أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - موسم صيد الطرائد الشيعيّة















المزيد.....


موسم صيد الطرائد الشيعيّة


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 4108 - 2013 / 5 / 30 - 09:15
المحور: المجتمع المدني
    


بعض ملامح الواقع العراقي على ضوء المنهج الفرويدي وعلم الاجتماع
الجزء الرابع 4/10

حينما يتقاسم الإسلاميون سنة وشيعة، والقوميون كردا وعربا وتركمانا وآشوريين، والشيوعيون واللبراليون والمناطقيون والعشائريون مقاعد الحكم، تحت سلطة الحاكم الأميركي، تلك حكمة سياسية خاصة لا يفهمها أحد سواهم. ولكن أن يتخلى المسيحي عن أعياده، وأن يتبارى دعاة العلمانية والطائفيون على رفد المواكب الحسينية بالنائحين، تلك وقائع مثيرة، لها دلالاتها الثقافية الخاصة. على من يضحك الإسلاميون، الذين استدرجوا العلمانيين والملحدين والمغايرين دينيا الى أساليبهم؟ وعلى من يضحك العلمانيون والملحدون والحداثيون الذين استعاروا "ألهيات" القوى الطائفية للدعاية الحزبية الخاصة؟ إنهم يضحكون على بعضهم، ويضحكون على المواطن، لكي يسرقوا ويتحاصصوا صوته، بكل السبل. إنها وسيلة ترويجية منافية للأخلاق القويمة. هكذا يجيب المواطن العارف ببواطن الأمور. ولكن، ما أغباه من جواب، رغم صدقه! لو عدنا الى علم التحليل النفسي، ورجعنا الى الجزء المتعلق بتعديل الدوافع، نكتشف حقيقة قاسية تتجاوز حدود السياسة والانتخابات والمكاسب الحزبية والأخلاق القويمة. نكتشف أن الأمر يتجاوز حدود سرقة صوت المواطن. لأن سرقة أصوات المواطنين يمكن لها أن تتم بطرق وأساليب كثيرة لا حصر لها، شريفة أو غير شريفة. ولكن ما يحدث الآن، هو أن الأحزاب السياسية تقوم بسرقة ذات المواطن، مشاعره وعواطفه. أي تقوم بسرقة هويته الإنسانية وضميره، وتخطط لهذه السرقة في نشاطها اليومي. وهذا يعني أيضا أن الأحزاب لا تعدّل سلوك المواطن الفطري أو العاطفي الخاطئ ، ولا تعيد توجيهه باتجاه ايجابي. على العكس، إنها تقوم بالتماهي مع الحالة السوداوية الجمعية، ومع مشاعر التبكيت التاريخية، الزائفة والحقيقية. أي إنها تفيد من مشاعر الإيذاء والألم والموت وتصعيد النوازع الثأرية في مجتمع مريض، مضطرب، كسير. كما تقوم الأحزاب الطائفية أيضا باستنفار الدوافع والمثيرات واستحلابها لصالح المشروع الحزبي. هنا يبرز السؤال التربوي الوطني: أي مواطن نصنع ونحن نقوي في نفس الفرد مشاعر الخطيئة، ومشاعر التكفير الزائف عن ذنب لم يرتكبه؟ وأي حزب سياسي نصنع حينما نرتد الى اللحظة البدائية الغريزية كوسيلة سياسية، بدلا من أن نرتقي بالذات الوطنية ونحررها من استعبادها التاريخي ومن أسر غرائزها ومكبوتاتها العقائدية والعاطفية المتراكمة عبر العصور، ومن سلطة القطيع؟ يستطيع أي مبتدئ في علم النفس أن يدرك بيسر تام أن الكبت الديكتاتوري، الذي فرض على الطقوس الشيعيّة والتعازي، قاد الى ما هو إيجابي في مجال مقاومة الطغيان. وفي تجربة محمد باقر الصدر ومحمد صادق الصدر خير دليل على أن تحويل الاتجاهات في زمن القمع، تحت مشاعر الإحساس بالظلم والقسوة والكبت، قاد الى ظهور نزعة التحدي العلنية، الجماعية، للسلطة القامعة. وهذا يعني أن النظام الديكتاتوري القامع سجل نقطة انحراف في قمعه، تقل في درجة "سوئها" عن الضرر النائج من إطلاق المشاعر الغريزية وتعزيزها سلبيا، وتوجيهها توجيها يخالف غاياتها الدينية ويناقض جوهرها الرمزي النبيل. هنا لا يتفوق صدام على السياسيين الجدد. لأنّ كبت حرية التعبير والقمع الديني والمذهبي شر خالص، لا فضيلة لأحد فيه. لكن الجانب المكبوت، القيادة الروحية، التي عاصرت تلك الحقبة، قادت تلك المشاعر باتجاه آخر، معاد لجوهر الكبت ذاته. فغدا التنفيس الديني، والتنفيس عن مشاعر الذنب التاريخي أفعالا لمقاومة الديكتاتورية. من نقاوم الآن؟ من يقاوم العلمانيون بمواكبهم؟ من يقاوم الطائفيون بتجييش وعسكرة الشعائر الدينية وتحويل المجتمع الى ثكنة عزاء مطوقة بالحراس الأمنيين القادمين من كل مستنقع للجريمة العالمية؟ إن القوة الوحيدة التي تقاومها الأحزاب الطائفية والعرقية والمناطقية هي نزوع الذات الوطنية وتوقها الى الهدوء والصفاء الروحي والخير الاجتماعي، ونزوع المجتمع الى بلوغ مرتبة مقبولة من مراتب التقدم الحضاري والثقافي والطمأنينة النفسية والإشباع الحقيقي الإيجابي.
لقد جرى إحياء طقوس أربعينية الإمام الحسين لأول مرة، في ظل الاحتلال، بعد مرور أيام على الغزو. وقد حظيت الزيارة باهتمام قوات المارينز، الذين أكدوا في تصريحاتهم أنهم لم يدخلوا مرقد الإمامين، وإنما اكتفوا بالتواجد على بعد منهما. وأكد ضباط المارينز أن عدد الزائرين وصل الى مليوني زائر ، تمت زيارتهم بسلام بحماية الجيش الأميركي. وقد " لاحظ مراقبون سياسيون انه برغم ان المراسيم جرت بغياب عناصر من الشرطة والأمن إلا ان أية حوادث خطيرة لم تسجل"، ووصفت صحيفة المؤتمر، التي يرأس تحريرها حسن العلوي، الزيارة قائلة: " مرور مراسيم كربلاء بسلام يهيئ لتطبيق ديمقراطي سريع". وهو قول يجمع الاحتلال بالطائفية بالنفاق السياسي بالارتزاق في وحدة منهجية، أضحت الطابع المميز لثقافة حقبة مرحلة " سلطة التحالف المؤقتة". أما قائد القوات البريّة الأميركية في العراق، الجنرال ديفيد ماكيرنان، فقد أكد "أن قواته تراقب عن كثب العملاء الإيرانيين". ضابط من المارينز إعترف لصحيفة المؤتمر قائلا: " ان قواته ظلت بعيدة عن مرقد الإمامين. وان هذه المراسيم مرت بشكل طبيعي ولم يسبب الزائرون للمدينة أي متاعب، رغم رفع شعارات مناهضة للوجود الأميركي في العراق" (المؤتمر 25 نيسان 2003). كانت هذه الزيارة هي التعبير الأوّل عن الديمقراطية في تقدير الأميركان، وهي المؤشر الأكبر على إمكانية " تطبيق الديمقراطية في العراق بشكل سريع"، على رأي صحيفة المؤتمر، الناطقة بلسان المعارضة سابقا، وبلسان سياسيي الحكم في مرحلة الاحتلال. وعلى عكس مشروع مارشال، وجهود الإعمار الأسطورية في ألمانيا واليابان، عقب سقوط النازية، يبدو أن اهتمام الأميركيين ببناء الديموقراطية في العراق ارتبط منذ لحظاته الأولى بالفوضى والنهب والعنف وتصعيد المشاعر الطائفية. تلك الممارسات عُدّت جزءا من التمرين على ممارسة الحرية وشكل من أشكال تطبيق الديموقراطية!
