face="Arabic Transparent" size=4>
فى
المجتمعات البدائية والتى تتميز بالإنتاج الجماعى و الإستهلاك الجماعى حسب حاجة
الأفراد البيولوجية للطعام والملبس والمأوى والأمان والجنس ،وحيث تختفى تماما
الملكية الخاصة إلا لمواد الاستهلاك المباشر ، تختفى تماما الكثير من الشرور
الأخلاقية والسلوكية التى تعانى منها المجتمعات التى تعرف الملكية الخاصة ومن ثم
الطبقات ، فالملكية الخاصة هى إبليس المتجسد على الأرض وهى التى توسوس للإنسان
بالشر والخطيئة ، وهى بلا أدنى شك الدافع الأساسى للسرقة ومعظم الجرائم
والخطايا التى يكون هدفها الحصول على ما فى حيازة الغير من حقوق و أشياء ، فالملكية
الخاصة هى الآله الأقوى والصنم الأعظم فى المجتمعات الطبقية ،ولعله شىء بديهى أن
نستنتج أنه باختفاء الملكية الخاصة ستختفى الكثير من الجرائم والخطايا ، وسيتاح
للإنسان إشباع حاجاته المادية والروحية من خلال العمل الجماعى المتحرر من القهر
والعبودية والاستغلال . عندما يتحول العمل من مجرد وسيلة لإشباع الحاجات
الاستهلاكية إلى وسيلة ضرورية لاثبات الذات وواجب اجتماعى تملية ضرورة الاشباع
الجماعى للحاجات المشتركة ،فى هذه الحالة لن يكون هناك أى مجال للانحراف الأخلاقى
فى هذا المجال.
وعلاقات الملكية
الخاصة لا تنصرف فحسب على استهلاك السلع والثروة ولكنها تشمل العلاقات الإنسانية
،وذلك بتحول الإنسان نفسه لسلعة فى السوق معبد تلك الألهة ، بغرض إشباع احتياجات
آخر ، و تتمتع السلعة الإنسانية بكل قيم السلع ، بقيمة تبادلية عند تبادلها مع سلع
أخرى ،وقيمة استعمالية لدى من يقدر على شراءها وحيازتها ، فكل قدرات الإنسان
الجسدية والعقلية تتحول لقيم تبادلية واستعمالية فى السوق ، حتى أشد العلاقات
إنسانية وهى العلاقات الأسرية لا تربطها سوى تلك المعايير السلعية فى ظل الملكية
الخاصة ،فالأسرة تتحول مع نمط الملكية الخاصة لمجرد مؤسسة اقتصادية لا يجمع أفرادها
إلا إشباع الرغبات الاستهلاكية لأفرادها ،ومن هنا يتولد الشذوذ والانحراف والخيانة
،وتتولد الكراهية و الأحقاد بين أفراد الأسرة الواحدة مهما قلنا لهم أحبوا بعضكم
البعض ،هذه هى العلاقات الأسرية فى المجتمعات الطبقية ،القائمة على التملك
والاستحواز الفردى على الثروات ،ويمتد هذا ليتحول للشكل السائد والمهيمن
للعلاقة بين البشر ،أما الأسرة فى المجتمع اللاطبقى فتقوم على أساس المحبة المجردة
من التملك والاستحواز الاستهلاكى ،وتقوم على الود الإنسانى بين أفرادها المجرد من
التسليع ، و يكون هدفها هو إشباع الحاجات الإنسانية لأفرادها ، و تربية أجيال جديدة
للبشرية فى جو ملىء بالحب والتضامن بعيدا عن حسابات المكسب والخسارة ، والاستهلاك
والتملك والقهر.
يؤثر فى سلوك
الإنسان إشباع حاجاته المختلفة ، والتى تنقسم إلى حاجات بيولوجية ترتبط باستمراره
فى الحياة من مأكل ومشرب ومسكن وملبس وذلك ككائن حى ، والنوع الآخر هو الحاجات
النفسية المرتبطة عموما بحاجته للحياة فى مجتمع بشرى ، وهى حاجة لا تقل أهمية عن
الحاجات البيولوجية ،إن لم تزيد عنها فى الأهمية ، وخصوصا أن الحاجات البيولوجية لا
تلبى إلا فى إطار من العلاقات الاجتماعية التى تكون جوهر وجود المجتمع البشرى..و فى
المجتمعات اللاطبقية يرتبط النوعان سالفا الذكر ارتباطا حيويا، فلا يمكن تحقيق
الحاجات البيولوجية الاستهلاكية دون الحاجات الاجتماعية غير الاستهلاكية والعكس
صحيح ، ويقع التناقض بين هذين النوعين من الحاجات في المجتمعات الطبقية القائمة علي
الملكية الخاصة ، ومن هذا التناقض تتولد أزمة الإنسان النفسية وإحساسه بالاغتراب عن
نفسه و و عن مجتمعه ، ويتحول لإنسان مريض فاقد لما يميزه كإنسان حتي لو اعتبره
البعض غاية في الصحة والعافية ، أما في المجتمعات اللاطبقيه فلا تناقض بين نوعي
الحاجة البشرية ومن ثم لا أزمات روحية.
