احمد ضحية
الحوار المتمدن-العدد: 1181 - 2005 / 4 / 28 - 11:30
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
الفصل الثاني :
تراكم المشكلات وانفجار الازمة ..
الازمة في دارفور ومشروع الجبهة الاسلامية ..
ثمة تعقيد منهجي يجده الباحث في مشكلات دارفور , اذ ان من الصعب فرزها وتقسيمها وفقا لفترات زمنية محددة , للامساك بعوامل تفاعلاتها , وامتلاك قوانين تطورها , فمشكلات دارفور بعد 30 يونيو 1989 ترتبط جذريا بمشكلاتها , على عهد الحكومة الديموقراطية الثالثة . ومشكلاتها في تلك الفترة ترتبط كذلك بمشكلاتها في العهد المايوي , وهكذا .. كل حلقة من مشكلات دارفور , تفضي لحلقة اخرى في الحقبة التى تليها . ومن هنا كل المشكلات التي عانت منها دارفور قديما , تنهض في تشكيل حاضر دارفور الكارثي .
شهدت دارفور حقبة من الازدهار في حواضرها , كتب عنها الرحالة وارخوا لها في انبهار . . الا ان هذا الانبهار , تخللته فترات خراب , نتيجة الصراع بين السلطة الحاكمة , والخارجين عليها , وبسبب القبائل المتناحرة . الا ان خرابها دائما كان تاليا لهزيمة السلطة الحاكمة من قبل قوى خارجية ( هزيمة الادارة الاهلية من قبل المركز ) واول خراب معروف لدارفور كان في 1874 , اثر هزيمة السلطان ابراهيم قرض , على يد الزبير باشا . تلى ذلك سلب ونهب للديار , وتهجير قسري الى مصر .
وقد سار على هذا المنوال كل الادارات التركية المتعاقبة , على حكم دارفور .وما تبع ذلك من ضنك في سبيل القضاء , على ثورات متتالية . من المنادين بالسلطة , من ابناء دارفور . وخربت دارفور ثانية ابان الحكم المهدوي , فرغم انها ناصرت الثورة المهدية منذ اندلاعها , الا انها ذاقت الامرين بسبب سياسة الخليفة للتهجير القسري مما ادى الى اخلاء المنطقة سكانيا ( وهو ما يفسر وجود الملايين من ابناء دارفور في الوسط ) . وقد تجسدت نقمة دارفور ضد المهدية في ثورة ابو جميزة سبتمبر 1888 حتى فبراير 1889 . التى التف حولها الالاف .
وبعد القضاء على ثورة علي دينار في 1916 نهضت في 1921 ثورة الفكي عبد الله السحيني التي ارهقت الانجليز .وحركة داؤود بولاد في 1991 والتي اثارت رعب الجبهة الاسلامية (1) .اذن تاريخيا , انطوت دارفور على روح الثورة والتمرد , اسهم في تغذية هذه الروح , بعد الاقليم , ووقوعه في ظل السلطة المركزية ,مما اسهم سلبا .اذ ادى الى ان تظل دارفور حبيسة انغلاقها على الفقر والجهل والمرض , الى جانب وقوعها في تخوم الزحف الصحراوي , وتعرضها للجفاف في فترات مختلفة , ما ترك اثارا عميقة .اذ انحسرت الارض الصالحة للزراعة , واعترت التركيبة السكانية تغييرات ( خاصة ان دارفور ظلت طوال تاريخها تستقبل هجرات من غرب افريقيا وغيرها ) بسبب النزوح من شمال دارفور وغربه , الى الجنوب والجنوب الغربي , الى جانب النزوح للاسباب ذاتها من تشاد المجاورة اما بسبب الجفاف او الحرب ..
وهكذا شكل الضغط السكاني على اقليم منهار تنمويا , عاملا مهما في انفجار الازمة ( صراع الموارد ) فالموارد رغم محدوديتها , تزاحم عليها عدد كبير من مختلف البقاع ...
اذا اضفنا الى ذلك سمات المجتمعات التقليدية ( المجتمعات القبلية ) كمجتمعات قابلة للاحتراب , الاى سبب من الاسباب : ( مثل المشكلا التي تنشأ بين الرعاة والمزارعين ) , نجد ان مجتمعات دارفور , لم تهدأ حالة الصراع القبلي فيها , الا لتنفجر مرة اخرى ..
وهنا ينبغى ان نتوقف قليلا عند بعض المفاهيم المنهجية , حول المجتمعات القبلية او الاثنيات ..
الجماعات السلالية الثقافية :
من المصطلحات التي تسللت الى الفكر السياسي .من القاموس الاجتماعي , مصطلح الاثنية , او الجماعات السلالية , والذي يعني : جماعة ذات تقاليد ثقافية مشتركة . تتيح لها شخصية متميزة , كجماعة فرعية في المجتمع الاكبر , لهذا يختلف اعضائها من حيث خصائصهم الثقافية عن الاخرين , في جماعات اخرى . او في المجتمع . وقديكون لهم فضلا عن ذلك لغة خاصة او دين خاص , واعراف مميزة . وربما يكون الشعور بالتوحيد ك " جماعة متمايزة من الناحية التقليدية " اهم ما يميز هذه الجماعة بوجه عام (2) وعلى خافية ما تقدم في الفصل الاول , فان الاقليات العرقية او الدينية او الثقافية , يمكن ان تصاب بخوف ظاهر ذلك ان المجموعة العرقية الكبيرة , الي يمكن ان تدعي ان الدولة ملك لها (او هي دولتها ) - او تابعة لها - ذراعها القوي ), وبالتالي فان الاقليات يمكن نعتها , في هذه الحالة بالطابور الخامس , كما حدث ويحدث مع اهالي دارفور غير العرب . اليوم وللمرة الثانية . اذ ان نميرى قد اسماهم من قبل بالعنصريين والمرتزقة في 1976(3) .
من المفيد هنا ان نشير الى ان الدولة في السودان , تعتبر كل المجموعات غير العربية " اقليات " - واتحفظ هنا على هذا المفهوم. , اذ اعتقد ان هناك مجموعات تمثل قوميات , وفقا للمفهوم الاوروبي التقليدي للقومية . والمجموعات العربية تساكن هذه " الاقليات " - والذين هم وكلاء للحكومة المركزية "- الصفوة الاسلاموعربية - في الجغرافيا التي يقطنونها مع هذه الاقليات " المجموعات العربية - المجموعات غير العربية " لكن هذه الفرضية في المحك العملي تتعثر , الا في عهد الجبهة الاسلامية القومية , اذ انها ترتبك " تاريخيا " بفعل بعض الوقائع , ففي فترة المهدية وعندما جعل المهدي , الخليفة عبد الله التعايشي في المرتبة الاولى ( وغني عن القول ان الخليفة من عرب دارفور ) اثار ذلك حفيظة المجموعات العربية الشمالية = اولاد البحر " الاشراف" =عرب الدرجة الاولى , فعبر عن هذا الغبن شاعرهم الحردلو :
ناسا قباح من الغرب يوم جونا + جابوا التصفية ومن البيوت مرقونا .