بعد عشر سنوات من هذا التاريخ، وبعد سلسلة من تمارين ممارسة الحرية والديمقراطية "السريعة"، تصاعدت وتائر الديمقراطية الطائفية الى حدود خيالية. في الخبر الذي نشرته صحيفة (الصباح) الرسمية، عن الزيارة الأربعينية، في 7 كانون الثاني 2012 ، وردت الأرقام التالية: دخول 5400 موكب حسيني، انتشار 32 ألف عسكري (35 ألف عسكري في رواية يوم 12 كانون ثاني)، تفتيش ومراقبة طرقات ست محافظات، نشر ألف شرطية، وخمسين فرقة صحية. تعطيل الدوام الرسمي يومي الأربعاء والخميس في واسط، التي قامت بتهيئة 700 سيارة لنقل الزائرين. يقوم عمال النظافة برفع ثلاثة ملايين قنينة فارغة يوميا، ومئات الأطنان من بقايا الأطعمة والأوساخ، تستخدم البلدية لهذا الغرض ألفين من العمال الثابتين والف وتسعمئة من الموقتين، تصحبهم مئة آليّة ومئة وثمانون ساحبة".
"كما كشفت وزارة الصحة انها خصصت 581 سيارة اسعاف، و 511 مفرزة طبية تنتشر على طول طريق سير الزائرين، في حين بلغ عدد المستشفيات التي تتضمنها الخطة 111 مستشفى."
وبعد اختتام الزيارة بيوم واحد ظهرت أرقام جديدة أكثر تفصيلية تؤكد نجاح الزيارة بالأرقام أيضا. فقد ذكرت صحيفة الصباح يوم 16 كانون الثاني أن عدد الأجهزة الأمنية في كربلاء وحدها بلغ 32 ألف عنصر، وأن 22 ألف شرطي ساهم في حفظ الأمن، عدا الأجهزة الأمنية في المحافظات الأخرى. أما عدد الزائرين فقد ارتفع خلال يومين من مليوني زائر الى 15 مليون زائر، بناء على ما أوردته صحيفة الصباح في موضوعها المعنون " كربلاء والمحافظات المجاورة تعلن نجاح الزيارة". لكن محافظ كربلاء، المهندس آمال الدين الهر، أكد في الصحيفة ذاتها أن " زيارة الاربعينية نجحت وحققت أرقاما كبيرة مقارنة بالسنوات السابقة التي أعقبت سقوط النظام الدكتاتوري السابق، اذ شارك فيها أكثر من 16 مليون زائر عراقي و500 ألف زائر أجنبي من 35 جنسية".
في 12 كانون الثاني، نشر موقع أخبار العراق، نقلا عن قائد عمليات الفرات الأوسط، أن عدد الزائرين " يصل الى 17 مليون زائر" . أي بزيادة قدرها 15 مليون زائر قياسا بأرقام يوم أمس الأول. وبزيادة قدرها مليون على أرقام الخبر نفسه في مقدمة الموضوع. حمى الأرقام هذه تؤكد أن حرب الأرقام هي اللغة السائدة والمتداولة سياسيا في هذه الحقبة. وهي حرب، إن صحت، فإنها تعني أن 96 بالمئة من الشيعة تركوا مساكنهم وتوجهوا الى كربلاء. وإذا لم تصح فهي تعني أن المسؤولين الحكوميين يتعاملون مع مواطنهم الشيعي باعتباره رقما وهميا، مبتذلا، وليس إنسانا حقيقيا.