وفي الحقيقة فإن طبيعة المجتمع ونظامه الا قتصادى الاجتماعي هي التي تغلب سيادة أحد
نمطين من الحياة ، نمط تلبية الحاجات الفردية الاستهلاكيه (نمط التملك) أو نمط
تلبيه الحاجات الجماعية غير الاستهلاكية (نمط إثبات الذات ) وينقسم البشر إلي
غالبية ساحقة تتأثر غاية التأثر بالنظام الذى تعيشه وهم البشرالعاديين الذين
يمارسون النمطين بدرجات متفاوته ثم قلة تحكمها غرائزها البيولوجيه فحسب نتيجه
تاثرهم بالبيئه التي نشأؤا فيها وخبراتهم التي حصلوها عبر حياتهم والتي تراكمت
لديهم حتى احدثت هذا الانحراف السلوكى ، وتوجد قلة أخرى تحكمها بالدرجة الأولي
حاجاتها الاجتماعية، وتحيا نمط إثبات
الذات.
وقد انتهي الكثير من علماء
النفس والاجتماع إلي إن الطمع والتملك ليست غرائز فطرية مطبوع عليها البشر كما يبشر
البعض ، وإنما هي أشياء مكتسبة من النظام الاجتماعي الاقتصادى ، وما يفرزه من ثقافة
وأخلاق وفنون وقد اثبت علماء الاجتماع هذه الحقائق البسيطه من خلال دراسة أخلاقيات
وسلوكيات العشائر البدائية التي مازالت تعيش في عالمنا المعاصر في أمريكا اللاتينية
وإفريقيا وآسيا والتي حين غزتها الحضارة الرأسمالية أفسدتها بتشجيع نمط التملك
الاستهلاكي وحينما فرضت عليها نظام الملكية الخاصة في حين إن ما لم تخدشه الحضارة
الرأسمالية بعد من عشائر ، فأنه يلاحظ أنها مازالت تتميز بدرجة عالية من النبالة
وإن الأنانية والفردية والطمع والجشع 00قيم تختفي تماما في تلك العشائر ، وتختفي
مدلولاتها في لغاتها المحلية 000إن هذه المجتمعات لا تعرف معظم الشرور الأخلاقية
التي عرفها تاريخ العالم المكتوب والذى بدء مع الملكيه الخاصة ، والتي يبلغ عمرها 8
آلاف عام فحسب من أصل عمر البشر الذى يتجاوز المليون ونصف عام ، وما نشأ عن وجودها
من ظهور التناقضات بين المصالح ، ومن ثم الصراع بين الملاك وغير الملاك ، و بين
الملاك أنفسهم من أجل الاستحواز على أكبر ما يمكن منها ، هؤلاء الذين أصبحوا لا
يؤدون إلا الأعمال الذهنية في حين إن غير الملاك بقوا ليعملوا الأعمال اليدوية 00
هؤلاء الملاك أصبحوا منغمسين في الاستهلاك واللذات والترف في حين إن غير الملاك
أصبحوا مسحوقين مغتربين عن مجتمعهم وعن أنفسهم 00 مجرد أدوات تعمل لإشباع حاجات
السادة الذين استئثروا بالحكم والسلطة ،وظهرت الدولة كجهاز يمارس القهر ضد غير
الملاك ،و ضد شعوب الدول الأخرى ،جهاز للبلطجة ينظم و يحمى استغلالهم لغير الملاك
ويلبى حاجاتهم للترف واللذة ،وقد شهدت أول دولة فى التاريخ البشرى كيف أن شعب بأسره
جند من أجل بناء مقبرة حجرية ضخمة لفرعونه فى حين انهم كانوا يعيشون فى أكواخ
الطين والبوص، ولا يأكلون سوى الخبز والبصل ، ليظل هذا الهرم وأشقائه رمزا وشاهدا
لظلم الإنسان للإنسان واستغلاله واستعباده وخداعه
.
فقد ظهرت الطبقات المختلفة نتيجة الملكية
الخاصة ،وستختفى بزوال تلك الملكية التى سببت كل تلك الصراعات بين البشر والحروب
والأحقاد والجرائم ،و بالتالى خلقت الشر وغرزته عميقا فى عقول البشر وثقافاتهم
.
وبالرغم من أن التاريخ حافل بالآلآف من الأنبياء
والحكماء والفلاسفة والذين أخلفوا تراثا بشريا عظيما من الوعظ الأخلاقى كفيل
باستئناس الصخور..إلا أن المجتمع البشرى حفل هو الآخر و خلال كل تاريخه المكتوب
بشتى الشرور الأخلاقية والسلوكية..و لعل هذا يثبت أن الوعظ مهما كان منطقيا ومهما
كان محملا بالوعود البراقة لمن يتبعه ،والتهديدات المرعبة لمن لا يتبعه ، فأنه لن
يجدى فتيلا ..وأنه إن أثر فى الناس بعض الوقت فلن يؤثر فيهم طول الوقت ،فسرعان ما
سوف ينسون الوعود و التهديدات ، و أنه لو أثر فى بعض الناس فلن يؤثر فى كل الناس
فنحن لسنا فى الفهم سواء.