اولاد ناسا عزاز متل الكلاب سوونا + يا يابا النقس يا الانجليز الفونا .(4).
ومن هذه الكلمات ينضح الاستعلاء ويتضح مدى العنجهية القبلية التى وصلت بالحردلو وعشيرته من الاشراف الى درجة الاستنجاد بالانجليز للخلاص من بني جلدتهم امثال الخليفة التعايشى . ويمكن التوقف طويلا عن عبارة مثل ( اولاد ناسا عزاز ) لاستكناه فحوى المحتوى المعرفي والدلالي لها ,(5) في الواقع القبلي الاستعلائي للعرقيات السودانية الشمالية , ونظرتها للاخر غير الشمالي , فهو ليس من سلالة حسب ونسب ( ليس عزيزا ) مثلهم ..
ولقد عاشت مجتمعات دارفور عبر تاريخها حالة من الصراعات , التي تتجدد بين فترة واخرى (6) ولكن باستمرار كانت تعالج , ضمن تقاليد واعراف المؤسسة القبلية التقليدية , لهذه المجتمعات ." الادارة الاهلية " , وهي اعراف وقوانين مستمدة من كتاب " دالي" .
ولم تتطور مشكلات دارفور , لدرجة حرب طاحنة بين معسكرين (العرب ضد غير العرب ) , الا ابان ديموقراطية الصادق المهدي (86-1989) والفترة التي تلت ذلك , اى عهد الحكومة الاسلاموية الراهنة . وفي كلتا الفترتين وقفت الحكومة مع القبائل العربية ضد غير العرب , ولذلك لدى فرزنا لمشكلات دارفور , يمكننا الاشارة الى ان المرحلة الحالية هي اسوأ مراحل الخراب في دارفور , بسبب سياسات الحكومة منذ 1989 من جهة . وبسبب تواطؤها السافر مع حلفائها من القبائل العربية و" الجنجويد " من جهة اخرى ..
المشروع الاسلاموي للانقاذ :
منذ استقر امر السودان للانقاذ ( الجبهة الاسلامية القومية ) وهي لا تشذ عن سابقاتها من الانظمة العسكرية , باعتبارها لدارفور مركز معارضة محتملة . لذلك توجهت نحو دارفور كملف امني عاجل . فكانت اولى مهامها ضرب البنية التحتية للمجتمع الدارفوري . حتى يسهل تفكيكه واعادة تشكيله من جديد . من خلال سياسة الاستقطاب والتصفية . ومن هنا جاء تفكيكها للادارة الاهلية . واثننتها للسياسة , بمجهوداته المختلفة ا التى رمت الى تكريس الاثنية , وواصلت الجبهة الاسلامية مشروعها التدميري في دارفور .بواسطة احد ازرعها القوية ( دكتور خليل ابراهيم - زعيم ما اطلق عليه : حركة العدالة والمساواة ) فقد كان هذا الرجل , يشغل منصبا قياديا في الحزب الحاكم - والذي يواجه الى جانب حركة وجيش تحرير السودان , مجموعات الجنجويد والمليشيات العربية المتحالفة مع الحكومة في الخرطوم . والتي استطاعت ان تضم الى صفوفها ( مليشيات الجنجويد ) بمساعدة الحكومة محاربين مرتزقة اسلامويين من الدول المجاورة ( تشاد - موريتانيا - بنين ) , لاعانتها على حملة السلاح من ابناء دارفور .
وكلمة جنجويد قديمة الاستعمال في دارفور , وتعني الشباب المنفلت من قبيلته . والذي لا يتورع من ارتكاب الجرائم , من نهب واعتداء على الغير . وعلى الرغم من المطالب الاوروبية , والامم المتحدة بوقف هذا النشاط ضد المدنيين , والسيطرة على المتمردين . الا ان الحكومة وجنجويدها ومليشياتها العربية لم تابه لذلك , مستقوية بدعم دول الاقليم العربي , لموقفها في المؤسسات الاقليمية والدولية .
ويلاحظ ان نشاط هذه المليشيات , قد امتد الى داخل تشاد , ما جعل الرئيس التشادي " ادريس ديبي " يطالب الحكومة السودانية بوقف الهجمات التي يشنها حلفاؤها الجنجويد انطلاقا من حدود ها للتخريب في تشاد (7) . وهكذا استطاعت الجبهة الاسلامية , تفجير كل الازمات المختزنة في البنى الاجتماعية , بوتائر متسارعة , وذلك لطبيعتها الايديولوجية الاسلاموعربية . في جغرافيا تعج بالتنوع والتعدد والتباين . ولان مفهوم الدين الاسلامي في السودان , ولد متطابقا مع مفهوم "الهوية / العروبة " حمل خطاب الانقاذ هذا الملمح المأساوي للثقافة الاسلاموعربية في السودان . فالدين العربي / الاسلام . والعرقية / سيطرة النخبة الاسلاموعربية . وسما تجربة الانقاذ منذ استيلائها على السلطة . وكان ذلك احد عوامل انقسامها =اولاد الغرب ضد اولاد البحر .
وجدت الحركة الاسلامية في السودان في 1989 , السودان على مشارف التفكك , وبدلا عن محاولة التعامل بروح المسئولية تجاه الوطن الواحد .والجدية لمعالجة هذا الوضع المأزوم , مضت لتصعيد الحرب في الجنوب وتصعيد القلق والتوتر في دارفور , ومحاولة سحق جبال النوبة .
هكذا عمدت الجبهة الاسلامية لاعتماد الخيار العسكري , لحسم المشكلات الحقيقية والفعلية التنموية في الهامش . وهنا ينبغي علينا بدء ادراك طبيعة الحركة الاسلامية في السودان .. والتي دفعتها لاحقا للتعامل مع دارفور بهذا الشكل . وعلى النحو الذي نشهده الان ..
فاقم السلوك السياسي للجبهة الاسلامية في دارفور من الازمة , فقد عمد الاسلامويون الى اعادة تقسيم الادارات الاهلية بغرض الكسب السياسي واضعاف الخصوم " حزب الامة " , ما ادي الى تنامي العصبية , فقد حلت الهوية العرقية - في التقسيم الجديد - محل الهوية الاقليمية , التي كانت سائدة في الماضي , والتي كانت تستوعب الهويات العرثية على تعددها (8) .وقد جرى هذا التقسيم في المناطق الهامشية عموما . دون الاعتبار الى ان هذا المليون ميل مربع ( مساحة السودان ) به حوالي 570 قبيلة تستخدم 595 لغة محلية . وقد اعاد الباحثون تصنيف هذه القبائل في 56 او 57 فئة اثنية , على اساس الخصائص اللغوية والثقافية والاثنوغرافية الاخرى . وقد قلص تعداد 1955 هذا التنوع باعادة تجميع المجموعات الاثنية الى ثمان محموعات رئيسية : العرب 39% - النوبا 5% - النوبيون 5% - الجنوبيون الشرقيون 5% - والاجانب 7% ومعايير تقليص هذا التنوع بالتصنيف واعادة التصنيف ليست واضحة دائما واعتباطية غالبا .
