نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1181 - 2005 / 4 / 28 - 09:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم تفلح مئات التصريحات الديبلوماسية,والزيارات المكوكية,واللقاءات الثنائية, والرحلات الإطلاعية,والبلاغات اللفظية,والاتصالات الهاتفية,والمشاورات الببينية,والخسائر العسكرية,والتحريات الإستخباراتية,والتجاوزات الأمنية, وعشرات الأغاني الملفقة, والبرامج الممجوجة, والمقحمة إقحاما ,والمفروضة فرضا في المساءات الكئيبة على الذين لاحول لهم ولا قوة, ولا استغلال أغنية فيروز الرائعة "سوا ربينا ", في منع أن يقوم "بعض" اللبنانيين في "مسرحية كسر الجرة" وراء القوات السورية ,وهي تسحب أمس آخر جندي سوري من فوق أراضيها ,بعد تسعة وعشرين عاما من الوجود هناك. فقد انتهى كل ذاك بمجرد جرة تكسر على الطرقات ,وأمام الناس, والعدسات وفضائيات الفضائح والغل والتشفيات,ولم تفلح الخطب العصماء,وتصريحات أساطين الإعلام المزمنين , وبياعي الكلام ,وفقهاء الأدلجة الشطار, وفلاسفة الأحاجي الألغاز ,والفونولوجيين الكبار المصرين على نفس اللغة, والخطاب, والاستهبال , والعناد, والمكابرة في ترميم صورة الجرة التي كسرت ,وتبعثرت فتاتا على إسفلت العربان .
وكسر الجرة,أو الخابية أيضا, وراء الضيف, بالموروث الشعبي المعروف بالشام ,هو كناية عن تنفس الصعداء بالنسبة "للمضيف"من رحيل الضيف ثقيل الظل بعد زيارة طويلة وغير مرغوبة,وجولة مريرة من التحمل والشقاء. وفي الموروث الشعبي ايضا ,فقد كانت الجرة تعتبر من المقتنيات الهامة جدا في البيت ,وهي رمز من رموز البقاء,كونها كانت تعتبر البراد أو الثلاجة الذي يحفظ فيه الماء سبب ورمزالخصوبة والحياة,وكانت تحفظ فيها المؤونة كالزيت والسمن الذي كان يأتي عليهم الضيف الثقيل الفجعان, بعد زيارته الفجة والثقيلة والتي انتهت بعد ان أتى على كل مافي البيت من خير وزاد, يعتبر الماء أهمها على الإطلاق.وبهذه الحركة العنيفة ,كان المضيف المحقون يعبر عن التشفي برحيل الضيف, و"فشة"خلق ,ولأنه لايقدر على الضيف المستفشر فيوجه غضبه نحو الجرة المسكينة,ويشفي غليله بعد أن كان صامتا طوال فترة الزيارة.وهي ايضا تعبير عن بداية جديدة, وعودة الحياة إلى طبيعتها,ومحو أية أثار لوجود الضيف, من خلال كسر هذه الجرة التي كانت الأكثر استعمالا بسبب حاجة الإنسان الأهم والأكثر للماء من أي شيء غيره. وهي تعبير عن خلو الجرة من أي شيء, وحلول الجفاف والمحل والقحط ,ولم يبق شيء هام كالماء لحفظه في الجرة, لذلك فلم يعد هناك من فائدة لوجودها .وكأني بحال المضيف وهو يقول لماذا لم تأخذ هذه الجرة معك أيضا ,بعد أن حل القحط وشظف الحياة في أرض الديار؟وكانت تعتبر تضحية كبرى أن يقوم الشخص بكسر الجرة الهامة, ولكن عظمة الموقف تقتضي التضحية بأعز ما يملك في ذلك الوقت ,وهي الجرة,التي كانت تعتبر من أثاث البيت الهام ,وربما دخلت في مهر العروس ,وكان يتباهى الناس بامتلاك الجرار ,كما يتباهون اليوم بامتلاك الشبح ,والأسهم في البورصات,والأراضي والشاليهات ودولارات الأمريكان.وكانت أيضا رمزا للغنى والثراء, وقديما كان الذهب والمال أيضا يوضع في الجرار ,وظهر تعبير "خوابي "الذهب كناية عن البنوك في هذه الأيام.
وقد أسهبت إحدى الفضائيات بنقل هذا المشهد, والتركيز عليه بخبث مقصود من أحد المخرجين أو العارفين بعلوم وخبايا الجرار ,التي لا يعلمها إلا الخبثاء والراسخون في علوم"الانسحابات", والقارئون لكتاب الجاحظ البخلاء.وقد كان هذا المشهد مدعاة للحزن, والأسى, والألم من قبل البعض, كما كان مدعاة للسرور, والتشفي, والفرح من البعض الآخر.ولكي لا نكون ظلمة,ومدّعين, ومتحاملين ,فليس كل اللبنانيين قد كسروا الجرار ,كما أنه ليس بمقدور البعض أن يكسروا حتى"كباية"ماء,بعد أن أتى على الجرار الدسمة الخبراء في بيولوجيا الخوابي ,وتقنيات شفط الجرار. وبالطبع ايضا إن هذا الموقف لا يعبر عن رأي جميع اللبنانيين,حتى من قبل أولئك اللذين يملكون الكثير من "الجرار",ولكن لا يريدوا أن يكسروا أي شيء وراء الضيوف, حتى لو كانوا أشرارا ,وثقلاء.
