غازي الصوراني
مفكر وباحث فلسطيني
الحوار المتمدن-العدد: 4121 - 2013 / 6 / 12 - 22:14
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
اعداد غازي الصوراني
مقتطفات من كتاب رأس المال
تأليف المفكر الماركسي الراحل د. فؤاد مرسي
تمهيد
عن تكوين "رأس المال" يقول المفكر الماركسي الراحل د.فؤاد مرسي: كرس كارل ماركس أربعين عاماً من حياته لكتابة "رأس المال". فلقد بدأ فيه عام 1843 وواصل العمل فيه حتى آخر يوم في حياته. ويقع "رأس المال" في أربعة مجلدات وقد خصص ماركس المجلد الأول لعملية إنتاج رأس المال. ويحتوي على تحليل لكيفية إنتاج فائض القيمة وإنتاج رأس المال نفسه.أما المجلد الثاني فيتناول عملية تداول رأس المال، تداول عناصره المختلفة ومبادئ تصريف السلع وتكرار الإنتاج الذي يسمح به تداول رأس المال. وينطوي المجلد الثالث على الإنتاج الرأسمالي في جملته، أي ينطوي على وحدة كل من الإنتاج والتداول لرأس المال. فهو مخصص لتوزيع رأس المال الذي ينتج من الإنتاج والتداول. أما توزيع فائض القيمة فيعود عند ماركس إلى الربح والفائدة والريع العقاري. ثم يوزع الربح إلى ربح صناعي ومصرفي وتجاري. ويدرس تطور هذا التوزيع، والاتجاه إلى انخفاض معدل الربح أي علاقة الربح بالتطور الرأسمالي عامة. وبعد وفاته في عام 1883 عكف إنجلز على إنجاز المجلد الثاني ونشره في عام 1885، ونشر المجلد الثالث في عام 1894 أي قبل وفاته هو بعام. ولذلك يعد المجلدان من عمل ماركس وانجلز معاً.
والواقع أن المجلد الأول هو بلا نزاع أهم المجلدات جميعاً. وينطوي على أهم ما لدى ماركس من فكر اقتصادي. وتأتي أهمية المجلد الثاني من دراسته التفصيلية لبعض نواحي المجلد الأول، وبخاصة تناقضات الرأسمالية والأزمات، وكان ماركس قد أكمل المجلد الثاني قبل موته.
أما المجلد الثالث فإنه أضاف كثيراً إلى المجلد الأول....لم يجد إنجلز مزيداً من العمر ليصدر المجلد الرابع والأخير من "رأس المال" والذي تناول تاريخ الفكر الاقتصادي وبخاصة تطور نظريات القيمة. ولقد ظل مطوياً حتى نشره كاوتسكي في عام 1905 تحت عنوان "نظريات فائض القيمة". لذلك ارتأيت تلخيص كتاب رفيقنا الخالد د. فؤاد مرسي لمزيد من الاطلاع والفائدة لكل رفاقنا في الوطن العربي
غازي الصوراني
مـقدمـة:
في منتصف القرن التاسع عشر، كانت الرأسمالية قد بلغت قمة الرخاء المادي. وكان علم الاقتصاد السياسي يبدو وهو التحليل النظري للمجتمع الرأسمالي وكأنه قد اكتمل على أيدي سميث وريكاردو.
عندئذ وفي هذا الوقت بالذات، كان كارل ماركس يتصدى ليمزق هذا الاستقرار الظاهري، ويكشف أكثر فأكثر عن الأزمة الاجتماعية الكامنة في المجتمع البرجوازي. وفي عام 1867، أصدر الجزء الأول من "رأس المال".
وابتداء من أزمة الاقتصاد السياسي التقليدي، أخذ ماركس يشيد اقتصاده السياسي. وابتداء من أزمة المجتمع البرجوازي، أخذ ماركس يشيد اقتصاده السياسي. وابتداء من أزمة المجتمع البورجوازي، أخذ ماركس يشكل صورة المجتمع الجديد. هنالك اتخذت الاشتراكية العلمية التي اكتشفها كارل ماركس وفردريك انجلز أساسها العلمي الثابت بفضل التحليل الدقيق للمجتمع البورجوازي. وكان اكتشاف قانون حركة هذا المجتمع تحت اسم قانون فائض القيمة عملاً حاسماً في تشييد البناء الفكري للاشتراكية العلمية.
لهذا احتل "رأس المال" أهميته التاريخية في الفكر الاشتراكي، هذه الأهمية التي كان يدركها ماركس نفسه حين وصف "رأس المال" فقال "إنه النصب التذكاري لي".
ومنذ أعلنها ماركس في "رأس المال"، ومصير العالم يتحدد تقدماً أو تراجعاً بالصراع بين رأس المال والعمل.
- الفصل الأول-
أزمة الاقتصاد السياسي
من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد المبتذل
امتد الصراع بين الرأسمالية الناشئة والإقطاع المتداعي زمناً طويلاً، بحيث كان انتصار الرأسمالية في النهاية عملية تاريخية كاملة استغرقت قرابة القرنين السابع عشر والثامن عشر، وانتهت في النصف الأول من القرن التاسع عشر.
ولقد ظهر علم الاقتصاد السياسي تعبيراً نظرياً عن هذا المجتمع البورجوازي الجديد. أنجبته عقول العباقرة من أمثل وليام بتى في انجلترا وبواجيلبير في فرنسا في نهاية القرن السابع عشر. لكنه بصياغة الطبيعيين الفرنسيين وآدام سميث الاسكتلندي، يعتبر في الواقع ابن القرن الثامن عشر، ابن عصر التنوير.
وبهذه الصفة كان مكسباً من مكاسب هذا العصر، فقد كان يبدو على سبيل المثال وكأنه تعبير عن حكمة العقل الأبدي، ومن ثم فإنه كان يعكس أبدية النظام الرأسمالي نفسه.
النظرية التقليدية:
وفي سنة 1817 نشر دافيد ريكاردو كتابه "مبادئ الاقتصاد السياسي والضرائب" فتتوفر به ما اعتبر إنجيلاً لعلم الاقتصاد السياسي. قال ريكاردو "إنني اعتبر العمل مصدراً لكل قيمة واعتبر كميته النسبية المعيار الذي ينظم القيمة النسبية للسلعة". وتوصل إلى القول بأن قيمة السلعة إنما تتحدد دائماً بالعمل، أولاً بالعمل الحي الذي يبذله العامل وثانياً بالعمل المتراكم في صورة رأس المال، مبيناً أن "رأس المال هو عمل متراكم".
هكذا تلخصت نظرية الاقتصاد السياسي عندئذ في حقيقتين أساسيتين، الأولى: هي أن العمل هو مصدر كل ثروة، ومقياس كل قيمة. والثانية: هي أن العمل المخزون يسمى رأس المال، ورأس المال هذا بفضل الطاقة الكامنة فيه يزيد إنتاجية العمل الحي مئات وآلاف المرات، وفي مقابل ذلك يطالب بتعويض ما يسمى الربح.
بالتالي فإن الاقتصاد السياسي يدرس، كما يقول ريكاردو، "مجتمع السلع التي تستطيع الصناعة زيادتها كما تشاء والتي تنظم إنتاجها المنافسة غير المقيدة".
إن الإنتاج يتم من أجل السوق، وإذن فما الذي ينظم هذا الإنتاج للغير، أي للمجهول؟ إنها المنافسة الحرة. فبفضل قوى السوق، بفضل المبادرة الفردية لكل من المنتج والمستهلك، وكل منهما يسعى وراء مصلحته الشخصية، يتحقق التوازن من تلقاء نفسه. ولا حاجة إلى أي تدخل لإحداثه، بل يكفي أن ندع
الحرية تسود، حرية الإنتاج وحرية التجارة وحرية العمل. وعندئذ فإن المصلحة الشخصية التي تقود الجميع سوف تحقق التوازن المنشود للجميع.
الرأسمالية نظام طبيعي:
وفيما وراء هذه النظرية التي عرفت باسم النظرية التقليدية والتي كان لريكاردو فضل إتمام صياغتها. أصبحت الرأسمالية عندئذ هي طبيعة الأشياء. فمع تصفية الأوضاع الإقطاعية، لابد أن تسود الأوضاع التي يقضي بها العقل، لابد أن تسود الأوضاع الطبيعية. مع انهيار الإقطاع لابد من العودة إلى الطبيعة. ونظام الطبيعة هو أفضل النظم. والمجتمع نفسه جزء من الطبيعة. وفي المجتمع يتحرك كل فرد بوحى من مصلحته الشخصية. ولما كانت الطبيعة البشرية ثابتة لا تتغير، انتهت النظرية التقليدية في الواقع إلى نتيجة خطيرة هي ثبات الرأسمالية وأبديتها.
وبدت كل الأوضاع البورجوازية كما لو كانت هي الأوضاع الطبيعية، يسير عليها كل مجتمع، منذ بداية البشرية إلى نهايتها. وهكذا فلقد بدأت البورجوازية بالقول بأن الرأسمالية نظام طبيعي، وانتهت بالقول بأن الطبيعة نظام رأسمالي.
ويجب الاعتراف بأن هذه الرؤية كانت بذلك – ومع ذلك – رؤية متفائلة، قادت البورجوازية الصاعدة إلى بناء المجتمع الرأسمالي بالفعل. لقد كانت هذه الرؤية تعبر عن بورجوازية تصفي بقايا المجتمع الإقطاعي، وتعمل على تطهير العلاقات الاقتصادية من الإقطاع، كي تزيد القوى الإنتاجية وتقود الصناعة والتجارة.
ففي "ثروة الأمم" يكتب آدام سميث بكل الرضا يقول "بعد أن أقصيت كل الأنظمة القائمة على التفضيل أو التقييد، فإن النظام الواضح البسيط، نظام الحرية الطبيعية، هو الذي يتقرر من تلقاء نفسه. وينبغي أن يترك كل فرد ما دام لا يخالف قوانين العدالة في أتم الحرية للسعي وراء مصلحته الخاصة على الوجه الذي يلائمه، وتقديم عمله ورأسماله بالتنافس مع عمل ورأس مال أي إنسان آخر وأية طبقة أخرى من الناس".
المذهب الفردي:
وفي ظل هذه النظرية التقليدية، كان يجب أن يعطى المكان الأول للمنتج الذي أتاح للدنيا الجديدة أن تولد. إن رب العمل الفرد، الجسور، المقدام، المنقب عن مصادر الإنتاج، الباحث المكتشف للأسواق، الساعي بلا توقف لخفض النفقة وزيادة الإنتاج، الحريص بلا رحمة على تحقيق الربح، ذلك هو الإنسان النموذج.
ولهذا كانت النظرية التي صيغت تصطحب بمذهب أصبح معروفاً باسم الفردية، وهو مذهب ملامحه تجسد الفكر الاقتصادي والاجتماعي للبورجوازية الصاعدة التي يمثلها بالذات ربابنة الصناعة وروادها.
فالفردية تعنى بالفرد، أي الإنسان. لكنها تعنى به كفرد ناجح، أي كرأسمالي، إنها تحلل الطبيعة البشرية وتجد جوهرها في الأنانية والمنفعة فتمتدحهما ثم تجسدهما معاً في عملية جمع المال.
فكيف يمكن أن يتفق مسعى كل فرد مع مسعى الأفراد الآخرين؟ إنها ترى الانسجام متحققاً فيما بين الفرد والجماعة من خلال المنافسة الحرة.
كان مكيافيللي قد أرسى مبدأ الغاية تبرر الوسيلة، حتى لقد عرف إيثار الغير بأنه "أنانية مقنعة". فجاء بنتام وجعل من المنفعة مبدأ أسمى للإنسان. ثم جاء سميث وعرض مبدأ المصلحة الشخصية قائلاً "كل فرد يبذل جهوده بلا انقطاع ليبحث لرأسماله عن أفضل استخدام. صحيح أنه يبحث عن كسبه الخاص وليس عن كسب المجتمع، بيد أن اشتغاله بمصلحته الشخصية يسوقه بالطبع أو بالضرورة ليجعل هذا الاستخدام هو الأفضل بالنسبة للمجتمع. إن هذا الفرد لا ينوي أن يخدم المصلحة العامة، بينما لا يدري كم هو يخدمها فعلاً. إنه في هذا تقوده يد خفية لأداء غاية لم تدخل أبداً في حسبانه".
ولا شك أن ثمة سذاجة بالغة في تصوير مثل هذا الفرد، الإنسان الذي يكون كل ما هو مفيد له مفيداً لكل فرد وبشكل مطلق، في كل مجتمع بشري، في الماضي والحاضر والمستقبل. إن هذا الفرد الذي ابتكره القرن الثامن عشر ليس في الواقع سوى ثمرة تحلل المجتمع الإقطاعي من جهة وازدهار المجتمع البورجوازي من جهة أخرى. ولذلك فهو فرد في مجتمع معين، هو المجتمع البورجوازي في مرحلة المنافسة الحرة. هو كائن تاريخي، له تطوره في الماضي وبالمثل في المستقبل. وحتى في داخل المجتمع البورجوازي نفسه، فليس هو التعبير عن كل أفراد المجتمع. فالمصالح متفاوتة فيما بينهم. وهناك بالضرورة صراع بين الطبقات.
الصراع الطبقي:
ومن الحق أن نقول إن ريكاردو كان يعترف بوجود الصراع الطبقي. ولقد كان يتخذ من الصراع بين المصالح الطبقية المختلفة، بين الأجور والأرباح، بين الأرباح والريع، نقطة بدء لأبحاثه. لقد اعترف مثلاً بالتناقض الضخم في المجتمع البورجوازي قائلاً "لا يمكن أن يزيد الأجر إلا على حساب الربح والعكس بالعكس".
ولقد تعرض نتيجة لذلك لحملات عنيفة، حتى في حياته. واعتبره هنري جورج أبا للشيوعية. وكتب جيد وريست يعلقان فيما بعد على كتابه قائلين "لم يكن ريكاردو يعلم وهو يضع ذلك الكتاب أنه يهدم أعمدة الهيكل الرأسمالي".
ومع ذلك فقد كان ريكاردو ينظر إلى الصراع الطبقي بسذاجة. على أنه قانون اجتماعي من قوانين الطبيعة، لا دخل لإرادة الإنسان فيه – أليس الرأسمالي يحتاج للعامل مثلما يحتاج العامل للرأسمالي؟
وكان القس باركلي قد اقترح من قبل القبض على كل متسول واسترقاقه لبضع سنين. فجاء القس مالتس وطالب بإلغاء قانون الفقراء الذي يمنحهم بعض العون، قائلاً "ليس لإنسان حق في الحياة إذا لم يستطع عمله أن يشتريها له".
لقد كان المطلوب من الفرد أن يكون عاملاً لدى الرأسماليين أو لا يكون إطلاقاً.
ولكن ها هي الأمور تتعقد. فمنذ بداية القرن اصطحب الازدهار الرأسمالي ببؤس الكادحين بحيث ارتفعت أسعار مواد المعيشة وتضاعف ثمن القمح عدة مرات. كذلك فإن الثورة الصناعية كانت تعني أيضاً، إحلال العمل الآلي محل العمل اليدوي. وعرف العمال البطالة وتخفيض الأجور وزيادة حدة الاستغلال من خلال عملية الإنتاج. وفيما بين عامي 1820 و 1830 اشتد تطور المجتمع البورجوازي.
ومع ذلك كان الصراع الطبقي بين رأس المال والعمل مازال مدفوعاً إلى المؤخرة. كانت البورجوازية تلعب دورها الثوري إلى نهايته: سياسياً بالصراع المتفاقم بين الحكومات الإقطاعية المتجمعة حول الحلف الأوربي المقدس وبين الجماهير الشعبية تقودها البورجوازية.
سيطرة البورجوازية:
وفي عام 1830 حلت بالاقتصاد الرأسمالي أزمة شاملة. لقد استولت البورجوازية نهائياً على السلطة السياسية في أكبر بلدين رأسماليين هما انجلترا وفرنسا.. في انجلترا بصدور قانون الإصلاح الانتخابي سنة 1832 لمصلحة الطبقة الوسطى، وصدور قوانين الغلال ضد ملاك الأراضي. وفي فرنسا بسقوط الملكية سنة 1830 وحكم لوى فيليب رجل الرأسمالية المصرفية. هنالك بدأ الصراع الطبقي بين رأس المال والعمل يتخذ واقعياً ونظرياً أشكالاً علنية. برز هذا الصراع الطبقي واتخذ صورة تحركات عظيمة من جانب البروليتاريا ضد البورجوازية. هب العمال الفرنسيون في ليون، والغزالون الألمان في سيليسيا، وانطلقت حركة الميثاق في انجلترا. واشتد ساعد الحركة العمالية إلى الحد الذي أتاح فيما بعد للطبقة العاملة الفرنسية أن تشترك في ثورة فبراير 1848 كطبقة مستقلة لأول مرة عن البورجوازية. تلعب دوراً قيادياً في الثورة وتشارك في الحكم لأول مرة في التاريخ. واقترن هذا الصراع كله بظهور الاشتراكية الخيالية تعبيراً نظرياً عن طموح الطبقة العاملة حينئذ.
حركة البروليتاريا:
ولم تكن حركة الميثاق في انجلترا حركة اشتراكية، لكنها كانت التعبير عن حركة نضج الطبقة العاملة الانجليزية.
فالطبقة العاملة لا تصل بقواها الذاتي إلا إلى الوعي النقابي أما الوعي السياسي فيتطلب تدخل المثقفين من الطبقات الأخرى.
تكونت في لندن في عام 1836 جمعية العمال الذين صاغوا مطالبهم في صورة "ميثاق الشعب"، وأقاموا حزباً مستقلاً هو حزب الميثاقيين. فكان أول حزب عمالي في العصر الحديث.
أما في فرنسا، فقد اتخذ الصراع الطبقي أشكالاً أكثر سفوراً وحسماً.
كانت هناك أفكار اشتراكية عرضها مابلي ومورللي. وفي الثورة الفرنسية نفسها ظهرت حركة "الغاضبين" ثم حركة "الأنداد" بقيادة بابوف نظراً لمطالباتهم بمساواة لها صداها في الحياة المادية. طالبوا بإلغاء الملكية الفردية للأرض والانتفاع على الشيوع بثمرات الأرض قائلين "الثمار حق للجميع". ولقد أعدوا مؤامرة فيما بين عامي 1795 و 1797، ونشروا لها بياناً يعرف ببيان الأنداد قالوا فيه: "إن الثورة الفرنسية ليست سوى البشير بثورة أخرى، ثورة أكبر بكثير وأخطر بكثير، ستكون الثورة الأخيرة. نحن نسعى إلى شيء أسمى وأعدل هو المال الشائع أو مشايعة الأموال". لكنها كانت شيوعية لا تهتم بالإنتاج قدر اهتمامها بالتوزيع. وكانت بالدقة حركة للبورجوازية الصغيرة، التي تعنيها الأرض بالذات. ومع ذلك يسميها ماركس "حركة أولى للبروليتاريا".
