرؤ احد من المعاصرين غير نيتشه على الدعوة الى مثال كهذا على صعيد كبير . " .
ان نيتشه المدعي للنبوة – الارضية – ليس السماوية ! ليعتبر الحاجة الى ضرورة الحدود والضوابط في سير الحضارة السوبرمانية القائمة على اساس نظريته اردة القوة . ولرب مثالي ما ينبري ليقول ان نيتشه بكل جبروت آلامه وافكاره وهو أكمة فلسفية عالية الذرى قد ناطح ، بعد أن قطع قوس النار وذاق الأمرين ، ناطح جدارا وغموضا لافرار من الخشوع امامه ، فالاستقامة الاخلاقية الدنيوية ، والبطولة الهيلينية ، وعناق الكون في غلاف المحبة ، هو الجوهر الديني الذي لامحيص عنه . ان نيتشه متهم في نهاية المطاف ، رغم الذكاء ونزع الأغلفة والدروع ، متهم بالايمانية مرة اخرى ! ايمانية دنيوية ( حب الناس ) او هاجس البحث عن ( الاله ) . واقع الحال ان نيتشه اقرب منه الى الأول دون الثاني .
يقال عن نيتشه بهذا الصدد ( ... " كان نيتشه المريض العاجز يدرك تمام الادراك كم هوبحاجة الى تعاليم من هذا النوع ، خاصة وهو يعي مدى حاجته الخفية الى الحب العطوف ، أو حتى الى ذلك العطف المسيحي ... " ... )
ان جون وبستر – صاحب كتاب وجهات في النظر – والكثير من ابناء العصر ، واولئك الذين على درجة هائلة من حب التحرر ، يذوبون حنينا الى مايعرف بالطهرانية الدينية ، انها ووفق تصوراتهم ، لو مورست بنقاء وتفتح حضاري على العلم ، لأثبتت وهي تسقط غلافا او آخر من المبالغات ، ان هناك كونا جميلا سعيدا ، حرا ، يجدر ان يعاش بعيدا عن التطرف والقسر والاجبار .
ان دائرة الصراع الفكري التي سار نيتشه على منحنياتها ، كانت ضرورية للغاية ، فالفيلسوف فراشة تياهة بين مباهج الفكر وتنوعه ، بعيدا عن ارتداء اوراق الترشيح التي تسمح بدخول لون او ضوء دون آخر . وهكذا فما نيتشه الاّ نسمة في مكتبة العالم وليس طابوقة في جدار. ولسان حاله يقول : ان سفرا حول العالم افضل الف مرة من جمجمة ملفوفة بالبلاستر ! مدفونة في ظلام الفكرة الواحدة . فالحرية وحدها وسياسة فتح الأبواب على العالم هي التي تمنحنا مرونة عقلية تقودنا الى ضرورات عالمية هي السلام والمحبة والحرية ، والاحساس بالغيرية – على حد تعبير جان بول سارتر - . ان الآخرين وان كانوا جحيما عند سارتر في هذا الموضع من الكتابات او تلك ، الاّ انهم نظراؤنا في الخلق ، وجماليتنا الفلسفية وشموخنا الانساني يكمن باقرار التعايش العالمي والوفاق الاجتماعي وحق التنوع .
وبما ان جرأة نيتشه هي محور فكري وجمالي فهو يتشظى احيانا عن ماهو معقول وآخر غريب قد يتماشى مع بعض العقول في الشرق ! وعلى سبيل المثال ، يقول نيتشه : " يجب ان يهيأ الرجال للحرب والنساء للترفيه عن المحارب ، وما سوى ذلك هراء " . سعادة الرجل " انني اريد " اما سعادة المرأة فهي : " انه يريد " ... انت ذاهب الى المرأة ؟ .. لاتنس ان تأخذ السوط معك ! " .
