أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد الكحل - العلمانية في الوطن العربي















المزيد.....



العلمانية في الوطن العربي


سعيد الكحل

الحوار المتمدن-العدد: 1182 - 2005 / 4 / 29 - 10:52
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


1
ـ ما هو تعريف العلمانية ؟ إن لفظة "علمانية" ، في الاصطلاح اللغوي ، تعني الزمانية أو الدنيوية . وتقابلها ، في اللغة الفرنسية لفظة Laïcité
. أما المعنى الأصلي للكلمة فهو Sécularisme المشتق من الكلمة اللاتينية : Ciculum . ومن هذا المضمون الدنيوي لمفهوم العلمانية صيغت مفاهيم أخرى مرتبطة به مثل : المدينة ، السلطة المدنية ، مما يُبعد عن العلمانية شبهة "اللادينية" أو معاداة الدين . أما لفظة اللاييكية المترجمة عن Laïcité الفرنسية ، فقد تعرضت لتحريف من حيث مضمونها ودلالتها . ذلك أن أصل الكلمة اليوناني "لايكوس" يدل على ما ينتمي إلى عامة الناس ، في مقابل " الإكليروس" ، أي الكهنوت . وبسبب سوء الترجمة أو تحريف مضمونها استُعمِلت "العلمانية" ="اللاييكية" ، في بعض الأوساط للدلالة على العداء للدين . إذن فالعلمانية هي مفهوم سياسي يقوم على الفصل بين المجال المدني والمجال الديني ، بحيث إن الدولة لا تمارس أية سلطة دينية لتبقى محايدة إزاء كل الأديان ولا تتحيز لأحدها ، وكذلك الكنائس لا تمارس أية سلطة سياسية . ومن ثم فالعلمانية هي دعوة إلى التمييز بين ما هو دنيوي وما هو مقدس .
2 ـ متى دخلت العلمانية العالم العربي ؟ ومن هم روادها ؟ إن العلمانية ، من حيث هي نفي القداسة عن الممارسة السياسية وعدم إخضاع سلطات الدولة لسلطة ورقابة رجال الدين ، يمكن رصد بوادر إدخالها إلى العالم العربي والإسلامي ابتداء من الصدمة الأولى التي أحدثها غزو نابوليون لمصر في نفوس العرب والمسلمين الذين اكتشفوا وضعية التخلف العام التي يوجدون عليها ، وهم خير أمة أخرجت للناس ، مقارنة مع وضعية التقدم والتفوق التي توجد عليها الأمم الأوربية المسيحية / الكافرة . ومن لحظتها طُرحت مشاريع متعددة ومتباينة لرسم أسس النهضة العربية . ومن تلك المشاريع المجتمعية ما دعا إلى تبني النهج الغربي / الأوربي في بناء المجتمع والدولة ، بحيث لا تبقى للمؤسسة الدينية سلطة على دواليب الدولة وأجهزة الحكم . وكان من رواد هذا التيار : سلامة موسى وشبلي شميل وآخرون . وظلت تتنازع الأمةَ تيارات ومذاهب لم تسمح ، بسبب عوامل تاريخية وثقافية ، بالفرز الحقيقي لصالح هذا المذهب أو ذاك ، رغم المحاولات "القيصرية" التي أقدم عليها زعماء سياسيون أمثال مصطفى كمال أتاتورك لما ألغى نظام "الخلافة" ، أي ألغى الطابع الديني عن السلطة السياسية ووضع أسس دستور "علماني" يحظر الأحزاب الدينية والحكم باسم السماء . وكذلك تجربة الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة الذي سعى إلى جعل الممارسة الدينية شأنا فرديا لا تتدخل فيه الدولة بقوانينها ، أي لا تكون الدولة نائبة عن الله في إكراه الناس على عبادته ، كما لا تكون الممارسة السياسية شأنا دينيا يخضع لمراقبة الفقهاء وينضبط لمقياس الحلال والحرام . يضاف إلى هذا التيار العلماني الليبرالي تيار آخر هو التيار العلماني اليساري الشيوعي والاشتراكي ، والذي تعزز وجوده في العالم العربي بانتصار الثورة البلشفية وتأسيس الاتحاد السوفييتي ، وسيتقوى مع سياسية تصدير الثورة إلى بلدان العالم الثالث التي انتهجها السوفييت ، خاصة تلك التي كانت تواجه الاحتلال أو الاستبداد . إلا أن التيارين معا ، الليبرالي واليساري ، فشلا في بناء دولة علمانية متكاملة الأركان والأسس .