من خلال هذه الاستعراضات الرقمية والبشرية، التي تجري في ظل ظروف سياسية معقدة وشديدة الاضطراب: خروج الجسم الرئيسي للقوات المحتلة، تصاعد الخلاف السياسي الطائفي، عودة موجات الإرهاب، تصاعد الضغط الإقليمي، يتبين لنا أن حرب السياسة تستخدم الشعائر الدينية والرموز المقدسة شعبيا لغرض بث إشارات القوة والهيمنة والتماسك. وأنها تتخذ من الأرقام وسيلة للوحدة في مواجهة خصومها، ساعية من خلالها الى التغلب على أخطار حزبية وسياسية محتملة، تخصها هي وحدها، باعتبارها قوة سياسية حاكمة. هذا الأمر يؤكد على أن القوى السياسية الطائفية لم تكتف بتسييس الطائفة انتخابيا وسلطويا حسب، بل اندفعت أيضا الى ما هو أبعد من هذا، حينما بدأت تستثمر مشاعر وموارد وطاقات المجتمع لغرض تأكيد ذاتها السياسية، من طريق تصعيد مظاهر الطقوس الدينية وتوجيهها عاطفيا نحو أهداف يراد منها تحقيق غايات سياسية مباشرة، بدلا من توجيهها لمصلحة البناء الاجتماعي، ولغرض تحسين أوجه الخدمات والانتاج الاجتماعي بشكل مثمر، وبدلا من ايجاد مخارج سياسية حقيقية لأزماتها الداخلية ولخلافاتها مع خصومها. وكل هذا يعني أن المواطنة الميسانيّة الأميّة تزحف مئات الكيلومترات، باسم الحسين الشهيد، ولكن لصالح مشروع حزبي، من دون أن تعلم، أن جهة ما تنظم عواطفها الصادقة والبريئة لأغراض خاصة، ليست بريئة على الإطلاق. وهذا ما نسميه بالتصعيد السلبي للدوافع وسرقة عواطف المواطنين. إن السياسيين يحوّلون الدين الى ألهية ضارة، ويصنعون منه أفيونا شعبيا بالمعنى الحقيقي لا المجازي. هذه الممارسات تشبه سياسيا تجييش مشاعر الناس لتأييد الشعب الفلسطيني، في زمن الديكتاتور، الذي لم يتقدم شبرا واحدا باتجاه فلسطين، بل قاد جيوشه المليونية باتجاهات آخرى، سلبت من القضية الفلسطينية مركزيتها القومية.
إن قراءة بيانات الجهات الحكومية عن الزيارة المليونية، وتمعن إشاراتها الطائفية الواضحة، تبين لنا أن العواطف النبيلة قد تستخدم استخداما عدوانيا موجها، من دون أن يعي المخاطبون ذلك. لا أحد يعرف عدد ضحايا الإرهاب الذي ضرب مسيرة التوبة هذه. إلا أن حصيلة تفجيرات البصرة وحدها، في 14 كانون الثاني، بلغت حوالي مئتين بين قتيل وجريح (الرقم الرسمي هو استشهاد 53 شخصا وإصابة 137 آخرين). وهذا يعني أن معركة تقديم الشهداء من جهة، وحمى إرسال القتلة من جهة ثانية، في أعلى درجات اشتعالها.
في الأيام ذاتها أورد موقع كتابات، في الأول من شياط 2012 من دون أن يورد اسم المصدر، أن إحصاء حكوميا صدر اليوم أظهر " أن عدد المدنيين الذين قتلوا في العنف بالعراق ارتفع قليلا خلال الشهر الماضي رغم سلسلة هجمات فتاكة أعقبت أسوأ أزمة سياسية في العراق خلال عام .. فيما أشار إحصاء آخر إلى أن أكثر من 450 شخصا قتلوا وأصيب قرابة 1200 شخص منذ بدأت الأزمة.
وتختلف الأرقام الحكومية بشكل حاد عن إحصاءات اخرى غير رسمية تظهر أن أكثر من 350 شخصا قتلوا في كانون الثاني بينهم نحو 290 مدنيا.
وقالت الوزارات إن 151 مدنيا و86 شرطيا و85 من جنود الجيش أصيبوا في العنف الشهر الماضي. وهي ارقام أقل أيضا بكثير من إحصاءات رويترز التي أظهرت إصابة أكثر من 800 شخص. " وعلى الرغم من اضطراب هذه الاحصاءات، إلا أنها تشير جميعها الى أمر واحد هو ارتفاع معدلات العنف بشكل ملحوظ."