لكن ماهو كاف وله صلة , هو حقيقة ان هذا التنوع اللغوي موجود داخل دولة واحدة , تطمح مثل غيرها لان تكون دولة قومية . معظم هذه المجموعات القبلية لها مناطق محددة تقليديا وتحمل اسمهم ( دارفور - انتماء للفور ) وهي رغم التفاعل المتصل مع المجموعات الاخرى - تعيد انتاج نفسها اجتماعيا في استقلال عنها . ولذلك هناك تغيرات يحفزها التفاعل مع مجموعات اخرى ضمن الاطر الاقليمية والقومية , وتلك التي تحدث بسبب الحراك السكاني , بالهجرة الى اجزاء اخرى في القطر , وهناك ما يحدث نتيجة تاثير مؤسسات وسياسات الدولة وينتج عنه درجة كبيرة من الاستمرارية الثقافية والمرونة الاجتماعية - الثقافية , والتي هي موجودة داخل كل مجموعة على حدة , فقد تختفي بعض اللغات مثلما حدث للبرتي والبرقيد في دارفور . لكن التقاليد الثقافية تبدي ثباتا كبيرا عبر الزمن .
وقد حلت اللغة العربية محل اللغات الاصلية للمجموعتين اعلاه . لكن التقاليد الثقافية , واشكال التنظيم الاجتماعي , التي هي من فرادة البرتي والبرقيد , تميز هاتين المجموعتين عن جيرانهما , مثل عرب الزيادية الابالة . او المسيرية او مربي الماشية شبه المستقرين . وبينما تتشارك هذه المجموعات في الارض فهي تعيد انتاج ثقافتها ولغتها بمعزل عن الاخرى .حتى اللغة العربية ليست شيئا متجانسا , فهي تبدى تباينات كبيرة في اللهجات مثل : عربي الفور - وعربي جوبا . والعربية السودانية افصحي - والعربية الكلاسيكية . الخ ... بل هناك تباينات كبيرة في اللهجات , حتى في اقليم مثل دارفور (9) .
لم تعتني الجبهة الاسلامية بالحقائق التى يطرحها هذا الواقع المتنوع .ثقافيا والمتباين حضاريا , فقدمت نموزجها ( المشروع الحضاري) وفقا لالتباس : تطابق ( الهوية / الدين ) متغاضية عن كون الدين , لا يمكن ان يحل محل الهوية , بحكم طبيعة كل منهما . فالدين نص , والنص تأويل ( معنى ) , تأويل مولد للدلالة , ينصب فيه الانسان ذاته مصدرا للمعرفة (10) . وتاريخ الحركة الاسلامية تميز باحداث وفترات معينة , شكلت مراحل الصعود والهبوط والنمو والركود , وقد حدد الترابي ما اسماه ( معالم سيرة الحركة الاسلامية الحديثة في السودان ) بحسب عهود ومراحل : " عهد التكوين " ( 49 - 1955 ) في الاوساط الطلابية ., بالاضافة الى رافد شعبي محدود , متأثر بحركة الاخوان المسلمين المصرية .
تأسس اول مؤتمر عام للاخوان في عام 1954 . وتم اختيار اسم الاخوان المسلمين . ثم كان عصر الظهور الاول (56 - 1959 ) حيث توصلت الحركة الى اهم اسباب انتشارها مستقبلا , وهي العمل الجبهوي او التحالفات الواسعة , على اساس برنامج عام . لذلك كان قيام " الجبهة الاسلامية للدستور " في ديسمبر 1955 . تلى ذلك ما اسماه " عهد الكمون الاول " ( 59 - 1964 ) وحتى فترة الحكم العسكري الاول , ثم عهد الخروج العام ( 1964- 1969 ) اى فترة الديموقراطية الثانية . وتاسست خلال هذه الفترة جبهة الميثاق الاسلامى . في ديسمبر 1964. حيث تم اختيار حسن الترابي , امينا عاما لها . بعد ذلك يبدأ ما يسميه عهد المجاهدة والنمو ( 69 - 1977 ) اى من انقلاب نميري حتى المصالحة معه . واخيرا عهد " النفح " الذي يمتد حتى انقلاب يونيو 1989 (11) وهو امتداد لعهد التمكين ( ابتداء من الاستيلاء على السلطة في 1989 ) .
تكمن اشكالية افكار الترابي , في تحقيق هذا التوازن الدقيق بين الوحي والنص من جهة , والتاريخ والواقع من جهة اخرى . ويستنجد بقاموس من مفاهيم يستعملها دون تعريفها او تحديدها اصطلاحيا . فهو يكتب عن تجديد الدين او الفقه او الفكر الديني , وتتداخل كلمات " تدين " , " فقه " , " فكر " و" دين " . وتستخدم في سياقات مختلفة , فهو يجد حرجا احيانا في الحديث عن تجدد الدين , ما يعني ضمنيا التقليل من ثباته وتعاليه . ولذلك يفضل مفهوم الفكر الاسلامي (12) ويستعجل الترابي قيام حكم اسلامي , وهنا يعني الحدود الشرعية فقط . فهو يقول بان نحكم بالاسلام , ثم نفكر في تطوير السياسة الدينية وتجديدها , اى كأنه بالتجريب والخطأ , مما لا يصح في المجتمعات الانسانية , وقد يصح في المعامل والمختبرات . وعلى كائنات اخرى .
فهو يرى ان الحيل الشائعة لتعويق اقامة النظام الاسلامي , الاعتراف بضرورة التمهيد له , باجراء دراسة عميقة , حتى نتبين مقتضى الدين , فنطبقه حكيما غير معيب , مراعاة لخطر الدين ووقاره , وعدم اقحامه بعفوية وحذرا من تشويه الاسلام والتنفير عنه (13)
يرى الترابي ان اولويات السياسة للتيار الاسلامي , ان يجاهد لتغيير النظم اللادينية . الظالمة . وهو يتبسط في اطوار الجهاد والاساليب المتخذة في معارضته النظم القائمة .