3 ـ لماذا فشل مشروع النخبة العلمانية العربية ؟ الحديث عن "مشروع" لدى النخبة العلمانية بحاجة إلى بعض التدقيق . ذلك أن النخبة العلمانية ـ يسارية وليبرالية ـ لم تكن تمتلك مشروعا مجتمعيا متكاملا وواضح المعالم . كل ما كانت تقدمه هو عبارة عن ملامح مجتمع تسود فيه المساواة والعدالة الاجتماعية ويسترجع مواطنوه كرامتهم . من هنا لم تكن تلك النخب العلمانية قادرة على إشراك الشعوب العربية في بلورة مشروع واضح المعالم ، ومن ثم تعبئتها للنضال من أجل تجسيده على أرض الواقع ، وجعلها ترى فيه ذاتها وآمالها . صحيح أن تلك النخب أفلحت في قيادة نضالات شعوبها نحو التحرر من سيطرة الاستعمار ، إلا أنها فشلت في تحديث المجتمعات وعصرنة بنيات الدولة . ذلك أن العلمانية لا يمكنها أن تتحقق إلا في إطار مناخ ثقافي وسياسي يشيع الحريات الفكرية والعامة ويضمن حقوق المواطنة ويفصل بين السلط ( التشريعية ، التنفيذية ، القضائية ، الدينية ) . فضلا عن هذا ، فإن العلمانية هي نتاج وعي ثقافي عام لدى الشعوب والنخب . ومشكلة التيار العلماني العربي لم يركز على الجانب الثقافي في مجتمعات ينخرها الجهل والأمية حتى النخاع قدر تركيزه على الجانب السياسي . وازداد أمر العلمانيين تعقيدا لأسباب أبرزها :
أ ـ تجاوز التراث الثقافي الخاص بالشعوب العربية وعدم الاستناد إليه في تبيئة العلمانية كمفهوم وكبرنامج مجتمعي . بل إن فئة من العلمانيين حرفوا المفهوم وجعلوه في تعارض مع الدين أو مناهضا له . ولم يدركوا أن الشعوب العربية أشد ارتباطا بالدين من مثيلاتها في أوربا . فإذا كانت الشعوب الأوربية على استعداد لتجاوز الماضي وتهميش الدين ، فإن الشعوب العربية خلاف ذلك ، لأنها في وضعية تاريخية حرجة لا تملك ما تضاهي به شعوب الأرض غير ماضيها التليد الذي كانت لها فيه إمبراطوريات ذات صولة وقوة . وهذا الماضي صنعته بفضل الدين . لهذا لا يمكن إقناعها بتركه فأحرى معاداته . أما الشعوب الأوربية فارتبطت الكنيسة في لاوعيها الجمعي بالمآسي والاضطهاد . لذا فهي لم تصنع أمجادا بفضل الدين ، ولن تُمثل لها دعوات تهميش الدين أو معاداته أي تهديد لكيانها ، كما لن تحدث أي فراغ داخلها . لهذا فالإنسان العربي المسلم أشد ارتباطا بتراثه وأكثر تمثلا له ، لدرجة يصعب عليه حتى تجاوز الجوانب البيِّن عوارها . إن خلخلة البنيات الذهنية شيء ولا أصعب منه . فالعلمانيون لم يؤسسوا مشروعهم على هذا التراث المشترك بين الشعوب العربية ، ويستندوا إلى ما أنتجه رواد التنوير في العالم العربي ( قاسم أمين ، جمال الدين الأفغاني ، محمد عبده ، عبد الرحمان الكواكبي ، علي عبد الرازق ، طه حسين وغيرهم ) . لقد أحدث هؤلاء ثقبا في الجدار لم يحسن العلمانيون استغلاله للنفاذ إلى هذا الوجدان العربي المتكلس ، وإحداث خلخلة تكون كوة تتسرب منها أنوار التحديث ونسائم التمدن . فكما أن التيار المحافظ لا يتوقف عن استغلال التراث وتوظيف الدين بعد بَدْوَنَته حتى يظل حاجزا ضد رياح التغيير وتيار العصرنة ، فإن التيار العلماني لا محيد له عن منافسة التيار المحافظ على أرضيته ، وتوظيف نفس سلاحه .
ب ـ انفصال الثقافي عن السياسي ، بمعنى أن النظم السياسية التي تولت الحكم عقب الثورة على الاستعمار أو الانقلابات العسكرية ، وضعت قطيعة مع الثقافي ، مما أفقدها مُنَظِّرين حقيقيين يرقون بالممارسة السياسية ويصغون لنبضات الشعوب . لهذا السبب لم يشهد العالم العربي ، في ظل هذه الأنظمة التي تزعم أنها علمانية ، ثورات ثقافية تحدث قطيعة مع الذهنيات الدوغمائية وتحرر العقول من أَسْرِ السَّلَف . إذ لا زال هذا السلف هو من يقرر مصير الشعوب ويحدد اختياراتها ويهيء ردود أفعالها إزاء الحداثة والتمدن والديمقراطية وكل قيم العصر وإبداعاته . وبسبب ذلك لازالت الشعوب العربية سجينة فتاوى التمييز بين الجنسين وتحقير النساء وحرمانهن من كل كرامة وإنسانية . كما لا زالت شعوبنا ضحية فتاوى الخضوع والطاعة العمياء ، وتجتر يوميا تشريعات التبديع لكل ما هو مُحدث جديد ، وتلوك ترانيم العُقْم والجهالة ( ليس في الإمكان أحسن مما كان ، لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ..) . ففي مصر ، التي هي قلب الأمة ، حيث كان من المفروض أن يلعب الأزهر الدور الريادي في حركة التغيير والإصلاح ، ظلت هذه المؤسسة في معاداتها للفكر والإبداع ،لا تختلف عن مواقف الكنيسة في القرون الوسطى . وبذلك تكون هذه المؤسسة قلعة يتحصن بها التيار المحافظ ، ويتصدى من خلال سلطتها الدينية لكل محاولات التغيير . لهذا نجد أن كل الثورات والأنظمة ، في العالم العربي ، تجاهلت العنصر الثقافي ، بل حاربته ، في حين رفعت شعارات جوفاء وأعادت إنتاج تجارب الاستبداد ، بل أبدعت في تأسيس جمهوريات وراثية وأنظمة شمولية أشد بطشا من التي أُطِيح بها . وطبعا كل ثورة لا يقودها الثقافي تصير عمياء لا تملك غير العصا .