وفي حمى التصعيد هذه تذكر أهالي ذي قار قتلاهم وجرحاهم، الذين سقطوا ضحايا تفجير البطحاء يوم الخميس، الخامس من كانون الثاني عام 2009، فخرجوا في تظاهرات حاشدة يطالبون بمحاكمة القتلة في ذي قار وتنفيذ حكم الإعدام بالقتلة في موقع الحدث. وأكد المتظاهرون لوسائل الإعلام أن منفذي الحدث معتقلون لدى الأجهزة الأمنية، ويخشى ذوو الضحايا نقل محاكمتهم الى "أماكن آخرى"، لكي يفلتوا من العقاب. أما أجهزة الأمن فلم تترك فرصة التصعيد الشعبي (التذكر المفاجئ) من دون أن تضع بصماتها عليه. ففي بيان يسجل انتصارات القوات الأمنية على الإرهاب، نشرته صحيفة الصباح في 30-1-2012 ، زفت وزارة الداخلية (ليس الناطق العسكري كالعادة) للشعب النبأ الإضافي الآتي:
" اعتقلت قوات امنية امس 22 مطلوباً من بينهم قيادي في تنظيم القاعدة مسؤول عن خمسة تنظيمات مسلحة في خمس محافظات، اعترف بمسؤوليته عن تفجير البطحاء في ذي قار عام 2009 ". ورد هذا الخبر بعد مرور أربع سنوات على وقوع تفجير البطحاء وعلى اعتقال منفذي العملية كلهم، كما يدعي المتظاهرون. ولكن، عند التمعن في الخبر جيدا، نجد أنه لم يصدر عبثا، ولم يكن مجرد استعراض للانتصارات. بل كان رسالة محددة، تستخدم الإرهاب في الحرب النفسية، التي تشن على الوعي وعلى العلاقات المجتمعية. فقد تضمن الخبر تأكيدا وتوضيحا تفصيليا، لم تعتد البيانات الحكومية على ذكره، نظرا لانتفاء وجود أهمية إخبارية وأمنية فيه. لكنه ظهر هنا بقوة القانون النفسي الدعائي ذاته، الذي تم فيه تجييش مشاعر المتظاهرين. وهذا دليل جدي على أن الإرهاب وقانون العدالة الحكومي، معا، يدا بيد، يتحركان على أسس طائفية ومناطقية، ويداران سياسيا من قبل هيئة مركزية عليا، منظمة لحركة العنف المجتمعي. "فيما القي القبض على احدهم قبيل محاولته الهرب من بغداد الى محافظة اخرى". هذا التفصيل "محافظة أخرى"، المحشور قسرا في ثنايا الخبر الأمني، المتعلق بحادثة البطحاء، كتبته يد خبيرة في مجال صناعة الإرهاب النفسي، وفي مجال تصعيد الدوافع العدوانية، واستخدام أجهزة الحكم والدعاية لغرض إثارة مشاعر العنف والحقد والانتقام وإدامة تفعيلها، وبدرجة أساسية لغرض رسم الخريطة الجغرافية والطائفية لتقسيم المجتمع العراقي وتفكيكه داخليا.