ولو صح ذلك فان كارل ماركس ادعى الى الاحترام في قوله : " لافرق بين الرجل والمرأة الاّ بالتكوين " ، لكن نيتشه هنا يشبه الكثيرين ممن يصدرون التمايز بين البشر ومن امثالهم على سبيل المثال ( ت . س . اليوت ) الذي لم يمنعه كونه شاعرا عالميا كبيرا عن ان يقول بأهمية ان تكون هناك طبقتان الاولى تحكم والثانية تخدم وبالتالي من الصعب ان تحل واحدة بمكان اخرى وذلك لتوارث الجينات واسباب الذكاء والامكانية ...الخ .
ها هو نيتشه يقف – هو وسواه - على الضد من الاشتراكيين الذين آمنوا بأنه يمكن خلق ظروف وتركيبات اقتصادية تستطيع وضع حد لكل الشرور والأمراض والبغاء والفقر . انه يقول وبصريح العبارة : " الشرور ستبقى متعلقة بكل حقبات التاريخ البشري . وحيث يوجد نمو يجب ان تكون هناك فضلات ومواد مهترئة ، وهذا هو قانون طرق الحياة . أعلى الحضارات وأذل أنواع الفساد والانحلال ظاهرات متوازية متصاحبة ، كل منها ضرورية للاخرى ، ولربما كانت الواحدة منها تكيّف الثانية " . ولعل هذا التحليل يذكرنا بفيورباخ المؤمن بأن الأخلاق ابدية لايمكن تغييرها .
وهنا لابد من الاشارة الى ان الانحلال وعدم امكانية تغيير الاخلاق يقودان الى متاهة ، اما العمل من اجل الجمال فهو الذي يكسب ديمومة الحياة وهنا حلبة الصراع . لا بد من تصعيد انمائي ضد التفسخ . في دول الشرق الآن سقوط حضاري ولا بد ازاء العجز من لقاح عالمي لانقاذ اوضاع دونية في تدهورها . هنا لابد من دفع نيتشه باتجاهنا أي نحو الاصلاح والانماء . واكثر فعل حضاري الآن يجب على العراقيين الأخذ به ،على سبيل المثال هو الاستفادة من طلائع الديموقراطية والعمل على تطبيقاتها العملية الاولى باتجاه استكمالها والا ّ ارتد العراق الى ظلام ومتاه الهمجية .. لابد من الجري الدؤوب والحنو من أجل ارادة القوة الايجابية ، لا النتشوية في السوبرمان الواقف على تحسين النسل بل السوبرمان الواقف على تحسين الوعي والخلق الحضاري الديموقراطي . وهذا يقودنا الى السؤآل : هل يستطيع العراقيون نزع الاغلفة الشمولية كما فعل نيتشه ازاء الماضي وان يستعملوه نظريا وتطبيقيا في التكون الجديد ، أي هل يستطيع نيتشه الاقامة في بلاد الرافدين ؟ .أي ومثلما فعل :
- دحر الماضي وخاصة مسببات الانكسار .
- الاطلاع على العالم الخارجي بأقصى الطاقات الفكرية .
- حرية اختيار وتجريب كل مستلزمات التحرر من ضغط الفكرة الواحدة .
- التخطي والتجاوز والتجريب فيما يقود الى صالح العراقيين وبدون قسر او منع لحرية المقترحات والتطبيقات .
- تقوية لا السوبرمان النتشوي بل السير باتجاه قوة الانسان الحر الشجاع غير الخاضع للارهاب الحكومي وتدخلاته الديكتاتورية . بل استثمار الديموقراطية نهجا والتحلي بها منهجا لتحقيق ارادة القوة الانسانية الطابع .
- دفع الحياة في مسار السعادة وتقوية الشعور بجمالياتها بعيدا عن التشاؤم والعجزية والخيبة .

