احمد عبدول
الحوار المتمدن-العدد: 4121 - 2013 / 6 / 12 - 17:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
استبشر العراقيون خيرا بنهاية حقبة البعث المظلمة في التاسع من نيسان عام 2003 بسقوط (صدام )وزبانيته الذين أعادوا للبعث فيما بعد سيرته الأولى كحزب يؤمن بالقتل وإثارة الحروب على يد مجموعة من أشباه الرجال الذين نزوا على مصير الوطن في غفلة من الزمن ، استبشر العراقيون بزوال حكم البعث الشمولي الديكتاتوري الذي حكم البلاد والعباد بقوة النار والحديد وتكميم الأفواه ومصادرة الحريات وإثارة الفتن والحروب التي استنزفت أموال وطاقات وإمكانات الشعب العراقي لتدعه نهبا لمختلف الأزمات والآفات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وهذا ما كان يتفاخر به (صدام )في أكثر من مناسبة عبر خطاباته المتلفزة والتي كانت تبث على مدار الساعة تقريبا أبان حقبة الثمانينات من القرن المنصرم فكثيرا ما كان (صدام )يؤكد على انه لم ولن يسلم العراق إلا ترابا ,ولا شك انه كان يعي ويعني ما يقول فهو لن يسلم العراق لمن يأتي بعده سوى بلد قد أنهكته الحروب وأغرقته الديون واستنزفت قواه التجاذبات والتخندقات الطائفية والعرقية والمذهبية والحزبية .هذا هو التراب الذي كان (صدام )يبشر به العراقيين في حال تركه لكرسي الحكم الذي كان يعده حكرا على بطانته من أعوان الظلام وأركان الجور والكراهية .وهذا عين ما حصل ويحصل على مدى عقد من الزمن على التغيير .
العراقيون وبعد مرور سنوات على اقتلاع نظام البعث يتساءلون ويتجادلون ويختلفون ويتقاطعون حول حقيقة ما يجري بين ظهرانيهم خلال سنوات ما بعد التاسع من نيسان ، مرت وكأنها قطع الليل المظلم فقد شهدت تلك السنوات من التدابر والتنافر والتباعد بين مكونات الطيف السياسي العراقي ما لم يكن يخطر على ذي قلب .العراقيون اليوم حائرون هائمون ناقمون لا يجدون ما يشبع نهمهم لمعرفة ما يجري حولهم من احداث شديدة الوطأة على نفوس قد خرجت بالأمس القريب من اتون حروب دامت لأكثر من ثلاثة عقود عجاف أخذت من أبنائهم ودمائهم ومستقبلهم ما تشفق السموات والارضون من حمله .
ان شريحة غير قليلة من العراقيين اليوم أخذت تذهب الى توصيف حقبة ما قبل التاسع من نيسان بالحقبة الأكثر أمنا والأوفر استقرارا على الرغم من كل ما شهدته تلك الحقبة الفائتة من ظلم وجور وجبروت .ان شريحة غير قليلة من العراقيين اليوم أصبحت تنظر الى المشهد السياسي الآني على انه مشهد أكثر قتامة وسوداوية من ذلك المشهد الذي سبق الإطاحة بحكم البعث البائد . بل ان البعض من هؤلاء أصبح يقارن وأخذ يفاضل بين مرحلة ما قبل التاسع من نيسان وبين ما تلاها من سنوات مقدما سنوات ما قبل السقوط محتجا بجملة من الأسباب التي تجعله يذهب الى هكذا طرح .فالمشهد الاجتماعي والسياسي آنذاك لم يكن بهكذا تدهور وتشرذم وانقسام حسب رأي هؤلاء وأطروحاتهم ولا شك ان مثل ذلك التصور له ما يبرره الى حد بعيد في ظل ما يشهده المواطن العراقي من إرهاب وقتل وتفخيخ يستهدف مجمل أنشطته وفعالياته فوق الأرض ، إلا ان نظرة متأنية لمجمل معطيات بعض العلوم الإنسانية كعلم الاجتماع تجعلنا إزاء صورة مغايرة تماما لتلك الصورة التي أخذت تسيطر على أذهان وتصورات الكثير من العراقيين هذه الأيام بما فيهم اعداد من المتعلمين والمتنورين ، ان المشهد السياسي العراقي على ضوء مقررات علم الاجتماع يعد وضعا أكثر حيوية وواقعية وحراكا مقارنة بما كان عليه قبيل التاسع من نيسان عام 2003 بكل المعايير والمقاييس العلمية الاجتماعية الرصينة .