في السابع من شباط نشرت الصباح استكمالا توثيقيا لخبر "الخشية من هروب الارهابي الى محافطة آخرى"، قائلة إن الإرهابي المعتقل حسين شاطي من سكنة الأعظمية، وكان إمام مسجد وعضو في جماعة التكفير" (الصباح 7-2-2012). هنا يستكمل الخبر فائدته المذهبية بصورة ناجزة. الإرهابي من طائفة معينة، يريد الانتقال الى منطقة طائفية معادية. وهذا هو عين ما ذهب اليه متظاهرو ذي قار، المغرر بهم. ففي مصادفة قدرية عجيبة، قـُبض على هذا الإرهابي، في الوقت الملائم تماما، في الأيام التي تقرر فيها عقد جلسة محاكمة المعتقلين السابقين المشاركين في التفجير. كان موعد المحكمة، وموعد خروج الاحتجاجات الشعبية المطالبة بعقد المحكمة، يتزامن مع أجواء الزيارة الحسينية أيضا. فباسم الحسين يتم تجميع سلسلة من الأقدار الشعبية والقضائية والأمنية وربطها ببعض. لقد عقدت المحكمة في الناصرية ولم تنقل الى مكان آخر، بعكس ما تخوف منه أهالي ذي قار. كما أن الإرهابي الأساسي وقع في قبضة العدالة، قبل أن يتمكن من الهرب الى "محافظة أخرى". إن ربط هذه الأحداث الغرائبية ببعضها مذهبيا وعسكريا وقضائيا وسياسيا، دليل جدّيّ على أن الحرب الطائفية أضحت حرب كتل سياسية حاكمة، وأنها تخطط وتدار وتنفذ، لدى الأطراف جميعها، من خلال جهاز أعلى، مركزي، موجود في قمة الكيان السياسي، الذي بناه المحتلون: دولة العراق الحر. لقد غدا هذا الجهاز، بأطرافه المتصارعة، المشغل الكبير، الذي يتم فيه إنتاج الإرهاب (العنف)، والإرهاب (العنف) المضاد: القتل، الفساد، الصفقات الداخلية والخارجية، ثم الغطاء التشريعي والقانوني المجوّز لتلك الحرب. أما الشعب فيترك له حقين دستوريين وحيدين: الأول، التمتع بلذة (سعادة) النجاة من موت محتمل. والثاني، الانهمام، بطريقة ديموقراطية وعلنية وسريعة، بحرية مناقشة مشاهد نجاته من الموت، المبثوثة في نشرات الأخبار كافة، باعتبارها معجزة حكومية.
لنتأمل مجرى الحرب الطائفية من طريق رصد الصياغات اللغوية وطريقة حشو المعلومات الملغمة بالإشارات الخاصة. ربما يوحي اسم المتهم الأول حسين الشاطي، بأنه شيعي. يتعزز هذا الانطباع حينما نعلم أنه أمام مسجد في منطقة الناصرية الشيعية. لكن بيانات الأجهزة الأمنية، التي تواترت بشكل متتابع ، وواكبت عجلة التصعيد العنفي، التي بلغت ذروتها عند الزيارة المليونية أرادت أن ترسم صورة مخططة مسبقا بعناية تامة. وهي صورة جرى تقطيرها قطرة قطرة إبان فترة الزيارة، بدءا من خبر مبهم، وصولا الى إشهار الأسماء والعناوين. وقد شرعت بيانات السلطة بالتركيز على الجانب الطائفي من الحدث، باعتباره الاتجاه المسيّر للأحداث الرئيسية، بما فيها أسماء القتلة ورتبهم وأدوارهم وحجم اشتراكهم في القتل. أما اشتراك بعض العناصر الشيعية في الحدث، ومساعدة القتلة "أبناء المحافظات الأخرى" على تنفيذ جريمتهم، فقد تم تفسيره على أنه لم يكن سوى تغرير وشراء ذمم. أي اصطياد من قبل طائفة معينة لضحايا من الشيعة في هيئة منفذين ومساعدين، يقومون بقتل أهلهم، خوفا أو طمعا. لقد جرت عملية بناء فني لشخصية حسين الشاطبي خطوة خطوة، حتى تم استيفاء عناصرها الجرمية والطائفية وربطها بقوة بموضوع الزيارة. فقد أثيرت قضية المحاكمة في وقت الزيارة، وأثيرت مظاهرات الاحتجاج على مكان إجراء المحاكمة في الوقت ذاته، ووقع المتهم الأوّل وأدرج فورا في القضية في الوقت المحدد. لم تكن المصادفات الزمنية العجيبة وحدها مصدر الإثارة في الحدث، بل كان التوجيه الطائفي هو الأبرز. فقد تم بطريقة حاذقة وماهرة، صنعها عقل خبير في فن التصعيد والشحن العاطفي. لقد بني هذا التوجية بنباهة وفطنة عاليتين، تدلان على أن الاحتراف الإعلامي المتخصص بالشحن العدواني الطائفي بلغ أعلى درجات رقيّه الفني. فمن أجل التخلص من الإشارة الضارة، المضللة، في اسم المتهم: حسين شاطي، ابن الناصرية الشيعية، تم تطعيم الأخبار، على دفعات، بالإشارات التالية: عضو في جماعة تكفيرية إرهابية هي حركة انصار الإسلام، يسكن الأعظمية، في بيت كان مقرا لحزب البعث، استعداده للهروب الى محافظة أخرى، محاكمته في الناصرية خشية نقل المحاكمة الى مكان آخر يفلت فيه من العقاب، سعيه الى التوجه من طريق معارف الى منفذ حدودي قرب الأنبار، سبق له أن جلب انتحاريا سوريّ اللهجة .