وهكذا يثبت التاريخ أن
ظروف الناس الاجتماعية أو بتعبير أدق نمط الإنتاج أى شكل الملكية وتوزيع عائد
الإنتاج ،وعلاقات البشر خلال هذا الإنتاج هو الذى يحدد أخلاقيات الناس وسلوكياتهم ،
أما أدوار الوعظ والتربية والتهذيب فهى أدوار ثانوية للغاية بالنسبة للدور الأساسى
للنظام الاقتصادى الاجتماعى ..فليست الحاجة فقط أم الاختراع ولكنها أم أفكار الناس
وقيمهم ومشاعرهم وأخلاقياتهم . فلم يوجد فى المجتمعات المشاعية القديمة تقسيم قهرى
للعمل ما بين العمل الذهنى والعمل اليدوى ، وما بين الرجل والمرأة ، وما بين حكام
ومحكومين ، ومابين ملاك يحوزون وحدهم على السلطة والمال وبين من لا يملكون السلطة
والمال، ففى حالة انقسام المجتمع لطبقات وشرائح وفئات لابد وأن ينشأ الصراع بينها،
فى حين ينتفى الصراع فى المجتمع اللاطبقى غير المنقسم
.
ففى المجتمع اللاطبقى يتحرر الإنسان من أى قهر
خارجى سواء أكان قهر الخوف من سلطة الدولة أو قهر الحاجة للطعام ..وقد لاحظ إنجلز
فى كتاب أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ، أن احترام العشيرة لشيوخها غير
المسلحين بأجهزة الدولة من جيش وبوليس ومحاكم ،والذين لا يملكون سوى موهبة القيادة
من خلال الحكمة والتجربة والكفاءة ، يفوق بما لاقياس معه الاحترام الظاهرى النابع
من الخوف والحاجة للدولة ورجالها والقوانين واصحاب الأعمال فى المجتمعات احديثة
،حيث أن الاحترام الأول ينبع من سلطة الضمير الحر للفرد وعقله المتحرر من الأوهام
والخوف من السلطة أو الانخداع بتضليلها أو خضوعا لحكم الحاجة والجوع فى حين أن
الاحترام الثانى ينبع من القهر المادى والمعنوى للسلطة
.
ونتيجة الرابطة الاجتماعية القوية التى تربط
جميع أفراد العشيرة على قدم المساواة دون أدنى فوارق لا تحددها الإرادة الإنسانية
وحدها..حيث تتحدد مكانة الشخص فى المجتمع بما يملكه من إرادة حرة غير مقهورة أو
مضللة وبما يملكه من كفاءة تنبع من ذاته الإنسانية لا بما يملكه من ثروة .فهو يعطى
المجتمع حسب قدراته وامكانياته ويحصل من المجتمع على كل حاجاته المادية والروحية
،الاستهلاكية وغير الاستهلاكية على قدم المساواة مع الجميع ..ومن هنا تمتعت هذه
المجتمعات بدرجة عالية من الاحساس القوى بالانتماء للعشيرة والتفانى والتضحية حتى
الموت لدرء الأخطار التى تهددها أو تهدد أحد أفرادها ،وبدلا من الأنانية والفردية
ونزعة التملك كانت الجماعية والاعتماد المتبادل والحياة المشتركة ،والتضامن بين
أفرادها ، وبينهم و بين عشيرتهم.
ولم يعرف
هذا النظام الاجتماعى الأسرة كوحدة اقتصادية تتداخل معها العلاقات المادية ،وإن كان
قد عرفها كعلاقة إنسانية تقوم فحسب على المودة والحب وتربية الأطفال ..فقد عرفت
العشيرة ككتلة واحدة و أساسية ومستقرة غير قابلة للانقسام ،فلم يوجد مبرر لتقسيم
هذه الوحدة لوحدات أصغر هى الأسر والطبقات والطوائف والشرائح ،لأن هذا يعنى عبئا
اقتصاديا اجتماعيا على امكانيات العشيرة المحدودة
.
ونستطيع أن نقول أن كل العمليات الروحية
والمادية فى هذه المجتمعات كانت متحررة من قهر السلطة والقهر الطبقى ،وان كانت
محكومة فى النهاية بتلبية حاجات العشيرة المشتركة..وقد انتفت الجريمة الاقتصادية
لأنه ببساطة لا حاجة لها فى مجتمع لا يعترف بالملكية الخاصة والطبقات ولا يعرف
النقود ..فالأنانية تعنى الانتحار للفرد والعشيرة على السواء ،فلا الأول يستطيع أن
ينعزل ويحيا بمفرده و لا الثانية إذا تفككت روابطها الجماعية تستطيع تلبية كافة
حاجات أفرادها المستحيلة التلبية إلا بالإنتاج والاستهلاك المشتركين ..ولذلك تفككت
الروابط العشائرية بزيادة الإنتاجية ،التى سمحت للبعض بإشباع نزعاتهم الأنانية فى
التملك الفردى ،وبزغ فجر انشطار العشائر إلى طبقات حسب الملكية ، وبرغم زيادة
الإنتاجية الاجتماعية فقد اصبحت المجتمعات الطبقية الجديدة عاجزة عن تلبية كافة
الحاجات البشرية لجميع أفرادها مهما بلغت قدرتها الإنتاجية وثرواتها ،ونقصد
بالحاجات البشرية كلا النوعين سالفى الذكر الاستهلاكية وغير
الاستهلاكية.
ولكن ليس معنى تلك النبالة
التى توصف بها تلك المجتمعات البدائية أنها لاتعرف الكثير من السلوكيات التى يرفضها
الضمير الإنسانى المعاصر ،فهم كانوا يرون مثلا ضرورة قتل الشيوخ والعجزة والمرضى
لأنهم يشكلون عبئا ثقيلا على العشيرة لا تحتمله مواردها القليلة ، فهذا الفعل و أن
كان غير أخلاقى بمفهومنا المعاصر ،إلا أنه كان ضروريا لكى تحيا العشيرة
وتستمر..ولكن الدراسة العلمية فى أى مجال لا تعرف التقيمات المثالية المطلقة ،الذى
لايعرفها سوى الرومانسيون الحالمون
والجهلاء.
