|
حامد أيوب : تراثٌ شيوعيٌ، نورُه حياة وجذرُه شجرة ..
جاسم المطير
الحوار المتمدن-العدد: 4094 - 2013 / 5 / 16 - 16:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ضربني برقُ خبر ٍ خاطفٍ في شغاف قلبي كأنه رمح . أذاقني الخبر طعما مراً حين قال ناقله أن (حامد ايوب) الراقد في مستشفى لاهاي قد رحل إلى الأبدية . الخبر نقله إليّ بتلفون الموبايل الصديق علاء الكاظمي في الساعة التاسعة من صباح يوم 22 نيسان 2013 . في تلك اللحظة أحسستُ بغرزة سكين تطعنني في عتمة غربتي ، رغم أنني كنت أتوقع مثل هذا الخبر منذ أول يوم دخول صاحبي وصديقي ورفيقي إلى المستشفى قبل هذا التاريخ بأربعة أسابيع فقد كان ينزف ضوءا دموياً أشعرني أن وجهته هي السفر السريع إلى الفراق الابدي لا محالة . أول شيء فعلته بعد الخبر التلفوني هو ارسال رسالة بسطرين ألى الصديق الشيوعي في بغداد ( فيصل نصر) لإعلامه وقيادة الحزب الشيوعي أن جمر رفيقهم حامد أيوب قد غدا ثلجاً. دندنة الجوانح الاولى
ليس من دواعي افتخاري واعتزازي أن أكتب اليوم سطوراً عن الراحل، المناضل حامد أيوب، بل يسعدني حقاً أن أفرد هذه المقالة السريعة عن بعض الذكريات التي أحملها في أعماقي عن بعض مراحل شخصية عراقية واصلت مسيرة مضيئة، مضحية وأمينة، منذ أن تعرفت إليها أول مرة عام 1959 بواسطة صديقي القديم، شقيقه الأكبر منه سناً حمدي أيوب ، حيث تناولنا ثلاثتنا طعام الغداء (تمن وفاصولياء) في مطعم الشباب بباب المعظم . كان رابعنا سعود الناصري الذي وجدناه جالساً قبلنا في أحدى زوايا مطعم كبير كان يبدو كسفينة طلابية . تصاعدتْ وجبة الصداقة،تلك، متحدية مختلف أمواج وتقلبات الزمان الصعب في الأرض العراقية حتى استقرت قريبة من بحر الشمال، البارد بلون الظلمة، لكن النابض أبداً. بعد ذلك عرفني حامد بشقيقه الاكبر (جمعة ايوب) بعد لقاء المطعم بعشرة أعوام حين كان يشغل وظيفة مدير سينما غرناطة . صار عندي منذ ذلك الحين ثلاثة أصدقاء من عائلة واحدة.. أحداقها مقرّحة بآلام الفقر لكن قلبها مفعم بكل ما هو طيب في هذه الدنيا تحت غطاء أحلام الشيوعية. كان منها الشاب حامد أيوب يريد أن يجعل حياته نوراً يضيء دروب الناس الفقراء في بلد الفقراء رغم أن أرض هذا البلد تئن من فجائع الثروة النفطية الهائلة . تعرفتُ إلى حامد أيوب كادحاً حمل آمال الناس الفقراء في أزقة صوب الكرخ حيث وُلد في واحد منها في العاصمة بغداد عام 1938. لولا معاناته من الفقر ، كما قال لي، لولا معاناته من الجوع لما وجد نفسه في داخل النور والحياة في صفوف حزب الكادحين. دائما تجده في حالة حنين إلى أيام طفولته، التي عاشها بدوامات من الألم والفقر، حتى ترسبت ذكرياتها في أعماقه ناذراً نفسه وحياته من أجل أن لا يواجه فقراء آخرين في عراق المستقبل. ظل ، طوال حياته، أن لا يعاني غيره من تعب ومشقات عانى منها هو شخصياً . مواقف الفقر وحالاته كثيرة في حياته أخذت منه نصيباً كبيراً لاستكشاف حالات الانقسام الطبقي. إنتمى ، سريعاً، إلى معسكر الحرية والمسئولية البشرية. صار شيوعياً متحملاً مسئولية المساهمة في تغيير حياة الناس أجمعين ليعيشوا بأفضل مما عاش . سمات الفتوة الأولى كان محباً للدراسة والتعليم .. يتابع ،بدقة وبصورة حثيثة، التطورات الفكرية والسياسية وحتى النظريات الأدبية والفنية. كان محباً لقراءة كتب الفلاسفة والأدباء العالميين، الماركسيين والبورجوازيين على حد سواء. ما أن يأتي ذكر رواية أو مسرحية عربية أو عراقية أو عالمية إلا ويحدثك بالشيء الكثير عنها وعن منهجها البنيوي وركائزها الفلسفية . يمكنني القول أنه محب، أيضاً، لمشاهدة الأفلام السينمائية العالمية فقد كان كثير الحديث عن أهم الافلام العالمية اللامعة التي شاهدها منذ مطلع شبابه . حمل عطر الأصالة الفراتية المحمولة إليه من والديه، جامعا إياه مع عطر دجلة في بغداد حين عاش في كرخها . كان ، في كل صيف، يغدو أكثر تنافسية مع زملائه في السباحة بماء دجلة . لقــّبه أصحابه في المدرسة الابتدائية بـ(حامد العاني) رغم أنه ما وُلد في مدينة عانة ولم يتعرف إلى شوارعها وماء فراتها إلا بعد بلوغه العام الثالث عشر ، بعد رحيل والده ، لكنه ما استطاع المكوث في تلك المدينة النائية غير بضعة شهور . كثيراً ما حدثني أنه ما أراد أن يلتصق بلقب (العاني) الموحي بالمناطقية والطائفية، لذلك كان يعتبر أسمه من دون لقب ضياءً صباحيا ليس فيه أي تشابك. أصبح منذ فتوته الأولى شاباً محبوباً بنظر المحيطين به في المدرسة أو المسكن أو في الوظيفة أو في الخلية الحزبية بعد أن استطاع بعقله المنفتح أن يجمع بين الثقافة الفكرية والابداعية، بين الانخراط في النضال السياسي اليومي من أيام فتوته الأولى حتى أيام شيخوخته الأخيرة ليصبح حاملا للفكر البارز ، ومناضلا سياسيا بذات الوقت، إضافة إلى ممارسته الاخلاقية التعليمية في التأثير على رفاقه الآخرين في الغربة العراقية، في سوريا ورومانيا والجزائر وفي هولندا أخيراً. كان مثالاً لا ينسى بعيون رفاقه وأصدقائه ومعارفه جميعاً، فقد كان جليساً ساحراً يزق مباديء حزبه زقاً متواصلا، هادئاً ، إلى سامعيه بكونه صورة أكثر تأصيلا لموقف انساني – شيوعي أصيل . كان قلبه مليئاً بالحب للعراقيين الكادحين متمنيا على الدوام أن يأتي يوم تزول عنهم أغيمة الظلم والظلام حين تنتشر أضوية الحرية والديمقراطية في ربوع بلاد الرافدين كلها بجبالها واهوارها. أقول، صدقاً، أنني كنت أشعر بصدى الزمهرير في روحه خلال السنين العشر الأخيرة حين يسمع أنباء القتل والموت في شوارع بغداد والمدن العراقية كلها تماما مثلما كنت أحس موج حذره من أفاعي الدكتاتورية تفحّ في مكالماته التلفونية معي حين كنت موجوداً في العاصمة الاردنية في تسعينات القرن الماضي . كان متواضعاً، بسيطاً، يتباهى بروح التلمذة ، رغم أنه كان مثقفا أصيلا ولم يكن يظهر نفسه مدّعيا بأنه أفهم من محدثه . نهل الكثير من أدبيات التراث القديم من مقدمة أبن خلدون وأبن طفيل وأبن رشد حتى الخوارزمي