صحيح ان الفنان الشهير( فان كوخ ) وجراء واقعه الأليم وحياته القاسية على الأصعدة الاجتماعية والعاطفية ، قد عبر فلسفياً عن هم ٍ مستقبلي لامتناهي الآ وهو : " لن ينتهي الألم " ، لكن الفكر الاشتراكي على سبيل المثال وكل انواع المحاولات الاصلاحية في التاريخ عملت وتعمل على الحد من الألم والجهالة والظلم التاريخيين وتنحو بالانسان عاليا وبعيدا عن مملكة الحيوان لتدربه على استثمار آخر مبتكرات العلم والفكر من اجل العدالة العالمية وانسانية الوجود .
ان غوته العظيم في ( آلام فرتر ) قد تناول موضوعات التشاؤم واللآجدوى ضاربا مثالا دراميا مفاده ان هناك فنانا او آخر في سجن ( يعني به سجن الوجود ) يحاول الرسم على الحائط ، بينما هناك نموذج آخر يجلس عند قدم الجدار قائلا : " الصدأ أخٌُ للحديد " و " الارضة ابنة عم الخشب " فلمن أعمل ولماذا انحت او ارسم ؟ . ان الزمن كفيل بتهديم كل الجدران فلمن الحركة ؟ ولمن الانشطة اللآمجدية .
لقد عبر غوته شاعر المانيا العظيم عن صورة عابثة ... وهناك بطبيعة الحال عشرات الحالات من هذا الألم الجاد مرةً ، ومن هذا الترف الفكري مرةً اخرى نجدها في كتب عديدة لكولن ولسن خاصة ، ولا أكثر لعنة من مقولة احد شخوصه وهو ( وليم لو ) التي هي " لن اخطو خطوة واحدة على ارض الوجود مالم اعرف ماهيته وكنهه " . وهل تُنسى قطط دانيال في دروب الحرية لسارتر والتي القى دانيال بها الى البحر من شدة حبه لها مبررا ذلك انه يقذف بها الى الحب الخالد ! .
ان قراءة آلام فرتر قادت الى انتحار كثير من الشباب بوقته .
وقد أثرت افكار العبث الى الكسل واشاحة الوجه عن العمل والحب بل الى الجريمة . ان من لايعمل يقترف اثما ولأن البطالة تقود الى السرقة والجريمة لامحالة .
ان انقاذ الشبيبة يكمن بتوفير السعادات لهم على طريق الحياة لكي يعملوا من اجل تطوير طاقاتها الجمالية بالفرح والقوة والاقبال عليها . لابأس ان يطلع المرء لكن ان ينهض من ارض العبث الرخوة .
وعلى سبيل الاستطراد : يقا ل ان عصفورا فضيا قد دخل الى كهف مظلم ، حلق في السقف واختفى ، وكان الجالسون في الكهف مجموعة من رجال الاسكندر الكبير الذي قال لهم " أرأيتم انها الحياة . انها فضية وجميلة وعابرة " . انها كما عرفها اديب او آخر: ضوء بين ظلمتين ! لكن للأسف فان هناك من يحاول اطفاء الضوء العابر وبذا يجعل الحياة ظلمة بين ظلمتين ! وهنا يكمل عملنا من أجل الحياة لاسياسيا فحسب بل من اجل تصليب الجيل في التحرر من اغلفة العبث وهذا ما حاوله نيتشه في طروحات القوة .
وباختصار فلابد من الاعتراف بان لغزية الماهية جديرة بالألم والتطلع كما هي محاولة معرفة الذات ايضا والتي عبر عنها سقراط : اعرف نفسك . اذ لابد من معرفة الجزء والكل . ان وراء كلا المنحيين حدقات ترفرف بالدمع عند كل عشاق البحث عن المعنى والمغزى ، هاهو نيتشه الشاعر يقول :