الإشارات السابقة جميعها لا تعني سوى أمر واحد: إن متلقي الأخبار يقف أمام فنان خفي وماهر من فناني تصعيد الدوافع العدوانية، ومن قادة الحرب الإعلامية. وهو فنان متمرس ذو دربة عالية، اكتسب مهاراته الكبيرة من حروب سابقة، كان يخوضها، بكل تأكيد، تحت مسميّات أخرى ولمصلحة سيد آخر، في زمن آخر. إن الذين يقيسون رقي الإعلام بعدد الصحف والمراسلين، لا يعرفون أن خلف كل خبر توجد حقيقة مضمونية، أكبر من الرقم. وأن المضامين، لا الأرقام، تشكل محتوى وجوهر الواقع العقلي والثقافي، الذي يصوغ الإعلام، ويعكس مفهوم الحرية والعدالة في المجتمع.

(جزء من الفصل الرابع- الباب الأول من كتاب: الثقافة العراقية تحت ظلال الاحتلال)



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مواكب عزاء لحماية الإثم السياسي!
- الطائفيّة أفيون الشعوب الإسلاميّة! (خطر احتكار الحقيقة دينيّ ...
- بعض ملامح الواقع العراقي على ضوء المنهج الفرويدي وعلم الاجتم ...
- ثورة عراقية في فن التزوير
- لقد ابتلع السنة الطُعم الشيعي، وابتلع اليسار الخيبة والتشرذم ...
- الثورة والكرامة بين الفلسفة والأخلاق والسياسة
- شاعر لكل البشر
- عدن: مرثية البحث عن الجنة!
- دور الاحتلال في رسم صورة الحاكم العراقي
- من يرسم حدود العراق ج2
- من يرسم حدود العراق؟
- باربي ربّانية!
- الشروط الأخلاقية للحرية
- الى مظفر النوّاب آخر الصعاليك
- المثقف العراقي المستقل تحت ظلال الاحتلال
- للّغة ثوراتها وثوّارها أيضا
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء الثامن)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء السابع)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال(الجزء السادس)
- المثقف الشيوعي تحت ظلال الاحتلال (الجزء الخامس)


المزيد.....




- ماذا يعني أمر اعتقال نتنياهو وجالانت ومن المخاطبون بالتنفيذ ...
- أول تعليق من أمريكا على إصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغال ...
- الحكومة العراقية: إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتق ...
- العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا رسميا بعد مذكرة المحكمة ال ...
- البيت الابيض يعلن رسميا رفضه قرار الجنائية الدولية باعتقال ن ...
- اعلام غربي: قرار اعتقال نتنياهو وغالانت زلزال عالمي!
- البيت الأبيض للحرة: نرفض بشكل قاطع أوامر اعتقال نتانياهو وغا ...
- جوزيب بوريل يعلق على قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنيا ...
- عاجل| الجيش الإسرائيلي يتحدث عن مخاوف جدية من أوامر اعتقال س ...
- حماس عن مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت: سابقة تاريخية مهمة


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - سلام عبود - موسم صيد الطرائد الشيعيّة