ج ـ تحالف القوى المحافظة مع قوى الاستعمار والهيمنة على وأد مشاريع الإصلاح ، بما فيها المشروع العلماني في مهدها ، حتى تحافظ على مصالحها . وهذا التحالف اتخذ أشكالا عديدة ومستويات مختلفة . منها التحالف مع الأنظمة في ضرب مشاريع التحرر من الهيمنة الإمبريالية ، وما اغتيال المهدي بن بركة في المغرب إلا نموذج لاغتيال مشروع لم تكن القوى المحافظة وحلفاؤها يطمئنون إليه . كما أن تدخل بريطانيا المباشر في محاكمة الشيخ علي عبد الرازق على كتابه " الإسلام وأصول الحكم " ، وكذا سعيها إلى إعادة نظام الخلافة بعد تقويضه من طرف مصطفى أتاتورك ، لصالح الملك فاروق ، إلا دليل على هذا التحالف الذي يناهض الإصلاح والتغيير . ومن أوجه التحالف أيضا خلق وتشجيع التيار الإسلامي ، الذي هو الحليف الطبيعي للقوى المحافظة في مناهضتها لتيارات الإصلاح والتغيير خاصة التيارات العلمانية . لهذا جاءت الحركات الإسلامية تنوب عن الأنظمة المحافظة والقوى الدولية المرتبطة بها في محاربة المشروع العلماني والتصدي لرواده بالتكفير والاغتيال . ونذكر في هذا الصدد تحالف جماعة الإخوان المسلمين مع الملك فاروق الذي سيمنحها كل الدعم السياسي والمالي بمجرد مبايعتها له "وليا للأمر" ، لدرجة أن وزارة محمد محمود باشا أصدرت سنة 1938 قانونا يحظر التنظيمات شبه العسكرية مثل القمصان الخضراء ، مصر الفتاة ، القمصان الخضراء ، الوفد ، واستثنت فرقة الجوالة التابعة للإخوان المسلمين . كما ساند الإخوان المسلمون حكومة إسماعيل صدقي ضد أحزاب الإصلاح ، مستندين ، في موقفهم الداعم هذا لأسوأ الحكام ، على تأويل الآية القرآنية ( واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان صديقا نبيا ) . الأمر الذي جعل إسماعيل صدقي يزيد من دعمه للجماعة . ومن المفارقات التي تطبع مواقف الأنظمة السياسية العربية التي تعلن نفسها علمانية ، بطشها باليساريين ـ شيوعيين واشتراكيين ـ ودعمها للجماعات الإسلامية رغم ما تعلنه هذه الأخيرة من شعارات "التكفير "و"الجاهلية" ووجوب "إحياء الفريضة الغائبة" (=الجهاد ) . كذلك فعل جمال عبد الناصر وخليفته أنور السادات ونظيرهما الحبيب بورقيبة . ونورد هنا مقتطفا من مواقف "الجماعة المسلمة" وأميرها مصطفى شكري من عرض الحكومة المصرية، حينها ، رغبتها في التعاون مع الجماعة بغرض صرف الشباب عن المناهج الانقلابية . ومما عبر عنه زعماء الجماعة قولهم ( إن الحكومة في حاجة إلى جماعة إسلامية تستوعب الخاصة من الشباب ، ثم إلى جماعة تستوعب العامة من الشباب .. ونحن إن شاء الله جماعة الخاصة وقد قبلنا ذلك ، وقد يقولون علينا عملاء ، فليقولوا ، المهم أن نحقق تقدم الجماعة وسنصبح إن شاء الله الجماعة الوحيدة في مصر ) . وفي سياق تبرير المهادنة مع الحاكم "الطاغوت" يقول أمير الجماعة مصطفى شكري ( إنني أقول للطاغوت أنا لا أشكل عقبة في طريقك ، فحجبي للنساء عن الجامعات والمدارس يعني أنني أقول للطاغوت هاأنذا أريحك من مشاكل تعليمهن وانتقالاتهن ، وهجرتي لا تشكل خطرا انقلابيا عليك ، وأساهم بذلك في تخفيف مشاكل الإسكان ، وأترك الوظائف فأريحك من المرتبات التي تُدفع لنا ) . ويُذكِّرنا هذا التحالف المصلحي بين الإسلاميين والأنظمة السياسية الحاكمة ، كانت علمانية : يسارية أو ليبرالية ، أو كانت محافظة : ملكية أو عشائرية ، يُذَكِّرنا بالعرض الذي سبق وتقدم به الشيخ عبد السلام ياسين لملك المغرب الراحل الحسن الثاني ، وتحريضه لهذا الأخير على البطش بالعلمانيين ، وخاصة اليساريين منهم . بل إن الشيخ أفتى بوجوب قتل هؤلاء لأنهم مرتدون وكفرة . وكذلك يفعل الإسلاميون كلما تقدم العلمانيون بمشاريع الإصلاح ( مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية بالمغرب نموذجا ) . من هنا يمكن القول إن الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي ، والتي تزعم أنها علمانية ، ليست لها مشاريع الإصلاح ومخططات التحديث . لهذا كان تحالفها مع القوى المحافظة أمرا طبيعيا . بل إن تلك الأنظمة نصبت نفسها خير مدافع عن أطروحات القوى المحافظة ذات التوجهات الدينية . إذ لم يذكر التاريخ أن مؤسسة الأزهر ، في عهد الأنظمة الثورية والعلمانية ، عرفت تحديثا لمناهجها يواكب الشعارات السياسية التي رفعتها تلك الأنظمة . بقدر ما نجد أن مؤسسة الأزهر ازدادت انغلاقا وتحجرا في عهد هذه الأنظمة العلمانية أكثر مما كانت عليه في عهد سابقاتها ( نظام الخديوي ، نظام فاروق ).والمقارنة بين موقف الأزهر من الإنتاجات الفكرية في العهد الجمهوري لا يقل تشددا ، بل يزيد عنه في العهد الملكي . وما تعرض له نصر حامد أبو زيد أشد مأساوية مما تعرض له الكواكبي أو قاسم أمين ، أو علي عبد الرازق . كما أن وضعية الفكر والإبداع ، في العهد الجمهوري " العلماني" أفظع منها في العهد الملكي . وبذلك فليس لهذه الأنظمة التي تزعم أنها علمانية ، غير الشعارات . أليست هي من تنصب نفسها وصية على الدين وتزايد على الجماعات الإسلامية في التشدد والمغالاة والتكفير . أليس قضاء حكومة مصر "العلمانية" من قضى بتكفير نصر أبو زيد وتطليق زوجته منه كرها ؟ لم يحدث هذا مع الكواكبي أو طه حسين أو علي عبد الرازق . إنه تبادل للأدوار بين هذه الحكومات وبين تلك الجماعات الإسلامية . إذ ولا وجود لدولة علمانية في العالم العربي ، بدليل أن قوانين هذه الدول تعتبر الإفطار في رمضان جنحة /جريمة ، كما تمنع فتح حانة بالقرب من مسجد . إن هذه الوضعية التي يعرفها العالم العربي جعلت من الحكومات الأجنحة التنفيذية لبرامج الجماعات الإسلامية . فكثير من البرامج الإصلاحية المعلن عنها سرعان ما تخلت عنها الحكومات بضغط من تلك الجماعات . فالطرفان معا يستفيدان من كبح التطور وعرقلة التحديث .