فالنظم الاجتماعية والاقتصادية
والعالم الروحى للإنسان من أخلاق وفنون وعقائد و أفكار ..لا يصح أن نصفها بالجودة
والرداءة ،ولكننا عند رصدها وتوصيفها ،يجب أن نفهمها فى سياق الضرورة التى افرزتها
،فالقانون والأخلاق والفنون تستند على قيم فضلا عن نسبيتها ،فهى دائمة التغير طالما
كان النظام الاجتماعى الاقتصادى دائم التغير ،وأن هذا التغير الذى يطرأ على النظم
الاقتصادية الاجتماعية تحكمه ضرورات كامنة فى جوهر البنية الاجتماعية ،أما دورنا
كبشر وعناصر فى هذه البنية فهو ثانوى ،ويعمل فحسب كعامل مساعد فى التغير أو الجمود
الاجتماعى بالنسبة للضرورة الاجتماعية.
عندما
اكتشف الإنسان الملكية الخاصة و أصبح هناك مالكون لوسائل الإنتاج منفصلين عن عملية
الإنتاج ، ولا يفعلون من شئ سوى إعطاء الأوامر ،فى حين يقوم بكل عملية الإنتاج قوى
العمل المستعبدة أو المسخرة أو المأجورة والتى لاتملك إلا قوة عملها والطاعة لأولى
الأمر الذين ابتكروا جهاز الدولة والقوانين لفرض سلطتهم وتقنين كل من الاستغلال
والقهر ..عندما انقسم المجتمع إلى أغنياء وفقراء ،متخمون وجوعى ،وعندما أصبحت قيمة
الإنسان تتحدد بما يملكه من ثروات مادية ووسائل إنتاج وعنف ،عرف الإنسان الأنانية
والجشع والطمع والحروب و المذابح والعبودية ،باختصار أصبح النمط الغالب فى سلوكه هو
نمط التملك حتى صار هو نفسه شيئا من الأشياء يباع ويشترى ويملك ويؤجر،ولما كان
الإنسان غريزيا يحاول أن يحقق أكبر قدر ممكن من الحاجات المادية والروحية لنفسه ،
والتى لن تتأتى له فى مثل هذه المجتمعات إلا بتملك أكبر قدر من الثروات ..فأن
الإنسان يصبح همه الأساسى هو جمع الثروة حتى لو حاولنا أن نعظه بالقناعة من خلال
قصة الكاتب الروسى الشهير تولستوى حول ذلك الفلاح الذى وعد بمساحة من الأرض ستبلغ
مساحتها بقدرته أن يبدأ بالجرى على محيطها بالجواد من مشرق الشمس إلى غروبها ،على
أن يصل إلى نقطة البداية فى لحظة الغروب تماما ، وحفزه الطمع بأن يرسم محيط أكبر
مساحة ممكنة ،وفى لحظة الغروب وصل لنقطة البداية ،ولكنه وجواده قد بلغ بهما التعب
والانهاك مبلغهما ،حتى لفظا أنفاسهما الأخيرة ،فلم يحتاج من كل هذه الأرض التى حصل
عليها إلا لمتر مربع ليدفن فيها هو
والجواد.
ألا تشبه هذه القصة
قصة الإنسان فى المجتمع الطبقى الذى يظل منذ بداية حياته إلى نهايتها يدير الساقية
كالثور مغمض العينين من أجل الحصول على أكبر قدر من الثروة ،دون أن تنفتح عينيه على
روعة الحقول التى يرويها ..والحقيقة أن كل هذا التراث البشرى الذى يحض على القناعة
قد يقنع بعض المتصوفين ، ولكنه لن يقنع غالبية البشر المحكومين بالضرورة الاجتماعية
،والظروف الاجتماعية ،وقد ورد فى الحديث النبوى فيما معناه "أنه لو منح أبن آدم
جبلين مثل أحد من الذهب الخالص لطلب
الثالث".