ونجد ان الحركة الاسلامية السودانية , منذ نشأتها وحتى وصولها الى السلطة . جربت ممارسات كثيرة في العمل السياسي , قربتها من هدفها , اى الوصول الى السلطة , ولم تكن الوسائل ذات اهمية كبيرة , من ناحية اتساقها مع الغاية , لان الغاية السامية المتمثلة في احياء الدين وتطبيق حكم الله , كانت تبرر الوسيلة (14) وعلى الرغم من ان الحركة الاسلامية لم تعلن , خلال الستينيات موقفا معاديا من الديموقراطية , بصورة مباشرة . الا ان حقيقة استراتيجية الحركة , تقوم على تحويل السودان الى دولة اسلامية , تحكم بقوانين الشريعة الاسلامية , فقد قادت الحركة منذ نشأتها معركة من اجل الدستور الاسلامي منذ 1955 (15) ورأت الحركة الاسلامية في اعلان نميري القوانين الاسلامية سبتمبر 1983 , نجاحا لاستراتيجيتها .
وينتقد الصادق المهدي هذه القوانين : " جاءت مخالفة لكل اقوال الدعاة الاسلاميين وارائهم . بدأت بتطبيق الحدود ولم تسبق ذلك اية اجراءات وقائية , كما تخلت عن وسائل الاثبات الشرعية المتشددة , لذلك اكثرت من اقامة الحدود . فقد قطعت ايدي اكثر من مائة شخص . في ظرف عام واحد . - جاءت مهدرة لكل الضمانات ضد العثرات والتشوهات , فلم تستند الى الاجتهاد والشورى وتأمين الحقوق لغير المسلمين . - انها لدى الفحص الدقيق تمثل تلاعبا خطرا بالاسلام , في كل المجالات : تصورا وتقنينا وممارسة .(16) ومن مفارقات السياسة في السودان , عودة الترابي على الرغم من كل ذلك الى الساحة السياسية . تحت اسم جديد " الجبهة الاسلامية القومية " التى دخل بها انتخابات 1986 , محرزا بها لواحد وخمسين مقعدا في البرلمان . ما اهلها لان تكون القوة الثالثة , بعد الامة والاتحادي . ومن ثم استيلائه بهذه الجبهة على السلطة في 1989 .
يظل الاسلاميون مهمومين بقضية اثبات تمايزهم عن الايديولوجيات الاخرى , لذلك يأخذون اشكالا معينة , ويحاولون اعطاءها محتوى اصيلا , اى اسلاميا ( عروبة واسلامية دارفور ) فعلى الرغم من الانتخابات في السودان , طالب قادة الجبهة بضرورة البيعة للرئيس المنتخب . كما بايع الاسلاميون الرئيس السابق جعفر نميري , وكما بايعوا الجنرال البشير لاحقا , فور انتخابات المؤتمر الوطني , وهو التنظيم السياسي الوحيد (17) .
بطبيعتها الزئبقية هذه , نستطيع ان نفهم لماذا فعلت الجبهة الاسلامية ما فعلت في السودان , ودارفور على وجه الخصوص . فبالنتيجة ما فعلته في دارفور , وجه اخر لذات العملة التى تداولتها في جنوب السودان . فبهذه الطبيعة الزئبقية كثفت الجبهة الاسلامية من التجنيد والاستقطاب لابناء اقليم دارفور . مستغلة في ذلك متناقضات البنى الاجتماعية , كبنى " تصوغ" وتتحكم في مجتمعات دارفور القبلية التقليدية ., التى ارتبط وجدانها الثقافي بالميثولوجيا والماورائيات , بحيث تحكم وجودها المادي الانطولوجي .
وبتمكنها من الاستقطاب الكثيف , في اوساط المتعلمين ورموز العشائر اخترقت هذه المجتمعات بمشروعها ( الحضاري المزعوم ) ..
لقد كان العربي " الاصلي " " المهاجر " الذي يبشر بالاسلام في سلطنتي الفور والفونج , رجلا من العامة , مهنته الاساسية التجارة . وما كان يبشر به لم يكن نظرية معقدة , او فلسفة اسلامية تشريعية عالية . بل بالاحرى ضربا فلكلوريا من الاسلام . فقد تكيف هذا الاسلام مع التقاليد الاجتماعية الثقافية التى كانت قائمة .
يلاحظ ان النمط المبكر للاسلام في السودان , الذي قدمته تلك السلطات , تميز بسمة تغييرية محدودة , وعلى العكس اثرت فيه الظروف التى احتك بها , ونجد الدليل على ذلك في حقيقة ان ملوك الفور قد استوعبوا ممارسات احسن ما تعرف به هو انها غير اسلامية . وعلاوة على ذلك تحمل حقيقة ان المجموعات الاثنية والقبلية تحمل داخل حدود هاتين السلطنتين المبكرتين . قد كانت ضمنا مستقلة داخليا في شئونها السياسية , حتى الشريعة الاسلامية التي مورست في بلاطي الفونج والفور لم تكن تتطابق والحدود السياسية لهاتين السلطنتين المبكرتين , بمعنى توفير اطار قانوني تفويضي موحد (18) .
وبينما تمكنت الجبهة الاسلامية من احداث اختراق كبير في دارفور , على حساب القوى التقليدية الطائفية ( خاصة الامة ) , مضت لانجاز سيطرتها التي بدأتها منذ 1985. بسيطرة عناصرها الريعية وشبه الريعية , التي نفذت بتجربة المشاركة في ادارة جهاز الدولة وخبرت امكاناته الهائلة ودخلت في شراكات مع رأس المال الاقليمي ( العربي الاسلامي ) . استطاعت هذه العناصر التي استفادت من ضعف الحكومة البرلمانية (85 - 1989 ) في قطع الطريق امام اى محاولة , لتنظيم مؤتمر دستوري , لحل ازمة البلاد , واستولت على السلطة - بعد ذلك - استثمرت النخبة الاسلامية الصاعدة للحكم , فشل الاحزاب التقليدية في ادارة دفة الحكم بكفاءة ومسئولية وحسم , كما قامت بتحييد وتوظيف لا مبالاة قواعد الاحزاب تجاه قياداتها , فطرحت نفسها في صورة شعبوية , تطهيرية . كمدافعة عن هوية الوطن المهددة , وتوجهت بخطابها الشعبوي للمركز والهامش في ان (19) بصورة خاصة لحشد التأييد , وبناء قاعدة النظام الاسلامي (20) فقد كان اعضاء الجبهة الاسلامية يرون , جوهر الدعوة وقضية الاسلام , اكبر من الوسائط التنظيمية ووراء دائرتها , بل اولى من الهيئة الكلية لجماعتهم , ولأن الحياة لا تنفذ صور ابتلاءاتها وظروفها , يقول الترابي : " فاذا انطبقت الجماعة في نظامها مطلقا , اوشكت ان تجمد وتقعد به عن الاستجابة لمقتضيات الظروف المتجددة , ومن ثم لابد من قدر من المرونة والحرية , وتوازن االنظام . تتيح هامشا من المبادرات والطلاقة , لتتبلور مقترحات جديدة , في شكل التنظيم "(21) كانت نتيجة المرونة , التوجه نحو التوسع والتمكن من اختراق دارفور , اعتمادا على مرونة ( انتهازية ) تنظيم الحركة الاسلامية , والاستعداد الفطري لابناء الاقليم , على خلفية مسعى هذا التنظيم , لتحويل نفسه لتنظيم" واسع مستوعب ومتطور " .
