|
الإسلاميون يصرون على بدْوَنة الإسلام ومناهضة الحداثة - 3
سعيد الكحل
الحوار المتمدن-العدد: 1179 - 2005 / 4 / 26 - 10:29
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في مقابل تيار البدونة ، يتميز الاتجاه التحديثي بانفتاحه على الواقع الاجتماعي وبتشبعه بقيم العصر الإنسانية ، الحضارية ، الثقافية والاجتماعية . على اعتبار أن هذه القيم تمثل ثمرة الاجتهادات البشرية والنضالات التي خاضتها الشعوب من أجل بناء غد أفضل . وبذلك يقيم هذا الاتجاه مصالحة مع العصر والقيم السائدة فيه والمتمثلة في المساواة ، التسامح ، الحوار ، التعاون الخ ، باعتبارها إرثا مشتركا بين بني البشر . لذلك يعمل هذا الاتجاه على : أ ـ جعل الفقه الإسلامي ، من حيث هو إنتاج بشري ، ينفتح على العصر ويستوعب متغيراته ويساهم في الإجابة على إشكالاته . الأمر الذي يقتضي فتح باب الاجتهاد وتحرير الدين من هيمنة المواقف المحافظة والمتشددة ، بحيث تتاح للعقل مساحات لامتناهية للبحث والتفكير بعيدا عن كل وصاية أو رقابة . إن الآفة التي ارتبطت بتيار البدونة تتجلى في كونه رفع كلام القدامى من الفقهاء والأئمة والصحابة إلى مصاف الكلام الإلهي وأضفى عليها كل القداسة والإطلاقية ، بل منحها قوة إلزامية تفوق قوة النص الديني الأصلي . علما أن الرسول (ص) حث المسلمين على طلب العلم والحكمة في كل بقاع الأرض ومن كل الشعوب والحضارات ( الحكمة ضالة المسلم أنى وجدها فهو أحق بها ) . كما أن السلف الأول من الفقهاء وضعوا أسسا للتعامل مع إنتاجات الفكر في مجال الفقه تنفي القداسة عنها ( كل واحد يُؤخذ من كلامه ويُترك إلا النبي (ص)) . بل كانوا يضعون أنفسهم أندادا لمن سبقوهم ( هم رجال ونحن رجال ) . أي أن المعرفة والتفكير ليسا حصرا على أحد ، ولا يمكن الجزم بخطأ هذا الرأي أو ذاك ( رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب ) . لهذا جاءت مهمة التيار التحديثي مركبة . من جهة تسعى إلى تحرير النص الديني من هيمنة الفكر المحافظ والتبديعي الذي يتصدى لكل الإبداعات الفكرية والفنية والتكنولوجية حتى ، على أنها بدع وضلالات تجب محاربتها . ومن جهة ثانية تحرير الفكر من سيطرة السلف الذي لا زال يتحكم في نظرة الخلف لنفسه وللعالم . بمعنى وضع الإنتاج الفقهي في إطاره التاريخي حتى لا يبقى متعاليا وصالحا لكل زمان ومكان . إذ للسلف أزمنته وظروفه ، وللخلف كذلك أزمنته وظروفه هي ليست نسخة من سابقاتها . فالذين يحاربون القيم الإنسانية ويناهضون التطبيقات العلمية بدعوى أن السلف لم يعهدها ، إنما يصادمون الدين بالعلم ، والفقه بالواقع . ب ـ جعل الدين الإسلامي لا يتعارض مع العصر وإنتاجاته العلمية والفكرية والتقنية وقيمه الحضارية والإنسانية على كافة المستويات : ـ مستوى الدولة : الاستفادة من تجارب الشعوب وخبراتها لإرساء أسس الدولة الديمقراطية التي تكون فيها السيادة للقانون والسلطة للأمة / الشعب . ذلك أن مفهوم الدولة الذي يتمثله التيار المحافظ فقد صلاحيته مع انتفاء الظرف التاريخي الذي بلوره . وبالتالي لم تعد الحاجة إلى هذا الإطار الذي يجسد الدولة في الحاكم وينصبه نائبا عن الله في إدارة مملكته . بينما إطار الدولة الديمقراطية لا يفاضل بين المواطنين ، بل يجعلهم سواسية في المواطنة مهما كانت دياناتهم أو أعراقهم . فالحديث عن أهل الذمة وما يستدعيه من تمثلات عن وضعية هذه الفئة المالية ، الحقوقية