ظهور الاشتراكية الخيالية:
هكذا كان الصراع حاداً. ومنذ بداية القرن التاسع عشر ظهرت الاشتراكية الخيالية تعبيراً عن مقدار النضج الذي بلغته الطبقة العاملة حينئذ.
كتب سان سيمون عن فلسفة التاريخ. فقال: "أحسب أني وجدت مفهوماً موسوعياً أفضل مما لدى بيكون، ومفهوماً عن العالم أفضل مما لدى نيوتن، ومنهجاً أفضل من منهج لوك". هذا المفهوم هو أن التاريخ مبني على مبدأ التطور بوصفه التغير المستمر في نظام الملكية. وهو تغير يرمي إلى تحسين أحوال المعيشة. وأعلن بوضوح أن "السياسة تخضع للاقتصاد". وكان في الواقع يعلق آماله على الصناعة "فكل شيء بالصناعة وكل شيء من أجل الصناعة". كما كان يؤمن بالطبقة الصناعية، فهي أهم الطبقات جميعاً.
وكتب فورييه نقداً اجتماعياً حاداً وساخراً للمنافسة وللتفتت الصناعي. وقدم مفهومه عن تاريخ المجتمعات وصراع الطبقات. فالمنافسة تمهد للأزمة والفقر، وتعبد الطريق لنشأة أرستقراطية تجارية. وانتهى إلى أن الملكية المشتركة هي أنجع الوسائل للتوفيق بين الفقير والغني.
وتميز أوين بنظرته النافذة إلى أعماق المجتمع الرأسمالي. لكنه ناشد أصحاب الامتيازات أن يتنازلوا طواعية عن امتيازاتهم. فلما صدمته إجابتهم وسبقه العمال نحو النضال، كما بدأ في حركة الميثاقيين، ارتبط في النهاية بالشيوعية.
الاشتراكية الخيالية هي تعبير في نهاية الأمر عن المستوى المنخفض لتطور الرأسمالية والحركة العمالية حتى منتصف القرن التاسع عشر.
كان الاشتراكيون الخياليون يرفضون كل عمل سياسي، وبخاصة العمل الثوري، ويسعون لبلوغ غايتهم بطرق سلمية، نشرت عشية ثورة فبراير 1848 تحمل مثل هذه العناوين: هل يهتمون بنا، هل يفكرون في تخفيض ثمن الخبز لنا أو صرخة استعطاف – عن الوسيلة لإعطاء الخبز بثمن في متناول الفقير.
وكان عمال الطباعة أكثر العمال مبادرة، ومنهم خرج برودون الذي اشتهر بعبارته: "الملكية هي السرقة" وقبل ثورة فبراير 1848 ظهر البيان الشيوعي بقلم ماركس وانجليز.
في فبراير 1848 دعا لوى بلان العمال الباريسيين للتمرد من أجل تنظيم العمل. وانطلقت الثورة، فعمت أوربا كلها حتى انجلترا والنرويج والسويد وروسيا. ووصلت البروليتاريا والبورجوازية الصغيرة إلى الحكم لأول مرة في فبراير 1848. ولكن سرعان في يونيه 1848 ما وقع الصدام الدامي بين البروليتاريا والبورجوازية. وبرز بلانكي قائداً للبروليتاريا وظهرت البلانكية وريثة للبابوفية.
وكان بلانكي هو الرأس والقلب للحزب البروليتاري. تجرد من التفاؤل الذي تميز به جيله بوضع ثقتهم في الحكام. وأعلن بصراحة أنه لن يتاح للكادحين أن يشتروا حريتهم إلا باستخدام الدولة وبالاستحواذ على السلطة العامة. وكان يعقد أمله على "أقلية منضبطة موثوق بها من قادتها، مستعدة لكل شيء، قادرة على البطولة العظمى". لكن الثورة لم تكن تتطلب هذه الأقلية الفعالية فقط، بل الجماهير المنظمة خلف قيادتها.
لقد كان الاقتصاد التقليدي يبحث منذ وليام بني عن العلاقات الحقيقية للإنتاج في المجتمع البورجوازي ويحاول عن طريق التحليل أن يرد الأشكال المختلفة للثروة إلى وحداتها الداخلية ويسعى لفهم العلاقة الوثيقة لتعدد الظواهر الخارجية.
أما الاقتصاد المبتذل فيعالج الظاهر فحسب، ساعياً وراء التفسيرات الرخيصة للظواهر ومتخذاً من العنصر المبتذل في الظواهر نظرية على حدة. معتبراً أن "البؤس الذي نراه في الظاهر ونحسبه
محتوماً في المجتمع إنما يخفى في حقيقة الأمر انسجام المصالح، فإن الشر يلد الخير من نفسه، ما في ذلك من شك".
بدأت البورجوازية في مجموعها في التخلي عن كل من العقل والتاريخ. أخذت البورجوازية تنقض على ماضيها نفسه. وتحول الاقتصاد السياسي في أيدي مفكري البورجوازية من بحث العلاقات الاقتصادية بين الناس في مجالها الحقيقي وهو الإنتاج إلى بحثها في مجالها المجازي وهو التبادل.
هكذا، عندما تفجرت أزمة الاقتصاد السياسي، لم تكن بريطانيا وهي مهد علم الاقتصاد بقادرة على إخراج الاقتصاد السياسي من أزمته. وإنما انتقلت المهمة إلى ألمانيا. فهناك عندما نما الإنتاج الرأسمالي بسرعة وبلغ فيها حد الازدهار، حدث فيها ما حدث لانجلترا من قبل مع وعي أكبر لدى البروليتاريا عنه لدى البورجوازية.
ويبدو أن هزيمة ثورة 1848 في ألمانيا قد كان من جرائها أن ودع المثقفون الألمان مسائل النظرية وانهمكوا كما يقول ماركس في التطبيق، أعني جني الأرباح.
وبينما كانت هذه البورجوازية مشغولة باستيعاب المواد الأولية لعلم الاقتصاد البورجوازي، ظهر الحزب البروليتاري في ألمانيا على مسرح الأحداث، وظهر معه إمكان قيام علم الاقتصاد الألماني. لكنه في هذه المرة كان يجب أن يكون علم الاقتصاد البروليتاري.
وهكذا لم تعد الظروف التاريخية في ألمانيا لتسمح بتطوير علم الاقتصاد السياسي، بل تدعو لتشييد علم اقتصاد جديد. ففي اللحظة التي بدأ فيها أن من الممكن قيام علم بورجوازي للاقتصاد السياسي في ألمانيا، كان هذا الأمر قد غدا مرة أخرى مستحيلاً في الواقع. ولم يعد ممكناً أن يقوم علم اقتصاد جديد سوى علم البروليتاريا. وكانت تلك هي مهمة "رأس المال".
- الفصل الثاني-
ظهور "رأس المال"
النقد البروليتاري للاقتصاد السياسي
كانت المهمة المطروحة بعد انفجار أزمة الاقتصاد السياسي هي القيام ( بنقد) هذا الاقتصاد, ولكنها كانت مهمة ثورية لا تستطيعها إلا طبقة ثورية. يقول ماركس:" بالقدر الذي يعبر النقد عن طبقة ما, فإنه يمثل تلك الطبقة التي تكون رسالتها في التاريخ هي الإطاحة بطريقة الإنتاج الرأسمالية وإلغاء جميع الطبقات نهائياً, ألا وهي البروليتاريا".
نقد الاقتصاد السياسي
والقيام بنقد علم الاقتصاد إنما كان يعني أن علم الاقتصاد ما زال لم يكتمل, مازال واجب التكوين.لقد اكتشفت البورجوازية الاقتصاد السياسي. لكن كل ما أنجزه هذا الاقتصاد السياسي من علم اقتصادي حتى ذلك الحين كان يقتصر على دراسة تكوين وتطور أسلوب الإنتاج الرأسمالي. ومن ثم طور إيجابياً قوانين أسلوب الإنتاج الرأسمالي وأشكال المبادلة المؤاتية له. ولكن من أجل أن يكتمل الاقتصاد السياسي، كان لابد أن ينتهي بالنقد الاشتراكي لأسلوب الإنتاج الرأسمالي. ولهذا يسمى ماركس كتابه تارة "نقداً للاقتصاد السياسي" وتارة أخرى "تحليلاً نقدياً للإنتاج الرأسمالي".
كلمة رأس المال:
يقال أن أول مرة استخدمت فيها الكلمة كانت في القرن السابع عشر، صفة للمخزون الرئيسي أو للمال الأصلي للتاجر. ولقد تحدث بتي في كتابه "الحساب السياسي" الصادر سنة 1669 عن "رؤوس الأموال الهولندية في شركة الهند الشرقية". وعند التجاريين كان معنى الكلمة هو مبلغ النقود الذي أقرض أو الذي يحتفظ به من أجل الإقراض أي "أصل الدين". ثم استخدمت لتعنى الثورة التي تنتج ربحاً معيناً. واستخدمها الطبيعيون، فابتداء من تيرجو أصبحت تعني "القيم المتراكمة". واستخدمها آدم سميث بمعنى "رصيد التاجر".
ويتوصل سميث إلى تقسيم رأس المال إلى جار وثابت. ثم تنتقل الكلمة إلى ريكاردو، فيقول في تعريف رأس المال "رأس المال هو ذلك الجزء من الثروة المعد والمستخدم بغرض الإنتاج والذي يتكون من الطعام والملابس والأدوات والمواد الأولية والآلات وغيرها، الضرورية من أجل العمل".
ثم استخدم ماركس كلمة رأس المال، فأصبح لها معنى جديد. لم تعد كل أداة عمل أو وسيلة إنتاج رأس مال. الأشياء كلها لا تعتبر رأس مال في حد ذاتها. وإنما النظام الاجتماعي المعين هو الذي يجعل من هذه الأشياء رأس مال. قد تكون النقود رأس مال. وقد تكون الآلات والمباني والمواد الخام والمنتجات رأس مال. فليس رأس المال شيئاً معيناً بل هو علاقة اجتماعية معينة. إن المال لا يصبح رأس مال إلا متى زاد من قيمته أي متى عاد بفائض قيمة. فرأس المال هو قيمة تأتي بفائض
قيمة. كيف؟ من خلال اتحاد رأس المال بالعمل. كيف؟ عن طريق استغلال العمال الأجراء. ذلك فقط هو رأس المال.
معرفة موسوعية:
ولسوف نجد في "رأس المال" أفكاراً عبر عنها من قبل عشرات الكتاب من الفلاسفة والاقتصاديين والاشتراكيين. سنجد هيجل وفويرباخ وديتزجن في الفلسفة. وسنجد بتي وسميث وريكاردو في الاقتصاد. وسنجد سان سيمون وفورييه وبازار وأوين وانفانتان وكونسيدران ولرو وبلان وبكير وكابيه وبلانكي في الاشتراكية.
فالحق أن "رأس المال" ينطوي على معرفة موسوعية ألمت بكل أدبيات الاقتصاد السياسي وفلسفة العصر وثقافته السياسية.
تكوين "رأس المال":
كرس كارل ماركس أربعين عاماً من حياته لكتابة "رأس المال". فلقد بدأ فيه عام 1843 وواصل العمل فيه حتى آخر يوم في حياته.
كتاب عنوانه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" وهو دراسة نقدية لنظرية القيمة عند التقليديين وعند الاشتراكيين الخياليين. وتضم ما يسميه الانجليز "مبادئ الاقتصاد السياسي لكنها اقتصرت على موضوعين فحسب هما السلعة والنقود. ولم تذكر شيئاً عن رأس المال.
ويقع "رأس المال" في أربعة مجلدات وقد خصص ماركس المجلد الأول لعملية إنتاج رأس المال. ويحتوي على تحليل لكيفية إنتاج فائض القيمة وإنتاج رأس المال نفسه.
أما المجلد الثاني فيتناول عملية تداول رأس المال، تداول عناصره المختلفة ومبادئ تصريف السلع وتكرار الإنتاج الذي يسمح به تداول رأس المال. وينطوي المجلد الثالث على الإنتاج الرأسمالي في جملته، أي ينطوي على وحدة كل من الإنتاج والتداول لرأس المال. فهو مخصص لتوزيع رأس المال الذي ينتج من الإنتاج والتداول. أما توزيع فائض القيمة فيتم عند ماركس إلى الربح والفائدة والريع العقاري. ثم يوزع الربح إلى ربح صناعي ومصرفي وتجاري. ويدرس تطور هذا التوزيع، والاتجاه إلى انخفاض معدل الربح أي علاقة الربح بالتطور الرأسمالي عامة.
وبعد وفاته في عام 1883 عكف إنجلز على إنجاز المجلد الثاني. فنشر المجلد الثاني في عام 1885، ونشر المجلد الثالث في عام 1894 أي قبل وفاته هو بعام. ولذلك يعد المجلدان من عمل ماركس وانجليز معاً.
والواقع أن المجلد الأول هو بلا نزاع أهم المجلدات جميعاً. وينطوي على أهم ما لدى ماركس من فكر اقتصادي. وتأتي أهمية المجلد الثاني من دراسته التفصيلية لبعض نواحي المجلد الأول، وبخاصة تناقضات الرأسمالية والأزمات، وكان ماركس قد أكمل المجلد الثاني قبل موته. أما المجلد الثالث فإنه أضاف كثيراً إلى المجلد الأول.
فلم يجد إنجلز مزيداً من العمر ليصدر المجلد الرابع والأخير من "رأس المال" والذي تناول تاريخ الفكر الاقتصادي وبخاصة تطور نظريات القيمة. ولقد ظل مطوياً حتى نشره كاوتسكي في عام 1905 تحت عنوان "نظريات فائض القيمة".
"مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي":
في الدراسة التمهيدية "لرأس المال" والمنشورة تحت عنوان "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" يلخص ماركس ما يعنيه بالاقتصاد السياسي. فالواقع أن علم الاقتصاد إنما يبحث ظاهرتي الإنتاج والمبادلة خلال تطور المجتمع البشري. فالإنسان لا يوجد إلا في مجتمع. الإنسان حيوان سياسي، بل هو حيوان لا تتحدد شخصيته إلا في أحضان المجتمع وفي هذا المجتمع يتم الإنتاج والتبادل بين الناس. وبتطورهما يتطور المجتمع. والمجتمع يتطور بلا أنقطاع.
والإنتاج هو عملية استحواذ الإنسان بالعمل على موارد الطبيعة، هو تفاعل الإنسان مع الطبيعة، هو سيطرة الإنسان على الطبيعة، هو الصراع التاريخي بين الإنسان والطبيعة.
إن عمل الإنسان هو الذي أخضع الطبيعة وحولها إلى ثروة، وهنا يتبنى ماركس قول بتي "إن العمل أبو الثروة، والطبيعة أمها".
لكن الإنتاج عمل اجتماعي. يتولاه أفراد ينتجون بصورة مشتركة. ولذلك لا يوجد منتج فردي منعزل.
على هذا النحو أيضاً يكون الإنتاج هو امتلاك عمل الإنسان للطبيعة. وهكذا تكون الملكية نظاماً تاريخياً. فقد وجدت الملكية دائماً، لكنها اتخذت على مر العصور أشكالاً مختلفة، من الملكية الشائعة إلى الملكية الخاصة للعبيد، إلى الملكية الإقطاعية للأرض، إلى الملكية الخاصة الفردية لرأس المال. أما المبادلة فهي عملية نقل ملكية المنتجات. هي عبارة عن العلاقات الاجتماعية بين المالكين أو الحائزين للمنتجات. إنها تفترض الملكية، كما تفترض نقل الملكية.
لكن المنتجات موضوع المبادلة غير مطلوبة في الاستهلاك المباشر، ومن ثم تدخل في نطاق التبادل. لذلك كانت المنتجات التي تتبادل تسمى سلعاً. وكانت هذه السلع عند ظهورها نواة لظهور كل من السوق ورأس المال. وكان رأس المال ظاهرة اقتصادية اجتماعية تاريخية وليس – كما رأى التقليديون- عنصراً طبيعياً، عاماً، وأبدياً.
وبهذا بالتحديد يصبح الاقتصاد السياسي علم الظروف والأشكال التي يتم في ظلها الإنتاج والمبادلة ويتم في ظلها أيضاً توزيع المنتجات على أفراد المجتمع. إن أسلوب الإنتاج والمبادلة في مجتمع معين والظروف التاريخية لهذا المجتمع هي التي تفرض أسلوب توزيع المنتجات. ففي ظل مشايعة القبيلة أو القرية حيث تسود الملكية الشائعة للأرض يكون التوزيع المتساوي للمنتجات أمراً طبيعياً. وعندما بدأت عدم المساواة في التوزيع، كان ذلك يعني بداية تحلل الجماعات المشاعية.
الإنتاج المادي:
ولقد قامت كل المجتمعات البشرية بالإنتاج، أي بتوفير الوسائل المادية الضرورية لحياتها. وماركس لا يعني بالإنتاج سوى تلك المنتجات المادية فقط. إنه لا يعني إلا بالإنتاج المادي، أما ما يسمى بالإنتاج المعنوي من أدب وفن فلا يعد إنتاجاً بل هو نوع من الخلق الأدبي أو الفني يخرج من نطاق البحث الاقتصادي.
أما علم الاقتصاد فهو علم إنتاج وتوزيع الوسائل المادية الضرورية للمعيشية.
هذه المنتجات المادية ليست كلها بالضرورة سلعاً. في المجتمعات السابقة على الرأسمالية كان يجري إنتاج الوسائل المادية للمعيشة، إنما لم يكن هناك إنتاج للسلع إلا بقدر قيام المبادلة وانتشار التجارة. فالمنتجات التي تستهلك مباشرة من غير المرور بالمبادلة ليست سلعاً. وإنما السلعة هي المنتجات المعدة للمبادلة. فلما ظهرت السلعة، كانت هي البذرة الأولى للرأسمالية. وظلت هذه التجارة تنمو حتى أصبحت السلع هي النظام الإنتاجي السائد. ولهذا كانت الرأسمالية هي نظام إنتاج ومبادلة السلع.
والواقع، كما يقول ماركس في "رأس المال" فإن ثروة المجتمع الرأسمالي إنما تتشكل من تراكم هائل من السلع.
ويأخذ ماركس في تحليل السلعة في كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي". والسلعة هي ناتج مادي. لكنها أيضاً قيمة. وبذلك تعبر عن التناقض والوحدة بداخلها. فهي قيمة استعمال وقيمة مبادلة.
أما قيمة الاستعمال فهي منفعة السلعة. ومن هذه الناحية تختلف كل سلعة عن الأخرى. منفعة التفاحة غير منفعة المقعد وغير منفعة الكتاب. أما قيمة المبادلة فهي واحدة في كل السلع. فهي قيمة السلعة عند المبادلة. مم تتكون هذه القيمة؟ وكيف تتفق أو تختلف؟ كل السلع هي منتجات للعمل. ولا تختلف فيما بينها إلا من حيث الكم فقط – في قوة العمل المجسد في كل منها.