4 ـ هل العلمانية ضد الدين ؟
إذا انطلقنا من كون العلمانية مفهوما يقوم على نزع القداسة عن الحاكم البشري وجعل الأمور المتعلقة بإدارة دواليب الدولة وكذا مسؤولية الولاية العامة ، أي تولي مقاليد السلطة السياسية الحاكمة وفق قواعد متواضع عليها بعيدا عن أي اعتقاد أو قول بأن تنصيب الحاكم أو تعيينه هو شأن سماوي ، ومن ثم تكون الأمة هي الجهة الوحيدة التي لها الحق في اختيار من تراه أهلا لهذه المسؤولية ، إذا انطلقنا من هذا التحديد لمفهوم العلمانية ، فإننا لا نجد أنفسنا كمسلمين في وضعية تصادم مع الدين الإسلامي . بل العكس هو الصحيح ، أي إذا نحن أضفينا طابع القداسة على الحاكم ونزهناه عن أية محاسبة من لدن الأمة ، واعتبرناه حاكما بالحق الإلهي ونائبا عن الله في خلقه ، حينها نكون حتما مصادمين للشرع . ذلك أن الدين الإسلامي جعل أمور الدنيا كلها شأنا بشريا كما عبر عن هذا نبينا محمد (ص) في قوله ( ما كان من أمر دينكم فردوه إلي وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به ) . بمعنى أن الأمور المتعلقة بالحياة الدنيوية ، ومن ضمنها الحكم السياسي ، موكولة إلى أفراد الأمة . فتلك أمور تأتي بالخبرة والدراية ، وليست وحيا أو إلهاما . وبين أيدينا كتاب الله تعالى الذي أسس لجعل الأمة مصدر القرار فيما يتعلق بحياتها الدنيوية دون الأخروية . يقول تعالى ( وأمرهم شورى بينهم ) ، بل جاء أمر الله صريحا لنبيه ( وشاورهم في الأمر ) . إذن فالمشورة للأمة ، والقرار لها . بينما فيما يتعلق بالأمور الدينية لم يأمر الله تعالى نبيه محمد (ص) بمشورة الأمة ، ولكنه أمر الأمة بطاعة الرسول والامتثال له ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) . ففي الأمور الدينية يكون الأمر للرسول ، أما في الأمور الدنيوية فيكون للأمة . فضلا عن هذا فإن النصوص الدينية ـ القرآن والسنة ـ جاءت خالية من نظرية في الحكم والسياسة . فتلك أمور متروكة للأمة تبدع فيها وتستفيد من تجارب الأمم والشعوب الأخرى . وهذا ما نفهمه من نشوب أول صراع مسلح بين المسلمين حول الحكم السياسي عقب وفاة الرسول (ص) . وما دامت النصوص الدينية لا تحسم في موضوع الدولة ونظام الحكم ، فإن الأمة ، من حيث هي أدرى بشؤون دنياها ، تكون هي مصدر القرار ومصدر التشريع لما تراه يحقق لها المصلحة ويضمن لها الاستقرار . وتلك كانت غاية الرسول (ص) لما دعا الأمة إلى البحث عن الحكمة وطلبها ولو كانت في الصين بلد البوذية والوثنية . فطلب الحكمة في الصين لا يتنافى مع قوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) . فالأفضلية في الدين وليست في السياسة وإدارة الدولة . ولو أن الذين يرفضون العلمانية من المسلمين راجعوا التاريخ الإسلامي ، قديمه وحديثه ، لوجدوا أن الاستبداد الديني يؤدي إلى الاستبداد السياسي . أي متى صار الحاكم صاحب سلطة دينية إلا وصار مستبدا بالعباد . ذلك أن إقامة السلطة السياسية على قاعدة دينية تجعل الحاكم حاكما بإرادة الله ، وظله في الأرض . لا يعصى له أمر ولا يخالف له رأي . في هذه الحالة تحتجز السياسة الدين وتوظفه لشرعنة سلطات الحاكم . ففي خطبة لأبي جعفر المنصور في مكة قال ( أيها الناس ! إنما أنا سلطان الله في أرضه ، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده ، وحارسه على ماله ، أعمل فيه بمشيئته وإرادته ، وأعطيه بإذنه ) . وكذلك قال معاوية من ذي قبل ( الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما أخذت فلي وما تركت للناس فالفضل مني ) . إلا أن الذين يبررون رفضهم ومناهضتهم للعلمانية بكون الله تعالى هو وحده المشرع ، وأن إعطاء الأمة سلطة التشريع لدنياها يجعلها ندا لله ، فهؤلاء على غير علم بالدين والدنيا . فقولهم " لا حكم إلا لله " قول حق يراد به باطل . فمن جهة أن الأحكام التي يتضمنها النص الديني لا تتجاوز الستة أحكام بحيث سيواجه المسلمون منذ اليوم الأول من إدارة الدولة فراغا قانونيا فظيعا لا خيار لهم سوى أن يشرعوا لما يواجهونه من نوازل ومشاكل . ومن جهة ثانية يتجاهلون واقعة هامة في التأسيس لإجازة التشريع الإنساني ، بل في طلبه . وهذا واضح في قول الرسول (ص) وهو يوصي بُريْدة ( إذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزل على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك ، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا ) . فعلى مدى التاريخ الإسلامي قامت الأمة بالتشريع لنفسها من خلال الفقهاء والقضاة الذين أسسوا الفقه الإسلامي الذي هو ليس تشريعا سماويا بقدر ما هو تشريع بشري . أي تشريع الناس للناس . وهذا التشريع نجده في مجالات متعدد تخص حياة الأفراد كالأحوال الشخصية التي اجتهدت فيها الأمة فأنشأت نظام التطليق بواسطة القاضي ، بينما الوارد في القرآن هو الطلاق . كما شرعت الأمة أحوال التطليق ، مثل حالة الإعسار أو الضرر ، أو الغيبة . أما في المسائل المدنية فالأمة شرعت لنفسها كل أحكام المعاملات المدنية والتجارية كأحكام البيوع والإيجار والحكر والانتفاع والرهن والقسمة وغيرها . إذن فالإسلام يقر سيادة الأمة وينفي سيادة الحاكم . كما أن العلمانية لا تنفي الناموس الإلهي ، ولا تلزم الأمة بالتشريع لما يتنافى مع مقاصد الشريعة . من هنا وجب القول إن الإسلام لم يأت لتشريع الممارسة السياسية أو لشرعنتها ، وإنما وضع قواعد عامة تنهى عن الظلم والقهر والاستغلال وأكل أموال الناس بالباطل ، وإكراه الناس على ما لا طاقة لهم به . بل جعل الإسلامُ العدلَ والإخلاص عبادة ، بينما ترك للناس سلطة التشريع لما يحقق هذه المقاصد . ومسألة التشريع هذه التي ينفيها الإسلاميون بإصرار خاطئ ومقصود ، عن الإنسان ويقصرونها على الله تعالى ورسوله الكريم ، أقرها الإسلام إذ أشرك اللهُ تعالى عبادَه في التشريع للدين ، وليس فقط للدنيا بما فيها المجال السياسي . وذلك واضح في الآية الكريمة ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حُرم ومن قتلَهُ منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتَلَ من النَّعَم يحكُمُ به ذوا عدل منكم ) المائدة : 95 . في هذه الآية يُنيط الله تعالى بعباده مهمة الحكم والتشريع في أمر ديني يخص علاقة العبد بخالقه . أما مجال التشريع البشري للقضايا الاجتماعية والسياسية وغيرها ، فقد جعله الإسلام شاسعا طالما يحقق المصلحة العامة التي حيثما وُجدت فتم شرع الله . والمصلحة العامة لا يحددها الحاكم ، بل الأمة.فحينما تصبح الممارسة السياسية ملتبسة بالدين يكون الاختلاف مرفوضا والخلاف محرما .