" وسط مائة مرآة
كاذب مع نفسك ،
وسط مئة ذكرى
مرهقا بعيدا عن اليقين
مرهقا ، سئما ، عند كل جرح
ومرتجفا عند كل جليد
تختنق بشركك واحبولتك
ياعارفا ذاته ! ياجلاد ذاته
........
يامن سعى الى اثقل الأعباء
لقد وجدت نفسك
ولن تستطيع الفرار ... "
• من قصائد ديونيسية جياشة .

بهذه الانطلاقة العاصفة من ربقة المعتقدات تقتضي حسب نيتشه التألق الى مصاف ( السلام والمحبة والحرية ) لا أن تجعله يسقط بدعواه الى النظام المراتبي واعتبار البعض نبلاءً والآخرين اسافل ورعاع ، وبالتالي يطرح شروطا وقواعد خلقية متزمتة اخرى هي كما يقول النقاد " اشبه بنظام قاس من انظمة اليوغا وقد وضعها من اجل تدريب السوبرمان وتدعى ( التطهرية التزمتية ) ... "
بواقع الحال هذا، يكون نيتشه اشبه بمعتوه هدم بيته بحثا عن الفضاء الطلق لكنه عاد وفكر ببناء ثكنة قاسية لكبريائه الضائعة والمرتعشة فاطلق الوصايا ونصّب نفسه على عرش نبوة جديدة ادعاءً منه باحترام المسيحية كمنظومة عقلانية الهية .
انه من وجهة نظر السورياليين ، يجانف الحرية التي لاتؤطر بوصفة محددة ولا الوجودية بوصفها حرية انطلاق المرء . انه عاد وانتكس في ذات الهشيم الذي حطم تشكيلاته الاولى أي كسر السلفية والذهاب الى عرض البحر والحيرة في لا أدرية خائفة تهاجس بوهم جمالية الفن رديفا للحياة ومن ثم تصرخ باحثة عن اطار ل ( ارادة القوة ) اطار نابع من ضعف ، اطار ناتج عن وضاعة فيزيائية واعتبارية .
يعني ان نيتشه ، وبعد ان ناطح كثيرا من الجدران ، عاد ليؤمن بضرورة الدين ، دينه الأرضي الذي هو ارادة القوة التعبوية ضد الرعاع ومن اجل
تحسين النسل . اذن فان مسوغات قتل الآخرين قائمة ،وربما وجد ذلك مرآته في ضرورة السيطرة على العالم واعادة توزيعه عبر محاولة النازية باعتبارها الأرقى حسب هتلر وبالتالي كانت عشرات الملايين من الضحايا قد كابدت الموت والجوع واليتم . وهنا من الضروري الاشارة الى ان نيتشه انسان معزول ، لايجد من يشتري كتبه ، حتى انه ذات مرة وازاء هذه الشحة ، قام بطبع 40 نسخة من كتاب لتوزيعه على المعارف . ظل هكذا منبوذا حسب اعترافاته ورسائله الى ان جرى انتشاره الشديد الوتيرة والاعتراف به ككاتب عبقري سنة 1890 حيث ابتدأت شهرته بعد انهياره العقلي . ومن ثم ظهر ( ارادة القوة )
1906 . منذئذ جرى استعمال افكار نيتشه لأغراض سياسية واجرامية . والسؤال هل يمكن الحاق نيتشه الآن بالانسانية مأخوذا من جهة مهمة واحدة فيه ألا وهي ترقية البشر جميعا لا على اساس
تحسين النسل بل خلقيا باتجاه السوبرمان المنشود . ان ذلك يقتضي مبادئ مثالية كانت ام مادية لغرض التأكيد على السلام وأهميته في تعايش البشر واحترام انسانيته وحقهم بالوجود الممنوح لهم ، وايضا احترام قناعاتهم سواء كانت غيبية ام مادية . اذا كان الانسان المعاصر يعبئ ذاته باتجاه احترام ذاته في معايير الحق والصدق والعدالة وكل حقوق الانسان فان ذلك سلمة راقية باتجاه وعي الذات وفهم الماهية . وبذا نكون قد تناولنا نيتشه بطريقة مختلفة عن الأطماع بل من زاوية الحنين الى الحرية والسعادة الجماعية وعدم التمييز بين البشر . ونحن ابناء العتبة الكونية الاولى في العالم العربي الذاهبين الآن الى الديموقراطية التي ترعب الكثير من الناس هنا ! بحاجة ماسة الى فهم موقعنا الحضاري الآن . اننا في الدرك ولذا فنحن في حالة صعود في نمو حضاري على العكس من حضارات شمخت وانحدرت . واجبنا الآن لا البحث عن السوبرمان بل عن ( مان ) فقط !أي عن انسان . وعلى كل عراقي ان يحمل معه مصباح ديوجين عندما يقرأ فكر نيتشه ليأخذ منه لا أن يُؤخذ اليه ..



#خلدون_جاويد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جورية للعراق الأمير
- شمعة ذكرى الى أم عراقية ...
- رسالة ارسطاطاليس الى حضرة الرئيس
- خطوتان على القمة
- واحد وسبعين وردة
- هل يقوى العراق على ( فلسفة التعدد ) ؟
- ماتت سيدة المقام !
- هل لشاعر معمم أن يتغزل ؟ وان يتماشى مع التطور ؟ ويؤمن بالديم ...
- جاك بريفير وقصيدة الشعب
- تذكّر الأشجان في حضرة غانم بابان
- ادعاء دين واداء مُشين
- النظرية السامية والواقعية الدامية
- كونانبايف شاعر التراث الطليعي
- الحب وفقا لماركس
- العراقيون وأدب الرسائل العاشقة - عبد الغني الخليلي نموذجا
- هل ستبقى ليلى بلا ذئب ؟
- اللآقاعدة الفكرية في العراق ستكون هي القاعدة الذهبية
- الشاعربدر شاكر السياب .... هل هو من جماعة القاعدة ؟!
- الجواهري روح العراق وعنفوانه الفكري والعاطفي ...هل سيعمم شعر ...
- الموسيقى باعتبارها نوعا من السجن


المزيد.....




- مزارع يجد نفسه بمواجهة نمر سيبيري عدائي.. شاهد مصيره وما فعل ...
- متأثرا وحابسا دموعه.. السيسي يرد على نصيحة -هون على نفسك- بح ...
- الدفاع الروسية تعلن حصيلة جديدة لخسائر قوات كييف على أطراف م ...
- السيسي يطلب نصيحة من متحدث الجيش المصري
- مذكرات الجنائية الدولية: -حضيض أخلاقي لإسرائيل- – هآرتس
- فرض طوق أمني حول السفارة الأمريكية في لندن والشرطة تنفذ تفجي ...
- الكرملين: رسالة بوتين للغرب الليلة الماضية مفادها أن أي قرار ...
- لندن وباريس تتعهدان بمواصلة دعم أوكرانيا رغم ضربة -أوريشنيك- ...
- -الذعر- يخيم على الصفحات الأولى للصحف الغربية
- بيان تضامني: من أجل إطلاق سراح الناشط إسماعيل الغزاوي


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - خلدون جاويد - هل ينتفع العراقيون من نيتشه التحرري ؟