|
في نقد القراءة التاريخية لعبد الكريم سروش للدين المحمدي _ ج1
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4110 - 2013 / 6 / 1 - 02:16
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ج1 التجديد الفكري واعادة قراءة الدين بربطه بالتاريخ أي أعادة قراءة الإسلام بمقاربة تاريخية لا يعني بأي حال من الأحوال أن نجعل من هذه الدعوة أعاد خلق منظومه فهمية وإدراكية للدين تبنى خارج ما هو عقلاني وأصولي بمعنى أن لا يكون هذا الطرح الليبرالي مدعاة للتجاوز عن حقائق تتصل بأصل وروح الحقيقة وإن كنت أنا لا أمانع أن يطرح الموضوع على بساط البحث والبرهان وجعل كل الفهم الديني الأثري محلا للنقد العلمي وفق قياسات يتفق عليها أولا كونها معيار للبرهنة وقياس النتائج لكن دون ان نبني نتائج نظرية عن واقع يختلف تماما عن الفرض ولا يتوافق مع الموجود النهائي التحصيلي منه. في قراءة نقدية لكتاب (بسط التجربة النبوية ) للكاتب الإيراني عبد لكريم سروش يطرح مقاربة من هذا النوع والذي يحتاج إلى مناقشة هادئة وعميقة وذات روح نقدية مسئولة تتلاءم مع خطورة الطرح وحساسية الفكرة التي صدح بها وهي أن التجربة النبوية في عموميتها ومعطيتها الكلية لا تخرج عن انعكاس عن روح الله التي فهمها النبي أو عبر عنها بذاتية خالصة , فهو كما يقول((أن القرآن نتاج للظروف التاريخية التي نشأ فيها، بل هو نتاج أيضا لروح النبي محمد بكل محدوديته البشرية)) ,نافيا أن تكون النفس التي ألهمته القرآن والأحكام هو وحي خارجي بل ولا يعني أن يكون هناك مشكلة في أن يكون لهذه النفس سواء أكانت خارجية أو داخلية فرقا في نشأة القرآن التاريخية وتسطير الأحكام , بل المهم هو ما جاء نتيجة لذلك الإلهام من أثر تاريخي فكري أنشأ صورة لعقيدة الإسلامية. الحقيقة ودون الدخول في محكمات النصوص التي يتمسك بها المسلمون ويعتقدون بالجزم اليقيني أنها من الوحي الخارجي لا بد أن نتذكر أن لكل فكر موارد أساسية ومعطيات يبنى على ما فيها من أسس وقواعد لتؤسس للفكرة وبدون هذه المعطيات أو انتفاءها لا يمكن التسليم بأن المنتج الفكري هذا قد نشأ نتيجة لوجود محدد مسبق أو مبتدع أو حتى تخيلي ساهم بصيغة أو بأخري في نشأته سواء أكان المحدد أصيل كما جاء في فكرة سروش وأكد عليها أو من خرج البيئة الفكرية والأجتماعية التي ولد فيها(فالكثير من الأحكام الموجودة في الفقه الإسلامي كانت موجودة لدى العرب الجاهليين بعينها أو باختلاف قليل وتفاوت يسير ممّا هو موجود في الفقه الآن). لو سلمنا بما جاء وهو تسليم لا ينفي الصحة كما لا ينفي الإنكار قبل الفحص النقدي والوصول بالبرهان لعقلي نتيجة ما , هنا يستلزم أن يكون غالبية ما جاء بالرسالة الإسلامية هو من نتاج تأثير المجتمع العربي المتسم بالبداوة الفكرية قبل البداوة الأجتماعية ومستجيب لها بحكم كونية هذا المجتمع ونشأته مع افتراض عدم وجود المعلم الخارجي أو التواصل الفكري بين النبي وبين مصادر الديانات والأفكار الأخرى نتيجة أما لتوافد الحجيج الى مكة من خارجها أو ما اكتسبه النبي من رحلاته الخارجية إلى مصادر الفكر وهي حتما لا تتعدى الشام النصرانية المحافظة. حتى اليمن والطائف ويثرب كانت نصرانية بصورة ما أما مكة فكانت بدوية الطبع