مهما قست القوانين ،وتميزت
الجهات التى تراقب احترامه بالصرامة والدقة مع وجود إبليس الحقيقى ،وهو نمط التملك
النابع من الملكية الخاصة فلن يرتدع الإنسان والأمثلة كثيرة ،فقد حدث فى انجلترا أن
صدر قانون بإعدام النشاليين .فى الميادين العامة ،فلم تنخفض نسبة النشل والتى كانت
تتم وسط حلقات الجماهير التى تشاهد عمليات الإعدام برغم معاينة النشالين الطلقاء
لإعدام زملاءهم ، وكانت كل الشرائع القديمة ما قبل العصر الحديث تتميز بعقوبات غاية
فى القسوة مثل الصلب والسحل و الخوذقة والتوسيط وقطع الأطراف والجلد والحرق وسجون
الحفر ،وبالرغم من كل ذلك لم تختف الجريمة ولم تهبط نسبها فى كل المجتمعات الطبقية
،وهل اختفت جرائم الاغتصاب والاتجار فى المخدرات بعد إعدام مرتكبيها ، فى حين أن
المجتمعات اللاطبقية لا تعرف القانون لأنها لا تعرف الجريمة لأنها تخلو من أسسها
المادية ، ومن ثم فهى فى غير حاجة إليه ،ومن يظنون أن تطبيق الشريعة الإسلامية كفيل
بوجود مجتمع بلا جريمة دون القضاء على أسسها المادية ، لاشك حالمون فقد استمر تطبيق
الشريعة الإسلامية حتى أواسط القرن التاسع عشر فى مصر ، ولكن كتب التاريخ تكشف أنه
ما اختفت يوما الجريمة والشر والخطايا فى المجتمع المصرى الذى شهد فى فترات كثيرة
المجاعات و الاضطرابات الاجتماعية و كم هائل من الفظائع الأخلاقية ، فبلغ بالناس
أكل بعضهم فى الأزمة المستنصرية فى عصر المماليك ، و بالرغم من تطبيق الشريعة
الإسلامية لم تخفت أو تختف ثورات العبيد والفقراء المطالبة بالعدل الاجتماعى
والمساواة بالرغم من جباية الزكاة وتوزيعها على الفقراء وكثرة الصدقات ، وبالرغم من
انتشار الأوقاف الخيرية و الأسبلة .
وسواء فى
السعودية أو فى إيران أو فى أى من تلك النماذج الإسلامية الحديثة المحتزاة من قبل
الجماعات الإسلامية ،وبالرغم من الحجاب والفصل بين الرجال والنساء والرقابة
الإعلامية المتشددة ، إلا أنه تحدث بها أشد درجات التحرر الجنسى مما يوجد فى
العواصم الأوربية والأمريكية الكبرى نفسها ، ولكنها تحدث فى هذه الحالة ،فى السر
بعيدا عن العيون ، فلم يردع أحد رجم الزناة ولا جلدهم و لا حجاب المرأة وعزلها عن
المجتمع ، ومن لايصدق هذا فعليه أن يقرأ لماذا بدأ شهريار مجزرة النساء فى بداية
ألف ليلة وليلة عندما التقى الصبية التى خطفها الجنى على شاطىء البحر وحبسها فى
صندوق وكيف أنها خانته مع كل رجل قابلته ، وهل يمكن فى مجتمع يحرم أفراده من إشباع
غرائزهم بالطرق الطبيعية إلا أن يتضخم عندهم الإحساس المضنى بالجوع إلى حد الهوس
والوهم ، فيتولد الانحراف والشذوذ والشبق الذى لا يشبع ، فى حين لو كان هذا
المجتمع يسمح لأفراده بإشباع هذه الغريزة بالطرق الطبيعية لما كان هناك ذلك الشبق
الجنسى المرضى المنتشر إلى حد الهوس.
يرى البعض
أنهم بقانون ما يستطيعون خلق مجتمع أخلاقى ،وهذا وهم كبير إذ أنهم يضعون العربة
أمام الحصان، فالمجتمع أو بالأصح النظام الاجتماعى هو الذى يحدد القانون الذى
يحكم المجتمع ومن ثم فالقانون متغير ،وهو شىْمختلف عن الأخلاق وهى متغيرة أيضا..وقد
يقنن القانون أوضاعا تتنافى مع الأخلاق والضمير الإنسانى ، فالقانون فى الدول
الرأسمالية يقنن ويبيح للرأسمالى استغلال العامل وفقا للقانون مادام يسدد الضرائب
للدولة ، والقانون فى النهاية مهما كان عادلا وحازما ودقيقا فهو محكوم بالنظام
الاجتماعى الاقتصادى الذى يفرزه ليعبر عن مصلحة الطبقة السائدة ، ،فتلك الطبقة
المالكة والحاكمة والمسيطرة تستطيع وهى تطبقه أن تطوعه لمصلحتها و أن تستخدمه
كوسيلة لتحقيق مآربها ،وبالتالى سيصبح قانونا ظالما ضعيفا فضفاضا .والقانون لا يمكن
أن يرضى مصالح كافة الطبقات ،و لا يمكن أن يكون عادلا إلا من وجهة نظر الطبقة التى
يحمى مصالحها ، فقانون يقر بالعبودية هو عادل من وجهة نظر ملاك العبيد ، وظالم من
وجهة نظر العبيد ، ولن يوجد ذلك القانون الذى يرضى كل من السادة والعبيد ، إلا إذا
انتزعنا من العبيد حاجاتهم الإنسانية للحرية والكرامة
.
والحقيقة أن القانون ظاهرة اجتماعية جديدة على
المجتمع البشرى ،فقد ظهر مع الملكية الخاصة ومن ثم الطبقات ،ومن ثم الدولة ،وكل هذه
الظواهر الاجتماعية لا يتجاوز عمرها 8 آلاف سنة ،وسيختفى القانون باختفاء تلك
الظواهر التى تشكل الأساس المادى له ،لأنه لا حاجة لمجتمع لاطبقى للقانون بمعناه
المعروف ،وانما ستتحول القواعد التى تنظم العلاقات الاجتماعية إلى قواعد تعاقدية
ملزمة لأطراف تلك العلاقات التى حددوها بأنفسهم ،ومن ثم سيمارسها أفراد المجتمع
وفقا لإرادتهم الحرة دون قهر متسلط عليهم من خارجهم ،وسيتعرض المخالف لتلك القواعد
لما تقرره تلك القواعد من عقوبات ، قررها أو وافق عليها الداخل فى العلاقة قبل
الدخول فيها ، ومن ثم فسيتعرض للاستهجان والنبذ الاجتماعى . كما كان يحدث فى
المجتمعات المشاعية .
