|
في تقسيم الأوطان: خبل السياسي وارتباك المثقف
فالح عبد الجبار
الحوار المتمدن-العدد: 4111 - 2013 / 6 / 2 - 08:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الأوطان اقدم من آلهة الإغريق. وحين ظهرت الأخيرة اختارت قمة الأولمب وطناً. فأضيفت بذلك الى الأوطان قداسة علوية في جوار قدسيتها الأرضية. أما الامم الحديثة، فاختارت الفكرة القومية خطاباً يجمع قداسات الماضي بالحاضر، ووصلاً يفعم القلوب بإرادة الموت في سبيل الفكرة. القرن العشرون كان قرن القوميات /الأوطان في جموحها الأعتى، وأيضاً قرن اكثر الانشطارات دموية لأوطان قديمة وأخرى جديدة. في عالمنا العربي، ثمة ميول خفية ومعلنة للتشطير. وثمة تهديدات خفية ومعلنة ترشح عن الزعماء النافذين في العراق وسورية بتقسيم وشيك، الطائفية لحمته. فرئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، بعد أدائه الضعيف في الانتخابات المحلية، يحذر من ان التقسيم آتٍ، ويدعو احد زعماء الإسلاميين الشيعة الى «وحدة صفوف الطائفة». لعل إشارة التقسيم تقصد الموقف الكردي، لكن الحل أسوأ من المشكلة. فعوض البحث عن سبل الانفتاح وتوسيع المشاركة، يشمّر السياسي عن ساعديه للانفصال. وهذا إعلان فشل مدوٍ. كانت أحلام ٢-;-٠-;-١-;-١-;-، أن يسود الحاكم على الفضاء الشيعي المتنوع، ويشق الخصوم على جبهة الأكراد و «السنّة»؛ سلاحه في ذلك أوهام الاكتشافات النفطية التي ستأتي بكنوز سليمان. لعل الحال في سورية اكثر لبساً، فالمنحى الطائفي يتخذ لبوس الحرص على وحدة قائمة، أو التحذير من نيات خارجية، مع انه في الممارسة على الأرض اكثر انكشافاً. هناك التهديد أو التحذير أو الحديث عن إقليم علوي، يشطر سورية طائفياً، شأن حديث المالكي عن «وحدة الطائفة» إزاء تقسيم آتٍ. وفي الحالين، ثمة حمية في إحياء ميليشيات طائفية الى جوار الجيوش النظامية: عصائب الحق وجيش المختار في العراق، وسرايا الوطن ولجان الدفاع الوطني في سورية. وفي الحالين تجييش طائفي معلن وخفي من أصحاب القرار، يقابله تجييش مماثل من الطرف المقابل. كان مستبدّو الماضي يماهون شخوصهم الكريهة بالأوطان، فبقاؤهم بقاء الأوطان، وزوالهم زوالها. النازي ادولف هتلر كان يعتقد ان ألمانيا لا تستحق البقاء بعده، فالأمة المهزومة لا تستحق ان تعيش إلا كأمة عبيد، على رغم ان هزيمة ألمانيا كانت من صنع يديه، مثلما كان خراب العراق قبل الغزو الأميركي من صنع المستبد، صدام حسين، على ما أضاف اليه الأميركيون من دمار. لكن المستبد يردد سراً وعلانية ان من يأتي بعده (بالقوة طبعاً) لن يجد في العراق غير ارض خراب. قادة اليوم على السكة ذاتها، فهم اكثر ميلاً للخراب، لشدة التمسك بالكراسي، لكنهم اقل طموحاً في الأقاليم. فعوضاً عن الأوطان يكتفون برقعة طائفية منها، وبعض ساسة الاحتجاج (في الأنبار وغيرها) يجارون الحاكم في الحلم برقعة طائفية بلهاء. ثمة خبل سياسي لا ريب. لكن من يجرؤ على اتهام القادة أو أجهزتهم بالحكمة والسوية. فالسلطة، كما يقول مثل عربي قديم، عقيم لا تلد. إنها وهي الشغوفة بنفسها، لا ترى في الامم غير جموع خلقت لكي تقاد، فهي أرقام بلا قيمة. وهي شأن الجموع لا تملك ذرة من تفكير متزن. أمضى العراق وسورية القرن العشرين كله يكابدان التوتر بين دولة شديدة المركزية، مفرطة الاحتكار، ومجتمع تعددي، قومياً ودينياً ومذهبياً. حصاد حروب شتى، وفرص وئام مضاعة، وحلول معطلة. ما من تقسيم للأوزان في القرن العشرين انتهى بغير الدم والدمار، واستعصاء الحل، وإنفاق جل الثروات الوطنية على تسلح بلا أفق. بل ان ذيول بعض حالات التقسيم لا تزال تذكّي