منفعة السلعة تشكل محتواها المادي أي قدرتها على إشباع حاجة إنسانية. وقيمة السلعة هي شكلها الاجتماعي كنتاج للعمل عندما تتبادل مع سلعة أخرى.
وفي مجرى التبادل تميزت سلعة معينة هي الذهب مثلاً فأصبحت هي النقود. أصبحت تجسيداً للقيمة أو مقابلاً للقيمة. في التبادل إذن يتبادل المنتجون ما أنتجوا من سلع. ومن السلعة يأخذ ماركس في تحليل العمل. وهو يميز بالتالي بين نوعين من العمل: العمل الخاص والعمل الاجتماعي. بالعمل الخاص يخلق المنتج منفعة لنفسه –ينتج للمستهلك. وبالعمل الاجتماعي يخلق المنتج قيمة للمجتمع، صالحة للتبادل.
ولهذا تتسم السلعة بطبيعة مزدوجة. والعمل هو أيضاً له طبيعة مزدوجة. فهناك عمل خاص يؤديه المرء لنفسه. وهناك عمل آخر يؤديه للمجتمع. إنه يبادله بسلعة أخرى – أي بعمل آخر. وتلك هي نظرية العمل كمصدر للقيمة.
أسلوب الإنتاج:
هذا الأسلوب الذي يحصل به الناس على وسائل المعيشة يسمى أسلوب الإنتاج. أن الإنتاج دائماً عملية اجتماعية، لا يؤثر الناس فيها على الطبيعة فحسب بل يؤثر بعضهم على بعض أيضاً. فهم لا ينتجون إلا متعاونين بأسلوب معين. وهم يتبادلون فيما بينهم نشاطهم أو ثمرة هذا النشاط. ولهذا، فإنهم لكي ينتجوا يدخلون في علاقات بعضهم مع بعض.
هذا الأسلوب الذي يحصل به الناس على وسائل المعيشة يسمى أسلوب الإنتاج.
إن أسلوب الإنتاج كما يعرضه ماركس إنما يتناول طائفتين من الظواهر الاقتصادية، هما القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج.
أما القوى المنتجة فهي مجموع ما لدى المجتمع من قوى يستعين بها البشر من أجل إنتاج المنتجات المادية. ولذلك تشتمل على كل وسائل الإنتاج، وكذلك على الناس الذين يستعملون هذه الوسائل بخبرتهم في الإنتاج وبعادات العمل المكثفة لديهم.
ويقصد ماركس بوسائل الإنتاج مجموع وسائل ومواد الإنتاج اللازمة أو المساعدة على الإنتاج، ويقسم وسائل الإنتاج إلى وسائل رئيسية وأدوات. أما الرئيسية فهي ما لا يتم الإنتاج بدونها مثل الأرض في ظل الإقطاع ورأس المال في ظل الرأسمالية. أما الأدوات فهي مجموعة وسائل الإنتاج الصغيرة المساعدة على الإنتاج كالسماد والفحم.
وإذن، فإن قوى الإنتاج تتناول أولاً الخيرات الطبيعية، الأرض، الغابات، المياه، الأراضي الجديدة، المواد الأولية، كما تتناول أدوات الإنتاج التي تسمح بتشكيل الخيرات الطبيعية والمنشآت الضرورية للإنتاج كالمباني ووسائل النقل والمواصلات ووسائل التبادل. وتتناول قوى الإنتاج كذلك الناس الذين يستخدمون وسائل الإنتاج بما لهم من خبرة في الإنتاج من فنون وعلوم وعادات عمل.
إن القوى المنتجة للمجتمع هي القوى التي تسمح بالإنتاج من خلال التأثير على الطبيعة.
ويعلن ماركس أن وسائل الإنتاج هي أهم عناصر القوى المنتجة. ومن بين وسائل الإنتاج تلعب أدوات الإنتاج بالذات الدور الحاسم في الإنتاج. لماذا؟ لأن تطور القوى المنتجة محكوم بتطور أدوات الإنتاج.
يقول ماركس: ليس المهم هو معرفة ماذا ينتج البشر، ولكن بماذا ينتجون. وفي عبارة مشهورة له في "رأس المال" يقول: "إن استعمال أدوات العمل وصنعها هما من مميزات العمل البشري بصفة خاصة".
إن كل قوة منتجة هي قوة مكتسبة انتزعها البشر من الطبيعة. ثم يزداد تأثير هذه القوى المنتجة التي تلعب الدور الثوري في إنتاجهم وحياتهم. كيف؟ لأن هذه القوى تتطور مستقلة عن إرادة البشر الذين يستخدمونها.
البعض ينظرون إلى ماركس كما لو كان قد حصر الاقتصاد السياسي في القوى المنتجة أي في طاقات ووسائل وفنون الإنتاج. لكن ماركس كان منذ البداية حريصاً على نفي هذا التحريف، فكتب في مقدمته لكتاب "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" يقول: "ليس الاقتصاد السياسي هو التكنولوجيا".
فأسلوب الإنتاج ليس فقط التكنولوجيا أو فنون الإنتاج وهي قوة من القوى المنتجة، لكنه يمثل أيضاً علاقات الإنتاج.
وعلاقات الإنتاج هي مجموعة العلاقات الاجتماعية التي ينتج الأفراد في ظلها في مجتمع معين. فعلاقات الإنتاج هي في النهاية علاقات الملكية في المجتمع، هي كل أشكال ملكية وسائل الإنتاج وأشكال توزيع المنتجات.
لكن علاقات الإنتاج المعينة إنما تطابق درجة معينة من تطور القوى المنتجة. فإن القوى المنتجة هي التي تتحكم في علاقات الإنتاج.
ولذلك فليس دقيقاً أن نعتبر الاقتصاد السياسي علم الإنتاج بل علم العلاقات الاجتماعية في الإنتاج، علم التنظيم الاجتماعي للإنتاج.
تطابق القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج:
هكذا تتضح العلاقة الجدلية بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج.
ويعلن ماركس أن القوى المنتجة هي العامل الأكثر حركة والأشد ثورية في الإنتاج. فتطورها أسرع من تطور علاقات الإنتاج. فلا تلبث هذه العلاقات أن تصبح إطاراً ضيقاً لها. فلا تتبين أمامها من سبيل كي تنطلق من عقالها سوى أن تحطم علاقات الإنتاج المحافظة. وهكذا يستطيع الناس باكتساب قوى إنتاجية جديدة أن يغيروا أسلوب إنتاجهم وأسلوب كسب معيشتهم، أن يغيروا كل علاقاتهم الإجتماعية.
إن هذا القانون الاجتماعي الذي اكتشفه ماركس هو الذي يسمى قانون التطابق الضروري بين علاقات الإنتاج وطبيعة القوى المنتجة.
واستناداً إلى هذا القانون يطرح ماركس قضية الثورة الاجتماعية. فإن عدم تطابق القوى المنتجة الجديدة مع علاقات الإنتاج القديمة هو أساس كل ثروة اجتماعية. ويتخذ هذا التناقض شكل الصراع بين الطبقات المرتبطة بعلاقات الإنتاج القديمة والطبقات المرتبطة بالقوى المنتجة الجديدة.
واستناداً إلى هذا القانون الثوري يرى ماركس حتمية انهيار الرأسمالية، ويعلن أن علاقات الإنتاج البورجوازية هي آخر شكل للتناقض في مجرى الإنتاج بين علاقات الإنتاج والقوى الإنتاجية. فإن القوى المنتجة النامية داخل شبكة المجتمع الرأسمالي تخلق باضطراد الظروف المادية لحل ذلك التناقض.
وبعد دراسة فاحصة لنظام الإنتاج الرأسمالي يكشف ماركس عن الحقائق التالية:
أ- أن الرأسمالية نظام تاريخي، لم يوجد دائماً ولن يوجد إلى الأبد.
ب- أن هذا النظام ليس سوى نظام استغلالي طبقي آخر، لمصلحة البورجوازية على حساب البروليتاريا.
ج- أن هذا النظام ينمي الطبقة التي تستطيع وحدها أن تضع حداً له وأن تنهي معه كل استغلال طبقي وهي البروليتاريا.
وتلخص الفقرة الأخيرة من الفصل الأول في "البيان الشيوعي" حتمية هذا التطور كما يلي: "إن الشرط الضروري لوجود البورجوازية وتسلطها هو أساساً تكوين رأس المال وزيادته. والشرط الضروري لوجود رأس المال هو العمل الأجير.
إن تطور الصناعة الحديثة يعمل إذن على تقويض الأساس الذي تستند عليه البورجوازية في الإنتاج وتملك المنتجات.؟؟
وهكذا فإن الصلة وثيقة بين علم الاقتصاد وعلم التاريخ, ولهذا يعرف لينين علم الاقتصاد بأنه " العلم الذي يتناول تطور النظم التاريخية للإنتاج الاجتماعي".
إننا مدينون لكارل مركس بكشفه عن فائض القيمة, هذا الكشف الذي صارت بفضله الاشتراكية علماً.
وهذا معنى قول إنجلز:"ليست الاشتراكية العلمية سوى انعكاس في الفكر البشري للصراع القائم في المجتمع الرأسمالي بين القوى المنتجة الجديدة وبين علاقات الإنتاج الرأسمالية.ويحدث هذا الانعكاس في ذهن الطبقة التي تقاسي مباشرة من هذا الصراع وهي الطبقة العاملة". وبذلك انتهى زمن الاشتراكية الخيالية.
- الفصل الثالث-
جوهر "رأس المال"
قانون فائض القيمة
وقانون فائض القيمة هو قانون حركة النظام الرأسمالي
فانطلاقًا من تحليل الاقتصاد الرأسمالي في ظل المنافسة يكتشف ماركس قانون فائض القيمة, حتى لقد عرف الاقتصاد السياسي بأنه الاقتصاد الذي يبحث في تكوين فائض القيمة. وعندما يتكون فائض القيمة فإنه يخلق رأس مال.
إن الكشف الكبير الذي توصل إليه سميث وريكارد هو أن الإنتاج الرأسمالي يقوم على إنتاج السلع بقصد المبادلة. وهي تتبادل بقيمتها في المبادلة. فما مصدر هذه القيمة؟ إنه العمل. وهذا واضح لدى ريكاردو, وإن يكن لديه بعض الخلط بين العمل مصدراً للقيمة والعمل مقياساً للقيمة. ولكن الأمر قلق عند سميث. فهو تارة "كمية العمل الموجودة في السلعة"وتارة" قيمة العمل الذي يكلفه الشئ أو يتبادل في مقابله". واعتبر مالتس أن القيمة تتوقف على حجم الأجور المدفوعة. ومن ثم لم يعن الاقتصاديون وقتذاك بدراسة ما اعتبره ريكاردو "المشكلة الرئيسية في الاقتصاد السياسي" وهي التوزيع وبخاصة الربح.
ولقد بدأ ماركس نظريته عن القيمة من النقطة التي بلغها سميث وريكاردو قائلاً إنه ليس هناك ما يخلق قيمة سوى العمل, العمل في صنع المنتجات أو في التعدين أو في نقل السلع. ومنذ ذلك الحين والفكر البورجوازي يحاول أن يطمس هذه الحقيقة منتحلاً كافة المعاذير: من نظرية العمل المبذول فعلاُ, إلى نظرية نفقة الإنتاج, إلى نظرية المنفعة الحدية.
المهم أن ماركس قد تلقى النواة السليمة في نظرية التقليديين وبدأ منها أبحاثه, اتجه ماركس نحو المبادلة أو القيمة بالمعنى الصحيح. لكنه سرعان ما اكتشف وراء قانون القيمة قانوناً آخر أكثر جوهرية هو قانون فائض القيمة. اكتشف ماركس أن قانون فائض القيمة- أكثر من قانون القيمة- هو قانون حركة المجتمع الرأسمالي.
حول فائض القيمة يدور "رأس المال" بحثاً عن المراحل الثلاثة لفائض القيمة: مرحلة تكوينه, ومرحلة تداوله, ومرحلة تحوله إلى رأس مال. وهي المراحل الثلاثة للحياة الاقتصادية في ظل الرأسمالية: سلعة فنقود فرأس مال.
كيف يتكون فائض القيمة؟
يتكون فائض القيم في عملية إنتاج السلع, من خلال إنتاج ثروة المجتمع الرأسمالي الممثلة في السلع.
يقول ماركس:"إن فائض القيمة يجب أن يفهم على أساس افتراض أن السلع تتبادل بقيمتها وإلا فلن يفهم أبداً.
لكن ماهي السلع؟ هي منتجات العمل التي تتبادل في الأسواق. هذه المنتجات نافعة, فهي ذات قيمة استعمال, وهي قابلة للتداول,فهي ذات قيمة مبادلة.
ويضيف ماركس في "رأس المال" توضيحاً آخر. فيقول: "قد يكون الشئ قيمة استعمال ولا يكون قيمة. وتلك حالته عندما لا تكون منفعته للإنسان نتيجة العمل مثل الهواء والأرض البكر والمراعي الطبيعية والغابات. ويمكن أن يكون الشئ نافعاً ونتيجة العمل البشري, ثم لا يكون سلعة. فمن يشبع حاجاته الخاصة بإنتاجه هو يخلق قيمة استعمال لا سلعة. فمن أجل إنتاج السلع يجب ألا ينتج قيم استعمال فقط وإنما قيم استعمال للغير, أي قيم تبادل اجتماعية".
هذه السلع تقبل في التداول إذن لأنها نافعة وذات قيمة. وهذا هو الطابع المزدوج للسلع.
إن الناتج لا تكون له قيمة إلا لكون عمل بشري مجرد يتجسد فيه. فكيف نقيس أهمية هذه القيمة؟ نقيسها بكمية "المادة الخالقة للقيمة" التي يحتوي عليها الناتج أي بكمية العمل. وكمية العمل نفسها كيف نقيسها؟ نقيسها بامتدادها في الزمن. وزمن العمل نقيسه بوحدات الزمن من الساعة واليوم والأسبوع.
ويبدأ الإنتاج السلعي تاريخياً عندما يتوافر شرطان: أن يصل تقسيم العمل الاجتماعي إلى حد وجود منتجات معدة للتبادل وليس للاستهلاك مباشرة, وأن يوجد ملاك منفردون بوسائل الإنتاج.
لكن الإنتاج السلعي قد اتخذ في البداية صورة بسيطة هي صورة الإنتاج الحرفي, عندما ينتج شخص بنفسه أي بعمله الشخصي منتجات يبيعها. ثم اتخذ بعد ذلك صورة معقدة هي صورة رأسمالية, حيث يقوم مالك وسائل الإنتاج باستئجار آخرين يتولون هم الإنتاج, وتلك هي صورة الصناعية الرأسمالية.
نشأ الإنتاج السلعي الرأسمالي تاريخياً من الإنتاج السلعي البسيط, ليصبح الإنتاج لسلع أي لمنتجات معدة للبيع في السوق, وليس للاستهلاك الشخصي. فرق أخر بين النوعين من الإنتاج فأساس الإنتاج السلعي البسيط هو العمل الشخصي للمنتج لوسائل الإنتاج, بينما أساس الإنتاج السلعي الرأسمالي هو العمل المستأجر مقابل أجر.
يفترض الإنتاج الرأسمالي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والتقسيم الاجتماعي للعمل. وبقدر تطور التقسيم الاجتماعي للعمل سعة وعمقاً يتطور الاقتصاد السلعي الرأسمالي.
إن قانون القيمة يوجد حيثما يوجد إنتاج سلعي, قبل الرأسمالية وبعدها. هذا القانون هو الذي يتولى تنظيم الإنتاج السلعي في ظل الرأسمالية التي تتميز بفوضى الإنتاج نتيجة نظام الملكية الخاصة, حيث يتجه كل رأسمالي الوجهة التي تمنحه هو أكبر ربح ممكن. فعلى الرغم من هذه الفوضى, يتم تنظيم الإنتاج في الواقع بفضل قانون القيمة, فمن خلال المنافسة يؤدي قانون القيمة ثلاث وظائف هي:
1. تنظيم توزيع العمل ووسائل الإنتاج على فروع الإنتاج المختلفة.
2. تنظيم وحشد القوى المنتجة بوصفها قوة دافعة للتقدم الفني.
3. تنظيم وتطوير العلاقات الرأسمالية, بازدهار كبار المنتجين وتصفية صغارهم.
يفرق ماركس بين نوعين من تداول السلع. ففي التداول البسيط يبيع صاحب السلعة سلعته ليشتري بثمنها سلعة أخرى, غرضها إشباع حاجته. الهدف هنا قيمة استعمال أخرى:
سلعة- نقود- سلعة
أما في التداول الرأسمالي, فإن السلعة تشتري لا لإشباع الحاجة وإنما ليعاد بيعها بثمن أكبر. الهدف هنا قيمة مبادلة, بل فائض قيمة:
نقود- سلعة- نقود.
بل تصبح الصيغة هكذا:
نقود- سلعة- نقود أكثر.
هنا في التداول الرأسمالي, يصبح تداول النقود غاية في ذاته, ولهذا لا تكون لتداول رأس المال حدود.
تاريخياً, بدأ رأس المال من تداول السلع, وبخاصة في التجارة, حين أدى المستوى الرفيع للإنتاج السلعي إلى تراكم مبالغ نقدية في أيدي بعض الأفراد, مثل التجار والمرابين. ولذلك يبدأ التاريخ الحديث لرأٍس المال في القرن السادس عشر, مع قيام نظام تجاري عالمي وغزو السوق العالمية. كان هذا ظرفاً أو مهد تاريخياً لنشأة رأس المال. أم الظرف الثاني فهو ودود أفراد (أحرار) لا سادة لهم, لكنهم محرومون من وسائل الإنتاج, وكان ذلك هو جوهر عملية ما يسمى التراكم البدائي لرأس المال.
ولكن كيف تتكون الثروات اليوم؟ من خلال أرباح الإنتاج السلعي, بفضل فائض القيمة. فإن القيمة تخلق قيمة إضافية للرأٍسمالي.كيف؟
فكيف يتكون فائض القيمة؟
إن الرأسمالي يستخدم في الإنتاج عدداً من السلع: مواد أولية, آلات, قوة عمل العمال, ليعاد تشكيلها من خلال عملية الإنتاج بفضل العمل البشرى. من بين هذه السلع لا بد أن توجد سلعة فريدة لها خاصية فريدة هي القدرة على خلق فائض القيمة.
ولقد اكتشف ماركس أن هذه السلعة هي قوة العمل. ففي ظل الرأسمالية يسود نظام العمل بالأجر, وتعتبر قوة العمل نفسها سلعة نموذجية تباع وتشتري في السوق.
فقوة العمل هي مجموع قدرات الإنسان على العمل, مجموع قواه العقلية والبدنية التي يستخدمها حين ينتج قيمة استعمال نفسه. وهي سلعة خاصة تتميز بأنه يدخل في تحديد قيمتها- على خلاف السلع الأخرى- عنصر تاريخي ومعنوي لارتباطها عضوياً بالإنسان العامل. وثمن هذه السلعة هو الأجر.