ان ما يعيشه العراقيون اليوم وما يعانونه من منغصات ومعوقات وفق مقررات علم الاجتماع يعد اقرب الى الواقع وادنى لسنن الطبيعة التي تمر بها المجتمعات البشرية في كل زمان ومكان لا سيما تلك المجتمعات التي رزحت تحت نير الظلم والاستبداد لعقود طوال ، يقول عالم الاجتماع العراقي المرحوم علي الوردي في احد مقالاته (لو تابعنا وعاظ السلاطين في رأيهم لألغينا الأحزاب الديمقراطية ,وأغلقنا الصحف السياسية , وقمعنا كل رأي يخالف رأينا ,بحجة ان هذه الأمور تفرق الجماعة وتضعف الأمة تجاه العدو الواقف لها بالمرصاد ، نسي هؤلاء ان الظلم يضعف الأمة أكثر مما يضعفها الجدال والتنازع وقد قيل في المأثورات الدينية الكفر يدوم والظلم لا يدوم , والأمة التي تتنازع فيها الأحزاب هي أقوى على البقاء من تلك التي يكون فيها الحاكم ظالما والمحكوم ساكتا فالتماسك الذي نلاحظه في تلك الأمة هو تماسك ظاهري أشبه بالورم المعدي منه بالنسيج الحي ، انه تماسك قائم بحد السيف , ولا يكاد ينغمد السيف عنه قليلا حتى تراه قد تهاوى الى الأرض كما يتهاوى البناء المتداعي ).ولا شك ان مثل هكذا طرح ينطبق على ما يعيشه العراقيون اليوم بشكل كبير جدا ,فالتماسك الاجتماعي الذي كان العراقيون يعيشونه قبيل التاسع من نيسان والذي أغرى البعض فيما بعد ان يعدوه أفضل مما يعيشونه اليوم في ظل التنازع والاحتراب والمحاصصة السياسية والحزبية إنما كان أشبه بالورم المعدي الذي سرعان ما يتفشى داخل جسد المجتمع ,انه تماسك وهمي صوري وان الأمم التي تحيا ضمن محيطه الموبوء تسير نحو العدم والمجهول على عكس تلك الأمم التي يكثر بين ظهرانيها التنازع والاختلاف والتقاطع فقد يعترض معترض ويقول ان ما يشير إليه الوردي في مقولته تلك إنما هو ذلك التدافع والتنافس المبني على أساس التنافس في البرامج وخطط التنمية وليس هو التدافع المبني على أساس التنافر والتباعد والتناحر المبني على أسس غير موضوعي أصلا ,ولا شك ان مثل ذلك الاعتراض يعتبر اعتراضا مقبولا الى حد كبير ,إلا إننا نقول ان التنافس على خلفية خدمة الفرد وبناء المجتمع السليم والمعافى والتقدم به نحو آفاق المستقبل الزاهر كان هو الهدف المرجو والمنتظر من تجربة العراق السياسية ما بعد التاسع من نيسان ,إلا ان ما حال دون تحقيق ذلك هو جملة من الأسباب والمعوقات التي تم وضعها بكل دقة من قبل بعض الجهات السياسية النافذة داخل الكابينة الحكومية بكل مفاصلها ومستوياتها .ومع كل ذلل فان كلام المرحوم الوردي يبقى يشكل جزءا كبيرا من حقيقة ما نعيشه اليوم من واقع سياسي واجتماعي يعد الأقرب الى منطق السنن التاريخية والاجتماعية منه الى ذلك الواقع المزيف والمنحرف (حقبة ما قبل التاسع من نيسان) .
ان ما نمر به خلال هذه السنوات من جدال وتناحر وتحزب يعد أفضل حالا واضمن مآلا من ذلك الوضع المزري الذي لم يكن للعراقيين فيه ادنى بارقة أمل أو بصيص من نور ، اذ لم يكن للعراق ككيان سياسي دولي فرصة للتقدم أبان الحكم السابق فأما اليوم وعلى الرغم من كل ما يمر بالعراق وأهله من تحديات ومصاعب فانه يمتلك مساحة عريضة من الأمل في ان يعود كيانا سياسيا فاعلا ومؤثرا في الساحة الإقليمية والدولية .