وهكذا استخدمت الحركة الاسلامية , خطابها الاسلاموي في الاستقطاب والتعبئة . هذا الحديث عن الخطاب الاسلاموي , لا يتطابق مع النص القرآني - على خلفية المرونة - " او الاسلام " الدين في اصوله المتفق عليها . بل هو قراءة تأويل للنص القرآني او الدين الاسلامي , تحكمه الظروف التاريخية وتحينه . وهذا يعني انه يقيم صلة ما بالنص القرآني , والسنة مرجعية في الاقناع . ولكن الخطاب الاسلاموي في السودان , المعاصر . محكوم بدلالات هذه التسمية . فهو اسلاموي وليس اسلاميا . بمعنى انه قراءة لجماعة سياسية تسمي نفسهخا الجبهة الاسلامية (22) او الحركة الاسلامية او الى اخرهخ من مسميات تطلقها على نفسها بين وقت واخر. اذ تستولى الايديولوجيا على الدين , لدى الاسلامويين . وتوظفه كاملا وجيدا , كما تريد. وبآليات متعددة , تسخر لغته ومفاهيمه وافكاره . وهنا نقف لنفرق بين الحركة الفكرية والحركة الايديولوجية , فالاولى تنتج الافكار , من خلال جهد المفكرين " اما الايديولوجيا " فعلى العكس من ذلك تحاول تثبيت افكارها , لتعبئة الجماهير بفاعلية .
صفوة القول ان الحركة الاسلامية في السودان , نجحت في كل ما خططت له , خاصة وراثة مواقع القوى الطائفية - نسبيا , وتمكنت من تعبئة الجماهير , ففي 19/ 4/ 1989 , ارادت الجبهة الاسلامية , ان تصعد مواجهاتها مع الحكومة الديموقراطية , الثالثة , فيما يتعلق بالحسم العسكري لمشكلة الجنوب , فاستحدثت سابقة خطيرة , حبست الانفاس هلعا وتحسبا واستنكارا , فقد قام مؤيدوها من كوادرها المنظمة بتسيير مظاهرة في حي الثورة بام درمان , اتجهت فورا الى كنيسة للمسيحيين , واضرموا النيران في داخلها وانحائها واحرقوها .. وفي رد فعل سريع وغاضب , تجمع المسيحيون واتجهوا الى احد المساجد الذي ابتنته وادارته منظمة الدعوة الاسلامية .. واحرقوه (23) وعندما سألت صحيفة " الشرق الاوسط " في وقت لاحق (9/5/1989) علي عثمان محمد طه , عن اتهام السودانيين للجبهة , باشعالها لحرب دينية , قال تلميذ الشيخ , ان الجبهة دعت لتلك المظاهرات , الا ان مظاهراتها كانت منضبطة . وما علمنا الا يومها ان الكنائس وبيوت العبادة المسيحية , تنفجر وتحترق تلقائيا , كطلمبات البنزين او مستودعات الغاز الطبيعي , جراء تفاعلات الضغط والحرارة . هكذا بلا فاعل من بني البشر (24) .
تحاول الجبهة الاسلامية القومية كتعبير عن الاسلام السياسي المعاصر , ان تكتب او تصيغ ايديولوجيا للاسلام في السودان . ولكن تدعي انها تعيد صياغة تاريخ الاسلام في السودان , والفرق كبير بين الايديولوجيا والتاريخ , فهي " الجبهة " تقوم بعملية حذف وتحوير , واعاد
ة تأويل لكثير من الحقائق التاريخية , كي تصل الى غرضها , فهي تكتب التاريخ حسب رؤية مسبقة تؤمن بها , وتتمنى ان يكون بديلا عن الواقع , فهي تدعي ان ممارستها السياسية منذ 1989 هي تطبيق للاسلام وشرع الله , ونهج الرسول واصحابه , وفي نفس الوقت ترى ان هذا الوضع , هو امتداد لتاريخ الدولة الاسلامية السودانية ( مثل الفور - الفونج ) (25) ومن هنا جاء مشروعها الحضاري مفتقرا للعقلانية , ومعبرا عن واقع افتراضي لا وجود له الا في ذهن الترابي شخصيا وتلامذته (26) ولذلك اصطدم هذا المشروع الي يعج بالمتناقضات , بالواقع العملى . وعبر سقوطه لدي تطبيقاته العملية , عن حالة كارثية لكل السودان . ووضع مأساوى في دارفور بصفة خاصة . , فقد هيأت الاخطاء المتراكمة , للنظم المتعاقبة , تجاه دارفور . لهذا الوضع الكارثي , الذي يتهدد الانسان ويمزق ارضه .
وما تحمله الشبكة الدولية للمعلومات موثقة عن دارفور , اثر زيارات ميدانية , للمنظمات الدولية لهو مخيف جدا . ففي 18/6/2004, وبعد ان بلغ التطهير العرقي , الذي تمارسه مليشيات الحكومة وقواتها جنبا الى جنب مع الجنجويد .هددت دولة تشاد بالتخلي عن لعب دور الوسيط , بين الحكومة السودانية و " العصابات المسلحة " , كما افادت ايرين " اذ ان هذا الصراع تخطى الحدود السودانية , واخذ يلقي بظلاله على الجوار - خاصة الحدود الشرقية لتشاد - واكد احمد علامي , مستشار الرئيس ادريس ديبي الشخصي , بعد لعبه دور الوسيط في المشكل السوداني , قائلا ان الجنجويد يقاتلون جنبا الى جنب مع القوات الحكومية السودانية . وقد حاولا تجنيد القبائل التشادية العربية في قواتهم . مما تسفر عنه حرب اثنية بين المجموعات غير العربية والمجموعات العربية الاقليمية الاخرى , واذا لم يتم حسم الجنجويد , فان نشاطها سيكون بمثابة احياء لحركة مشابهة في تشاد
توقفت عن محاربة الحكومة التشادية , فهذه الحركة تشابه الجنجويد وتشترك معها في الفوضى . واكد علامي ان السياسات , التي انتهجتها حكومة السودان , تسبب (FNTR)ت في هذا الوضع .. وقال الدبلوماسيون ان استمرار الصراع على المدى الطويل . سيسفر عن كارثة لا يمكن لتشاد ان تنفصل عنها , سيما وان التركيبة الاثنية , في دارفور هي نفسها في المناطق الحدودية التشادية , وقدرت الوكالة الدولية للاجئين ان 200,000 لاجيء من دارفور عبروا الحدود نحو تشاد , بعد ان دفعتهم القوات الحكومية بمساعدة الجنجويد بمهاجمة قراهم وتدميرها , كما قدرت ان اكثر من مليون شخص قد اجبروا على النزوح عن ديارهم خلال 16 شهرا من الصراع المسلح .