إن الحظ السعيد هو الذي أتاح للرأسماليين أن يكتشفوا في السوق سلعة قيمة استعمالها تتمتع بميزة خاصة هي كونها مصدراً للقيمة بحيث أن عملية استهلاك هذه السلعة هي في نفس الوقت عملية خلق للقيمة. هذه السلعة هي قوة العمل, واستهلاكها هو العمل نفسه. والعمل يخلق القيمة.
لكن كيف تخلق هذه القيمة إذن قيمة أكبر؟
هنا نلاحظ أن التخلي عن قوة العمل واستخدامها فعلاً لا يقعان في آن واحد. فالعامل يتخلى مقدماً عن قوة عمله في عقد العمل. لكن استخدام هذه القوة يتم فيما بعد داخل المصنع يومياً, وهنا يجري خلق القيمة الأكبر.كيف؟
"إن استهلاك قوة العمل هو في الوقت ذاته إنتاج للسلع ولفائض القيمة".
يستعمل الرأسمالي سلعة قوة العمل استعمالاً خاصاً. إن هذه السلعة لها خاصية خلق قيمة أكبر مما تستهلك من قيمة, وعندئذ يقع الحدث الخطير في الإنتاج الرأسمالي: إذ يتم خلق فائض القيمة من خلال استخدام سلعة قوة العمل, من خلال استغلالها.
إن الاستغلال الرأسمالي يتحقق من خلال حقيقة بسيطة هي كون العامل قادراً على خلق قوة عمله, وعلى تجديدها, وعلى العمل مدة أطول مما تسمح قوته فعلاً.وهكذا تعتبر قوة العمل سلعة ممتدة, تجعل الرأسمالي يطيل ساعات العمل أو يزيد من حدة وكثافة العمل ليحصل على إنتاج أكبر بنفس الأجر. والفرق بين ما يحصل عليه العامل من أجر فعلاً وما أنتجه من قيمة فعلاً هو فائض القيمة, يذهب إلى جيوب الرأسمالي وحده. ولهذا الهدف ينتج كل رأسمالي. يقول ماركس في المجلد الأول:"إنتاج فائض القيمة هو القانون المطلق لأسلوب الإنتاج الرأسمالي".
وإذن فالعامل يقدم نوعين من العمل: عملاً أصلياً يتلقى عنه أجره بالكامل وهذا هو العمل الضروري- وعملاً إضافياً لا يتلقى عنه أجراً, وهذا هو العمل الفائض.
وفي الوقت ذاته, نتبين أن الرأسمالي يستخدم نوعين من رأس المال,لكل منهما أهمية خاص. فهو يستخدم جزءاً من رأسماله في شراء وسائل الإنتاج من مواد وأدوات وهذا الجزء ينقل إلى السلعة المنتجة كما هو خلال عملية العمل. إنه ينقل قيمة ثابتة إلى السلعة. ولذلك يسمى رأس المال الثابت. وهو أيضاً يستخدم جزءاً من رأسماله في شراء قوة العمل, يدفعه أجوراً للعمال. رأٍس المال هذا يزيد خلال عملية العمل نتيجة تحقيق فائض القيمة. فكأنه ينقل قيمة متغيرة. ولذلك يسمي رأس المال المتغير. إن هذا التمييز كفيل بتوضيح دور رأس المال في الاستغلال. إن رأس المال الثابت, على هذا النحو, ليس كمية من النقود فحسب, لكنه مقولة تاريخية, علاقة إنتاج. إنه القيمة التي تخلق فائض القيمة من خلال استهلاك قوة العمل الأجير, أي مقابل رأس المال المتغير.
هكذا يتكون فائض القيمة. وكل المبلغ الذي يتحقق هنا يسمي حجم فائض القيمة. فإذا أردنا أن نتبين معدل فائض القيمة, فيجب أن ننسب حجم فائض القيمة إلى حجم رأس المال المتغير الذي أنتجها.
معدل فائض القيمة= حجم فائض القيمة
حجم رأس المال المتغير
هكذا يجري الاستغلال الرأسمالي. لم يخترع رأس المال فائض القيمة. بل وجد الاستغلال في كل المجتمعات الطبقية. من قبل وجد فائض العمل في شكله الأقصى, حيث يعمل الناس حتى الموت في مناجم الذهب والفضة. في ظل العبودية أو القنانة الإقطاعية. فكلما وجد العمل بلا مقابل وجد الاستغلال. كل ما هنالك أن الاستغلال الرأسمالي يتخذ عملياً صورة فائض القيمة.
إن الصفقة التي يعقدها الرأسمالي مع العامل موضوعها ليس عمله وإنما قدرته على العمل. فالعامل لا يستطيع أن يبيع العمل لأن العمل هو عملية استهلاك قدرة العمل. كل ما يملكه هو قدرته على العمل. وهذه هي ما يبيعه. فالسلعة التي يبيعها هي قوة العمل لا العمل. فالعمل هو العامل نفسه. وقوة العمل تباع بقيمتها. وتتوقف قيمتها على قيمة وسائل المعيشة التي يعتاد العامل استهلاكاً ليعيش هو وعائلته.
جزء فقط من الوقت المبذول في إنتاج قيمة مساوية لقيمة قوة العمل هو ما يسمي العمل الضروري وهو الضروري لإنتاج المقابل للأجر. بقية الوقت يؤدي فيه العامل فائض العمل وينتج بالتالي فائض القيمة.
وهكذا فإن العمل الضروري يخلق القيمة. أما فائض العمل فإنه يخلق فائض القيمة.
فكيف تقاس قيمة السلعة إذن؟
إن قيمة أي سلعة إنما تقاس عملاً بما يلي: بقيمة المواد الأولية التي تدخل في إنتاجها بالكامل, بالإضافة إلى قدر معين من الاستهلاك والتلف في الآلات والمعدات وقيمة قوة العمل (الأجر) وتدخل في حساب القيمة بأكملها وفائض القيمة.
لقد كان ريكاردو يعتبر أن "الأجور تحدد الأثمان". غير أن الحقيقة هي أن السلعة تحدد بقيمة العمل. أم الثمن فأمره متروك لتقلبات السوق.
يقول ماركس تضخيم القيمة يتم فقط في حدود هذه الحركة المستمرة المتجددة: نقود
–سلعة- نقود أكثر. ولهذا فدورة رأس المال ليس لها حدود. ولذلك لا ينبغي أن ينظر إلى قيمة الاستعمال على أنها الهدف الحقيقي للرأسمالي, بل ولا إلى الريح الذي يعود عليه من أية صفقة بمفردها. إن ما يهدف إليه فقط هو السعي وراء الربح سعياً مطلقاً لا ينتهي أبداً.
إن تحويل فائض القيمة إلى رأس مال واستعماله لأجل الحصول على فائض قيمة جديد- ذلك هو هدف الإنتاج الرأسمالي.
كيف يحول فائض القيمة إلى رأس مال جديد؟ كيف يتكون رأس المال؟
إن عملية الإنتاج تتحول باطراد إلى عملية إعادة إنتاج, إلى عملية تجديد الإنتاج. الرأسمالي ينفق جزءاً من فائض القيمة على نفسه, و يعيد الباقي إلى الإنتاج, يوسع به الإنتاج. هنا يتجدد الإنتاج
موسعاً, هنا فقط يتم تراكم رأس المال. فالتراكم عبارة عن إضافة القطعة التي يقتطعها الرأسمالي من فائض القيمة إلى رأسماله واستثمارهما معاً في توسيع الإنتاج.
وزيادة إنتاجية العمل هي الوسيلة الأساسية لدى الرأسمالي من أجل زيادة التراكم. فما دام العمل الحي وبخاصة فائض العمل هو مصدر فائض القيمة, فإن رأٍس المال المتغير هو أهم ما يعني الرأسمالي في تركيب رأٍس ماله. بعبارة أخرى فإن العلاقة بين نوعي رأس المال الثابت والمتغير وهي ما يسميه ماركس "التركيب العضوي لرأس المال" هي ما يتحكم في درجة الاستغلال الرأسمالي.
بفضل التقدم العلمي والتكنولوجي المطرد,هناك اطراد في ارتفاع التركيب العضوي لرأس المال, بحيث أن حصة رأس المال المتغير في هبوط مطرد, بمعنى هبوط معدل تشغيل العمال عن معدل تراكم رأس المال. إن هذا التركيب المرتفع يحقق معدلاً للربح أقل, وإن يكن حجم الربح الكلي أكبر من ذي قبل نتيجة لاستخدام رؤوس أموال أكبر.
إن تركم رأس المال يحكم نمو الثروة من جانب ونمو البطالة والفقر من جانب آخر. ويعرف المجتمع الرأسمالي من ثم ظاهرة الإفقار بشكلها المطلق والنسبي. ويزداد الإفقار المطلق بتزايد نصيب الرأسماليين في الدخل القومي. وبارتفاع التركيب العضوي لرأس المال ينتشر الإنتاج الكبير, ويسود الاحتكار. ويعلق ماركس بمرارة قائلاً: "يكمن في رأس المال استعداد أو ميل ثابت للارتفاع بإنتاجية العمل من أجل ترخيص السلع ومن أجل ترخيص العامل نفسه". ويستخلص ماركس من ذلك كله قانواناً للتراكم: فمع زيادة تراكم رأس المال تزداد درجة الاستغلال.
ثالثاً- كيف يتداول فائض القيمة؟
بعبارة أخرى, كيف يتحول فائض القيمة إلى ربح وفائدة وريع؟ في عملية إنتاج واحدة, يتحول رأس المال مراراً من رأس مال نقدي إلى رأٍس مال منتج للسلع, ثم إلى رأٍس مال سلعي. ومع نمو الرأسمالية تتميز المراحل السابقة, فيصبح هناك رأس مال تجاري ورأس مال مصرفي ورأس مال صناعي, بل ورأس مال عقاري.
رجال الصناعة يستولون على فائض القيمة. والتجار يحولون السلع إلى رأس مال نقدي. والمصرفيون يوزعون رأس المال النقدي على الجميع. ولكل منهم نصيب في فائض القيمة, ويضاف نصيب لملاك الأرض. ومعنى هذا أن فائض القيمة يوزع بين الربح الصناعي والربح التجاري والفائدة المصرفية والريع العقاري.
فالذي يسترعي اهتمام الرأسمالي الفرد ليس رأسماله المتغير, ذلك الجزء المعين من رأسماله الكلي الذي هو مسئول عن الزيادة التي يحصل عليها. إنها مسئول عن توظيف كل من رأس المال الثابت ورأس المال المتغير. ولذلك فإن الذي يعنيه هو معدل الزيادة التي يضيفها إلى رأسماله الكلي. وهذا المعدل هو معدل الربح.
أي فائض القيمة
رأس المال الثابت+ رأس المال المتغير
وليس فائض القيمة
رأس المال المتغير
ولهذا فإن معدل الربح أقل دائماً من معدل فائض القيمة. وهو يتفاوت تبعاً للنسبة التي يتحد بها نوعاً رأس المال. فكلما ارتفع التركيب العضوي لرأس المال (الثابت:المتغير) هبط معدل الربح. أي أن التقدم التكنولوجي الذي يحل العمل المختزن محل العلم الحي يدفع إلى هبوط معدل الربح اللهم إلا إذا زاد معدل استغلال العمل الحي.
هكذا يقترب ماركس من الأثمان في السوق. إنه ينتقل من القيمة إلى ثمن الإنتاج إلى الثمن الجاري في السوق.
فالقيمة تقاس بمقدار العمل اللازم اجتماعياً والمتجسد في السلعة المعينة.
ث رأسٍ مال ثابت + ت رأٍس مال متغير + ف ق فائض القيمة.
إن قيمة السلعة تنطوي على رأٍس مال ثابت ورأس مال متغير وفائض قيمة, لم يدفع منها الرأسمالي سوى رأس المال الثابت المستثمر في الإنتاج. وعندئذ يبدو الربح الذي يحصل عليه كشئ خلقه رأس المال. لكن الربح شئ وفائض القيمة شئ آخر. ومعدل الربح غير معدل فائض القيمة. إن معدل الربح دائماً أقل من معدل فائض القيمة. إذ تباع السلع لا بقيمتها, ولكن بثمن يتضمن النفقة ومعدل الربح أي ث + ت + ربح. وهذا ما يمكن تسميته "ثمن الإنتاج". وبالفعل فإن السلع في ظل الرأسمالية تباع طبقاً لأثمان إنتاجها, وهي أثمان تكون أكبر أو أصغر من القيمة نفسها طبقاً للتركيب العضوي لرأس المال. أما ثمن السوق فيمثل التقلبات القصيرة الأمد ثمن الإنتاج. وهي تقلبات تحدث نتيجة للعرض والطلب في فرع الإنتاج المعين.
ومن ثم يلعب قانون العرض والطلب دوره في تحديد معدل الربح نفسه. غير أن المنافسة بين فروع الإنتاج لا تلبث أن تؤدي إلى توحيد معدل الربح في الاقتصاد القومي.
لقد اكتشف ماركس أن آليات المنافسة الرأسمالية تنظم توزيع الأرباح فيما بين الرأسماليين طبقاً لنصيب كل رأسمالي في مجموع رأس المال.
ويتجه معدل الربح في المدى الطويل للهبوط. ويعتبر ماركس هذا اتجاهاً لا قانوناً, لأن هناك تأثيرات مضادة توقف نفاذ مفعوله بل تعطله أحياناً. فالمنافسة بين رؤوس الأموال وحرية انتقالها بين فروع الإنتاج تؤدي كما قلنا إلى نقص معدل الربح. كما تتضمن زيادة إنتاجية العمل استخداماً أكبر للآلات ووفراً في العمل. ومن ثم تنطوي على نمو أسرع لرأس المال الثابت, وارتفاع في التركيب العضوي لرأس المال. ولهذا يتجه معدل الربح إلى الهبوط. لكن يجب أن يطمئن الرأسماليون.فإن الحجم الكلي للأرباح يطرد في الزيادة كما أن الرأسماليين يلجأون لكل الوسائل لمنع الهبوط وبخاصة بزيادة درجة استغلال العمال. وهذا يوضح مرة أخرى كيف أن القوانين الاقتصادية تصطدم في الواقع بقوانين اقتصادية أخرى.
ويقوم رجال الصناعة بتقديم السلع المنتجة إلى التجار ليتولوا عملية تداولها ولذلك يتخلون لهم عما يسمي الربح التجاري, وذلك يبيع السلع لهم بثمن أقل من ثمن الإنتاج على أن يقوم التجار بالبيع بثمن الإنتاج مثلاً. ويتم نفس الشئ مع البنوك إذ يتخلى رجال الصناعة أو التجار عن الفائدة لها.
أما الريع العقاري فيحصل عليه مالك الأرض من رأسمالي يزرع هذه الأرض بعمال بالأجر. هنا يذهب فائض القيمة العادي إلى المستأجر, فيقسمه إلى ربحه المساوي لمتوسط معدل الربح, وإلى فائض عن متوسط الربح يعطيه لمالك الأرض.
لماذا يعطيه هذا الربع؟ لأنه مالك الأرض, ومن ثم يستعيد المالك ثمن الأرض من هذا الربع. وفي الوقت نفسه فإن هذا الثمن هو عبارة عن الريع مجمداً. ومع تطور الرأسمالية يرتفع ثمن الأرض مع زيادة الائتمان وانخفاض سعر الفائدة.
ولقد أولى ماركس في "رأس المال" أهمية خاصة لتطور الرأسمالية في الزراعة, حيث يتحول الريع العقاري من ريع إقطاعي إلى ريع رأسمالي, ومن ريع عيني إلى ريع نقدي _ من خلال تأجير الأرض التي تصبح سلعة لرأسمالي يستغلونها عن طريق شراء قوة عمل الفلاحين بالأجر لإنتاج محاصيل تنزل إلى السوق.وذلك جوهر التطور الرأسمالي في الريف. فإن تصفية الملكية الإقطاعية للأرض وإقرار الملكية الرأسمالية فيها من أولى الظواهر التي تأتي بها الرأسمالية. ويتخذ هذا التطور أشكالاً متفاوتة مثل نزع ملكية أراضي الفلاحين وطردهم من الريف, ومثل تحويل الأراضي إلى مراع لتربية الماشية ذات الصوف الصالح للنسيج. فعندما يحل محل الفلاح في الزراعة رب عمل يزرع الأرض بالاعتماد على العمل الأجير, تتكون طبقة من عمال الزراعة لا يملكون أرضاً وإنما يعملون بالأجر. وفي الوقت نفسه يكون الفلاحون الأغنياء قد أخذوا في استغلال بعض الأجراء لحسابهم الخاص. من هنا تتوافر لهم إمكانية جمع الثروة شيئاً فشيئاً وتحويل أنفسهم إلى رأسماليين. وتنشأ وسط ملاك الأرض الذين يريدون مواصلة الإنتاج الزراعي بيئة تنبت أيضاً مستأجري الأرض الرأسماليين. وبالمثل فعندما يتم نزع ملكية بعض الفلاحين ويتم طردهم من الريف بالمرة, فإن هذا العمل (يحرر) عمالاً ووسائل للمعيشة والعمل لهم من أجل ولمصلحة رأس المال الصناعي. إنه يحشد جيشاً للعمل في خدمة الرأسماليين.
ومع ذلك تبقى إلى جانب الزراعة الرأسمالية ملكية الفلاح الصغير التي يزرعها بنفسه وتشكل أٍساس الإنتاج الصغير. وهذا الإنتاج الصغير لا ينسجم مع الرأسمالية, ويخضع بدوره للاستغلال الرأسمالي, حيث لا يتميز استغلال الرأسمالية للفلاحين عن استغلالهم للعمال إلا من حيث الشكل. فالاستغلال الريفي يتخذ شكل الربا والرهن والضرائب وحتى الأسعار. فالسعر المنخفض لمحاصيل الفلاحين ناجم عن فقر المنتجين لا عن ارتفاع إنتاجية عملهم.ولا شك أن استغلال العمال الزراعيين من خلال العمل بالأجر هو الشكل السائد للاستغلال الرأسمالي في الريف. غير أن تبعثر العمال الزراعيين على مساحات كبيرة يحطم قوة مقاومتهم _ في حين أن التجمع يزيد من قوة مقاومة عمال المدن.
وفي النهاية يلاحظ ماركس أن كل تقدم للزراعة الرأسمالية هو تقدم لا في فن تهب العامل فحسب, بل في فن تهب الأرض أيضاً, فالإنتاج الرأسمالي " لا يطور فنون الإنتاج إلا باستنزافه في الوقت نفسه لينبوعي كل ثروة وهما الأرض والعامل".