هل الديمقراطية ممكنة من دون العلمانية ؟أكيد أن الديمقراطية تستتبعها العلمانية إذ لا يمكن تصور نظام ديمقراطي إلا إذا أقر بسيادة الأمة وسلطتها في اختيار الحاكم أو عزله . فالديمقراطية لا يمكنها أن تتحقق في ظل الأنظمة الثيوقراطية التي تجعل من الدين قاعدتها تستمد منه شرعيتها . فالدولة الدينية تجعل الحاكم يحكم نيابة عن الله ، ومن ثم فكل عصيان له أو رفض لحكمه هو بالضرورة عصيان لإرادة الله وتمرد عليها . فتكون إرادة الحاكم وإرادة الله واحدة . كما أن طاعة الله تقتضي طاعة الحاكم ، بل لا تتحقق طاعة الله إلا عبر طاعة الحاكم . وبالتالي تغدو آراء الحاكم في السياسة ، آراءً فقهية تستمد مشروعيتها من قدسية الدين وليس من قوة الحجة . فيقحم كل مخالف لها ضمن دائرة الفسوق أو الكفر . هذا التلبيس ساد على مر التاريخ الإسلامي حيث نصب الحكام أنفسهم نواب الله وحاكمين بأمره ، وحملوا ألقابا ترفعهم إلى مراتب النبوة ( المعتصم بالله ، المنتصر بالله ، الناصر لدين الله ..) . ومن تكون تلك صفاته تسامى عن جميع خلق الله ، وصار مُهاب الجانب سديد الرأي لا يُعصى له أمر ولا يُرد له طلب . أي أن إطاعته واجبة ولو جار ما أقام الصلاة . إن طاعة أولي الأمر في المجال السياسي الذي هو مجال الاختلاف والصراع ، تُلغي كل دور للرأي وتُعطل كل سلطة للأمة ، وتشل كل حركة معارضة للحاكم "بأمر الله" ، الذي جعله تَلَـبُّس السياسة بالدين ، يستمد النصرة من الله وليس من أفراد الأمة . من هنا لا يمكن للأمة أن تمارس سيادتها إلا إذا تمتع أفرادها بحقوقهم ومارسوا حرياتهم بعيدا عن كل إكراه أو اضطهاد . وهذا لن يتم إلا في إطار الدولة الديمقراطية التي تحكمها قوانين واضحة ومضبوطة تواضع عليها أفراد الأمة ، ومؤسسات حرة تعبر عن اختيار الناس وإرادتهم . وهذه الدولة ليست معطى جاهزا يُستمد من النصوص الدينية أو تجربة الخلفاء الراشدين ، بل هي ممارسة وعمل متواصل ينخرط فيه كل أفراد الشعب / الأمة ، مستفيدين من تجارب الشعوب والأمم . فالذين يدعون إلى إحياء دولة الخلافة يسعون إلى تنصيب الوصاية على الأمة باسم الدين ، متمثلة في الخلفية / الحاكم أو في طبقة الفقهاء والمعمَّمين . بينما في النظم الديمقراطية يتم الفصل كلية بين الله والحاكم ، فيصير الحاكم مسئولا عن كل أفعاله . لهذا فإن النظام السياسي لا يكون ديمقراطيا إلا إذا أقر بسيادة الأمة وحقها في اختيار من تراه مناسبا لإدارة الدولة ، أي إلا إذا أزال كل قدسية عن الحاكم واعتبره مواطنا تجري عليه قوانين الدولة كما تجري على باقي المواطنين . فيكون بالتالي الحاكم وكيلا للأمة ونائبا عنها لا نائبا عن الله . أي ممارسة السلطة السياسية تكون على قاعدة الاختيار وليست قائمة على قاعدة الحق الإلهي . بينما العلمانية لا تستتبعها بالضرورة الديمقراطية . ذلك أن العلمانية ، بما هي نفي للحكم باسم السماء ، أي نفي التقديس عن الحاكم ، لا تشترط في هذا الحاكم النزول عند إرادة الأمة واحترام اختياراتها . لذلك فجوهر العلمانية ألا يكون نظام الحاكم دينيا . وليس معنى هذا أن كل حكم مدني هو ديمقراطي . فقد يكون نظام الحكم قائما على عقيدة أيديولوجية أو عرقية أو طائفية ، أو قد يكون نظاما عسكريا ، دون أن يكون بالفعل ديمقراطيا . أي دون أن يضمن سيادة الشعب وإرساء أسس دولة الحق والقانون . وهذا لا يصدق فقط على النظم السياسية في العالم العربي والإسلامي ، بل يصدق على كل النظم الديكتاتورية حيثما وجدت . فنظام فرانكو وهيتلر وبينوشي وموبوطو لم يكن ديمقراطيا رغم أنه كان علمانيا . فهو لم يكن يحكم بالحق الإلهي ولكنه كان يحكم بقوة الحديد والنار . من هنا أمكن القول إن الديمقراطية تشترط وجود حكم مدني يحترم إرادة الأمة وينفي عن الحاكم كل قدسية دينية . وهذا التجريد للحاكم من كل قداسة هو جوهر العلمانية . إن ارتباط الديمقراطية بالعلمانية لا يعني بالضرورة معاداة الدين أو إقصاءه من الحياة اليومية للشعوب ، كما أنها لا تعارض أن يتبارى على منصب الحاكم ، من خلال الانتخابات طبعا ، فقيه أو رجل دين . ولا تلغي فوزه بهذا المنصب . فالحاكم ، في هذه الحالة ، لا يحكم بصفته الدينية ، ولكن بصفته المدنية . أي أنه صاحب برنامج حصل على غالبية الأصوات . فهو يستمد فوزه ليس من مكانته الدينية ولكن من برنامجه الانتخابي الذي حظي بغالبية أصوات الناخبين . ويشهد واقع الدول العلمانية في أوربا أن القوانين المعمول بها هناك لا تحظر قيام أحزاب دينية ، بل تضمن لها حق التواجد والمشاركة في الحياة السياسية ، ومن تلك الأحزاب من وصل إلى السلطة التنفيذية . طبعا الممارسة السياسية للأحزاب الدينية تظل مضبوطة بالقانون ومنسجمة مع نصوص الدستور . أي أن تلك الأحزاب ليس منها من يرفض الديمقراطية أو يسعى إلى قيام أنظمة دينية على أنقاض الأنظمة الديمقراطية . فالدولة العلمانية تضع نفسها في حياد من الأحزاب وحامية الحقوق والحريات لكل المواطنين . بناء على ذلك يمكن التساؤل عما إذا كان ضروريا للدول الإسلامية أن تصير علمانية إذا أرادت أن تكون ديمقراطية ؟ هنا نجد أنفسنا أمام ضرورة التمييز بين الدول التي تتبنى المذاهب الشيعية وتلك التي تتبنى المذاهب السنية . فالأولى تعتبر الحاكم هو الإمام المأذون له من الله . وأنه كالنبي في عصمته ، فهو يخلفه في وظائفه . ومن ثم فطاعته واجبة لأنها من طاعة الله . وأن الإمامة أصل من أصول الدين . بينما أهل السنة يعتبرون الحاكم هو وكيل الأمة ونائبها ، هي من تختاره وليس الله . لهذا فمسألة الديمقراطية في ظل المذهب الشيعي ستظل ديمقراطية محجوزة وكسيحة . إذ كيف يستقيم مبدأ الاختيار الحر للحاكم ومبدأ الطاعة المطلقة لولي الأمر ،سيما وأن الإمام الشيعي له السيادة المطلقة على كل الأمة . فالشيعة هم من جعلوا من مذهبهم أن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية . وكذلك من مات ولم يكن في عنقه بيعة إمام مات ميتة جاهلة ، أي مات كافرا . أما في الدول ذات المذهب السني فلا يوجد أي تعارض بين الإسلام والديمقراطية والعلمانية . فالإسلام بطبيعته علماني كما قال مصطفى السباعي أحد أبرز منظري جماعة الإخوان المسلمين . لأن الإسلام ليس فيه سلطة دينية أو كنسية . وهذا ما عبر عنه أبو بكر الصديق لما تولى الخلافة بقوله ( أنا خالف النبي (ص) ولست خَلَفَه ) . أي ليست له نفس حقوق النبي . وكذلك قول عمر بن الخطاب ( وليت عليكم ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوموني ) . صحيح أن الإسلام لم يحدد طبيعة نظام الحكم هل هو ملكي أو رئاسي أو غيرهما ، ولكنه وضع مقاصد ينبغي الاهتداء بها وأسسا يجب احترامها ، منها : احترام سيادة الأمة واختياراتها الحرة كما في قول الرسول (ص) لصاحبيه ( لو اتفقتما على شيء ما خالفتكما ) ،اعتبار الحاكم نائبا للأمة وخادما لمصلحتها ، نفي لكل قدسية عن الحاكم ، اعتبار الدين لله والوطن للجميع ، تكريم الإنسان من حيث هو إنسان دون إكراه . وهذه الأسس هي نفسها التي تقوم عليها النظم الديمقراطية . ونظرا لما صاحب مفهوم العلمانية من لبس وتشويه بسبب توظيفاته الإيديولوجية والسياسية ، فإن عموم المثقفين والديمقراطيين يتحرجون من تداول هذا المفهوم . إذ صارت العلمانية تعني ، خطأ ، معاداة الدين . بينما هي تعني التمييز بين الدنيوي والمقدس . ففي النظم العلمانية الأصلية كإنجلترا نجد أن الملكة هي رئيسة الكنيسة الأنجليكانية . لهذا فكلما طبقت الديمقراطية إلا وتقلصت السلطات الدينية للحاكم ، أي لا يمارس مهامه السياسية من منطلق ديني فيصير أعلى من القانون .