وحسب " ايرين " ان كثيرا من التشاديين العرب المناوئين , والمعارضين للحكومة التشادية على اتصال بالجنجويد , وقد سافروا الى السودان بشكل متكرر في الاشهر القليلة الماضية , واحد عناصر . يعمل قائدا لاحد فرق الجنجويد . وعدد المناوئين الزغاوة , من بينتهم اسرة ديبي نفسه يشعرون ان تشاد يجب ان تفعل شيئا , لدعم انسبائهم في الطرفFNTR
الاخر من الحدود السودانية , والذين يحملون السلاح ضد الحكومة السودانية (27) وتكشف هذه المعلومات عن خطورة الوضع الانساني في دارفور , وعلى الجانب الاخر من حدودها مع تشاد , كما يشير الى اندلاع حرب اقليمية ,تضاعف من حجم المأساة الانسانية بهذه المنطقة من العالم .
بينما يحدث كل ذلكتساهم فيه الحكومة دون ان يطرف لها جفن , من بشاعة الصرا ع الدموي , الذي تخوضه صفا الى صف الجنجويد . تماما مثلما وقفت تتفرج على قرى المساليت وهي تتعرض للحرق , ويتعرض سكانها الى الابادة الجماعية منذ 1995 .
لقد مثل حل الادارة الاهلية في دارفور على عهد نميري (1971) علامة فارقة في تاريخ استقرار دارفور منذ ضمها الانجليز الى جغرافيا السودان , فقد ترتبعلي هذا القرار العشوائي , للسيد نميري , وضع الاساس لتمزيق المجتمع والارض . لعدم كفاءة الضباط الاداريين , ولكونهم غرباء عن هذا المجتمع . بعيدين عن روحه . ما راكم المشكلات والازمات , وجعل القضايا المصيرية , في مثل هذه المجتمعات المشحونة بالتوتر معلقة . لتصبح الجرائم مختلفة عما اعتادت عليه هذه المجتمعات ( نقلة نوعية في الجريمة ومكررة ) تضيق بها اضابير المحاكم , من تراكمها وتعقيداتها , الى ان تفجر الوضع تماما , بتراكم مزيد من الاخطاء , بما يشبه التلاعب بحياة الناس . والاستهانة بكرامتهم الانسانية وثقافتهم وارضهم .
فالسياسات المنظمة للجبهة الاسلامية . المتمظهرة في المشروع الحضاري سيء السمعة . تعارضت تماما مع المبدأ العام . الذي على سبيل مجموعة من الخيارات , متاحة للتعاطي مع الواقعة الاساسية للتعددية . مثل انواع مختلفة من الفدرالية , او الحكومات التي تحمي الاقليات , وقد ينتقي نظام دستوري معين , ايا من الخيارات التي تعتبر الافضل لطبيعة وظروف التعددية للبلد المعني . وسوف يكون هذا شرعيا ومتمشيا مع الدستورية , كمعيار للديموقراطية للدرجة التي يصبح فيها الخيار المنتقى مواتيا لتحقيق الوظيفة السياسية للدستور . ومن الضروري ان تتاح فرص متساوية لكافة المواطنين , الذين يرغبون في نقض او تغيير اى جانب من نظرية ممارسة الخيارالنتقى (28) تناقضت الجبهة الاسلامية مع هذا المبدا العام لعدم شرعيتها ." جاءت بانقلاب عسكري على نظام ديموقراطي منتخب " . كما انها , تتناقض في منطلقاتها كتنظيم , مع مفهوم الحزب السياسي " قامت على اساس ديني - لاحقا تحولت الى العرقي ايضا " . في واقع متعدد ومتباين مثل السودان . ولذلك كان ن الطبيعي جدا , ان تؤول الامور في السودان ودارفور بصفة خاصة , الى ما آلت اليه .
خاصة ان دارفور مهيأة لهذا الوضع الكارثي , الذي نشهده الان , منذ ان عرف ابنائها الهجرة الى ليبيا , وتمكنوا من شراء السلاح الالي , من مدخرات اغترابهم , الى جانب الصراعات المسلحة , بين القبائل التي لم تهدا الا لتنطلق مرة اخرى . مضافا اليها الجريمة , التي ترتكب بواسطة السلاح . والبعد الخارجي في الصراع " ليبيا - تشاد " . وكذلك دور السودان في الصراعات النمتعلقة بالجوار , في فترات مختلفة . " تشاد - ليبيا - افرؤيقيا الوسطى " .
فانتشار السلاح في الاقليم ذاد من الشحن والتوتر بين المجموعات المختلفة , مما اسهم في تغيير طبيعة الصراع لاحقا . فتحولت الصراعات من نهب مسلح " كما كانت تطلق عليه الحكومة " الى صراع قبلي اشعلت نيرانه واذكته الحكومة ذاتها .
هكذا وجدت الجبهة الاسلامية المسرح معدا . لتلعب دورها فيه . ففي ابريل 1989م وفيما كانتالحكومة مشغوله بسقوط "الجكو"(29) والمعارك مع الالحركة الشعبيه التي انتقل مسرحها الي جنوب كردفان عند منطقة "ام سرديف" التي تبعد 110 كيلومترات من كادوقلي,
كانت تشاد تلتهب,ففي 1989/1/4م احبطت حكومة حسين حبري انقلابا عسكريا,عبر الانقلابيون الحود الي السودان, فأرسلت الحكومة الشرعية وفدا الي الخرطوم لمقابلة رئيس الوزراء الصادق المهدي,بغرض تسليمه رسالة خطية من الرئيس حسين حبري. وصل الوفد التشادي الي الخرطوم وظل نزيلا بالفندق الذي حل به دون ان يتمكن من مقابلة السيد الصادق المهدي, ومن انجمينا كانت خطوط الهاتف مشغولة تطالب الوفد ببذل مذيد من الجهد لاتمام تلك المقابله..كانت تشاد تريد من السودان ان يسلمها قادة الانقلاب ملهذا السبب فضلا عن الضغوطات الليبية الشديدة والتي بلغت حد لي الزراع فأن الحكومة السودانية قررت تجاهل الوفد الزائر(29).
IRIN
ويكشف هذا,ومقروءا مع اوردته مدي تعقيد العلاقات السودانية/التشاديه..فالبلدان ظلا غير مستغرين يعانيان من الحروبات الداخليه,والصراعات المسلحة, والانقلابات العسكرية,اذا اضفنا ذلك وجود قبائل مشتركه هي طرف في الصراع الذي يدور اليوم في دارفور, يمكننا استقراء,ان الوضع في دارفور ما لم يتم تداركه فهو مقبل علي كارثة انسانية كبيرة تتخطي حدود دارفور الي داخل تشاد,وربما تشمل افريقيا الوسطي لاحقا.