رابعاً: كيف يتجدد الإنتاج الاجتماعي سنوياً؟
من المنتج الرأسمالي الفرد يصل ماركس في النهاية إلى المجتمع الرأسمالي ككل, ليدرس الإنتاج الاجتماعي, هذا الإنتاج الذي يتم بفضل رأس المال الاجتماعي والعمل الاجتماعي. ورأس المال الاجتماعي هو مجموعة رؤوس الأموال المتفرقة بين المشروعات الخاصة, ولكنها تمثل علاقات متداخلة ومترابطة فيما بينها. وفي كل سنة يمثل مجموع المنتجات ما يسمى الناتج الاجتماعي الإجمالي. هذا الناتج قيمة اجتماعية منتجة. وبالتالي ينقسم ثلاثة أقسام: قسماً لتجديد رأس المال الثابت, وقسماً لتجديد رأس المال المتغير, وقسماً يمثل فائض القيمة الاجتماعي. ومن ثم فإن كل قسم من الناتج الاجتماعي يلعب دوراً خاصاً. فالثابت يعود للإنتاج, والمتغير يتحول لأجور, وفائض القيمة يتولى مهمة إعادة الإنتاج الموسع. هكذا يتكرر الإنتاج بصفة دورية.
إن التكرار الدائم للإنتاج هو القاعدة والشرط العام للاستهلاك الدائم. وبالتالي للوجود الثقافي للمجتمع بجميع أشكاله التاريخية.
في كل مجتمع لا بد أن يتجدد الإنتاج كشرط لوجود المجتمع نفسه,لا بد أن يتم إنتاج خيرات جديدة يعيش بها المجتمع سنة بعد أخرى. فإذا كانت كمية ما يتم إنتاجيه في كل عام ثابتة لا تتغير, أي يتم إنتاج يساوي ما تم استهلاكه, فإن المجتمع يستهلك كل ناتجه ويعيد أنتاج كل استهلاكه.وهو لذلك مجتمع راكد, متجمد. وهذا هو حال المجتمعات قبل الرأسمالية وحين كان تطور القوى المنتجة بطيئا. هنا تتم إعادة إنتاج بسيطة.
أما في ظل الرأسمالية, وبفضل التطور السريع للقوى المنتجة, فقد أصبحت إعادة الإنتاج تتسم بأنها تتسع في كل عام عن سابقه. فقد أصبح المجتمع لا يستهلك كل ناتجه. بل يبقى جزء يخصص لإنتاج وسائل إنتاج إضافية تزيد الناتج في العام التالي بمعدل أكبر, وهكذا يجري النمو. وهذه هي إعادة الإنتاج الموسع.
والناتج الاجتماعي في صورته المادية كمنتجات ينقسم إلى وسائل إنتاج ومواد استهلاك, أي أن الإنتاج الاجتماعي ينقسم إلى قطاعين هما قطاع أول لإنتاج وسائل الإنتاج وقطاع ثان لإنتاج مواد الاستهلاك. وإذا خصمنا من الناتج الاجتماعي استبدالات رأس المال الثابت, فإن الباقي من الناتج الاجتماعي هو القيمة الجديدة التي تكونت خلال السنة, وتسمى الدخل القومي. وهو الذي يوزع بين قطاع المنتجين وقطاع غير المنتجين, ويستخدم لإشباع حاجاتهم جميعاً, مباشرة أو غير مباشرة.
إذن فكيف يتجدد الإنتاج؟ لكي يتجدد هذا الإنتاج يجب أن يكون الإنتاج الذي تم قد دار دورته الحقيقية, لينتهي إلى نتيجته المقصودة ثم ليعيد الإنتاج. وهذا ما يسميه ماركس "تحقيق أو تصريف المنتجات". إن كل ناتج يجب أن يبادل ليؤدي وظيفته في إعادة الإنتاج. لكن ما الضمان لأن يتحقق
الناتج القومي بأكمله؟ هناك ظروف تساعد على هذا التحقيق. لكنها لا تلبث أن يعوقها عن سيرها ما يؤدي إلى الأزمات.
فلا بد أن توجد كل سنة وسائل إنتاج جديدة, متزايدة سنة بعد أخرى, بحيث يكون الجزء من إنتاج القطاع الأول الذي يمثل القيمة الجديدة أكبر من رأس المال الثابت في القطاع الثاني.
وهذا أمر طبيعي لأن هناك علاقة ضرورية بين القطاعين. ففي مجتمع بسيط, لا يستبقي مما أنتج شيئاً يزيد عما بدأ به الإنتاج. فمن الضروري أن يكون على الأقل حجم رأس المال المتغير وفائض القيمة في القطاع الأول معاً مساوياً على الأقل لحجم رأس المال الثابت في القطاع الثاني, وذلك لأن عمال ورأسمالي القطاع الأول يتلقون سلعاً استهلاكية ورأسمالي القطاع الثاني يتلقون رأس مال ثابتاً للإنتاج الجديد. ومن ثم فإن، القطاع الأول يقدم وسائل الإنتاج للقطاعين في حين يقدم القطاع الثاني سلع الاستهلاك لعمال ورأسمالي القطاعين.
وعندئذ تكون إعادة الإنتاج بسيطة. أما في إعادة الإنتاج الموسعة فإن حجم رأس المال المتغير وفائض القيمة في القطاع الأول يجب أن يكونا أكبر من قيمة رأس المال الثابت في القطاع الثاني. لماذا؟ لأن الفرق بينهما هو الذي يشكل الفائض الذي يتجه للتراكم.
إن قانون إعادة الإنتاج هو أن وسائل الإنتاج تنمو بسرعة أكبر من إنتاج مواد الاستهلاك. إن القطاع الأول ليس أكثر أهمية من الناحية الاجتماعية فقط, لكنه كذلك من الناحية الاقتصادية. ويرجع السبب في ذلك إلى أنه ينمو بسرعة أكبر.
ومن ثم فإن تخصيص نسبة أكبر لرأس المال الثابت هو الذي يدفع نحو زيادة مطردة في القوى المنتجة.
لكن ذلك يفترض أن يتم تصريف الإنتاج الاجتماعي بدقة لا تخطئ. يفترض علاقة محكمة بين قطاعي إنتاج وسائل الإنتاج وإنتاج مواد الاستهلاك. يفترض أن قيمة الاستهلاك المنتجة مساوية للدخول الموزعة في المجتمع – والمعروف أن العمال يشترون بأجورهم بينما يشتري الرأسماليون بجزء من فائض القيمة الذي يحققونه.
لكن حركة الإنتاج الرأسمالي تتم في سوق مفتوحة يحكمها قانون التراكم الرأسمالي وحده, وهو قانون يطبقه كل رأسمالي على حدة طبقاً لما يقدر هو أنه مصلحته القصوى.
وتراكم رأس المال يعني في الوقت نفسه ازدياد البروليتاريا. والتحول إلى البروليتاريا تطور يصيب صغار المنتجين المستقلين ويعبر أيضاً عن خراب البورجوازية الصغيرة بسبب المنافسة _ خراب صغار الملاك أصحاب رأس المال الذين يستغلون العمال لكنهم إذ يعملون معهم جنباً إلى جنب يكونون عمالاً أيضاً. كما يصيب التطور الرأسماليين أنفسهم, الصغار والمتوسطين منهم, مع تمركز رأٍس المال الذي بدأ مع التراكم البدائي واستمر بلا انقطاع بالتراكم والتركز وأخيراً بالتمركز في أيد قليلة.
وهكذا يفتح قانون التراكم الرأسمالي الباب إلى الأزمات. وهي أزمات كامنة من قبل في التداول النقدي للسلع. فإذا كان كل بيع للسلعة هو شراء من آخر, فالبائع ليس ملزماً بأن يشتري بعد أن باع.
وتلك الحقيقة تتحكم في دورة الإنتاج الرأسمالي بحيث تؤكد حتمية الأزمات. إن دورة الإنتاج لا تتم بيسر. كما أن المنتجات لا تصرف دائماً. بل هناك تناقض لا يحل بين الإنتاج والاستهلاك.
ولقد قام باحث أمريكي اسمه آيرز بدراسة حالة الأعمال في الاقتصاد الرأسمالي منذ سنة 1790 حتى الحرب العالمية الأخيرة, فسجل نحو 30 مرحلة ركدت فيها الأعمال, ولقد أعلن أنه لا توجد خلال هذه المدة الطويلة سنة واحدة يمكن أن تسمي سنة عادية, وإنما كانت كلها سنوات تقلب يتعاقب فيها الارتفاع والانخفاض.
والواقع أن قيام النظام الرأسمالي على الإنتاج المعد للمبادلة في الأسواق, يجعل الإنتاج معداً مقدماً لمشتر غير معروف مقدماً. وبينما يكون الإنتاج بحيث لا يهتدي إلا بالربح, تلعب الأسعار دورها كمنظم للسوق. لكنه منظم لا يكفي, لذلك يقول ماركس في "تاريخ النظريات": " الإنتاج بغض النظر عن حدود السوق موجود في طبيعة الإنتاج الرأٍسمالي".
إن القوى الفعالة في النظام الرأسمالي تخلق في الوقت نفسه الظروف المؤاتية للأزمة:
أ- فهناك التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج وبين الملكية الخاصة الفردية لوسائل الإنتاج. فالإنتاج الرأسمالي قد غدا اجتماعياً بينما ظلت ثمار هذا الإنتاج الاجتماعي يتملكها ملاك فرديون ملكية خاصة بعيداً عن المجتمع.
ب- وهناك التناقض بين القيمة وفائض القيمة. فالقيمة ينتجها العمال بينما يحصل الرأسماليون على فائض القيمة. ومن ثم تكون الأجور أقل من قيمة ما أنتجه العمال بمقدار فائض القيمة, في حين يتحول فائض القيمة إلى رأس مال جديد. ولهذا يقول ماركس في المجلد الثالث:" إن الحدود المطلقة للإنتاج الرأسمالي هي رأس المال نفسه".
ج- وهناك أخيرا التناقض بين القوى الإنتاجية وعلاقات الإنتاج .فالقوى الإنتاجية تسير في طريق النمو المستمر، أما علاقات الإنتاج فتقيدها الملكية الخاصة الفردية وطريقة توزيع الدخول .
ويجري كل هذا بينما الرأسماليون مشغولون فيما بينهم بالسعي وراء الربح ، وتنشب بينهم منافسة حادة يحاول فيها كل منهم أن يستحق منافسيه. ويتأكد بذلك ما يسميه ماركس "فوضى الإنتاج هي قانون الرأسمالية" .
في هذا الإطار الذي يحكم الإنتاج وإعادة الإنتاج تتدخل عوامل الإخلاء بالتوازن المنشود . فهناك مثلاً:
أ- فشل الرأسماليين الذين جمعوا فائض القيمة في إنفاقه بمعدل متوازن على تكوين رأس مال ثابت جديد.
ب- نمو فرع من فروع الإنتاج نمواً غير متوازن ، فقد لا يجد سوقاً لمنتجاته مما يمكن أن ينشر الانكماش إلى فروع أخرى.
ج- تفاوت معدل الاستهلاك ومعدل التراكم لدى الرأسماليين والعمال. وهنا شبهة تسليم ماركس بما يسمى بنظرية قصور الاستهلاك والإفراط في إنتاج وسائل الإنتاج كنظرية لتفسير الأزمات. وهي شبهة غير صحيحة،لأن المطلوب فقط هو المحافظة على علاقة سليمة بين الاستهلاك والتراكم.
د- اتجاه سعر الفائدة للانخفاض، بتغير فنون الإنتاج، وارتفاع نسبة رأس المال الثابت، مما يوقف تدفق الاستثمار المقبل ويستبق الأزمة.
وفجأة تنفجر الأزمة. ويعود المجتمع إلى حالة من البربرية، كما لو أن مجاعة أو حرب إبادة قد قطعت عليه أسباب وجوده. فالتجارة والصناعة تبدوان وقد تلاشتا ، لماذا ؟ لأن بالمجتمع مزيداً من الحضارة، ومزيداً من وسائل المعيشة، ومزيداً من الصناعة ، ومزيداً من التجارة! لذلك يقول ماركس: "إن السبب الأخير لجميع الأزمات يظل دائماً فقر الجماهير واستهلاك المحدود المتعارضين مع اتجاه الإنتاج الرأسمالي لتنمية قوى الإنتاج كما لو كانت هذه القوى لا تعرف حدوداً أخرى سوى القدرة المطلقة للمجتمع على الاستهلاك".
بيد أن تناقضات الاقتصاد الرأسمالي التي تدفع إلى الأزمة لا تلبث أن تجد حلاً لنفسها في الأزمة ذاتها . فالأزمة هي- مع ذلك– حل مؤقت لتناقضات الرأسمالية. فليست الأزمة فقط تعبيراً عن اختلال توازن الاقتصاد الرأسمالي، وإنما هي أيضاً ذلك السبيل الذي به يؤكد التوازن المختل وجوده. فالأزمة اختلال انتقالي، اعتبرها ماركس تلعب دوراً ايجابياً في تشكيل الاتجاه الطويل المدى للنظام الرأسمالي.
إن الأزمة لا تلبث أن تعيد التوازن المختل. فإنها تحدث تدميراً في رأس المال وتدهوراً في أثمان السلع، كما تحدث تدميراً في قوة العمل وتدهوراً في الأجور. إنها دليل على وجود فائض من رأس المال والعمل يلفظه السوق ويتخلص منه. إن للأزمة أثرها المباشر في تدعيم جيش العمل الاحتياطي وتدهور قيمة قوة العمل. ومن ثم يزيد فائض القيمة النسبي. ومع هذه الزيادة تبدأ عوامل الانتعاش من جديد، نتيجة ارتفاع إنتاجية العمل ورخص الآلات والمواد الخام، مما ينتقص من قيمة رأس المال الثابت.
إن الاقتصاد الرأسمالي تنظيم اجتماعي ما زالت عملية الإنتاج فيه تسطير على البشر، وهذا الواقع الذي يعتبره الاقتصاديون البورجوازيون ضرورة طبيعية، فيحملون الطبيعة مغبة تناقضات الرأسمالية، يعتبره ماركس ضرورة تاريخية لمرحلة عابرة في حياة البشر .
الفصل الرابع
منهج "رأس المال"
المادية الجدلية
يوضح "رأس المال" أسلوب عمل الرأسمالية. وفي الوقت نفسه يكشف عن الطبقة العاملة التي يلدها المجتمع الرأسمالي والتي ألقى عليها مهمة تغيير الرأسمالية.
وعندما حدد ماركس مهمة "رأس المال" بأنها الدارسة النقدية لنظام الإنتاج الرأٍسمالي والبحث عن قانون الحركة في المجتمع الرأسمالي, فإنه كان يفترض منهجياً حتمية زوال نظام الإنتاج الرأسمالي وحتمية قيام نظام إنتاج آخر. وكانت تلك خطوة ثورية في منهج البحث في علم الاقتصاد.
كيف يكونه المنهج
وبالفعل كان "رٍأس المال تجسيداً حياً لمنهج ماركس الذي عرف باسم المادية الجدلية. ويدلنا ماركس في مقدمة كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" الذي كان مقدمة لإصدار "رأس المال" على المسار الذي سلكه في الاهتداء إلى هذا المنهج. فلقد بدأ من الفلسفة لينتهي إلى الاقتصاد.
يقول ماركس:" لقد كنت أتابع دراسة القانون. ومع ذلك فلقد تابعت هذا الفرع كموضوع ثانوي للفلسفة والتاريخ. وفي عام 42 – 1843 مارست لأول مرة, بوصفي رئيس تحرير الصحيفة الراينية, ذلك الإحساس بالاضطراب لاضطراري إلى المشاركة في المناقشات حول ما يسمى (المصالح المادية). وكانت أعمال مجلس مقاطعة الراين عن سرقات الغابات وتفتت ملكية الأرض والحوار الرسمي الذي شنه هرفون شابر الرئيس الأعلى لمقاطعة الراين على الصحيفة الراينية حول أحوال فلاحي الموزل وأخيراً الندوات عن حرية التجارة والتعريفة الحمائية هي التي أتاحت لي المناسبات الأولى لاشتغالي بالمسائل الاقتصادية. ومن ناحية أخرى ففي ذلك الوقت, عندما كانت النوايا الطيبة (لمواصلة الاستزادة) تفوق بكثير المعرفة بالموضوع, فإن صدى فلسفياً هزيلاً للاشتراكية والشيوعية الفرنسية غداً مسموعاً على صفحات الصحيفة الراينية. لقد وقفت ضد نزعة الهواة. لكني اعترفت صراحة في الوقت نفسه في جدالي مع صحيفة أوجز بورج بأن دراساتي السابقة لا تسمح لي حتى بإبداء أي حكم على مضمون الاتجاهات الفرنسية. وبدلاً من ذلك, فلقد انتهزت بحماس ذلك الوهم الذي كان لدى مديري الصحيفة الراينية, أولئك الذين ظنوا أنهم بالتزام الصحيفة موقفاً أضعف يستطيعون أن يضمنوا تأجيل حكم الإعدام الذي صدر عليها ولكي انسحب من خشبة الجمهور إلى الدراسة. وكان أول عمل قمت به من أجل أن أجد حلاً للشكوك التي انتابتني هو أن أقدم عرضاً نقدياً للفلسفة الهيجلية عن القانون. وهو عمل ظهرت مقدمته في سنة 1844 في الحوليات الفرنسية الألمانية التي نشرت في باريس. لقد قادني البحث إلى التفكير بأن العلاقات القانونية, مثلها مثل أشكال الدولة,
ينبغي أن تتناول ابتداء لا منها هي نفسها ولا مما يسمى التطور العام للعقل البشري, فإنما توجد بذورها في الظروف المادية للمعيشة, وهي الظروف التي تشكل مجموعها ما يسميه هيجل على عادة الانجليز والفرنسيين في القرن الثامن عشر "المجتمع المدني". لقد أدى إصدار الصحيفة الراينية الجديدة في عام 1848 والأحداث التالية إلى قطع دراساتي في الاقتصاد التي لم يتسن لي استئنافها إلا في عام 1850 في لندن.
إن المادة الضخمة عن تاريخ الاقتصاد السياسي والمتراكمة في المتحف البريطاني والموقع المؤاتي الذي تحتله لندن لملاحظة المجتمع البورجوازي, وأخيرا المرحلة الجديدة من التطور التي أقبل عليها هذا المجتمع باكتشاف الذهب في كاليفورنيا واستراليا, إنها جميعاً قد حسمت رأي بأن أبدأ من جديد من البدايات الأولى وأن أعمل في المادة الجديدة بطريقة نقدية.
في سنة 1842 وصف ماركس موقفه الفكري بأنه "النقد الذي لا يرحم لكل شئ, النقد الذي لا يخجل من نتائجه". لم يكن قد أصبح ماركسياً بعد. لكنه لم يكن ليصطنع العلم ليخدم وجهة نظر مسبقة. كان يبحث عن العلم بعد أن أهدره الاقتصاد المبتذل. ولهذا فإنه عندما تصدى لنقد ما ليس فيما بعد, استطاع أن يقول هذه الكلمة:" إن الرجل الذي يسعى ليجعل العلم يتفق مع وجهة نظر نابعة لا من العلم نفسه, أي يتفق مع وجهة نظر أملتها مصالح دخيلة, خارجة عن العلم,مثل هذا الرجل اعتبره جديراً بالاحتقار".
