حسن عجمي
الحوار المتمدن-العدد: 4100 - 2013 / 5 / 22 - 17:28
المحور:
حقوق الانسان
أمسى التجهيل فلسفة عالمنا العربي و الإسلامي لأن التجهيل في عالمنا اليوم له مبادىء و عقائد عامة و تفصيلية. من مبادىء و عقائد التجهيل العربي و الإسلامي مبدأ أن الجهل فضيلة و أن تجهل أفضل من أن تعلم لأن من خلال جهلنا فقط سيتم قبولنا من قبل مجتمعاتنا و مؤسساته. لقد طورنا التجهيل فأصبح التجهيل لدينا سوبر تجهيل. و السبب الأساس وراء سيطرة التجهيل و السوبر تجهيل هو أنه فقط من خلال تجهيل أنفسنا و تجهيل الآخرين سنتمكن من أن نحيا في مجتمعاتنا اليوم لأنها مجتمعات محكومة بالديكتاتوريات و الطوائف و المذاهب التي لا تنتصر سوى بفضل آليات التجهيل.
ثمة فرق بين التجهيل و السوبر تجهيل. بينما التجهيل هو حجب المعلومات عن الناس , السوبر تجهيل هو تقديم معلومات كاذبة على أنها صادقة و اقناع الناس بصدقها. نظامنا العربي السائد اجتماعياً و اقتصادياً و سياسياً يمارس التجهيل و السوبر تجهيل معاً. فهو يمارس التجهيل من خلال حجب المعلومات عن الناس كي يبقى النظام الديكتاتوري العربي محتكراً للمعلومات ما يساهم بقوة في استمرارية حكم الديكتاتورية للعالم العربي. و نظامنا العربي يطور التجهيل أيضاً فيحوّله إلى سوبر تجهيل من خلال تقديم المعلومات الكاذبة على أنها صادقة و اقناع الناس بصدقها. و هو يفعل ذلك لكي يطور تخلف العالم العربي ما يجعله مهيمناً بشكل كلي على دولنا و مجتمعاتنا. تولد الديكتاتورية باغتيال العقل و تنمو في تشويه المفاهيم و المعارف و الإنجازات الإنسانية. عالمنا العربي يحيا اليوم في عصر السوبر تجهيل لأن معظمنا يساهم في تطوير الجهل و التخلف و التعصب الطائفي و المذهبي. و لقد تحوّلنا إلى سوبر جهلاء نجهّل أنفسنا و الآخرين لأننا مواطنو النظام العربي الديكتاتوري و تلاميذه.
للسوبر تجهيل آليات عدة منها آلية تشويه الأفكار و النظريات و المنجزات الحضارية و تحويلها إلى أدوات قمع و اضطهاد. فمثلا ً , معظم العرب يظنون أن الديمقراطية هي حكم الأكثرية بينما الحقيقة هي أن الديمقراطية هي حكم الحقوق الإنسانية كحق الفرد في أن يكون حراً. أما حكم الأكثرية فهو ديكتاتورية الأكثرية لأنها تلغي الأقليات و تقضي على مصالحهم , و بذلك حكم الأكثرية هو نقيض الديمقراطية التي تحافظ على حقوق و مصالح الأقليات. و الأكثرية قد تتفق على خطأ أو ضلالة, و بذلك حكمها ليس حكماً ديمقراطياً. لكن نظامنا العربي يقدِّم الديمقراطية على أنها حكم الأكثرية رغم أن حكم الأكثرية نقيض الديمقراطية. هكذا يمارس النظام المعرفي العربي السوبر تجهيل من خلال تقديم معلومات كاذبة على أنها صادقة و اقناع الآخرين بصدقها. هنا شوّه النظام المعرفي العربي مفهوم الديمقراطية و حوّل نظرية الديمقراطية إلى نظرية مناقضة للديمقراطية. و بذلك تمكن النظام الفكري العربي المهيمن من قتل أروع منجزات الحضارة ألا و هي الديمقراطية و استغلال اسمها لإغتيال عقولنا و حريتنا و حقوقنا. هكذا بدلا ً من أن تحررنا الديمقراطية أصبحنا سجناءها.