وعلي الرغم من المعرفة التامة لكل الحكومات السودانية,وادراكها لتعقيدات العلاقة مع تشاد,المتاخمه لاقليم دارفور المأزوم,بدلا من ان تععمل علي استقرار الامن فعلت العكس,فالمعارضة الشمالية في عهد نميري,سربت السلاح الي دارفور(سلاح ليبي), وتحركت بجزء منه لاسقاط نظام نميري في الخرطوم وابقت الجزء الآخر منه في دارفور(30) ليستخدم لاحقا في الصراع المسلح في هذا الاقليم المنهك تنمويا
تضافر هذه العوامل العديدة وتراكمها عبر فترات مختلفه اسهم في ارتكاب مذيد من الاخطاء,ومراكمتها لتصبح اللغة المتداولة في الصراعات المحلية بدارفور هي لغة السلاح, وتصبح بذلك مهيأة لاي حرب كبري طاحنة بين قبائلها(31). وهو ما لعبت عليه الجبة الاسلامية(صب الزيت في النار) بتأسيسها في جهاز الامن العام لما يسمي بقسم (امن القبائل) الذي عمل علي تفتيت القبائل غير العربية,كما فعل الصادق المهدي من قبل, ومنحها اراضي القبائل غير العربية, وفقا لما اشارت به الدراسات الخاصة بقسم أمن القبائل.
ويبدو ان الاسلامويين كانوا يخططون منذ وقت مبكر لكي يكون السودان حقلا لتجاربهم السياسية ذات المسوح الديني. يقول الترابي:- من حسن حظنا في السودان اننا في بلد ضعيف التأريخ ,ضعيف الثقافة الاسلامية الموروثة, وقد تبدو تلك لاول وهلة نغمة ,ولعلها نعمة. اذ لا تقوم مقاومة شرسة لتقدم الاسلام المتجدد,ذلك في مرحلة الانتقال(32) ويبدو ان مرحلة الانتقالالتي يقول بها الترابي , هي مرحلة " ازمة النظام الاجتماعي ", التي قال بها الراديكاليون الماركسيون من قبل , في طبعة مختلفة .
هوامش الفصل الثاني :
darfurinfo.orgLalidinar.htm (1)
(2) التعدد الاثني والديموقراطية في السودان . ( أوراق مختارة من ندوة التعدد الاثني والديموقراطية في السودان / الخرطوم 18-19/مايو 2002-قاعة الشارقة )تحرير حيدر ابراهيم علي . الطبعة الاولى القاهرة 2003. ورقة أ. أحمد ضحية :( تحديات الديموقراطية والتعدد الاثني ) . ص : 101.
(3) السابق . ص : 19 .
(4) أ. قد تكون اول حالة تمييز معروفة في التاريخ الاسلامي والعربي , هي حالة الخليفة عثمان بن عفان (رض) عندما كان ثمة اعتراضات من الصحابة عليه . قولهم " ليحملن ابن ابي معيط بني امية على رقاب الناس " وواضح من هذا الاحتجاج , قصدهم انه سيولي بني امية المناصب السياسية او الخدمية المدنية , في ذلك الوقت . وبغض النظر عن كفاءتهم .
- ب / يبدو ان السودان يمثل حالة كلاسيكية للمجتمع التعددي المنقسم , بما اسماه هاي ايكشتاين : الانقسامات الانشقاقية . وقد تكون هذه الانقسامات : دينية , لغوية , ايديولوجية , اقليمية , ثقافية , عنصرية واثنية " قبلية " . . ولا تصبح كل هذه الانقسامات بارزة في كل سياقات واوضاع الوجود السياسي السوداني .وكثيرا ما يخضع بروزها ايضا الى مقتضيات مكانية وزمانية ومعينة . وعلى سبيل المثال قد لا تصبح اللغة العربية , كلغة تخاطب مشتركة . مشكلة في الحياة اليومية الاجتماعية . لكنها تصبح انقساما بارزا في سياقات نظم التعليم الوطنية الرسمية . او في الاوضاع التي يهدف الى فرضها على القوميات الاخرى . بميل نحو التفوق العنصري , والاخضاع الناتج عن الربط بين اللغة وحاملها العرقي , اى الهوية العربية . ان عربي جوبا , يستخدم يوميا , ويستخدم شباب الجنوب النازحين الى مدن الشمال , بسبب الحرب . اللغة العربية بينهم . وكذلك غير العرب في دارفور . لكن هذا الانقسام اللغوي يصبح اشكاليا من الناحية السياسية والاجتماعية عندما تفرض الدولة اللغة العربية .
ينقسم العرب السودانيين الى العديد من المجموعات الاثنية , مع وجود تمايزات ثقافية وتنوعات واضحة في اللهجات , وما هو عربي في السودان متباين جدا . فقد يجد العربي من سكان المنطقة الشمالية معاناة في التواصل مع العربي البقاري من غرب السودان . بالمثل قد ينظر هذا العربي بازدراء الى السوداني العربي البقاري " الدارفوري", وفي الواقع فقد تضمن الانقسام التاريخي الذي قاد الى المواجهة بين الخليفة عبد الله التعايشى والاشراف , انكارا من الاشراف لجدارة الخليفة المنتمي للتعايشة " عرب دارفور " . وبعيدا عن العروبة كسمة عنصر , وليس اكتسابا ثقافيا , لم تظهر اراء تختصر تعدد المجموعات العربية في السودان الى قاسم مشترك يسمى عربا , لان العروبة كمكتسب ثقافي , تتقاسمه العديد من المجتمعات العربية في السودان . والتي ليست هي عربية من ناحية العنصر . ولكن عندما تكتل نخب الدولة مختلف المجموعات العربية , رغم تباينها ثقافيا في مجموعة واحدة , بحيث تنتحل هذه الفئة دور الاغلبية التى تحدد هوية سودانية جديرة بان تفرض على الاخرين . كطريقة اكثر مشروعية للحياة هنا ترى المجموعات غير العربية عنصرية ضمنية في هذا الموقف , وتواجهها بمختلف الوسائل . ان انكار قيمة الاخرين هو سيطرة ضمنية .
- ج/ هذا التشاحن من الاشراف ضد الخليفة هو ما دفع الخليفة في مكان اخر في احد المجالس عندما بدأ الاشراف بالفخر بانسابهم , ان يمسك الربابة , وينشد : نحن الغرابة , شرابين المريسة + عيال البحر نضمهم شاكت
نحن جدنا النبي عيسى ...
(5) السابق . ص : 131.