في هذه الأثناء توصل إلى الشيوعية الفلسفة, وسرعان ما تحول إلى الشيوعية العلمية عندما اكتشف البروليتاريا. ومنذ ذلك الحين تكامل منهجه في البحث, قائلاً في بحثه (نقد فلسفة الدولة عند هيجل):
"مثلما تجد الفلسفة في البروليتاريا أسلحتها المادية, فإن البروليتاريا تجد في الفلسفة أسلحتها الفكرية.. إن الفلسفة لا يمكن أن تتحقق بدون إلغاء البروليتاريا, كما أن البروليتاريا لايمكن أن تلغي بغير تحقيق الفلسفة". بهذه الفلسفة وحدها اكتشف ماركس علم الاقتصاد الجديد.
وفلسفة ماركس هي المادية الجدلية وتطبيقها على المجتمع في صورة المادية التاريخية. هذه الفلسفة هي إضافة تاريخية لتراث البشرية الفلسفي. يتحدث سارتر في كتابه "نقد العقل الجدلي" عن ندرة حقب الخلق الفلسفي. ففيما بين القرن السابع عشر والقرن العشرين لم ير العالم إلا ثلاث حقب هي حقبة ديكارت ولوك وحقبة كانط وهيجل ثم حقبة ماركس. كانت الديكارتية مرآة للبورجوازية والتجار وأصحاب البنوك,وكانت الكانطية مرآة لبورجوازية الصناع والمهندسين والعلماء, أما المادية التاريخية فليست مجرد مرآة لطبقة التي إذا انتصرت ستظل محتفظة بالسلاح الذي جعلها تنتصر.
ومن ثم فإنها كفلسفة تظل غير معرضة للتجاوز أو التفوق عليها.
اليد الخفية عند التقليديين
وعندما بني سميث وريكاردو علم الاقتصاد التقليدي كانا شأن جميع العلماء يبحثان عن الضرورة, عن الحقيقة الموضوعية. ذكر سيسموندي عن آدم سميث أنه " كان يضني نفسه في اختيار كل واقعة في حدود البيئة الاجتماعية التي تنتمي لها" وقال عن مالتس " إنه يدرس الوقائع بدقة
كبرى". أما جان باتيست سيه فقد لخص فهمه لعلم الاقتصاد بقوله" إن دور الاقتصادي كدور العالم, ليس هو النصح وإنما الملاحظة والتحليل الوصفي وأن يبقى شاهداً غير متحيز".
بمثل هذا المنهج اكتشفوا قوانين الاقتصاد الرأسمالي. كانوا يرون أن النظام الرأسمالي وإن بدأ في الظاهر غير محكوم بنظام فإنها محكوم في الواقع بقوانين ثابتة, هي تلك اليد الخفية التي تحكم السوق. وهي قوى عديدة كل قوة منها أعجز من أن تشكل السوق ولا الثمن بمفردها.
هكذا أدرك الاقتصاديون التقليديون أن الاقتصاد علم له قوانينه الموضوعية, على الرغم من أن جوهر المجتمع الرأسمالي يتمثل بالدقة في عدم وجود توجيه اجتماعي واع للإنتاج. إن اليد الخفية التي تحرك الإنتاج هي القوى العمياء الموضوعية المستقلة عن إرادة البشر. إنها القوانين العلمية تكشف عن علاقات موضوعية بين الظواهر, علاقات ضرورية تنبثق من طبيعة الأشياء, من سياق عمليات التطور, وهي لذلك علاقات موضوعية مستقلة عن إرادة البشر الذين يعيشونها أو يكتشفونها, وليس على البشر بعد اكتشافها سوى أن يسلموا بها, محاولين الاستفادة منها من أجل مزيد من السيطرة على الظروف الخارجة قبلاً عن إرادتهم.
المادية المتسقة
ولم يكن التقليديون ليتوصلوا إلى تلك القوانين لولا المنهج المادي الذي قادهم إليها. فقد كان ظهور المدرسة المادية وثيق الصلة باحتياجات البورجوازية الثورية. وكانت المادية الفرنسية أداة لتحرير البورجوازية الفرنسية نفسها. غير أن هذه المادية لم تعد عند البورجوازية فيما بعد مجرد منهج لتحرير نفسها اجتماعياً. لقد كان استمرار التسليم بها يعني التسليم للبروليتاريا. فالمادة المتسقة مع نفسها إنما كانت تعني بالضرورة أن تقبل البورجوازية فكرة الثورة المستمرة. وهو أمر غير معقول. لذلك انتقلت البورجوازية سريعاً إلى مواقع معادية للعقل. وانقضى سريعاً عصر التنوير, ذلك العصر الذي كان يحمل كل شئ على أن يقف أما محكمة العقل ليبرر وجوده أو يكف عن الوجود. وعلى العكس كان على البروليتاريا أن تتبنى هي المادية وأن تسير بها قدماً نحو المادية الجدلية.
والواقع أن كل دراسة علمية جادة لا بد أن تسلك منهجاً مادياً. فما دمنا نفكر, فلا نستطيع أن نخرج أبداً عن المادية. لذلك لم يكن المنهج المادي مستغرباً على ماركس عندما كتب "رأس المال" فالمادية المتسقة مع نفسها كانت لا بد أن تفرض نفسها على البروليتاريا. ويقول لينين إن ماركس أصبح مادياً فيما بين عام 1845,1844 وهي الفترة التي تكونت فيها أفكاره.
ولا شك أن مادية ماركس قد تأكدت في مواجهة كل من مثالية هيجل ومادية القرن الثامن عشر وخاصة في فرنسا. من هنا يذكر ماركس حقيقة علاقته بهيجل, يقول في "رأس المال" " إن علاقتي بهيجل جد بسيطة. إني اعتبر نفسي تلميذاً لهيجل. غير أنني أخذت حرية تبني موقف نقدي بإزاء معلمي. وذلك بتخليص جدليته من صوفيتها وبإخضاعها لتغيير جذري". وكتب في "رأس المال" يقول:" يرى هيجل أن حركة الفكر, هذه الحركة التي يشخصها ويطلق عليها اسم الفكرة هي الآلة (الخالق,الصانع).. أما أنا فإني أرى العكس: أن حركة الفكر ليست إلا انعكاساً لحركة المادة منقولة
إلى دماغ الإنسان ومتحولة فيه". كذلك عنى ماركس بنقد مادية القرن الثامن عشر بوصفها مادية ميكانيكية, لم تضع في اعتبارها عامل التاريخ, فهمت جوهر الإنسان على نحو تجريدي, ولم تكن جدلية فلم تقم إلا بتفسير العالم, بينما كان المطلوب هو تغييره.
الجدلية نقدية
لماذا كانت الجدلية هي بالضرورة منهج "رأس المال"؟ في الواقع لم يكن " رأس المال" ليكتب إلا بمنهج جدلي. أليست مهمة"رأس المال" هي نقد الاقتصاد السياسي البورجوازي؟ إن مثل هذه الدراسة النقدية, ومن ثم الثورية, لا يمكن أن تصدر إلا عن الطبقة الثورية. والجدلية هي بالدقة المنهج النقدي, أي المنهج الذي يدرس الظاهرة المعينة في اكتمالها, في حركتها, في تناقضها, في تطورها, في صيرورتها. وإذا صح أن الاقتصاد التقليدي قد اكتشف قوانين الرأسمالية في حال السكون, فإن "رأس المال" يكتشف قوانين الرأسمالية في حال حركة. وهو يدرس الحركة الاجتماعية كعملية من عمليات التاريخ الطبيعي, محكومة بقوانين موضوعية, تاريخية وجدلية. أليس أسلوب الإنتاج الرأسمالي هو نفسه الذي يضع البروليتاريا على رأس الظروف المادية التي تلغي الرأسمالية ذاتها؟ إن الجدلية كامنة في المجتمع مثلما هي كامنة في الطبيعة نفسها. ولقد كشفت العلوم الطبيعية في منتصف القرن الماضي عن حقيقة أن العالم يتطور كله وفق قوانينه الخاصة. إن الطبيعة تعمل على نحو جدلي. وهي أيضاً محك الاختبار لصحة الجدلية.وهذا ما عناه إنجلز في كتابه " ضد دوهرينج" حين قال إن مهمته " لم تكن أن أعمل على إدخال القوانين الجدلية إلى الطبيعة ولكن أن اكتشفها فيها وأن استخلصها منها".
ومن اللحظة التي وضع ماركس لنفسه فيها مهمة تغيير العالم لا مجرد تفسيره كان لا مفر من أن يكتشف الوحدة العضوية بين المادية والجدلية, منحازاً بذلك إلى النشاط الثوري للبروليتاريا. وجدلية ماركس هي تطوير لجدلية هيجل, التي لا يكف ماركس هنا وهناك وبخاصة في فصله عن القيمة عن مداعبة أسلوبها في التعبير. ويعلن ماركس في مقدمته "لرأس المال" أن جدليته هي نقيض جدلية هيجل, بمعنى أن جدلية هيجل مثالية. ولذلك يكتفي ماركس بأن يستخلص نواتها العقلية السليمة, وينمي فيها ماديته المتسقة. والواقع أن لهيجل فضلاً حاسماً في هذه الخطوة. فإن، ما يميز منهج هيجل في التفكير هو الإحساس الدافق بالتاريخ, فلقد كان أو من بحث عن الترابط الداخلي في حركة التاريخ. كان موضوع الفلسفة عنده هو تطور المعرفة, هذه المعرفة التي لا يوجد أمامها شئ نهائي, مطلق,أو مقدس. إنها تكشف ماضي جميع الأشياء. ولا يوجد شئ بالنسبة لها سوى تطور المصير الوقتي والارتقاء اللانهائي – الذي هي انعكاس له في المخ. ومن ثم استخلص هيجل منهجاً جدلياً لتحليل ظواهر الطبيعة والمجتمع,ورفع الجدلية إلى مستوى القانون. وكان على ماركس أن يتخلص الجوهر الذي تتضمنه اكتشافات هيجل وأن يعيد بالتالي بناء المنهج الجدلي. ويفضل هذا المنهج الجدلي استطاع ماركس أن يصل إلى الكشف الحاسم الذي انطوى عليه " رأس المال" وهو قانون
فائض القيمة.ولهذا يقول لينين:" لا يمكن فهم ( رأس المال) لكارل ماركس ولا يمكن بصفة خاصة فهم الفصل الأول من (رأس المال) بدون دراسة وفهم كل منطق هيجل".
لقد صارت الجدلية على أيدي ماركس نظرية للتطور في أكمل مظاهرها وأشدها عمقاً. وانتهى طبقاً لها إلى نفي ودود الرأسمالية من واقع الرأسمالية نفسها. وهذا مثال من "رأس المال" دلالته مباشرة. يقول ماركس " أن أسلوب التملك الرأسمالي والناتج عن أسلوب الإنتاج الرأسمالي ينتج الملكية الفردية الرأسمالية. وهذه الملكية هي النفي الأول للملكية الفردية الخاصة الناتجة عن عمل المالك. لكن الإنتاج الرأسمالي يولد – طبقاً لقانون الطبيعة الصارم – نقيضه هو نفسه. وهذا هو نفي النفي. وهو لا يؤدي إلى إعادة إقامة الملكية الخاصة للمنتج, وإنما يخرج الملكية الفردية المؤسسة على ما توصل إليه النظام الرأسمالي أي على التعاون والتملك الجماعي للأرض ولوسائل الإنتاج".
المادية الجدلية
والواقع أنه لولا المادية الجدلية لم يكن ماركس ليصل إلى "رأس المال". فماذا تعني هذه المادية الجدلية؟
إنها تعني مجموعة القوانين العامة لحركة الطبيعة والمجتمع والفكر. إذ يجب البحث عن علة الحركة في الظواهر. فالعلم لا يتألف من ظواهر تامة الصنع بل هو مجموعة من العمليات. الكون كله في حالة حركة دائبة. إن العلة الجوهرية لهذه الحركة لا توجد من خارج الظواهر بل من داخلها. إنها توجد في الطبيعة المتناقضة الكامنة في الأشياء ذاتها. ففي كل شئ تناقضاته الداخلية. ومن ثم تكون الحركة عبارة عن صراع المتناقضات. أما العوامل التي تتصارع من خارج الظاهرة فهي تلعب الدور الثاني بعد التناقضات الداخلية.
ومعنى هذا بالتطبيق على المجتمع, إن التطور الاجتماعي إنما يرجع بشكل رئيسي إلى الأسباب الداخلية في المجتمع, إلى التناقضات بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج, إلى التناقضات بين الطبقات. من صراع هذه التناقضات,يتطور المجتمع. قد يبدو التاريخ وكأنه يكرر نفسه. لكنه في الحقيقة يكرر نفسه بصورة أخرى, وعلى أساس أرقى. فالتطور الاجتماعي تطور حلزوني لا تطور مستقيم.
بهذا المنهج ذهب ماركس في " رأس المال" يقتحم الصرح الاجتماعي الذي يتجاوب مع علاقات الإنتاج الرأسمالية, هذا الصرح الذي يشكل الهيكل العظمي لها وحدها.
فلا شك في أن "رأس المال" دراسة لمجتمع تاريخي معين هو المجتمع الرأسمالي, دراسة تكشف عن قانون حركته كما يتمثل في فائض القيمة, كما إنها تبدى ضرورة زوال هذا المجتمع من واقع تناقضاته. ولقد عبر ماركس عن هذا المجتمع كله بدراسة السلعة – هذه الظاهرة المادية الجدلية: سلعة فنقود فرأس مال.
فالسلعة هي ثروة المجتمع الرأسمالي, هي خليته الاقتصادية, لكنها وجدت قبل الرأسمالية. لم تكن سائدة عندئذ بوصفها نظام الإنتاج. وعندما صارت هي نظام الإنتاج أصبح المجتمع رأسمالياً.
هذه السلعة تجسد حركة الرأسمالية. فالسلعة ناتج اجتماعي, له طابع مزدوج, متناقض. هي شيء نافع, له قيمة استعمال. وهي شيء يتبادل وله قيمة مبادلة. والعمل المتجسد في السلعة له طابع مزدوج أيضاً. هو عمل محدد, كصناعة, كزراعة. وهو عمل مجرد, كعمل بشري, كطاقة بشرية بذلت لتشكيل مادة من الطبيعة. أن العمل المحدد هو الذي يجعل السلعة نافعة, أي يخلق قيمة الاستعمال. أما العمل المحدد هو الذي يجعل السلعة نافعة, أي يخلق قيمة الاستعمال. أما العمل المجرد فهو الذي يخلق قيمة المبادلة. هذه السلعة في ظل الإنتاج البسيط تنتج لاستخدام الشخص الذي أنتجها وهنا لا يرتبط إنتاجها بالمجتمع, أو تنتج لاستخدام شخص معين طلبها منه وهنا يكون عمله متجاوباً مع احتياجات المجتمع. لكن السلعة عندما تنتج في ظل الإنتاج الرأسمالي, فإنها تنتج أصلاً لاستخدام الآخرين, للسوق, للمجتمع. هنا يرتبط المنتج كله من خلال السلعة. إن حياته تتوقف على نجاحه في إنتاج سلعة مطلوبة اجتماعياً ومقبولة اجتماعياً - من خلال السوق. ومن ثم يجب أن يكون عمله جزءاً من العمل على مستوى المجتمع كله. يجب أن يكون العمل الخاص جزءاً من العمل الاجتماعي. فالمجتمع هو الذي يمنح السلعة قيمتها في المبادلة. ومن خلال المبادلة تتحول السلعة إلى نقود, هي نقود أكبر مما استهلكت, ومن ثم تتحول النقود إلى رأس مال. وفي النهاية فإن السلعة هي تجسيد لكل تناقضات الرأسمالية, فالتناقض الرئيسي للرأسمالية يوجد في شكله الجنيني في السلعة. إن التناقض بين العمل الخاص والعمل الاجتماعي يتحول في ظل الرأسمالية إلى التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج وشكل الملكية الرأسمالية الخاصة. لكل هذا يحيط الغموض والتقديس بالسلعة. ويقف أمامها أفراد المجتمع الرأسمالي مذهولين من قدراتها الخارقة, كما يقف البدائيون أمام قوى الطبيعة المذهلة – ناسين أن هذه السلعة هي من إنتاجهم, وأنهم في النهاية لقادرون على فك طلاسمها وأبطال سحرها.
ويكفينا هذا المثل الذي تضربه السلعة. فمنذ ظهور "رأس المال" تجسد المفهوم المادي الجدلي. "رأس المال" تطبيق رائع للمادية الجدلية على الاقتصاد الرأسمالي. وهكذا اكتشف ماركس المادية التاريخية كتطبيق للمادية الجدلية على تطور المجتمع, واستقرت منذ ذلك الحين منهجاً للبحث الاجتماعي, يستحوذ على المجتمع في كل تفاصيله ويحلل أشكال تطوره, ويكشف عن قوانينه الداخلية.
المادية التاريخية
عندما بدأ ماركس وإنجلز مؤلفاتهما الكبرى كانت المادية تسود بين المثقفين وفي الدوائر العمالية. لقد كان هيجل كما ذكرنا أول من حاول أن يكشف في التاريخ عن تطور داخلي, عن قانون داخلي, وكان المفهوم المادي للتاريخ يتشكل على أيدي كتاب البورجوازية أنفسهم أمثال تييري, وتيير, وجيزو, وكل المؤرخين الانجليز. كما توصل إلى الفكرة ذاتها عالم الطبيعة مورجان. غير أن ماركس قام بتطوير المادية وطبقها على التاريخ وصاغ لأول مرة قانونها العلمي. فقد حان عندئذ أوان هذا الكشف.
وكيما ندرك مغزاه البعيد المدى, يمكن أن نطرح سؤالاً هو: ما الذي جعل سميث وريكاردو يكتشفان لأول مرة قوانين الاقتصاد الرأسمالي؟ هل السبب ذاتي, من عمق وأصالة فكرهما فحسب, أم
موضوعي, من تطور الواقع الاقتصادي؟ على هذا النحو نتبين أيضاً السر في الكشف عن المادية التاريخية. لقد شيد ماركس منهجه واستخدمه في نقد الاقتصاد السياسي. هذا المنهج كان يجب أن يبدأ من أبسط العلاقات الجوهرية التي نصادفها تاريخياً, أعني العلاقات الاقتصادية.