جمر الحروب. تقسيم كوريا هو اكثر الخطوط سخونة. وروايات تقسيم شبه القارة الهندية لا تزال مقيمة بين ظهرانينا، في إقليم كشمير الذي تحول من مخزن للحبوب في قارة الجياع والأوبئة، الى معسكر متوتر، متقابل، مسلح بأسنان نووية (باكستان المنشطرة عن الهند انشطرت على أساس إثني فولدت بنغلادش). ولعل آخر أبشع الأمثلة الحروب التي نتجت من تشظي الاتحاد السوفياتي (حرب ناغورني قره باخ وحرب الشيشان) أو التي نشبت عن تفكك يوغوسلافيا (هل نسينا البوسنة والهرسك؟). كل هذا التاريخ غير المجيد يقدم مادة حية عن الأثمان الباهظة للعب السياسيين بفكرة التقسيم. لعل التقاليد الأوروبية أثمرت بنحو معين إرسال قوات حفظ سلام أممية، أو استخدام الموروث القانوني لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب. لكن المنطقة العربية تخلو من تقاليد كهذه، وتفتقر الى إرث الحلول، فقهاً ومؤسسات. عوضاً عن ذلك، تجد المنطقة كلها غارقة، بوعي أو لخلافه، في أتون الخندق الطائفي، وهي على كامل الاستعداد للمضي في حرب الملل والنحل الجارية أو المقبلة. وإذا كان خبل السياسي في جنوحه الى التقسيم خوفاً على ضياع سلطته المباشرة جلياً ومفهوماً، فإن ارتباكات المثقف وأوهامه بصدد الانقسام الطائفي وسبل ترميمه، تطفح أحياناً بسذاجة كاملة في الأوساط العراقية كما السورية. فهناك غياب شبه تام لأي حس نقدي تجاه الظاهرة، بل ثمة تماهٍ احياناً مع الانتماءات الطائفية بحجة وجود «وعي» سنّي أو شيعي، أو بحجة حداثة مفتقدة في وعي وفي حركة النشطاء (الأولى نقد الحداثة المفتقدة في وعي المثقف). لقد استجابت أجيال سابقة لمثل هذه الإشكالات بمسار ثقافي فكري أنتج لنا فلسفة التسامح، الفكرة العميقة التي تمنع التجاوز على حرية الضمير سواء من الحاكم أم من المؤسسات الدينية، وتحظر ان تؤدي ممارسة الشعائر الى الإضرار بحياة المخالفين وأملاكهم، وتمنع الحاكم من فرض مسائل الإيمان والمعتقد بقوة القسر. وتحولت الفكرة الى متن قانوني ومؤسسات حامية، لأن الفكرة بلا مؤسسية هي مجرد «حكي». ولكن لا مؤسسات يمكن ان تظهر الى الوجود قبل شيء من «الحكي». والثقافة العربية شبه صامتة إزاء ذلك. ومثلما انتجت الأجيال السابقة فلسفة التسامح الديني والمذهبي وقوانينه ومؤسساته، أنتج العقلانيون من الساسة ترتيبات جديدة للحم تجاوزت الأطر الضيقة للدولة المركزية المفرطة. ليس الأسد أو المالكي أو سواهما هم المشكلة، فالنزوع التقسيمي مرشح للبقاء والاستمرار بسبب جذوره البنيوية في السياسة والاقتصاد والثقافة عموماً. نحن في حاجة الى يقظة جديدة بعد قرن من التقدم خطوة والتراجع خطوات.
#فالح_عبد_الجبار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأكثريات والأقليات: كعب أخيل الثورات
-
فضائل العلمانية المستحبة
-
أوطان الربيع العربي المفخخة
-
التفكير في العراق: فوضاه ونظامه
-
أحمد قبانجي: كلام النقد العقلاني المشاكس
-
وجها الوطنية المتداخلان
-
رأس المال والمجتمع الحديث
-
الربيع العربي بحسب العلوم الاجتماعية
-
العراق والتوتاليتارية
-
الأمن قضية سياسية أولاً
-
العراق والجيران وأوروبا
-
كتاب جديد:ما العولمة
-
نهاية ديكتاتور
-
تأملات في الصلب: الرئيس العراقي شانقاً ومشنوقاً
-
أفكار في جولة: آلام الجنوب اللبناني غير المعلنة
-
المستبد وحقيقته بين جيلين
-
الولادة العسيرة للفيديرالية في العراق
-
الهورلا: اوراق الجنون- الام ذاكرتي اللبنانية
-
في الحرب والتفكير و في الحرب والسياسة
-
مفهوم العنف، مفهوم الإرهاب
المزيد.....
-
كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|