لماذا يقرن الإسلاميون العلمانية بالإلحاد ؟ إن الإسلاميين يقرنون العلمانية بالإلحاد لأسباب عديدة أهمها :
أ ـ أن العلمانية منظومة فكرية وسياسية وقانونية تتعارض جذريا مع المشروع المجتمعي الذي يسعى الإسلاميون إلى إقامته ، وكذا مع طموحاتهم في الحكم . ذلك أن الإسلاميين يهدفون إلى إقامة دولة دينية تكون كل السلطات فيها بيد الحاكم الذي يجسد إرادة الله في خلقه . وهذا الشكل من الحكم قامت العلمانية على شطبه من الممارسة السياسية . من هنا فالعلمانية هي نقيض الإسلاميين وليست نقيض الإسلام ، هي نقيض الحكم باسم الدين وليست نقيض الدين . بالإضافة إلى أن العلمانية تقيم العلاقة بين الحاكم والمواطنين على قاعدة المساواة والاحترام والخضوع للقوانين المتواضع عليها . إذ لا وصاية للحاكم على الشعب في وضع القوانين ، ولا طاعة له على الشعب . فالخضوع والاحترام للقوانين وليس للحكام . وهذه مسألة لن تقبل بها الحركات الإسلامية التي أسست وجودها ومشروعها على وجوب الطاعة للأمير قبل أن يصير حاكما . فضلا عن ذلك فالعلمانية لا تكرس سلطة رجال الدين ولا تمنحهم أية امتيازات ، بل تجعلهم متساويين في المواطنة . بينما الحركات الإسلامية تضع تراتبية بين المواطنين على أسس دينية ، أي أنها تصنف المواطنين إلى مسلمين وذميين ( =أهل الكتاب ) ومشركين وكفار . وهذه الأصناف لا تتمتع في الدولة الإسلامية المراد إقامتها بنفس الحقوق . لذا فالعلمانية تقف في وجه المشروع الذي تحمله الحركات الإسلامية . ذلك أن هذه الحركات تعادي ليس فقط العلمانية ، ولكن أيضا كل النظم السياسية والقانونية التي تكرس الطابع المدني للدولة . من ذلك رفضها للديمقراطية واعتبارها قرينة الكفر ، ورفضها للحداثة واتهامها للحداثيين بالتآمر على الإسلام والعمل على هدم أركانه . ولازالت الحركات الإسلامية الأكثر انفتاحا تميز في الديمقراطية بين المضمون "الكفري" وبين الأداة ، فتعلن رفضها المطلق للمضمون ، وقبولها للأداة بشروط ، أولها الإبقاء على التمييز بين الجنسين ، بحيث لن يكون مسموحا للمرأة ، في الدولة الإسلامية المنشودة ، أن تتولى كثيرا من المهام السياسية والقضائية والإدارية . فكل الإسلاميين يحرمون على المرأة أن تتولى منصب الولاية العامة ، وكيف لهم أن يقبلوا بها ولية عليهم وهم يرفضون ولايتها على نفسها . إذن في هذا الجانب تُعطل الديمقراطية ولا يسمح للمرأة بولوج مجالات هي حكر على الذكور ، أو جعلوها كذلك بعد أن عبثوا بالنصوص القرآنية والحديثية . ويأتي رفضهم للديمقراطية كذلك متى فتحت أبواب المنافسة الانتخابية على منصب الحاكم أمام غير المسلمين . فالحركات الإسلامية لن تقبل أن يكون كتابيا حاكما في الدولة التي ينشدونها . إذن لن يسمح الإسلاميون للنساء أو لغير المسلمين بالترشح لمنصب الحاكم / ولي الأمر . ومن ثم لن يقبلوا بالديمقراطية كأداة كما لن يقبلوا بها كقيم وحقوق وحريات طالما لا تستجيب لمسعاهم في تهميش النساء وإقصاء غير المسلمين من الحياة العامة ومن المسئوليات السياسية والقضائية . فكما لا يقبلون المرأة والكتابي حاكما ، لا يقبلون بهما قضاة ولا حتى شهودا . وهذا هو المضمون الذي يعتبرونه "كفرا" ، لأنهم غير مستعدين للتخلي عن قناعاتهم التي توجههم نحو قبول أو رفض ما يُعرض عليهم . فهل نتصور أن أتباع هذه الحركات يمكنهم أن يُعدِّلوا من قناعاتهم تلك ويعلنوا قبولهم بالمساواة بين الجنسين في الواجبات والحقوق وأمام القانون ، أو إقرارهم لحريات الاعتقاد والتفكير والتنظيم ؟ طبعا لا . فالإسلاميون يصرون على قتل المرتد ومع الأحزاب وحجب النساء ورجم الزناة . وأي نظام يحول دون غاياتهم تلك يناهضونه بشدة متناهية . إذن من الأكيد أن مواقف الإسلاميين من مطالب النساء وحقوق الأقليات وحقوق الإنسان كفيلة بتبيان جوهر التناقض بين مشروع التيار العلماني ومشروع التيار الإسلامي .
ب ـ أن الإسلاميين يسعون إلى طرد كل الأفكار والأيديولوجيات التي لا تتناسب مع أهدافهم أو تعارضها . وحتى يتأتى لهم ذلك لا بد أن تتحقق لهم الغلبة . لأجل هذا يسعون إلى إكثار الأتباع عبر التأثير عليهم واستقطابهم لصالح المشروع الإسلامي . وأخطر منفذ يتسرب منه الخطاب الإسلامي إلى نفوس عامة الشعب هو الدين . لهذا السبب يتهم الإسلاميون العلمانيين بالكفر والإلحاد حتى يفر من حولهم عامة الشعب ، على اعتبار أن المسلم ينفر من الكافر ويطمئن إلى من هو مؤمن مثله . فالحركات الإسلامية تُحسن استغلال الدين وتوظيف المخزون النفسي للشعوب المسلمة في مواجهة العلمانية أو غيرها من النظم . فيكفي نعت الخصم بالكفر لعزله عن محيطه وتعطيل حركته .
ج ـ أن الإسلاميين يستثمرون الرأسمال العدائي الذي أنتجته وراكمته الرأسمالية العالمية في مواجهتها للمد الاشتراكي والشيوعي في العالم العربي والإسلامي . ذلك أن الإمبريالية العالمية بزعامة الولايات المتحدة ، جندت كل صانعي الأيديولوجيات ضد العدو الأحمر . وفي هذا الإطار جندت الإمبريالية وحلفاءها في الدول المستهدَفة جموع الفقهاء ورجال الدين في إنتاج الفتاوى لتكفير أعداء الأنظمة الرأسمالية والأنظمة المحلية . فعلى امتداد العالم العربي والإسلامي استُغِلت منابر الجمعة والمناهج الدراسية لحشو العقول وبث الضغينة في النفوس ضد "المارقين" و "الكفرة" من العلمانيين والشيوعيين والاشتراكيين . وغدا كل صاحب مطلب إصلاحي يُتهم بالعلمانية لردعه عن مطلبه حتى لا يصير "كافرا" في حكم الآخرين . من هنا جمعت المصلحة المشتركة بين الإمبريالية والرجعية لمحاربة أية نظم أو أيديولوجيات مناهضة لمصالحهم السياسية والاقتصادية . ومن هذا المنطلق نفهم سبب التحالف الذي جمع بين النظم العربية ، على اختلاف مشاربها ، وبين الحركات الإسلامية . حتى بات حقيقة جلية أن الأنظمة العربية لم تتمكن من تحجيم التيار العلماني ، اليساري على الخصوص ، إلا بتحالفها مع الحركات الإسلامية . هذه الأخيرة جعلت من العلمانية والعلمانيين أعداءها اللدودين . ومن ثم تحولت إلى أداة لتصفية رموز التيار العلماني .