والميل والنشأة ولا يمكن أن تنمو فيها فكرة دينة خارج ما تؤمن به لقوة السلطة الدينية ومتانة النسيج الذي يربطها بالقبلية وما نشأ من قداسة عند العرب لمكة وألهتها عوما من غير ذوي الاديان الإبراهيمية ,هنا لا بد من افتراض عبقرية خارج حدود المعقول منحت القوة والقدرة للنبي أن يستخرج من هذا الحال فكرته وإن أفترض سروش أن كل ما جاء في الدين المحمدي هو تطوير شكلي أو تصليح لما موجود في مجتمع مكة أولا ومجتمع المدينة بالتالي. هذه العبقرية التي أنشأت هذا الدين والعودة إلى افتراضنا الأول لا بد لها من مكونات ومعطيات تصوغها وتبلور مقوماتها وتكشف عن بدايتها وأسس وركائز الفكرة التي نتجت عن عبقرية النبي , حتى يتمكن من أن يبني فكرة تقود مجتمع جديد نشأ على أنقاض ما هو متأصل في الروح البدوية ويعكس نظرتها للحياة والوجود والسماء وعلاقتها بالأرض , ناهيك أن المثال الذي يسوقه سروش دائما لا يتعلق بأسس الدين الجديد ولا بمقوماته الكلية , إنما هي تحديدا في قضايا اخلاقية لا ننكر أن الإسلام في البعض منها خفف حدة القسوة فيها أو لطف من أحكام بعضها بل أبقى على الكثير من القيم العربية التي تتلاءم مع كونية الإنسان وروح إنسانيته كالكرم والشجاعة والنبل والوفاء بالعهد. لكن عقائد مثل التوحيد والعدل والبعث والحساب لا يمكن أن تنشأ في مجتمع لا يعرفها البته ولا يؤمن بها أصلا بل تتناقض بالكلية مع معتقداته, وحتى لو سلمنا بالتأثير الخارجي فإن هذه المؤثرات وبالذات النصرانية فيها الكثير من النقض والمصادمة مع أصول وفروع الدين المحمدي, وهذا يستلزم أيضا عبقرية بلا حدود للنبي لكي يصل إلى شيء غير ممكن استحضاره في تأريخية وجوده ونشأته في مكة المشركة البدوية ذات الميل العصبي لجاهليتها حتى بالأديان الأخرى , ولا يمكن القبول بهذا الفرض دون دليل يثبت كيفية تكون هذه العبقرية وصور النشأة والتكوين. يقول عبد الكريم سروش أن كل ما موجود بالفقه الإسلامي له قواعده ومعطياته في الواقع الاجتماعي العربي بل يجزم أن كلية المعرفة الدينية التي جاء بها الإسلام إنما هي ليست غريبة ولا مستنكرة في مجتمع مكة فيقول(لم تكن هذه الأحكام بعيدة ومنفصلة عن أجواء تلك الظروف الثقافية والأعراف الاجتماعية، بل كانت قريبة جدّاً منها.) أي أنه لا يفصل بين حقيقة أن وجود أقلية ما تؤمن بهذه المبدأ قد تكون هي منشأها ومحلها التكويني فيتخلص من هذا لأطلاق العام الشامل وبذلك يمنح فكرته شيئا من المعقولية التي يمكن ان يتقبلها لناقد ولدارس . أما أن يجعل هذه العقائد والأفكار وليدة المجتمع بعامته ففيه بعض التجني على الواقع التاريخي والذي تم فحصة ودراسته من الناحية الوقائعية ومن ناحية الفكر التاريخي والتي تنفي في مجملها هذا الادعاء, ونأخذ مسألة التوحيد , فلا مجتمع مكة الوثني متعدد الآلهة ولا محيطها النصراني يؤمن بالوحدانية المطلقة التي جاء بها الاسلام لا تقريبا ولا أصلا بل أن فكرة التعد تتناسب مع شعور القبيلة العربية التي تشكل اجزاء المجتمع العربي المعتزة بانفرادها بعبادة إله مقدس أمر لا يمكن إنكاره كما لا يمكن أن نخفيه عن عين المؤرخ الدارس والباحث عن الحقيقة , فكيف جعل من النقيض قاعدة أسس فكرته للقراءة التاريخية للدين عليها وهي