عبداللطيف أسرار
الحوار المتمدن-العدد: 4125 - 2013 / 6 / 16 - 14:45
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
التعبير في زمن التغيير
"الحرية أثمن ما في الوجود، لذلك كان ثمنها باهظا"
التعبير ضرورة إنسانية ,وحاجة طبيعية في مراحل تطور الانسان من طفولته الى كهولته, معتمدا على آليات التعبير المكنونة في أعماق نفسه محتجا,فرحا,مسرورا,ساخطا متمردا ثائرا ,مؤيدا ومعارضا ..,بل صامتا كشكل راقي في التعبير عن ذاته ,ومحبا للبوح بما يختلج في صدره ,وما يفرزه المجتمع من الترابطات والعلائق السياسية والاجتماعية كعقيدة تربوية سياسية متشنجة راسخة ومرسخة لثقافة الانغلاق وممتدة في سيرورة المجتمع وتشكله ,وهي بادية على سلوكات الافراد وتصرفاتهم ,وفي طريقة تفكيرهم ,ونمط لباسهم وعيشهم ,ومتجلية في الوجدان الجمعي ومخياله .
وهي افراز مجتمعي بنيوي ملازمة لصيرورة المجتمع ,وكيفية اشتغاله وصراعه مع العقليات والارث التقليدي التاريخي والسياسي وكذا الاجتماعي ,وتداخل العديد من الأنساق الثقافية في عملية معقدة ,تستحضر عوامل التحديث المجتمعي من أنماط السلوكيات المكتسبة من العوالم الافتراضية كعامل تحديث مساهم في تجذير أزمة التعبير .
حيث تعد التربية ذات المقاربة السلطوية المفرطة ,ثقافة مجتمعية منغرسة نتيجة تداخل العديد من الاعتبارات ,تجعلها محمودة في نظر المجتمع ,وتبني الانسان "البار بدل "العاق" كنجاح لمشروع المجتمع التقليدي ,في الحين أنها مجانبة لعملية التواصل كآلية لحل أزمة انسداد الحلول ,وبالتالي عائق لاستمرارية البنيان العلائقي المترابط بين افراد المجتمع .
فلا مراء ان يعبر المجتمع عن المكنونات الوجدانية المكبوتة على "الجدران وواجهات الفضاءات العمومية والمؤسسات التربوية والشوارع ,بدلا من التعبير في فضاءات مقيدة بسلاسل التكبيل على الرأي وأشكال التعبيرات والرسومات الكاريكاتورية والكتابات وغيرها من أشكال التعبير المجتمعي ,مما يطرح إشكالية التعبير في علاقته بتطور الوعي الإنساني عموما .
فقد أضحت جل جدران الشوارع وأزقتها وصفيحها المعبر عن السخط المكبوت والمكنون في عمق الصورة الظاهرة لمجتمع يفصح عن أشكال التعبيرات النفسية والشعارات السياسية المعارضة والمؤيدة ,ولثقافة الرفض لقيود العادات المكبلة في البيت والشارع والمدرسة والفضاءات العمومية. .ببعدها الاحتجاجي أو العفوي .
تعبيرات كلها تعكس واقع المرارة في جانبه العفوي ذات المرآة العاكسة لواقع مكشوف يعكس عمق الأزمة في فضاءات تتشكل في ذهنيات المجتمع سبب تعاستها وفقرها ,بؤسها وحرمانها , وقد تكون معبرة عن الصورة العكسية في ترسيخ لتأييد قائم معبر عن سعادتها ..
وبتلك التلقائية والعفوية الانفعالية, كمتنفس يحمل رسائل عديدة لدى فئة كما يمثل لدى أخرى مكونات فنية تتصارع فيه مع قوى وهمية ,معارضة للثقافات البديلة ,وتلوح فيه بالذهنيات المتخلفة في فهم رسائلها الفنية الحاملة للبعد السياسي والرمزي .