جاءت الرأسمالية ، وسادت
العالم لتحطم آخر آثار الجماعية التى كانت تميز المجتمعات ما قبل الرأسمالية ..وقد
حررت الإنسان من الكثير من القيود حتى أصبح فردا غير مرتبط بأحد و لامنتمى إلا
لمصلحته الفردية ، ومتقوقع حول نفسه ولا شأن له بغيره ..فكل ما حوله من بشر وغير
بشر حتى هو نفسه مجرد أشياء تباع وتشترى فى السوق الرأسمالى ، و كل علاقاته هى
البيع والشراء فى هذا السوق ، ذلك الإنسان الذى تحول إلى مجرد شىء أو سلعة تعمل من
أجل النقود والاستهلاك ، وليس من أجل إشباع الحاجات الطبيعية فحسب ،بل لزيادة قدرته
على الاستهلاك الذى لا يعرف حدود ، و الذى يتحول من وسيلة إشباع إلى هدف فى حد ذاته
،أى الاستهلاك لمجرد الاستهلاك ،والذى بالرغم من تلبية نداءه لا يترك وراءه إلا
الشعور الفظيع بالخواء والجوع .
المجتمع
الرأسمالى تسوده ديانة وحيدة هى عبادة الاستهلاك والسعى المحموم وراء السلع ،
ومحاولة الاستحواذ على أكبر قدر منها حتى و لو كان الإنسان ليس فى حاجة حقيقية
إليها ..ففى المجتمع الرأسمالى الإسلامى ، يعبد الإنسان المسلم اللة فى الصلوات
الخمس اليومية ، و يصوم رمضان ويحج للكعبة و يؤتى الزكاة ، أما باقى يومه وأيامه
فقبلته ليست مكة ولكن للسوق ، حيث السلع هى أوثانه واصنامه التى يشرك باللة فى
عبادتها ، سواء كانت من البشر أم من غير البشر ، و لا يتذكر اللة أو يذكره ، إلا
لإشباع مصالحه الفردية فى الاستحواز على هذه الأصنام و الأوثان ، و ينساه تماما حين
يتعارض هذا الذكر والتذكر مع تلبية تلك المصالح
.
هذا هو ما تفرضه طبيعة الرأسمالية
كقانون ملزم ،وهو ينبع من طبيعتها ذاتها ،ولا علاقة له بالحضارة التى نشات على
أساسها ، لأن الرأسمالية كانت نفسها أساس لحضارة جديدة مختلفة عن ما كان قبلها ،
ولا على نوعية البشر الذين مارسوها أول مرة ،لأنها غيرتهم مثلما غيرت كل البشر فى
العالم بأسره ..فالرأسماليون ينتجون للسوق ، و يستهدفون زيادة أرباحهم ، تلك
الأرباح التى لن تزيد إلا بزيادة الاستهلاك ، والذى لو ظل فى حدود إشباع الحاجات
الطبيعية فحسب فأن أرباح الرأسماليين ستتناقص إن لم تتوقف ، وبالتالى فعليهم أن
يشجعوا الاستهلاك بكل وسيلة ، وذلك من خلال أجهزة الإعلام والدعاية والإعلان ووسائل
التربية من مدرسة وفنون وثقافة وعادات وتقاليد ، تلك التى توهم الناس باحتياجات غير
حقيقية وغير طبيعية ،وتضخم هذا الإحساس بالاحتياج إلى درجة المرض ،كى يظل الجميع فى
سباق محموم من أجل المزيد من الاستهلاك ، وبالرغم من ذلك لا سعادة و لا شبع
ولا إمتلاء بل تعاسة وحرمان وخواء فظيع وينطبق هذا على كل الاحتياجات بما
فيها الجنس .. فأنت اليوم تملك دراجة ، ولكنك تحلم بعربة عادية ، فتسعى لتحقيق ذلك
، وتهب ذلك الحلم عدة شهور من عمرك وحريتك وعملك مقابل شراء هذه العربة التى
تزاحمها العربات الفاخرة فى الطريق ، فتسعى لبيع عدة شهور أخرى من عقلك وحريتك
وجهدك لتحصل على عربة أكثر جمالا وقوة وسرعة ، ولكن بعد أن تكون قد أهديت هذه
الآلهة قربانها المفضل من العمل والحرية ، يدفعك السوط الاستهلاكى للرغبة فى غيرها
أو فى طائرة أو أسطول للعائلة.
ومادامت قيمة الإنسان
تتحدد فى المجتمع الرأسمالى بما يملكه ويستهلكه ، و لا يهم من أى طريق حصل على هذه
الملكية ،ومن أين يستهلك ما يستهلكه ، فأن البشر يكفوا عن أن يصبحوا بشرا
أسوياء..بل مجرد سلع و أشياء ..مادموا يحترمون راكبى العربات الفاخرة عن راكبى
العربات العادية ، وهؤلاء بدورهم عن راكبى المواصلات العامة ، وهؤلاء بدورهم عن
المشاة ، دون أن يسألوا أنفسهم من أين أتى هؤلاء بعرباتهم ،ولماذا هؤلاء عاجزين عن
أن يركبوا مثلها.