ان المتتبع لمجريات الأمور والمدقق في حيثياتها وملابساتها لا يستغرب مما يحدق بالعراقيين اليوم من أخطار وكوارث عبر العشرات من السيارات المفخخة وكواتم الصوت وعمليات القتل المنظم ,بل ان هكذا وضع يعد وضعا طبيعيا إذا ما عرفنا طبيعة الاختلاف الدائر داخل الحكومة ذاتها ، لقد جمعت الحكومات التي تم تشكيلها بعد التاسع من نيسان سواء على صعيد مجلس الوزراء أو البرلمان برامج متضادة وتوجهات متناقضة وشخصيات متنافرة ,لا يمكن بحال من الأحوال ان تجتمع دون حدوث ما لا تحمد عقباه كما هو حاصل اليوم .لقد ضمت الحكومات المتعاقبة على امتداد عقد من الزمن بين ظهرانيها بين من يعتبر التاسع من نيسان يوما اسودا في تاريخ العراقيين وبين من يعتقد ان التاسع من نيسان يعد عيدا وطنيا ومناسبة كبرى للخلاص من ربقة الظلم والعبودية ولقد ضمت الحكومات المتعاقبة بين أروقتها من يعتبر حزب البعث حزبا عروبيا قوميا يمثل تطلعات الشعوب العربية في الوحدة والتحرر وبين من يعتبر هذا الحزب حزبا دكتاتوريا مستبدا متسلطا انتهك الأعراض واستباح الحرمات ولابد من معاقبة من يبرر أو يمجد أو يروج له بحال من الأحوال ، لقد ضمت الحكومات المتعاقبة بعد السقوط بين من يبرر لصدام حروبه ونزواته وموبقاته وبين من يندد بتلك الجرائم ويفضح تلك الموبقات امام الرأي العام بالصوت والصورة ، لقد ضمت الحكومات المتعاقبة على السقوط بين من يشكك بوجود المئات من المقابر الجماعية التي ضمت الآلاف من جماجم الشباب والأطفال والشيوخ والنساء وان تلك المقابر ما هي إلا وهم من أوهام الخيال الكردي ، الشيعي الذي يعاني من داء المظلومية المزمنة ,وبين من اعتبر تلك المقابر شاهدا حيا على همجية وعدوانية وسادية البعث العفلقي المجرم ، لقد ضمت الحكومات المتعاقبة على السقوط بين جنباتها بين من اعتبر إعدام (صدام )في أول أيام العيد تجاوزا على القيم والأعراف والقوانين الوضعية والسماوية وبين من أعتبر إعدامه قصاصا عادلا وبشارة كبرى لقوافل من الأرامل والأيتام والثكالى من ذوي الشهداء والمغدورين والمعاقين والمشردين والمهجرين والمهاجرين ,لقد ضمت الحكومات المتعاقبة على السقوط بين من يؤمن بالعراق القوي المركزي الذي ليس فيه للأكراد صوت ولا للشيعة فوت ولا للأقليات نعت ,وبين من يؤمن بإيتاء كل ذي حق حقه في إطار الدستور والقوانين النافذة .
ان وجود تيارين سياسيين فاعلين نافذين داخل بهذا المقدار من التقاطع والتناقض والتضاد هو ما يقف وراء كل اشكال الاحتقانات والانسدادات السياسية والاجتماعية والأمنية منذ التاسع من نيسان حتى يومنا هذا .ولا عجب بعد ذلك ان لا تشهد كل الحكومات التي تشكلت على مدى عقد على التغيير سوى الاضطراب والتقهقر . ان ما يحصل داخل الساحة السياسية العراقية منذ سنوات هو ذات ما يحصل تحديدا في عالم الإلكترون عندما يلتقي الطرف الموجب بالطرف السالب مما يؤدي الى حدوث شرارة كهربائية حارقة ,وإذا ما كنا نستطيع تلافي اصطدام الطرف السالب بالموجب في عالم الاكترون فنحن قد نعجز عن تلافي ذلك الخطر المحدق في عالم السياسة والحكم ، ان وجود تيارين أو مشروعين سياسيين بهذا المقدار من التنافر داخل الكابينة الوزارية والتشريعية سوف لن يفضي لشيء سوى الخراب والدمار والاقتتال بين أبناء البلد الواحد ، فإذا لم يتيسر للعراقيين طيف سياسي يحتكم على جملة من المشتركات ويلتقي حول حزمة من الثوابت ولو بمستوى متوسط أو اقل من ذلك فان العراقيين سوف لن يشهدوا سوى الويل والثبور وحمامات الدم العراقي المسفوح بغير وجه حق .
هذا هو أهم وابرز ما يحدث منذ سنوات داخل الساحة السياسية العراقية لكنه بكل تأكيد قد يأخذ صور شتى وعناوين متعددة ولربما تخفّى وراء الدين أو احتمى بأستار الطائفة إلا انه يبقى في حقيقته صراع بين معسكرين وخلاف بين تصورين كما هي طبيعة كل الاختلافات التي شهدتها المجتمعات البشرية قديمها وحديثها على حد سواء .
#احمد_عبدول (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