مخالفة أصلا لمنطقية التاريخ ذاته. لا تخلو أفكار سروش من التناقض الحاد بين نكرانه للوحي وإقراره به بل يحاول أن ينفذ من خلال ادعاءه أن المهم في الموضوع الصورة التي يطرحها النبي عن الله أو ما يفهمه هو وليس ما في جعبة الوحي من افكار لان صورة الوحي غير قادرة ان تخاطب البشر إلا من خلال ذات فيها سمو وعبقرية خاصة فيقول(إلا أن النبي خالق للوحي بشكل آخر، فالذي يحصل عليه من الله هو مضمون الوحي، ولكن هذا الوحي لا يمكن بيانه للناس بذلك المضمون؛ لأنه يفوق مستوى فهمهم، بل هو فوق مستوى الكلمات، فهذا الوحي فاقد للصورة، وعلى النبي أن يصوغه في إطار صوري؛ ليجعله في متناول فهم الجميع ) يريد يقول سروش أن فكر الإسلام ليس عبقرية النبي الذاتية في إنشاء الأحكام وصياغة الفكرة عموما بل هو أعادة طرحها بترجمة عربية تتناسب مع ذوقية المجتمع وقدرته على استلهام ما فيها من أفكار لا يمكن ان يعقلها بكليتها , وهنا تناقض أيضا ومرة أخرى عما في فكرته الأولى من كون أفكار الدين هي بمجملها العام مجرد تحسين لما في المجتمع والواقع العربي من ثقافة وفكر, فلا ندري كيف يكون لمجتمع ان يستصعب فكرة قد صاغها وتعامل معها اجيالا ثم يجد صعوبة في بعض التحسينات البسيطة عليها بل يجعلها سروش من المستحيلات الفكرية. إن جزم عبد الكريم سروش بأن الإسلام لم يأت بجديد لا فكري ولا أخلاقي ولا حتى في العقائد مما هو موجود في حياة العرب ينفي عن الدين الإسلامي أهميته التاريخية التي حافظت على تلك الديمومة والأثر الفاعل مع مرور اكثر من ألف وأربعمائة عام على وجوده مع ما تعرض له من تخريب وهجمات فكرية وحروب طاحنة أستهدف أسسه وركائزه التكوينية فيقول (لا يوجد حكم جديد فيها، وإذا كانت هناك أحكام جديدة فهي قليلة ونادرة وربّما تصل نسبتها إلى 1 %، وهذا يعني أنّ 99 % من تلك الأحكام كانت معروفة وسائدة في فضاءات ذلك الزمان ) وأؤكد أن الدين لمحمدي ليس تطوريا غير عادي فقط بل كان إنقلابيا قابلا للتجديد ومستجيب بالكلية لحركة الوجود وأحكام الزمن التاريخي وانه نجح في كل مرة ان يتحرك في اطارية الوجود بقوة أكثر وبإصرار على أن يستجيب بدرجة أو بأخرى للتحديات الزمانية والمكانية , فلولا قوته وقدرته على التجديد لأضحى الإسلام مجرد ذكرى تاريخية تشهد لنبوغ مدعيه تنتهي بانتهاء فترة وجوده الفاعل ليترك المجال لقوة فكرية أكثر قدرة على التجديد وطرح ما هو أقدر على التكيف والملائمة.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في نقد القراءة التاريخية لعبد الكريم سروش للدين المحمدي _ ج2
-
الدكتور علي الوردي وإشكالية الحكم على العقل
-
عصر الحرية ومفهوم الذاكرة
-
الدين نحن
-
ما هو الدين
-
مصادر القوة ومضاعفات التفرد
-
الانفصام بين الصورة والأصل ج2
-
الانفصام بين الصورة والأصل ج1
-
خصيصة الأبدية للفكر الرسالي
-
آدم الإنسان والحيوان شبيه الإنسان
-
حوارية الخلق والجعل في النقل المقدس ,دراسة في قصدية النص
-
تطور فكر التطرف وعلاقته بتنامي الفكر السياديني الإسلامي
-
عقلانية الدين علمانية حقيقية ج2
-
عقلانية الدين علمانية حقيقية ج1
-
الهروب من الفكر والتفكر تهرب من مواجهة الحقيقة
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|