تلك الحياة الاستهلاكية فى
المجتمع الرأسمالى لا يمكن تغييرها أو التخفيف من آثارها فى إطار علاقات الإنتاج
الرأسمالية ،و التى تعنى أن المسيطرين على وسائل الإنتاج سواء أكانوا رأسماليين أو
بيروقراطيين ،يشترون قوة عمل العمال مقابل أجور ، وأن الأرباح تأتى من الفرق بين
هذه الأجور و ما ينتجه العمال من قيمة ، حتى لو دفع الرأسماليين الزكاة
والضرائب ،وتصدقوا على الفقراء ، وحتى ولو اختفت الفوائد الربوية من
التعاملات فى القروض والائتمان وأعمال البنوك والتجارة ، فسيظل هذا المجتمع
رأسماليا مهما أطلقنا عليه من أسماء بديلة ، وجملنا وجهه ببعض الإصلاحات ، وألبسناه
بعض ملابس التنكر . وسيظل هذا المجتمع يدفع الناس للاستهلاك المرضى ، فستموت
الرأسمالية ، لو تخيلنا الناس قد حدوا من استهلاكهم للحدود الطبيعية ، وبالتالى
يتجمد سوق البيع والشراء ، سواء للبشر أو لغير البشر ، فستغلق الكثير من المصانع
والمزارع أبوابها ، وستطرد عمالها ،لأنها لن تعطى أجور لإنتاج سلع لا تجد من
يشتريها ، وسيظل هذا المجتمع يدين بدين واحد هو دين الاستهلاك ، مهما اعتقد أفراده
فى أديان مختلفة ، وسيظل معبده هو السوق مهما تنوعت وتعددت أماكن عبادته ، وستظل
آلهته هى النقود مهما تنوعت أسماء الآلهة.
عندما
نقول للناس أن ظروف الناس الاجتماعية والاقتصادية هى التى تحدد أخلاقياتهم ،فأنهم
يغالطون عندما يربطون بين متوسطات مستوى المعيشة والدخل القومى ، و بين ما نعنى به
من نظام اجتماعى اقتصادى ، وبالتالى فأنهم يعلقون على أن الولايات المتحدة
الأمريكية أغنى دول العالم وأكبرها دخلا قوميا تواجه أكبر درجة إنحلال ومعدلات
للجريمة منظمة وغير منظمة .. والمغالطة تكمن فى التغاضى عن أن الولايات المتحدة
الأمريكية ذات نظام رأسمالى فى أنضج وأبشع صوره ، حيث تسوده على نحو كامل قيم السوق
حتى النخاع ، فالكل فيها سلع سواء أكانوا بشرا أم غير بشر ، والكل فى السوق يقاسون
بمعايير السوق ، ومقايسه وهو الدولار والمنفعة النقدية ، وينقسم فيه المجتمع إلى
طبقات الأغنياء و الفقراء ومابينهم من متوسطى الحال ..و بالتالى ستوجد عند الفقراء
الرغبة للوصول إلى مستوى متوسطى الحال ، والأغنياء سيسعون للمزيد من الثراء ،
ومتوسطى الحال لمستوى الأغنياء ، وكل فرد فى هذا السباق على استعداد للتنازل عن
حريته وجهدهه ومثله وقيمه العليا ، وتحطيم القوانين و الأعراف التى تعوقه عن الوصول
للهدف فى هذا السباق للفوز بمراكزه الأولى ، وبالرغم من ذلك فالشعب الأمريكى هو من
أكثر شعوب العالم أهتماما بالأديان والروحانيات و من أكثرها تدينا ، وهو يخلط بين
الاهتمامين الدينى والسوقى خلطا لا حد له ، فيكتب على عملته "نحن نثق باللة " و لا
تعرف من جراء هذا من هو الأله الحقيقى الذى يقصدوه ، الله أم الدولار ، فى حين أن
العشائر البدائية التى تحدثنا عنها آنفا تسكن أعالى الشجر والكهوف بلا أدنى درجة
رفاهية ، ومع ذلك لا توجد لديهم أبسط الدوافع للطمع و الجشع ، وهم لا يدركون فعلا
معنى الأنانية والملكية الخاصة ،و لا يعون لها ضرورة مادام الجميع يحصلون على
حاجاتهم المختلفة على قدم المساواة.
وخطورة
الملكية الخاصة لا تكمن فى تملك البشر للأشياء فقط ، ومن ثم امتلاك الأشياء لهم
فحسب ، ولكن أيضا فى أنه لما كانت الملكية ليست مجرد علاقة بين الإنسان وما يملك
فقط ، ولكنها علاقة اجتماعية بالدرجة الأولى فهى لاتشمل علاقة البشر بالأشياء
،ولكنها تشمل كافة العلاقات بين البشر وتشوهها وتفسدها ، ومن هنا مكمن الخطورة ،
حيث يتحول البشر وفقا لهذه العلاقة ، لمجرد أشياء تباع وتشترى و تؤجر وتمتلك ،
وتمتد علاقة التملك من نطاقها الاقتصادى لتصبح نمط شامل للحياة ، فيتحول الحب بين
البشر لعلاقة امتلاك ، ويتحول العمل من نشاط خلاق للإنسان يشبع من خلاله احتياجاته
، إلى مجرد جزء من الوقت والحرية والجهد يتم التضحية به مقابل إشباع بعض الاحتياجات
، ويتحول التعليم من عملية خلاقة للمعرفة وإضافة الخبرات والمهارات ،إلى وضع البشر
فى قوالب مجهزة وفق احتياجات السوق ، تحمل بعض المعلومات وتملك بعض المهارات وشهادة
رسمية بما تملك ، دون منح البشر القدرة على النظر النقدى لما يتم تلقيه، بعد أن
تكون قد سلبتهم حريتهم منذ أول لحظة ، فهم ليسوا بأحرار فيما يختارون من مناهج ، و
لا أحرار فيما يتعلمونه من معلومات ، و لا أحرار فى اختيار الطرق التى يتعلمون بها
، والنتيجة النهائية لهذا هى تحويل الإنسان الحى القادر على المعرفة والإبداع إلى
إنسان آلى مبرمج يعاني من ضيق الأفق نظرا لمحدودية ما برمج به ، ومن ثم عاجز عن
التفكير النقدى حتى ولو حصل على أعلى الشهادات العلمية
.