والسياسية ، لم يعد مقبولا إثارته . لأن الولاء للوطن لا يتعارض مع الولاء للدين ، بل يضمنه من حيث يضمن لكل المواطنين حقوقهم السياسية وحرياتهم الفكرية والدينية . إذ الدين لله والوطن للجميع . ـ مستوى السلطة : يناضل تيار التحديث من أجل إرساء حكم مدني يمثل إرادة الشعب واختياراته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية . ولا يتحقق ذلك إلا بضمان الفصل بين السلطات وإقامة المؤسسات الدستورية ذات صلاحيات حقيقية ، وجعل الشعب مصدر مشروعية الحاكم يمنحها له بتزكية برنامجه العام الذي يدخل به غمار المنافسات الانتخابية الشريفة . ومن شأن هذا الإطار الديمقراطي للدولة أن يحرر المواطنين من طاعة الحاكم ويصحح العلاقة بينهم بحيث تكون مبنية على التشريعات والقوانين الواضحة والمضبوطة بالدستور . وهذا وحده سيُكسب المواطن وعيا بأن علاقته بالله لا تمر عبر علاقته بالحاكم ، أي أن الحاكم لم يعد من مهامه التأشير على صلاحية علاقة العبد بربه ، كما كان الحال في الدولة الدينية التي تنصب الحاكم وسيطا بين الله وعباده ، حيث إخلاصهم لله لا يستقيم إلا بإخلاصهم للحاكم . إن طاعة الأمير ولو جار لم تعد قاعدة تصلح لإدارة الحكم في الدولة الديمقراطية ، لأن الحاكم صار مجرد وكيل ينفذ برنامجه تحت مراقبة المواطنين ومؤسساتهم الدستورية . أي أن الخوف من الفتنة ومن التمرد على الحاكم لم يعد له من مبرر لأن الاستقرار لا يضمنه شخص الحاكم بقدر ما تضمنه المؤسسات والدساتير . فالدولة باقية والحكام في تغير . ـ على مستوى حقوق الإنسان : يحرص الاتجاه التحديثي على نشر وترسيخ ثقافة حقوق الإنسان من حيث كونها تمثل القاسم المشترك بين الأديان السماوية والدساتير الوضعية . فكلاهما يسعيان إلى تكريم الإنسان وضمان حرياته وحقوقه ورفع كل أشكال الظلم والاضطهاد عنه . وأولى العقبات التي تواجه التيار التحديثي تتمثل في تمترس التيار المحافظ خلف المقدس الديني وتوظيفه لتأليب عموم المواطنين ضد المشروع التحديثي بدعوى مخالفته للشرع وسعيه إلى هدم الدين وإفساد الأمة ، كما لو أن الدين الإسلامي جاء فعلا لتكريس الظلم والقهر والاستبداد . من هنا كانت مهمة التيار التحديثي مركبة . فهي تروم نشر الوعي والارتقاء به إلى مستوى الوعي المشترك العالمي بتقاسم المكتسبات الحضارية والانتماء إلى هذا المجتمع الدولي وهذا الإرث الحضاري للإنسانية جمعاء . ومن جهة ثانية تصحيح أفهام الناس لدينهم وعزل ما لحق بها من تشوهات ظلت قرونا عدة تبث العداء للآخر وتحذر من كل انفتاح عليه ضدا على التعاليم الإسلامية التي تؤسس للتعارف بين الشعوب والقبائل والحضارات . بالإضافة إلى كون تلك التشوهات ظلت تضفي المشروعية على الانحرافات التي طبعت القواعد العامة للسلوك والمعاملات . فكان القهر السياسي والظلم الاجتماعي والتمييز الجنسي العلامات البارزة للقرون العشرة الماضية ، حيث حرمت النساء من كل حقوقهن وأرغمت الشعوب على المهانة ، وظلت سوق النخاسة وقوانين العبودية نشطة إلى مطلع القرن العشرين . من هنا وجب القول أن مفهوم حقوق الإنسان مفهوم حديث على الفقه الإسلامي ، بل على الثقافة والبيئة الإسلاميتين . وكما هو حال الشعوب التي عانت من التخلف الفكري والجمود الحضاري ، فإن المسلمين ، لوجودهم على هامش الحضارة الإنسانية ، على الأقل منذ غزو نابليون لمصر سنة 1798 م ، فإنهم لم يستوعبوا بالقدر الكافي ثقافة حقوق الإنسان