ففي ظل الإقطاع كانت العلاقات الاقتصادية واضحة لأن الاستغلال الطبقي كان واضحاً. وعندئذ كان شكل الدولة استبدادياً واضحاً أيضاً يعبر بدقة عن شكل الاقتصاد. ومن ثم كان مفكرو الإقطاع أقل ميلاً للتجريد من مفكري البورجوازية. أما في ظل الرأسمالية, فقد تعقدت الأمور. أصبح الاستغلال الرأسمالي خافياً ومعقداً وأصبحت العلاقة بين الاقتصاد والدولة أكثر تعقيداً عن ذي قبل. وكان مفكري الرأسمالية على حد قول ماركس في " بؤس الفلسفة" أن يفلسفوا هذا التعقيد كله, يقول:" في نظر الاقتصاديين, كانت مؤسسات الإقطاع مؤسسات مصطنعة, ومؤسسات البورجوازية مؤسسات طبيعية. وبصفة خاصة, فإن العلاقات الاقتصادية الحالية قوانين أبدية يجب أن تحكم المجتمع دائماً. وهكذا فلقد كان هناك تاريخ فيما مضى أما الآن فلقد انتهى".
الواقع أنه كان على مفكري الرأسمالية أن يواجهوا الظاهرة المعقدة بتفسير معقول, ظلوا يتلمسونه حتى كشف عنه ماركس: إن وجود الناس هو الذي يحدد فكرهم, إن الاقتصاد هو الذي يحدد السياسة, لكن فكر الناس يؤثر بدوره على وجودهم, كما أن السياسة تؤثر على الاقتصاد. وهنا يحذرنا ماركس من خطرين:
الأول, هو خطر اعتبار الاقتصاد في مستوى السياسة واعتبار الفكر في منزلة الوجود. فالصحيح هو أن الوجود يسبق الفكر مثلما يسبق الاقتصاد السياسة.
والثاني, هو خطر اعتبار الاقتصاد كل شئ والسياسة لا شيء. اعتبار أن الوجود هو العامل الوحيد والفكر لا يعمل على الإطلاق. كلا, فإن الاقتصاد هو العامل المحدد الحاسم فقط, لكنه ليس العامل الوحيد. بل إنه يتأثر بدوره بالسياسة. إن ماركس بعيد عن الزعم بأن الحقيقة الاقتصادية هي الحقيقة الوحيدة.
فمن الخطأ أن نرى هنا سبباً أبدياً وهناك نتيجة أبدية وحسب. إن ذلك تجريد فارغ يلغي ما حققه الفكر من تقدم في دراسة المنهج وكأن هيجل لم يوجد أبداً. ويطرح انجلز هذا الموضوع حين يتساءل في خطاب إلى شميت بتاريخ 27 أكتوبر 1890 قائلاً:
"لماذا نناضل من أجل الدكتاتورية السياسية للبروليتاريا إذا كانت السلطة السياسية عاجزة اقتصادياً؟ إن القوة - -أعني سلطة الدولة – هي أيضاً السلطة لقد حارب ماركس ضد نظرية العوامل. صحيح أن كل شيء يؤثر على كل شيء. لكن ما هو الأساس؟ إن علاقات الإنتاج تتوقف على القوى الإنتاجية, والعكس صحيح أيضاً. وأكثر من هذا فإن القوى الإنتاجية تحدد تطور علاقات الإنتاج, بينما علاقات الإنتاج هي القوة الرئيسية الحاسمة التي تحدد التطور المقبل للقوى الإنتاجية. إذن فأين نقطة البدء؟ الوقع أنه يجب البحث عن أساس التأثير المتبادل. إن الأساس هو القوى
الإنتاجية, نقطة البدء هي القوى المنتجة. ولهذا, فإذا كان الوضع الاقتصادي هو العامل الحاسم في التاريخ, فإن المقصود بالوضع الاقتصادي هو إنتاج وإعادة إنتاج الحياة المادية للبشر.
ويشرح إنجلز هذا المفهوم في رسالة إلى بلوخ بتاريخ 21/22 سبتمبر 1890 فيقول:" طبقاً للمفهوم المادي للتاريخ فإن، العامل الحاسم الأخير هو إنتاج الحياة الواقعية. إن الوضع الاقتصادي هو الأساس. بيد أن العوامل المختلفة في البناء العلوي – أي الأشكال السياسية للصراع الطبقي ونتائجه من دساتير وأشكال قضائية وانعكاسات هذه الصراعات الطبقية في أذهان معاصريها من نظريات سياسية وقانونية وفلسفية وآراء دينية – إنما تمارس تأثيرها على مجرى الصراعات التاريخية.وهي في عديد من الحالات تتغلب في تحديد شكلها. هناك فعل متبادل فيما بين هذه العوامل جميعاً. وفيه تؤكد الحركة الاقتصادية وجودها كضرورة".
هكذا أصبح واضحاً أن التاريخ لا يتطور طبقاً لقاعدة توجد من خارجه. إن الناس يصنعون تاريخهم بأيديهم, لكنهم يصنعونه في المقام الأول في ظل ظروف محددة تماماً, هي ظروف معطاة, مستقلة عنهم, وإلى حد كبير مفروضة عليهم. وهم يصنعونه في المقام الثاني بكيفية معينة, بحيث أن النتيجة النهائية تظهر من محصلة الصراعات العديدة فيما بين الإرادات الفردية التي تعبر كل منها عن ظروفها الاقتصادية. ولذلك يمكن تلخيص المادية التاريخية في هذا الحقيقة: إن الاقتصاد يحدد الطبقات, وصراع الطبقات يحدد التاريخ.
ولم يكن ماركس هو الذي اكتشف وجود الطبقات في المجتمع الحديث ولا وجود الصراع بينها. فقد وصف المؤرخون البورجوازيون من قبله بفترة طويلة التطور التاريخي لهذا الصراع بين الطبقات. وتولى الاقتصاديون البورجوازيون وصف الوضع الاقتصادي للطبقات. لكن الجديد الذي أتى به ماركس هو إثبات أن وجود الطبقات إنما يرتبط بمراحل تاريخية في تطور الإنتاج, وأن صراع الطبقات يؤدي إلى سلطة البروليتاريا التي تمثل وحدها الانتقال إلى إلغاء كل الطبقات, إلى المجتمع اللاطبقي.
وهكذا فإن المادية التاريخية تعني أن أساس كل مجتمع هو نظامه الاقتصادي, وأن لكل نظام اقتصادي تركيبه الطبقي المحدد, وأن لكل طبقة من طبقاته مصالحها الخاصة ووجهة نظرها الخاصة, وأن التاريخ في جوهره هو تسجيل لصراع الطبقات وتطلعاتها.
إن القاعدة الأساسية للمادية التاريخية هي أن أسلوب الناس في الحياة أي الظروف الموضوعية لإنتاج وإعادة إنتاج الحياة المادية, هو الذي يحدد أسلوب الناس في التفكير. وغالباً ما تفسر هذه القاعدة بمعنى أن النشاط الفكري يلعب دوراً سلبياً في العملية التاريخية. والواقع أن من الخطأ الشائع ذلك الزعم القائل بأن المادية التاريخية تعتبر الأفكار والثقافات أي الوعي بناء هشاً لا أهمية له, في حين أن الأساس الاقتصادي هو وحده الصلب. فالواقع أن السياسة والقانون والفلسفة والدين والأدب والفن تؤثر جميعاً على الاقتصاد. غير أنها جميعاً تؤثر بعضها على بعض, وعلى الأساس الاقتصادي نفسه. يضاف إلى ذلك أن الوضع الاقتصادي لا يحدث تأثيره بطريقة أوتوماتيكية, بمعنى أنه لا يمكن
تقديم تفسيرات آلية للتاريخ. لا يمكن تحويل المادية التاريخية إلى مجرد مادية اقتصادية. إن الوضع الاقتصادي يمارس تأثيره الحاسم دائماً من خلال العديد من الظروف والملابسات. وأحياناً يدق هذا التأثير حتى ليكاد أن يختفي تماماً.
ولهذا فإن تطبيق منهج المادية التاريخية لا يمكن أن يكون عملاً بسيطاً ولا سهلاً. إنه يتطلب معرفة حقيقية بتركيب النظم الاجتماعية وطريقة قيامها بعملها.وهي معرفة لا تكتسب إلا عن طريق البحث النظري العميق و التطبيق الدقيق المضني. ولا مجال لا دعاء أن منهج المادية التاريخية قد استقصى بحث تاريخ المجتمعات البشرية جميعاً. فبالنسبة لأولئك الذين يعنيهم تغيير العالم مثلما يعنيهم فهمه أيضاً, لم تكن هناك سوى نقطة واحدة للبدء وهي البدء بالنظام الاجتماعي السائد وهو الرأسمالية. وذلك ما فعله ماركس. ومن هنا يعتبر سويزي أن "رأس المال" هو الثمرة للتطبيق العميق المحكم لمنهج المادية التاريخية.
ولا شك أن " رأس المال" بأكمله نموذج رائع للدراسة المادية التاريخية للرأسمالية. وكثيراً ما تعرض جوانب عديدة من هذا التحليل بحيث غدت مألوفة. لكنا نود هنا أن نضرب المثل بجوانب أخرى لم تنل حظها من الانتباه.
فماركس,مثلاً, في "رأس المال" كان من أوائل أولئك الذين لفتوا الانتباه إلى أهمية التكنولوجيا والتكنيك. وفي" رأس المال" يقول ماركس: " إن التكنولوجيا تبرز أسلوب عمل الإنسان تجاه الطبيعة أي العملية المباشرة لإنتاج حياته". وهن يضع التكنيك بالتالي في خدمة المجتمع كحقيقة تاريخية, فإن حاجة المجتمع إلى التكنيك تدفع بالعلم إلى الأمام أكثر مما تفعل عشر جامعات.
وماركس, مثلاُ, في " رأس المال" يلقى الضوء على تأثير الصناعة الكبيرة على الأسرة, ويقول إن الصناعة الكبيرة بإتاحتها دوراً حاسماً في عملية الإنتاج للنساء والأحداث من الجنسين, فإنها "تخلق أساساً اقتصادياً جديداً لشكل أرقى من أشكال العائلة والعلاقات بين الرجل والمرأة".
وماركس, مثلاً, في " رأس المال" يعالج نظام التعليم على ضوء الصناعة. فنظام المصنع يوضح لنا منذ الآن بذور التربية في المستقبل, "هذه التربية التي ستوحد العمل مع التعليم مع الرياضة" – لا لزيادة الإنتاج السلعي فقط بل لإنتاج أناس متطورين من كافة الوجوه.
القوانين الاقتصادية
في "رأس المال" إذن يخضع ماركس الرأسمالية المعاصرة لدراسة مادية تاريخية, مزودة بالنواة السليمة في كتابات التقليديين حين اعتبروا الإقطاع مرحلة عابرة. وبفضل هذه المادية التاريخية, تأكد الطابع العلمي للاقتصاد السياسي, لكن تأكد أيضاً الطابع العابر لقوانينه. وبينما كان الاقتصاديون التقليديون يصوغون القوانين الاقتصادية بوصفها قوانين أبدية, طبيعية, بحيث يتحول نظام الإنتاج الرأسمالي إلى نظام إنتاج أبدي, كشفت المادية التاريخية عن الطابع العابر والانتقالي في هذه القوانين, وأكدته في قوانين الاقتصاد السياسي أكثر مما هو في قوانين العلوم الطبيعية, وذلك لارتباط الاقتصاد بحياة البشر, بالعلاقات الاجتماعية, بالصراع الطبقي. فبينما تعبر قوانين الطبيعة
عن القوى العمياء التلقائية في الطبيعة, فإن القوانين الاقتصادية تعمل من خلال البشر الذين يصنعون لأنفسهم أهدافاً واعية يسعون لتحقيقها. ونتيجة لذلك تتميز القوانين الاقتصادية على خلاف قوانين الطبيعة بأنها ليست باقية, وأنها تعمل في أغلبها خلال مرحلة تاريخية معينة, بعدها تخلى المكان لغيرها من القوانين. إنها لا تلغى, لكنها تفقد مفعولها نتيجة تغير الظروف الاقتصادية. إن لكل مجتمع قوايننه الاقتصادية, وأن يستخدمها في صراعه مستفيداً من حقائقها, كما يستطيع أن يغيرها لكن بطريق غير مباشر. كيف؟ إن للقوانين الاقتصادية وجودها الموضوعي كحقائق مستقلة عن إرادة البشر. غير أن لوعي هؤلاء البشر تأثيراً فعالاً على مجرى هذه القوانين. إن الصراع الطبقي لا يغير هذه القوانين ذاتها, لكنه يغير المجتمع الذي يمليها. إن القوانين الاقتصادية الأساسية قوانين مرتبطة بنظام الملكية لوسائل الإنتاج والمنتجات. ومن ثم فهي قوانين تاريخية تظهر وتختفي مع نظام الملكية. وتلك الحقيقة هي أساس الصراع الطبقي, أساس تطوره وأساس السيطرة على مصائره.
إن المادية التاريخية هي التي أتاحت بناء الاشتراكية العلمية, على أنقاض الاشتراكية الخالية. وفي " رأس المال" يقدم ماركس الأساس العلمي للاشتراكية حين يكشف عن القانون الأساسي للرأسمالية, قانون فائض القيمة. وبهذا الأساس العلمي تمكن ماركس من دحض آراء برودون الفوضوية وتفنيد أفكار دوهرينج الذي أراد أن يضع اشتركية بديلة, بيد أنها لم تستطع أن تكشف عن طبيعة نظام الإنتاج الرأسمالي. فقد اعتبر دوهرينج أن الملكية هي نتيجة للسرقة أو العنف. ولكن الدراسة المادية التاريخية لا تدل على صحة هذا الاعتبار بل إن العكس هو الصحيح. فمن الواضح أن نظام الملكية الخاصة يجب أن يوجد أولاً قبل السرقة, قبل أن يستطيع السارق أن يتملك مال الغير. إن العنف يمكن أن ينقل الحيازة من المالك إلى السارق, لكنه لا يستطيع أن يخلق الملكية الخاصة.
إن الدراسة التي تمت في " رأس المال" قد أرست الأساس العلمي للاشتراكية, وذلك من خلال اكتشاف قانون الصراع الطبقي وقانون فائض القيمة. فهذان القانونان قد جعلا من الاشتراكية علماً. لقد كانت المشكلة عند ماركس تنحصر من جهة في وضع أسلوب الإنتاج الرأسمالي في مساره التاريخي وتوضيح ضرورته في مرحلة معينة من مراحل التاريخ, وكذلك وبالتالي ضرورة انهياره – ومن جهة أخرى في إظهار الطابع الداخلي لأسلوب الإنتاج الرأسمالي. ذلك أن الانتقادات التي وجهت من قبل إليه كانت تتناول نتائجه السيئة أكثر مما تتناول طريقة سيره الداخلي. ومن ثم فإن ما توصل إليه ماركس من استنتاجات نظرية إنما تعبر عن علاقات حقيقية نابعة عن صراع طبقي قائم فعلاً, نابعة عن حركة تاريخية, تسير وتتحرك فعلاً. ولهذا فلم يعد دور الاشتراكية هو " دور البائع لبضاعة الاشتراكية باعتبارها صنفاً جديداً من المجتمع أكثر عدلاُ وإنسانية". إن المجتمع الاشتراكي أكثر بالفعل عدلاً وإنسانية, لكن المهمة صارت هي إثبات أن الاشتراكية هي بالضرورة الخطوة التالية في التطور التاريخي للبشرية. وكما يقول سويزي " كان الاشتراكي قبل ماركس واعظاً ومبشراً بالثورة, فأصبح بعد ماركس عالماً من علماء الثورة".
التجريد في " رأس المال"
يجب القول بأن ماركس لم يتقدم بعرض منظم لمنهجه في المادية الجدلية, مثلما فعل غيره من الفلاسفة. غير أنه يجب القول أيضاً مع لينين بأنه إذا كان ماركس لم يترك بعده كتاباً في المنطق, فلقد ترك لنا منطق " رأس المال", حيث طبق ماركس على علم الاقتصاد منطق المادية الجدلية. وفي " رأس المال" دراسات فلسفية بغيرها كانت الدراسة الاقتصادية تكاد تغدو مستحيلة.
إن فهم الفصل الأول لذي يتضمن تحليل السلعة أمر صعب حقاً. وتحليل جوهر القيمة وحجم القيمة وأشكال القيمة أمر صعب أيضاً. إن القارئ مطالب هنا, على حد قول ماركس, بالقدرة على التجريد. فكيف يتفق منهج المادية الجدلية مع التجريد؟ بالطبع إن التجريد يشكل نوعاً من الصعوبة للقارئ, لكن تجريد ماركس هو سبي إلى المزيد من التحديد.
فدراسة جسم الإنسان كوحدة عضوية أسهل من دراسة خلايا هذا الجسم. ويوسع عالم الطبيعة أن يلاحظ الظاهرة الطبيعية حيث تقع, أو أن يجري التجارب في ظروف مماثلة لظروف الظاهرة العادية. أما في الدراسة الاقتصادية فلا توجد ميكروسكوبات ولا مفاعلات كيميائية لتشخيص دراسة المجتمع. وعندئذ يصبح التجريد ضرورة لا مفر منها, ولقد أحرز العلم بالفعل تقدماً كبيراً بفضل القدرة على استخدام التجريد كأداة للتحليل.
لكن ما هو التجريد؟
إن معرفة ما حولنا هي انعكاس لما حولنا على عقولنا.ولا نستطيع أن نعرف ما حولنا في كليته, ولكن كل ما نستطيعه هو أن نقترب منه باستمرار, عن طريق خلق تعريفات ومفاهيم وقوانين, نضع بها جدولاً عن الكون نرتبه فيه. ولهذا اعترف إنجلز في رسالته إلى شميت بأن "مفهوم الشيء وحقيقة هذا الشيء يجريان جنباً إلى جنب, يقتربان دائماً أحدهما من الآخر, من غير أن يلتقيا أبداً".
ومع ذلك تحاول البشرية أن تتوصل إلى معرفة حقيقة الشيء. وتدخل من ثم في صراع بين الحقيقة كما هي وبين المفهوم كما تتصوره. وعندئذ, فإن، نقطة البدء في محاولة المعرفة الصحيحة هي التجريد.ونقطة البدء في هذا التجريد هي إدراك ما هو محدد, ما هو حسي, مجازاً. وغاية التجريد هي عزل واستخلاص الجوهري, بغض النظر عما هو غير جوهري في الظاهرة, بمعنى تخليص الظاهرة من السمات الذاتية والخاصة, وعدم الاحتفاظ إلا بما هو جوهري, أي ما هو موضوعي وهام. وبعد عزل واستخلاص الجوهري, يمكن أن نعود من المجرد إلى المحدد فكرياً, أي بعد أن يعاد تصويره فكرياً. وهكذا يكون التجريد هو عبارة عن الانتقال من المحدد مجازياً إلى المحدد فكرياً. وعندئذ تتحقق معرفتنا بالظاهرة. فبفضل هذا التجريد نصل إلى القانون العلمي, لأن هذا القانون ليس سوى شكل العمومية في الظاهرة, إذ يعبر عن العلاقة الضرورية والجوهرية والعامة والمتكررة في الظاهرة.