(6) راجع : علاقات الارض . لمحمد ابراهيم نقد . ص : 19 - 22 : يشير الاستاذ نقد الى ان الاتساع الجغرافي والتعدد العرقي , وجد استجابة عند سليمان صولونج , كرجل دولة مؤسس , فقام بتقسيم السلطنة ( على النحو الذي اشرنا اليه سابقا ) كما صاغ ابنه السلطان موسى , سياسة عامة حول ملكية الارض فى السلطنة . فجرد شيوخ العشائر والقبائل من سلطاتهم وقاعدة استقلالهم الاقتصادي وركز السلطة الاقتصادية والسياسية المطلقة في يده . وهكذا تطور اداء دور الدولة المركزية في دارفور .
- راجع : فترة انتشار الاسلام والسلطنات (41 6 - 1821) لدكتور قيصر موسى الزين . ص : 92: ساد نظام شبه اقطاعي علاقات الانتاج الزراعية في السلطنة , وكان اكثر احكاما ومركزية من نظام سنار , وكانت كل الارض من الناحية القانونية ملكا للسلطان , وتخضع لاشراف اداري هرمي .على رأسه السلطان .
- راجع : علاقات الرق في المجتمع السوداني . لمحمد ابراهيم نقد . ص: 204 : يشير نقد هنا الى ان المساليت مارسوا الاسترقاق عنوة بالحرب او الغزوات على الفرتيت - ومارسوه عرفا على بعض قبائل الفور , التى نزحت نحو ديارهم , هربا من جيش الزبير باشا في 1874. ومرة اخرى عندما سيطر الانصار على دارفور . عندما قرر سلطان المساليت ان يتخلص من حامية الانصار في اراضيه 1888 . استبق الخيل والسلاح والجهادية السود , واعطي اولاد العرب احذية وقرب ماء , وطلب منهم الابتعاد عن داره . كذلك مارس المساليت السبي المتبادل بين القبائل المتحاربة , فكثيرا ما سبى المساليت زوجات وبنات سلطان واعيان الداجو . وبادلهم الداجو المعاملة بالمثل , وقد تستعيد القبيلة السبايا بالفدية , وهذا يعطي فكرة عن رواسب الصراعات القبلية في دارفور تاريخيا , خاصة الفترة السابقة لضمها بواسطة الانجليز 1916 الى السودان .
(7) islam today .netLarticlesLshow_articles_content.cfm?catid=76&artid=3753.
(8) التعدد الاثني والديموقراطية في السودان . مرجع سابق . ص : 42.
(9) د/ شريف حرير - تيرجي تفيدت . السودان النهضة او الانهيار . ترجمة . مبارك علي . مجدي النعيم . مركز الدراسات السودانية . القاهرة . ص : 20 .
(10) علي حرب . النص والحقيقة . ( نقد الحقيقة ) . طبعة ثانية القاهرة 1995 المركز العربي الثقافي . ص : 20 - 26 .
(11) دكتور . حيدر ابراهيم علي . التيارات الاسلامية وقضية الديموقراطية . طبعة اولى 1996. مركز دراسات الوحدة العربية . ص : 283 .
(12) السابق . ص : 289 .
(13) السابق . ص : 299 .
(14) السابق . ص : 301 .
( 15) السابق . ص : 202 .
( 16) السابق . ص : 203.
- بالاضافة الى عبد الله علي ابراهيم . الارهاق الخلاق . ص : 34 . اذ يقول : " تحتاج الجبهة الاسلامية القومية بدورها ان تعترف للاخرين , بعد ان اعترفت لنفسها في مواقع مختلفة , ان قوانين سبتمبر 1983 هي مجرد اقتراح قوانين مستمدة من الشريعة الاسلامية , وليست الكلمة النهائية , لما يمكن ان تكون عليه صورة الشريعة الاسلامية في الدولة السودانية . ولذا صح اعتبار معارضي تلك القوانين من بين المسلمين وغير المسلمين في السودان , اناسا ذوي اراء مختلفة , ليست بالضرورة ضالة او ملحدة .
(17) السابق . ص : 301 .
(18) شريف حرير . مرجع سابق . ص : 29 - 19 .
- التعد الاثني والديموقراطية في السودان . مرجع سابق ص : 25 : يصنف دكتور عطا البطحاني , المجموعات العرقية في السودان بتقسيمها الى ثلاث مجموعات اثنية مجموعة (أ) تمثل جماعات الوسط النيلي . الممتدة من الجزيرة حتى الشمالية . والممثل التقليدي للثقافة العربيةالاسلامية المهيمنة على باقي المجموعات الاثنية . والمحتكرة لرموز وفعاليات كتلة القوى المسيطرة منذ الاستقلال . - المجموعة (ب) تمثل الجماعات الاثنية من غرب وشرق السودان . اما المجموعة (ج) فتمثل الجماعات الاثنية في الجنوب .. نلاحظ ان الحدود الفاصلة بين هذه المجموعات , هي حدود غير واضحة , وان هناك تداخلا واضحا بين هذه المجموعة : مثلا تشترك كل المجموعات (أ) و(ب) في عاملي اللغة والدين وتلتقي المجموعة (ب) مع المجموعة (ج) في التهميش السياسي والتخلف الاقتصادي . كما تعاني المجموعتان من هيمنة المركز في (أ) .
(20) السابق . ص : 27 .
(21) دكتور حيدر ابراهيم علي . ازمة الاسلام السياسي " الجبهة الاسلامية القومية - نموزجا " الطبعة الاولى القاهرة 1991 ص : 134 .
(22) السابق . ص : 144 .
(23) عبد الرحمن الامين . ساعة الصفر " مذبحة ديموقراطية السودان الثالثة " . اجندة واشنطن . ص : 187 .
(24) السابق . ص : 88 .
(25) حيدر ابراهيم علي . السابق . ص : 38 .
(26) راجع : نشرة مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان " سواسية " العدد (53- 54) حول تجديد الخطاب الديني . ديسمبر 2003.
(27) irinnews.orgLreport.asp?report id=41756&select region =west_ africa.
(28) الديموقراطية في السودان . البعد التاريخي والوضع الراهن وافاق المستقبل . " ابحاث ندوة تقييم التجارب الديموقراطية في السودان " القاهرة 6 - 4 يوليو 1993 . تحرير حيدر ابراهيم علي . مركز الدراسات السودانية . القاهرة 1993 ص : 238 .
(29) عبد الرحمن الامين . مرجع سابق . ص : 85 .
(30) الديموقراطية وحقوق الانسان في السودان . التزامات القوى السياسية والنقابية والعسكرية السودانية . تحرير : دكتور محجوب التيجاني . القاهرة 1997 . المنظمة السودانية لحقوق الانسان . ص : 135 .
(31) السابق . ص : 57 .
(32) دكتور حيدر ابراهيم علي . ازمة الاسلام السياسي . مرجع سابق . ص : 192.
#احمد_ضحية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