بما يمكنهم من تمثلها في اجتهاداتهم الفقهية . وطالما أن الفقهاء لم يتحرروا من سلطة السلف ، فإنهم سيظلون يقرؤون ويفهمون النص الديني بعقول الموتى . الأمر الذي يجعلهم ، من حيث اجتهاداتهم الفقهية ، خارج التاريخ . وبسبب هذه الغربة عن التاريخ والعصر ، ظلت الاجتهادات القديمة تأسر الرؤى والمواقف لدى التيارات المحافظة من كل المذاهب الفقهية . لهذه الأسباب لم يتمكن المسلمون من إبراز وتجسيد النموذج الإسلامي في إدارة الدولة وإقرار حقوق المواطنين ، بل لا زالوا في تخبطهم يبحثون عن نموذج يفاخرون به أمام النموذج الحديث الذي تجسده تجربة الشعوب الغربية . من هنا نفهم لماذا ظلت ظاهرة الرق في العالم الإسلامي قائمة إلى العصر الحديث . ففي مصر مثلا لم يتم إلغاء الرق إلا سنة 1855 ، كما ألغي قي تركيا سنة 1856 بناء على الاتفاقيات الدولية ، وليس استيعابا وفهما صحيحين وسليمين للدين الإسلامي . بينما السعودية لم تمنع العبودية إلا في سنة 1960 . لهذا السبب رفضت التوقيع على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 . إذ لو أمكن للمسلمين فهم مقاصد الشريعة وتمثل روح الإسلام لكانت الدولة الإسلامية أول من نصت قوانينها على إلغاء الرق والعبودية . لهذا كان مفهوم المواطنة في العالم الإسلامي مفهوما حديثا ، كما كانت الذمة والجزية وقائع تشرعنها الاجتهادات الفقهية وتكرسها القوانين المعمول بها ، ولم يتم إلغاؤها في مصر مثلا إلا سنة 1855 . وما ينبغي التأكيد عليه هو أن التقصير الحاصل لدى المسلمين في التأصيل لحقوق الإنسان أو استدماجها في البنية المفاهيمية للفقه والتشريع الإسلاميين ، ليس مرده إلى الفراغ القيمي في النصوص الدينية بقدر ما هو نتيجة منطقية لتفاعل العقلية العربية والإسلامية مع النص الديني في ضوء الظروف السياسية والاجتماعية التي طبعت كل مرحلة من حياة الأمة . فضلا عن التفاعل السلبي مع مكتسبات الثقافات الأجنبية وإنجازاتها بفعل التصادم الحضاري الذي ساد قرونا طويلة . إذ ظل المسلمون ، ولا يزالون يتصورون أن كل المستوردات الثقافية تؤثر سلبا على قيم المسلمين وعقيدتهم . لهذا نجدهم لا يفتأون يحذرون من الانفتاح على ثقافة الغرب وقيمه ، كما لا يترددون في اتهام الغرب بالتآمر على عقيدة المسلمين وحضارتهم . وبسبب هذا الفهم المنغلق ، سادت وتسود دعوات مناهضة الغرب ومحاربة أبناء الأمة الإسلامية الداعين إلى الحداثة ، أي الحاملين للثقافة العصرية بقيمها المتعلقة بالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان ، بحيث لا يتردد التيار المحافظ في قدح هذه الفئة المتنورة بـ " المتغربين" . أكيد أن المجتمعات الإسلامية أمامها أشواط طويلة تفصلها عن ثقافة العصر وقيمه الإنسانية ، إذ لا يكفي سن قوانين وإقامة مؤسسات دستورية ، بل لا بد من ثورة ثقافية ترج الذهنيات وتدك قلاع البدونة .
#سعيد_الكحل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإسلاميون يصرون على َبـْدوَنَـة الإسلام ومناهضة الحداثة - 2
-
الإسلاميون يصرون على بَدْوَنَة الإسلام ومناهضة الحداثة
-
الإسلاميون والدولة الديمقراطية
-
السعودية بين مطالب الإصلاحيين ومخالب الإرهابيين
-
ليس في الإسلام ما يحرم ولاية المرأة
-
ارتباط السياسة بالدين أصل الفتنة وعلّة دوامها
-
العنف ضد النساء ثقافة قبل أن يكون ممارسة
المزيد.....
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|