والآن كم من الجراريتمنى الناس أن يكسروا,وفي اكثر من موقف, ومكان ,تعبيرا عن الإحتقان,وشدة الضغط,والقهر الجاثم على صدور العباد ,وكم من ضيف ثقيل الظل جلس, ونسي الوقت والساعة والزمان ,ومكث طويلا دون الرغبة في الاستئذان, والرحيل ,ولا يعبر أبدا عن أية رغبة في المغادرة وترك المضيف الغلبان اللهثان.والموقف محرج جدا, إذ لم يعد هناك في الواقع أية جرار لا فارغة ولا مكتنزة يمكن أن تكسر وراء أي من الزوار بعد أن أصبح الجميع منتوفين ولا يملكون حتى شراء"كوز"للماء .
وهل لنا الآن أن نتخيل كم من جرة ستكسر عند حصول كل انسحاب,وكم من المتسلطين والضيوف الثقلاء في هذه الحياة؟ فكم من زوجة ستكسر جرة وراء زوجها ,حين يغادر البيت ويكف عن التدخل في شؤون البيت والتسبب في المشاجرات داخل البيت؟وكم من زوج هو الآخر سيفرح ويبتهج ويكسر كل مافي البيت من زجاج عندما ترحل زوجته إلى بيت أهلها ويخلو له الجو للاتصال بالحبيبات والخليلات ,ويرتاح من "نقها" وصراخها وثرثرتها التي تملأ المكان؟وكم من موظف سيكسر ألف جرة وراء مديره المتكبر القراقوشي المدعوم من سلطات الأمن حين يحال على المعاش بعد أن يكون قد شفط ونشّف الخزينة من أية قروش ودولارات؟ وكم من جرة ستكسر حين يصمت المدلسون الكبار ,وتغادرنا فضائيات وصحف الإستهبال ؟وكم من طالب سيكسر الجرة حين التخرج والتخلص من تسلط المدرسين وطلباتهم التعجيزية ؟وكم من مواطن سيكسر من خواب وجرار حين تحل عنه الدوريات ,وترحل قوانين التعسف والطوارئ عن صدره ,وحين تكف المخابرات عن التدخل ,وحشر الأنوف في كل صغيرة وكبيرة من حياته, وأصبحت الرياح تصفر في خوابي حياته الخاوية أصلا , وحولتها إلى كابوس لا ينتهي إلا عندما تكسر الجرار وبدون تدخل كوندي وكوفي عنان ؟وكم من الخوابي ستنفجر حين ترحل الأحزاب القدريات,والمجالس القدرية,والشخصيات السرمدية ,والقراقوشيات الديناصورية,والأتاوات والخوات والجزيات الدهرية ,والعذابات الأبدية ,والقهر الدائم الذي لازم هؤلاء المنكوبين منذ ماقبل اختراع الجرار ,والفخار, والبحص, والحجار؟وكم من جرة ستكسر حين يكف المشعوذون والسحرة عن إلقاء التمائم والطلاسم والخزعبلات والانسحاب التام والكامل والشامل الناجز من عقول الدهماء والبسطاء ؟ فلن يسمع عندها صوت في الفضاء, والأجواء سوى أصوات تكسير الجرار ,الذي سيصبح ملحمة وطنية ,وسيمفونية شاملة ,وربما تستبدله بعض الدول بالنشيد الوطني, الذي قد يصبح مجرد صدى لأصوات جرار تتكسر على الطرقات. وكم من دولة ستكسر كل مالديها من فخار, وجرار,وتغلق جميع ورشات تصنيعه, حين ترتاح من تجبر, وتكبر الدول العظمى, وتحكمها بالقرار الدولي؟وكم من جرة ستحطم حين يصبح مجلس الأمن رمزا للعدالة والمساواة في تنفيذ القرارات الصادرة عنه؟
والآن بعد مهرجان كسر الخوابي هذا, من المرجح أن يصبح هناك شح شديد في الجرار,وندرة ملحوظة في الحصول على أية خابية أو "كوز" يكسر في أي مكان,ولن تستطيع مصانع وورشات تصنيع الفخار من تلبية حاجة الناس ,وإشباع الأسواق, نظرا للحاجة الماسة والشديدة لكسر الجرار بسبب احتقان الموقف,وتراكم الغيظ والألم والمعاناة, ووجود كم هائل من الضيوف الثقلاء, الذين لم ,ولن يبرحوا حتى بعد أن خوت كل الجيوب , والجرار.ومن كان ,لايزال, عنده جرة فلا يكسرها الآن ,فهناك موسم خاص,ومناسبات كثيرة, لتكسير الخوابي والجرار.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