عموما يبقى وراء هذا , حرمان مسلط (الكبت)عجز المجتمع التعبير عنه في المدرسة والنوادي السياسية والأسرة والفضاء المجتمعي ,مما خلق أزمة مجتمعية في التواصل ,ساهمت فيه إضافة إلى العوامل البنيوية هجانة برامج الاعلام ,حيث قدمت كبديل ألي لسلوكيات التعبير الايجابي ,مما جعل أزمة التواصل التعبيري في طريقها الى الانسداد ,وحلت محلها وسائل صماء في تصريف حاجيات الإنسان ورأيه مما أعاق قنوات التواصل المجتمعي ,وبالتالي انسلاخ ملكة الحس النقدي وشيوع ثقافة سلطوية في المجتمع ,ثقافة الحرمان من التعبير بدءا بخلية المجتمع في المجتمعات الابيسية ذات العقلية الذكورية الى حوار المنظومة التربوية بالياتها السلطوية مع المجتمع ومكوناته , متجليا في الأزمات التربوية والنفسية الى عقم الحوار في الفضاء السياسي بين الوصي السياسي الراشد (الراعي )والقاصر الموصى به سياسيا (الرعية ),
كل هذا خلق عقدة التصالح مع الذات ,عقدة زادت الوسائل المعلوماتية والتكنولوجية في تعقيدها ,وأبانت بالملموس تجسيدا لواقع الوضعية المتأزمة من خلال التعابير الالكترونية الافتراضية ,والبوح "بالمحرم "(الطابو (tabou )في مجال أوسع تنعدم فيه السلطوية المجتمعية نسبيا ,مما خلق مجتمعات افتراضية لها حاجيات ومتطالبات ,تعيش انشطارا وازمة في التعبير الواقعي وتتقاسم فضاء الجدران والافتراض كساحة للرأي والتعبير بل شيزوفرينيا عصية على الفهم احيانا.
ان الاشارات التعبيرية المعبر عنها على الواجهات العمومية والفضاءات الاخرى هي رسائل مرموزة ,تتبادل عمليا خيوط التواصل بين مكونات المجتمع حكاما ومحكومين ,تحتاج لمن يلتقطها والى من يترجمها ويفك رموزها حيث هي المعبر البديل عن مطالب سياسية واجتماعية وثقافية .. وهي المعبر الحقيقي عن لحظات تاريخية معينة كالسخط عن الأوضاع والدعوة إلى الاحتجاج والثورة ..إلى تحريك الطابوهات والعلاقات الحميمية والعاطفية والجنسية ..التي تبقى حبيسة الصناديق السوداء الى الأبد .
أكيد أن التعبير شكل من أشكال الرقي الحضاري .وأسمى بنيان للحضارة في أوج عطائها ,واستمرارية الإنسانية في بلوغ مراميها وذلك في مناخ سياسي واجتماعي يكفل هامش الحريات وأرضية التواصل والحوار تحل محل الذاتية السلطوية والعبقرية "بتخريج" الحلول العاجلة والآجلة في مناخ تسوده التضييق على أسمى ملكات الانسان.
اذ لايمكن اعادة بناء أي مجتمع خارج اطار التدبير العقلاني للاختلاف والحوار في أعلى مستوياته ,وكذا الرؤى المشتركة للكشف عن الحقائق والبوح بها ولو كانت في أبسط تجلياتها , تبقى الممارسة الديمقراطية منطلقا لترسيخ الحوار بشكل هادئ ,بعيدا عن التلميحات التي تؤدي الى تجدر العنف بين "الراعي "والرعية" في مجتمع تنقلب فيه الامور الى حوار العنف مع نفسه.
فلا بد اذن من اعادة بنينة العلائق على أسس ذات مقاربة تربوية واجتماعية سياسية ذات أبعاد انسانية حاملة لمشروع التقدم الانساني .قمينة بتصحيح الوضع وانعاش حرية التعبير بهوامش اكبر مما هي عليه الآن-على علاتها- وبضمانات أوسع ,بشكل أفقي يعيد توزيع الأدوار بين مكونات المجتمع .
ولان الإيمان العميق بصنع الديمقراطية والحقوق والحريات ينطلق من الايمان بمبادئ الحوار والاختلاف ,حيث لن يتأتى ذلك عبر المسلمات السياسية والمشاريع الاجتماعية الصماء ,ووثائق التعاقدات العمودية , ورسم الحقائق على خرائط الجوع والفقر ,بل ان التغيير الحقيقي يقتضي دفع ضريبته وذلك عندما تنعدم الإرادة الحقيقية لدى الكل من أجل الانتقال الى مراحل التاريخ التي ستحسم فيما ستؤول اليه الأوضاع في مجتمعات تداس فيها الكرامة ,وتكمم الأفواه ,وتنعدم فيها ابسط شروط العيش الكريم في زمن الارتدادات السياسية والاجتماعية .
#عبداللطيف_أسرار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