أننا فى ظل الملكية الخاصة ومنذ اللحظة التى
نولد فيها وحتى نموت محملون بآلاف القيود المفروضة علينا من خارجنا ، و لم نتدخل
نحن فى اختيارها ،و أنه حتى فى فرص الاختيار القليلة الممنوحة لنا لا نمتلك حرية
حقيقية فى ممارسة هذا الاختيار ، حيث تقيد هذه الحرية الأوهام المغروزة فينا من
خلال مؤسسات المجتمع من الأسرة والمدرسة والجهاز البيروقراطى والإعلام والثقافة
والفنون والآداب ..فما دمنا نفتقد حريتنا الحقيقية فى الحصول على الخبرات
والمعلومات ، فهل ستكون هناك أى أهمية لحريتنا فى الاختيار ، فحتى فى أكثر النظم
ديمقراطية ، يمتلك حفنة من البشر المعلومات والخبرات ويتحكمون فى إعطاءنا لها
فيحجبون عنا بعضها ويشوهون بعضها ، ويضعون أمامنا اختيارات ، هم يعلمون فى ضوء ما
أعطونا من معلومات وخبرات أن حريتنا فى الاختيار ستكون فى حدود عدم المساس بما
يملكونه من نفوذ.
أن الملكية الخاصة
تحولنا من بشر أقوياء و أحرار مبرأون من القلق و الخوف إلى مجرد أناس ضعاف سلبوا كل
القوى ، فقد ساروا مجرد أشياء تعتمد على قوة أشياء أخرى ، هى ما تملكه من ملكيات
خاصة ومن سلع ، وتسلبهم هذه الملكية الكثير من قواهم كلما منحتهم قوتها الوهمية ،
وتسلبهم حريتهم كلما منحتهم قدرا من الحرية الوهمية ، فتقيدهم بالخوف والقلق من
فقدانها ، و تنسيهم بما يملكوه ، قواهم الذاتية وحريتهم الإنسانية ، وكل ما اقصده
من معانى ليس بغامض على العقل العادى للإنسان و الحس الطبيعى ، فمن يملكون يخافون
من فقدان ملكيتهم ،وهذا الخوف يقيد حريتهم ،وهم دائمى القلق كمن يعيشون على فوهة
بركان.. أما من لا يملكون فى هذا المجتمع إلا قوة عملهم فهم على استعداد للتضحية
بحريتهم من أجل القوة الوهمية الكامنة فى الملكية والسلع ..وفى الحقيقة أن قوة
هؤلاء تكمن بالذات فى عدم امتلاكهم إلا قوة عملهم . ولذلك صدر البيان الشيوعى
بالنداء الشهير " يا عمال العالم أتحدوا ..فلن تخسرو سوى القيود" فهؤلاء بالذات لا
يوجد ما يخافون من فقده ، وهم عندما يهبون للحصول على حريتهم ،فهم يمتلكوا العالم و
يخسروا قيودهم ، وانهم حين يتحررون من قيود الاضطرار لبيع قوة عملهم وحريتهم ،
يحررون الملاك أيضا من قيود ما يملكوه ..وفى هذه اللحظة سيملك البشر حريتهم
الحقيقية فى مجتمع لاطبقى تختفى فيه كل قيود الملكية الخاصة ، ما لم يحل محل قيود
الملكية الخاصة قيد البيروقراطية ،والذى يسلب باسم إدارته لشئون المجتمع كل
حريات أفراد المجتمع ،وفى الحقيقة أن الجهاز البيروقراطى هو سمة الدولة الحديثة
،سواء أكانت رأسمالية أم اشتراكية تسلطية ، والتحكم الأخطبوطى للجهاز البيروقراطى
يرتدى قفزات حريرية من الحريات الشكلية فى المجتمع الرأسمالى ،أو أقنعة براقة فى
المجتمع الاشتراكى التسلطى تحت قبضته الحديدية ..ونحن فى هذه الحالة نواجه خطرا لا
يقل فى هوله عن خطر الملكية الخاصة ، فالجهاز البيروقراطى ، يحول البشر إلى كائنات
مبرمجة ، تتصرف وتفكر وفق ما يحدده لها الجهاز من خطوات و أفكار فهذا الجهاز يتحكم
بما يملكه من قدرات فى استعباد البشر وتسخيرهم مع اعطاءهم وهم أنهم أحرار ، إلا
أنهم فى الحقيقة مقيدون بإرادته بسلاسل غير مرئية
align=justify>