فموضوع العلم أن يرتقي من الحركة المظهرية للظواهر إلى حركتها الواقعية ومن ثم يتولى القانون العلمي رد الظواهر إلى مكوناتها البسيطة, منتقلاً من المظهر إلى الجوهر بفضل التجريد.
ومن هذه الزاوية يختلف التجريد الماركسي عن تجريد هيجل أو ردبرتوس مثلاُ. ولقد كتب إنجلز إلى كاوتسكي في 20 سبتمبر 1884 يقول" إن ماركس يلخص المضمون المشترك القائم في الأشياء والعلاقات, ويرده إلى تعبيره المنطقي العام. وبالتالي فإن تجريده إنما يعكس فقط في صورة فكرية ذلك المضمون الجاثم من قبل في الأشياء – على عكس ردبرتوس الذي يقيم لنفسه تعبيراً منطقياً كاملاً أو ناقصاً, ثم يقيس الأشياء بهذا المفهوم الذي يكون عليها أن تتخذه كخط مرشد لها. إن تجريد ماركس هو تلخيص لما هو مشترك في الأشياء والعلاقات واختزاله إلى تعبير منطقي عام, موضوع في صيغة فكرية.
إن التجريد أداة للتحليل العلمي, لا يمكن أن ترفض بزعم تناقضها مع المنهج المادي. ففي العلوم الاجتماعية, لا بد من تشريح العالم الملموس إلى عناصره, وتبويب هذه العناصر في أبواب, مع إبراز الفروق ودرجات الاختلاف. ولا بد أيضاً من مجموع العناصر التي يستخلصها الباحث أن يصنع صورة ذهنية للعالم يفترض دقتها ويعول عليها. غير أن الخطوة الحاسمة في التجريد هي أنه يعيد تشريح الظاهرة إلى عناصرها واستخلاص وعزل الجوهري منها, يتم تحقيق الجوهر الذي عزل وذلك بالقياس خطوة فخطوة على الواقع نفسه, بالعودة مرة أخرى إلى الحركة التاريخية الواقعية.
وهذا ما فعله " رأس المال"عندما صاغ نموذجاً مبسطاً للمجتمع الرأسمالي, أو "مجتمعاً نقياً" ليس فيه سوى رأٍسماليين من جانب وعمال من جانب آخر, وجعلهم "يتبادلون كل السلع بما فيها قوة العمل بحيث تباع وتشتري بكامل قيمتها". ولا يخفي ماركس أنه قد أقام هذا النموذج للمجتمع الرأسمالي, من أجل "غض النظر عن كل الظواهر التي تخفي عمل آليته الداخلية". والواقع أنه ابتداء من معرفة موسوعية بالرأسمالية يبحث ماركس مادة المجتمع الرأسمالي في كل تفاصيلها ويحلل الأشكال المختلفة للتطور ويكتشف علاقتها الداخلية, وعندئذ يعرض الحركة الواقعية للمجتمع الرأسمالي في جملتها. إنه بذلك يصل إلى صياغة ما يسميه " انعكاس الحياة المادية في نموذجها المثالي". ويعترف من ثم بأن نجاحه في هذا التحليل التجريدي قد يحمل على الظن بوجود "بناء فكري مسبق" يراد إثباته عن طريق التجريد.
ولذلك فإن التجريد لكي يكون علمياً يفترض حدوداً لنفسه. فلا بد أن يتم التجريد داخل حدود معينة, مثلاً في مجتمع معين. إن أبسط فكرة اقتصادية ولتكن قيمة المبادلة تفترض المكان, أي مكاناً يتحدد في ظروف محددة, ويطابق نوعاً معيناً من العلاقات الاجتماعية, على الرغم من أن قيمة المبادلة قد كان لها وجود قديم سابق على الطوفان.
ودراسة السلعة في " رأس المال" مثال لهذا التجريد العلمي. وماركس يدرس السلعة باعتبارها بذرة رأس المال, وباعتبار رأس المال هو التطور الأخير للسلعة. فلقد تطور ت السلعة تاريخياً إلى رأس المال. لكن هذا التطور عند ماركس تطور محدد, حسي, منبثق من الواقع, وليس بناء مجرداً من الفكر.
في رأس المال يعلن ماركس أن الشكل الأول للعلاقات الرأسمالية هو شكل مبادلة السلعة. ثم يتابع هذه الدراسة في ثلاث مراحل: السلعة, ثم ظروف مبادلتها ثم النقود وتحولها إلى رأس مال. وفي المجلد
الثاني من " رأس المال" يناقش رأس المال الفردي أولاً ثم رأس المال الاجتماعي. وفي الانتقال من إعادة إنتاج رأس المال الفردي إلى إعادة إنتاج رٍأس المال الاجتماعي, نمر من التحليل الوحدي إلى التحليل الجمعي ومن تحليل الجزء إلى تحليل الكل. لذلك يحلل ماركس مجرى الإنتاج في مجموعة, بوصفة مركباً من عمليتي الإنتاج والتداول. ويبدأ يقدم مزيداً من الحقائق الواقعية.ومن ثم يدرس تحويل فائض القيمة إلى ربح, وإلى ربح متوسط, وإلى فائدة وإلى ريع. وتبدو الطبقات في التحليل. وفي تحليل معدل الربح في المدى الطويل, تصبح إعادة الإنتاج الموسعة محكومة بميل معدل الربح للانخفاض. وفي كل ذلك ينظر ماركس للمجتمع بوصفه منقسماً إلى طبقتين أساسيتين هما الطبقة العاملة والطبقة الرأسمالية التي تملك وسائل الإنتاج وتستحوذ على فائض القيمة, وبأيديها نقطة البدء في التداول إذ تملك رأس المال النقدي وتلعب الدور الأساسي في التبادل.
ومن كل هذا نتبين أن ( تجريد) ماركس في " رأس المال" هو السبيل عنده إلى المزيد من (التحديد). إن أكبر مساهمة للمجلد الأول من " رأس المال" هي التمييز بين قوة العمل والعمل, التمييز بين السلعة واستخدام السلعة. فيكف توصل ماركس إلى هذه النتيجة؟ إنه يدرس السلعة, أي سلعة, ويدرس قيمة مبادلتها. لكنه يتبين في النهاية أن العمل ليست له قيمة, ولا يمكن أن تكون له قيمة, لسبب بسيط هو أن العمل هو مقياس القيمة. وإذن فما الذي يبيعه العامل للرأسمالي؟ إنه إنما يبيع قوة عمله لا عمله. وباستهلاك قوة العمل في المصنع تكون هذه السلعة الخاصة التي باعها العامل مصدراً للقيمة وفائض القيمة.
لقد كان التمييز بين العمل وقوة العمل, والتمييز بين العمل المحدد والمجسم في كل سلعة والعمل المجرد كمعيار للقيمة, هو الذي هدى ماركس إلى فائض القيمة. لهذا يعلن ماركس أنه بعد الارتقاء من الظاهرة المحددة إلى الظاهرة المجردة, يجب العودة من المجرد إلى المحدد, ومن المبسط إلى المعقد, ومن الجوهري إلى الظاهري. يجب العودة إلى مزيد من السيطرة على الواقع. فمن ظاهرة العمل الأجير توصل إلى قانون فائض القيمة. ومن هذا القانون استطاع أن يعيد تقسيم الربح والفائدة والريع باعتبارها أجزاء من ظاهرة فائض القيمة وليست ظواهر مستقلة.
إن هذه القدرة على التجريد هي التي جعلت ماركس أول اقتصادي يدرس الظواهر الاقتصادية (الجمعية) ويخرج أول تحليل (جمعي) للاقتصاد الرأسمالي ويعطي أحكاماً (جمعية) عليه, هي أحكام عملية عن وجوده وصيرورته.
ويقول أوسكار لانج إن " رأس المال" مثل تقليدي لما يسمى التجسيد المتتالي أو التقريب المتتالي. فالشرح الذي يقدمه المجلد الأول يعتبر انتقالاً خطوة فخطوة من التجريد إلى مراحل من التجسيد أعلا باطراد, إلى أن يتكشف الاتجاه التاريخي للتراكم الرأسمالي. والمجلد الأول كله يعطينا
صورة للرأسمالية, لأنه تحليل لعملية الإنتاج الرأسمالية في صورتها الخالصة, أي تحليل لجوهر علاقات الإنتاج الرأسمالية. في هذا التحليل, يغفل ماركس عمداً تداول رأس المال والأشكال التي يتخذها المضمون الجوهري لعلاقات الإنتاج الرأسمالية. أما ي المجلد الثاني, فيقدم ماركس تداول رأس المال. ثم يقدم لنا في المجلد الثالث تحليلاً لعملية الإنتاج الرأسمالية منظوراً إليها ككل, تحليلاً تندمج فيه علمية الإنتاج وعملية التداول ومضمون العلاقات الرأسمالية وأشكالها المحددة.
وبفضل هذا التجريد أمكن أن يقدم في " رأس المال" ليس فقط قوانين أسلوب الإنتاج الرأسمالي, وإنما كذلك بيانات عن الملامح الجوهرية لأسلوب الإنتاج الاشتراكي. ولقد دلت تجارب البناء في البلدان الاشتراكية كلها على حقيقة جوهرية هي ضرورة الاعتماد على تحليلات " رأس المال" من أجل سلامة البناء الاشتراكي.
ولقد طرح ماركس بالفعل في المجلد الثالث من " رأس المال" مبدأ المجتمع الاشتراكي, حيث " يكف الإنسان عن العمل بحكم الضرورة أ والمناسبة المفروضة عليه من خارجه". ويقول " فكما أن على الإنسان البدائي أن يناضل ضد الطبيعة كيما يفي بحاجاته ويستمر في حياته ويتكاثر, فإن الإنسان المتحضر مجبر هو أيضاً على أن يفعل ذلك وأن يناضل أيا يكن بنيان المجتمع وأسلوب الإنتاج". لكن مع تطور المجتمع, تتزايد الحاجات وتتسع القوى الإنتاجية من أجل إشباعها. وعندئذ فإن " المنتجين المتجمعين يسوون بطريقة رشيدة مبادلاتهم مع الطبيعة. ويسيطرون معاً عليها بدل أن يكونوا محكومين بقوتها العمياء. وهم يتمون هذه المبادلات بإنفاق الحد الأدنى من الجهد في أكثر الظروف ملائمة واحتراماً لطبيعتهم الإنسانية.. (هكذا) يبدأ تطور القوى الإنسانية كغاية في حد ذاتها".
خـــاتمـة
إنقاذ الاقتصاد السياسي
تصدى ماركس في " رأس المال" لمهمة الكشف عن حركة المجتمع الرأسمالي, المجتمع الذي ولد علم الاقتصاد السياسي تعبيراً بورجوازياً عنه. و بذلك أتم ماركس صياغة هذا الاقتصاد السياسي, عندئذ, من وجهة النظر النقدية للبروليتاريا.
ولعل أهم ما توصل إليه ماركس في "رأس المال" هو بيان الطبيعة الانتقالية للرأسمالية, فقد كان ذلك جوهر ما قدمه ماركس إنقاذاً لعلم الاقتصاد السياسي من محاولة ابتذاله منذ منتصف القرن التاسع عشر. وبذلك أثبت أن علم الاقتصاد هو بالضرورة علم تاريخي, لأنه علم القوانين التي تحكم إنتاج وتوزيع وسائل العيش المادية في المجتمع البشري.إنه علم يعالج مادة تاريخية بطبيعتها هي الإنتاج والتوزيع, وهي مادة تتغير باستمرار. من مجتمع إلى مجتمع. فلا يمكن أن يكون الاقتصاد السياسي واحداً بالنسبة إلى جميع البلدان وجميع العصور.
لقد انصبت دراسة "رأس المال" على مجتمع معين هو المجتمع الرأسمالي, وبقي أن تتم صياغة علم الاقتصاد السياسي للمجتمعات السابقة على الرأسمالية, وللمجتمع الاشتراكي الذي حل محل الرأسمالية. وعندما تتم مثل هذه الدراسة, فإنه يمكن عندئذ, وعندئذ فقط, استخلاص القوانين العامة التي يمكن أن تصدق على كل من الإنتاج والتوزيع بوجه عام.
وعلى أية حال, فإنه بالصياغة التي قدمها " رأس المال" تخطي ماركس كلا من الاقتصاد التقليدي والاقتصاد المبتذل. لقد استطاع ماركس أن يتفوق على سميث وريكاردو, وذلك بتقديم الحلول لكل ما اختلفوا عليه, كما استطاع أن يضع حداً لمحاولة الاقتصاديين المبتذلين تصفية علم الاقتصاد. إنه بإحلال فكرة قوة العمل محل العمل قد كشف عن ظاهرة فائض القيمة, و حدد مصدرها, كما نخلص من كل الصعوبات التي تحطمت عليها من قبل تحليلات سميث وريكاردو. ويتوصل ماركس إلى التمييز بين رأس المال الثابت ورأس المال المتغير, استطاع متابعة عملية تكوين فائض القيمة, ومن ثم كشف الغطاء عن ظاهرة رأس المال في المجتمع الرأسمالي.
ومن الطبيعي أن يكون لكل بحث علمي أعداؤه. بيد أن هناك أعداء آخرين ينضافون في البحث العلمي الاقتصادي, حيث يمكن أن يثور غضب المصلحة الخاصة على حقائق العلم نفسها. إن هناك مثلاً يقول إنه إذا اصطدمت البديهيات الهندسية بمصالح البشر فإنهم سيحاولون بالطبع تفنيدها. ولقد كان نقد ماركس للاقتصاد السياسي محاولة لإخراجه من الوهدة التي ألقاه فيها الاقتصاديون المبتذلون, وهذه محاولة تصفية الاقتصاد السياسي كعلم. غير أن المحاولة ازدادت حدة بعد ظهور " رأس المال".
لقد جرت ومازالت تجري محاولات البورجوازية علم الاقتصاد من علم يدرس العلاقات الاقتصادية بين الناس إلى علم يدرس العلاقة بين الإنسان والأشياء, من علم الظواهر بين البشر إلى علم لظواهر بين الأشياء.
قامت البورجوازية بهذه المحاولات منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر حين استبعد الاقتصاد المبتذل علاقات الإنتاج من دائرة الاقتصاد السياسي. وبعد ذلك في النصف الثاني من القرن نفسه استبعد الاتجاه الذاتي ( جفونز, سينيور) جميع العلاقات الاجتماعية. واستبعد الاتجاه التاريخي (روشر) القوانين الاقتصادية باسم نسبية كل الحقائق الاقتصادية وعدم انتظامها, ومن ثم تحول الاقتصاد السياسي إلى مجرد تاريخ اقتصادي. وبدلاً من الرؤية الرحبة للتقليديين, الذين أولوا اهتمامهم لمسائل التوزيع فيما بين الطبقات, حل الاهتمام بالمشاكل الجزئية للأسعار. وأصبح تحليل السوق لا يوجد في ظروف الإنتاج وإنما في العلاقة بين السلع والمواقف الذاتية الاقتصاد السياسي – على حد قول موريس ضوب – إلى علم للأسعار. بل نحا به كي يكون ( اقتصاداً بحتاً) موضوعه دراسة السلوك الإنساني طبقاً لمبدأ اللذة والألم.
ومع ذلك لا تبدو المحاولات ناجحة. فالتصفية الكاملة للاقتصاد السياسي لا يمكن أن تتحقق حتى من جانب الدوائر البورجوازية ذاتها, لسبب بسيط هو أن البورجوازية في النهاية محتاجة إلى معرفة صحيحة بالقوانين الاقتصادية. ويوضح أوسكار لانجه أن الاحتياجات العملية للسياسة الاقتصادية التي تتبعها مؤسسات رأس المال الكبير,وازدياد تدخل الدولة في العلاقات الاقتصادية, والنقد الذي توجهه البورجوازية الصغيرة والمتوسطة إلى الاحتكارية, وتحول علم الاقتصاد في الجامعات إلى مهنة, والنقد الذي تلقاه الامبريالية من قبل البورجوازية الوطنية والمثقفين المرتبطين بها في البلاد المستعمرة وشبه المستعمرة وتلك التي تحررت حديثاُ – أن هذا كله بالإضافة إلى قيام المجتمع الاشتراكي نظاماً لأكثر من ثلث البشرية قد جعل مشكلات العلاقات الاقتصادية بين الناس أمراً لا يمكن إغفاله. وبالتالي تصبح التصفية الكاملة للاقتصاد السياسي مستحيلة عن ذي قبل.
إن علم الاقتصاد السياسي يكون موضوعياً, غير متحيز, لا يخشى الحق, بالقدر الذي يكون علماً تأخذ به طبقة لا تهتم بإخفاء ما تنطوي عليه الرأسمالية من تناقضات, ولا بالإبقاء على النظام الرأسمالي, وتمكن مصالحها في تحرير المجتمع من العبودية الرأسمالية وفي التقدم المطرد للبشرية. وهذه الطبقة هي الطبقة العاملة. من هنا التفهم الذي لقيه كتاب " رأس المال" بسرعة في دوائر الطبقة العاملة بحيث غدت النتائج التي توصل إليها هي المبادئ الأساسية لحركة الطبقة العاملة. لقد وجدت فيها أكمل تعبير عن وضعها وعن تطلعاتها.
ولذلك نقول إنه بفضل " رأس المال" تحول علم الاقتصاد السياسي من علم للبورجوازية إلى علم للبروليتاريا أيضاً. وبالمثل فإنه بفضل " رأس المال" تجري اليوم عملية وضع أساس الاقتصاد السياسي للاشتراكية.إن مستقبل الاقتصاد السياسي مرتبط بحركة الطبقة العاملة, مرتبط بعملية بناء وتطور المجتمع الاشتراكي. وهما ضرورتان تواجهان الاقتصاد السياسي بمهام جديدة على الدوام.
ويزداد " رأس المال" حيوية بالصدق الذي تحمله له الأيام.
الـمحـتـويـات
الموضوع صفحة
مقدمة 1
الفصل الأول: أزمة الاقتصاد السياسي 2
- النظرية التقليدية 2
- الرأسمالية نظام طبيعي 3
- المذهب الفردي 3
- الصراع الطبقي 4
- سيطرة البرجوازية 5
- حركة البروتارية 6
- الاشتراكية الخيالية 6
الفصل الثاني: ظهور " رأس المال" 9
- تكوين " رأس المال" 10
- مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي 11
- الإنتاج المادي 12
- أسلوب الإنتاج 13
- القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج 14
الفصل الثالث: جوهر " رأس المال" فائض القيمة 16
- كيف يتكون فائض القيمة 17
الفصل الرابع: منهج " رأس المال" المادية الجدلية 29
- المادية المتسقة 31
- الجدلية نقدياً 32
- المادية الجدلية 33
- المادية التاريخية 35
- القوانين الاقتصادية 38
- التجريد في " رأس المال" 39
خاتمة: إنقاذ الاقتصاد السياسي 43
#غازي_الصوراني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