من منطلق آلية تشويه الفكر الإنساني و الحضارة الإنسانية , نظن عادة ً أن الحرية كامنة في حرية التصرف و التفكير و حرية الانتخاب. لكن الحرية الحقيقية قائمة في امتلاك القدر الأكبر من المعلومات لأن من خلال امتلاك النسبة الأكبر من المعلومات سيتمكن الفرد من امتلاك حرية أكبر في تقييم معلوماته ما يحتم نشوء حرية أوسع في اختيار معارفه فتصرفاته على ضوء ما يختار من معارف. فالإنسان الذي يملك معلومات قليلة يتم سجنه ضمن ما يعلم من معلومات و بذلك تتقيد حريته فيخسر الحرية الأوسع في التفكير و التصرف. أما مَن يملك معلومات أكثر فيتحرر بفضل كثرة معلوماته التي تسمح له في التصرف بحرية أكبر على أساس الممكنات الواقعية و النظرية التي تقدمها كثرة المعلومات. من هنا , الحرية الحقة كامنة في امتلاك أكثر نسبة معلومات ممكنة. لكننا اليوم نشوّه الحرية من جراء سجنها في حرية التنقل و التصرف الجسدي و حرية انتخاب الزعماء أو ممثلي الشعب بينما الحرية الفعلية تتشكّل من امتلاك أعلى نسبة من المعلومات. في بعض من بلادنا العربية و الإسلامية لدينا حرية التصرف و التفكير و حق الانتخاب لكننا لم نتمكن من تحقيق الديمقراطية في بلداننا لأن الحرية الحقة تكمن في اكتساب أعلى نسبة من المعلومات. و لم تنجح وسائل التواصل المعاصرة كالتلفزيونات الفضائية و الإنترنت من جعلنا نكتسب القدر الأكبر من المعلومات لأن تلك الوسائل التواصلية مجرد أدوات قد تُستخدَم لنشر العلم و المعلومات و قد يتم استخدامها لنشر الجهل و التجهيل. و لقد أجدنا نحن العرب و المسلمين في استخدامها لرفع رايات الجهل و التجهيل لأن معظم تلك الوسائل التواصلية هي في أيدي الأنظمة الديكتاتورية و الطوائف و المذاهب المتصارعة. فالديكتاتورية لا تستطيع سوى نشر الجهل و التجهيل لكي تبقى في الحكم كما أن أي مذهب ديني أو عقائدي في صراع مع المذاهب الأخرى لا يستطيع سوى أن ينشر الجهل و التجهيل لكي ينتصر على المذاهب الأخرى علماً بأنه لا يوجد معيار معرفي يمكننا من الحكم على أية عقيدة هي الأفضل أو الأصدق و إلا لتمكنت البشرية من حل خلافاتها العقائدية.
بالإضافة إلى ذلك , نشوّه مفهوم المساواة حين نعتبرها مجرد مساواة أمام القانون بينما المساواة الحقة هي المساواة في امتلاك المعلومات. فحين يتساوى الأفراد فيما يملكون من معلومات يتساوون في قدرتهم على الاختيار بحرية فتتحقق الحقوق الإنسانية كحق الفرد في أن يكون حراً و حقه في أن يُعامَل كما يُعامَل الآخرون. هذا لأن الإنسان يفكر و يتصرف على ضوء ما يملك من معلومات , و لذا إذا تساوى الناس فيما يملكون من معلومات يتساوون في قدرتهم على التفكير فالاختيار فالتصرف و بذلك يتحررون من خلال قدراتهم فتتحقق الحرية الحقة بشكل متساو ٍ بين الأفراد. و متى تساوى الناس فيما يكتسبون من معلومات سيمتلكون حينئذٍ المستوى الثقافي فالاجتماعي نفسه ما يؤدي على الأرجح إلى معاملتهم بالتساوي. هكذا المساواة في امتلاك المعلومات أساس تحقيق الحقوق الإنسانية كحق أن يكون المواطن حراً و أن يُعامَل بمساواة مع الآخرين. لكن الديمقراطية هي حكم الحقوق الإنسانية , و بذلك المساواة فيما نملك من معلومات أساس الديمقراطية و أصلها و جوهرها. لكننا اليوم في عالمنا العربي و الإسلامي نشوّه مبدأ المساواة و نختزله إلى مجرد مساواة بين الأفراد أمام القانون فقط بينما المساواة الحقة هي المساواة في امتلاك القدر الأكبر من المعلومات. فعندما نملك النسبة الأكبر من المعلومات و نتساوى في امتلاكها نغدو متساوين فكرياً فاجتماعياً فاقتصادياً. من هنا , الديمقراطية الحقة تكمن في التوزيع العادل و المكثف للمعلومات. لكننا اليوم نرفض المعلومات لأننا نرفض العلم و المنطق و نتعصب فقط ليقينياتنا المُسبَقة و لذا خسرنا الديمقراطية و ما تتضمن من حقوق إنسانية و خسرنا الإنسان ذاته لأن الإنسان مجموعة حقوق كالحق في أن نكون أحراراً و متساوين.