د ـ الأخطاء التي ارتكبها عدد من العلمانيين اليساريين بالخصوص ، لما جاهروا بعدائهم للدين وناقضوا معتقدات الشعوب . ذلك أن من هؤلاء العلمانيين من سفّه التعاليم الدينية ، وجادل في صحتها وأعلن إنكار وجود الله واليوم الآخر . فأصبحت هذه الفئة نموذجا يحيل عليها كل مناهض للعلمانية .
هل العلمانية ضرورية للمجتمعات العربية ؟ أكيد أن المجتمعات العربية يسري عليها ما يسري على غيرها من المجتمعات البشرية . لهذا لا يمكنها أن تحقق مستويات في التنمية وتقطع مراحل من التقدم إلا إذا خضعت لقوانين التاريخ وقوّة الواقع ومنطق الأشياء . ذلك أن الدول العربية مطالبة بتحديث بنياتها وتغيير نظمها أسوة بغيرها من الدول التي قطعت مع عهود التخلف . وأولى الخطوات التي يتعين على الدول العربية اتباعها هي إقرار الحريات وضمان الحقوق ، بحيث يسترجع المواطن كرامته وإحساسه بالأمان داخل دولته . وهذا لن يتحقق إلا بإرساء أسس دولة الجميع ، أي دولة الحق والقانون ، وإشاعة ثقافة المساواة وحقوق الإنسان . مما يعني بالضرورة رفع كل وصاية على المواطن ، وكل رقابة على ضميره . إن القمع والاستبداد هما أخطر عقبة في وجه التحديث والتقدم . ولن يُرفعا عن المواطن إلا بسيادة القانون وفصل السلط وضمان الحريات . وها نحن في صلب العلمانية . دون ذلك ستبقى ثروات الشعوب العربية معرضة للنهب ، وطاقاته للتبديد ، وعقول أبنائه للتجهيل والحجر . إن الحرية والوصاية نقيضان لا يجتمعان . ومطلوب من المجتمعات العربية أن تعمل على استعادة حريتها وفرض إرادتها . أي أنها ملزمة بوضع نهاية للاستبداد السياسي الذي عمر قرونا عدة . كما أنها مُجبرة على التصدي لكل المشاريع المجتمعية التي تكرس الاستبداد ولا تضمن للأمة سيادتها على نفسها . لهذا لا خيار أمام العرب غير تبني العلمانية والديمقراطية والحداثة كسبيل أوحد لتجنيب الأمة السقوط في براثين التطرف الذي هو آخذ في الانتشار ، وسيأتي على كل المكتسبات الحضارية التي راكمتها الشعوب العربية في تفاعلها مع الحضارات والثقافات الإنسانية . إن العلمانية ، بقدر ما هي تحرير للإنسان من الاستبداد ، هي كذلك تحرير للدين من الاستغلال . ذلك أن قيم الدين وتعاليمه السامية لن يكون لها تأثير إيجابي على الإنسان والمجتمع إلا إذا تمثلها في صفائها . وهذا لن يتحقق إلا في حالة تأميم الدين وتحريره من شبكة الاحتكار التي نصبها وينصبها يوميا أعداء الأمة والدين والعقل والإنسان . إن الإسلام ، كما غيره من الديانات السماوية ، لم يأت لشرعنة الاستعباد والاستبداد وقهر الأنفس وسلب الأرزاق وعقر الضمائر واغتيال العقول . فتكريم الإنسان يتأسس على ضمان حريته واحترام إرادته . وتلك غاية الدين الذي رفع كل وصاية عن العقل والإنسان . وفي هذا تلتقي العلمانية والديمقراطية مع الدين . أي أن الدين والعلمانية والديمقراطية ينطلقون من إقرار حرية الإنسان وضمانها . وكل التعاليم الدينية جاءت ترفض الإكراه والسيطرة ( لا إكراه في الدين ) ( لست عليهم بمسيطر ) ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومنا شاء فليكفر ) الكهف : 29 . فكما لا إكراه في الدين ، أيضا لا إكراه في السياسة . إن الغاية التي تتوحد عليها العلمانية والديمقراطية والديانة هي تكريم الإنسان وإسعاده وتحريره من كل وصاية أو عبودية أو استغلال . من هنا كانت العلمانية والديمقراطية وسيلة لتحرير الإنسان وتكريمه .



#سعيد_الكحل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حزب العدالة والتنمية المغربي مواقفه وقناعاته تناقض شعاراته
- ليس في الإسلام ما يحرم على المرأة المشي في الجنازة
- الإسلاميون يصرون على بدْوَنة الإسلام ومناهضة الحداثة - 3
- الإسلاميون يصرون على َبـْدوَنَـة الإسلام ومناهضة الحداثة - 2
- الإسلاميون يصرون على بَدْوَنَة الإسلام ومناهضة الحداثة
- الإسلاميون والدولة الديمقراطية
- السعودية بين مطالب الإصلاحيين ومخالب الإرهابيين
- ليس في الإسلام ما يحرم ولاية المرأة
- ارتباط السياسة بالدين أصل الفتنة وعلّة دوامها
- العنف ضد النساء ثقافة قبل أن يكون ممارسة


المزيد.....




- قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين ...
- 144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
- المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة ...
- ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم ...
- عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي ...
- المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي ...
- ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات ...
- الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - سعيد الكحل - العلمانية في الوطن العربي