من جهة أخرى , إلغاء فكر الآخرين آلية أساسية من آليات السوبر تجهيل. و مضمون هذه الآلية هو التالي : ثمة نظرية أو عقيدة واحدة صادقة بينما النظريات و العقائد الأخرى كافة كاذبة. هذا مبدأ جوهري من مبادىء فلسفة السوبر تجهيل ؛ فبمجرد أن نعتبر أنه توجد نظرية أو عقيدة واحدة صادقة دون سواها و نصر على أن النظريات و العقائد الأخرى كاذبة سنرفض لا محالة كل أفكار و نظريات و عقائد الآخرين المختلفة عما نعتقد ما يؤدي إلى رفض الآخرين المختلفين عنا. لكن الديمقراطية مبنية على قبول الآخر المختلف. و بذلك من خلال الإصرار على صدق نموذج فكري واحد و تكذيب النماذج الفكرية الأخرى نرفض الديمقراطية و ما تتضمن من حريات و حقوق إنسانية. هكذا النظام المعرفي القمعي السائد في عالمنا العربي- الإسلامي أصل و مصدر رفضنا للديمقراطية و للحقوق الإنسانية. فعندما نعتبر أنه يوجد نموذج فكري أو عقائدي واحد هو الصادق دون سواه سنتعصب للنموذج الفكري الذي نعتبره صادقاً و نلغي معتقدات الآخرين فإنسانيتهم. و هذا أساس العنصرية و الطائفية و المذهبية. من هنا , الديمقراطية الفكرية التي تقبل كل الأفكار و النظريات و العقائد و تؤكد على أنها كلها متساوية في قيمتها و مقبوليتها هي وحدها الكفيلة بأن تقضي على التعصب بكافة تجسداته العنصرية و الطائفية و المذهبية. و متى نعتقد بأنه توجد نظرية أو عقيدة واحدة فقط هي الصادقة و هي على الأرجح ما نعتقد بصدقها سنوقف عملية البحث الفكري لأننا نظن أننا نمتلك النظرية أو العقيدة الصادقة و لذا لا داع ٍ للبحث الفكري عما قد يكون صادقاً. و بذلك اعتقادنا بصدق نظرية واحدة دون سواها يوقف عملية التفكير فيقضي على إنسانية الإنسان الكامنة في القدرة على التفكير المستمر.
كل هذا يرينا أن السوبر تجهيل المهيمن على مجتمعاتنا العربية و الإسلامية لا يلغي الحرية و المساواة و الديمقراطية فقط بل يغتال أيضاً إنسانية الإنسان من خلال إلغاء قدرة الإنسان على التفكير. فالعلم و المعلومات أساس الديمقراطية كما أن الديمقراطية هي المُطوِّر الأساسي للعلوم و المعلومات لأن الديمقراطية ليست سوى إنتاج المعلومات و توزيعها العادل بين المواطنين. فمن خلال صياغة المعلومات و توزيعها العادل بين الناس تتحقق الحريات و المساواة و المقدرة على التفكير و الإنتاج الحضاري. العلم و ما يتضمن من معلومات عملية تصحيح مستمرة لِما نعتقد تماماً كما أن الديمقراطية عملية تصحيح مستمرة لِكيفية الحكم , و لذا يشكّل كل من العلم و الديمقراطية حقلا ً وجودياً واحداً لا يتجزأ. من هنا , استغلالنا للعلم من أجل تجهيل أنفسنا و الآخرين , و ذلك من خلال تشويه المعلومات أو إلغائها, ليس سوى عملية رفض للديمقراطية و لإنسانية الإنسان.
#حسن_عجمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