وغيرهم من صناع الثقافة في مختلف الاجيال. مثلما نهل وظل ينهل من ادبيات السياسة والحداثة حيث قرأ كتب أعظم الكتاب الماركسين وأعظم الكتاب الرأسماليين الغربيين حتى أصبح قادراً في أية جلسة ضيقة محدودة تجمعه بعدد من الأصدقاء ان يقيم جسورا فكرية بين مختلف الحضارات والمدارس الفكرية . كان يهمه أن يواكب تاريخ العراق خاصة الحديث حيث كان يحفظ عن ظهر قلب أغلب تواريخ أحداثه ووقائعه في القرن العشرين، مثلما كان يملك علماً واسعاً ودقيقاً عن تاريخ حزبه ، الحزب الشيوعي العراقي. كانت اقامته في دمشق الشام خلال تسعينات القرن الماضي قد منحته إمكانية المعرفة الجديدة بالكثير من السياسيين العراقيين ورجال المعارضة والمناضلين ضد نظام صدام حسين من مختلف الاحزاب العراقية ،العلمانية والاسلامية. الشيء الذي يحز في نفسي ،الآن، أنه لم يكمل كتابة مذكراته الشخصية ،الحزبية والسياسية. من باب الحق أقول أنني كنتُ أتمنى عليه، منذ أكثر من خمس سنين، أن ينجز هذا المشروع باسرع وقت، خاصة وأن شدائد مرض القلب والكلى والسكري كانت لا تكف عن آذاها على جسده ، ليلا ونهارا. كثيراً ما كنت ألح عليه بضرورة إنجاز مهمة هذه الكتابة طالما كانت ذاكرته نشيطة وعامرة . سررتُ جداً حين أخبرني تلفونيا يوم 20 – 5 – 2012 أنه بدأ بكتابتها . يومذاك كنتُ في أربيل وحين عدت الى لاهاي في بداية حزيران أخبرني انه أنجز كتابة أكثر من 20 صفحة عندما كان نزيلا في مستشفى (برنسهوف) وهو يعاني من حالة فقدان ساقه اليسرى التي اضطر الأطباء الهولنديون الى بترها بعد تفشي (الغرغرينة) فيها . يا للغرابة في شئون هذا الرجل : يقاوم بتر ساقه اليمنى لينسى آلامها بتنشيط ذاكرته بيده اليمنى ليتحاشى نسيانها . الخلاص من عذاب قصر النهاية منذ نهاية الستينات، من خلال مناقشة أدبية طويلة، عرفتُ أن حامد أيوب حتى يوم دخوله إلى قصر النهاية كان ميّالا إلى الأدب وليس إلى السياسة حتى أن ناظم كزار كان قد استغرب أن شاباً ذكياً نشيطاً مثل حامد أيوب تقول تقارير رجاله وزبانيته عنه " انه شيوعي بسيط .." ! كان من حظه صدور تلك التقارير التي جعلت ناظم كزار يأمر باطلاق سراحه ليذهب إلى حاله وإلى وظيفته حيث كان يعمل موظفاً بسيطاً في أحد البنوك العراقية . أتذكر يوم حدثني بكثير من التفصيل عن شهور وجوده الستة في فصر النهاية ، عن أساليب تعذيبه وتعذيب الآخرين من المعتقلين . في مرة من المرات وقف حامد أيوب وهو في قصر النهاية أمام السفاح ناظم كزار. كان عزيز الحاج موجوداً في نفس الغرفة. سأله كزار : هل تعرف هذا الشخص وما موقعه في القيادة المركزية ..؟ أنكر عزيز أنه يعرفه أو يعرف موقعه في تنظيم القيادة المركزية. كان حتى ذلك اليوم لم يصدر أي قرار من القيادة بتنسيب أي عمل أو مهمة لحامد أيوب حتى ذلك اليوم ، كما أخبرني بنفسه، في ما بعد. اقتنع ناظم كزار بطبيعة افادته. مرة كان حامد أيوب ملقىً في غرفة من غرف القصر إلى جانبه اسماعيل خيرالله وزير خارجية في حكومة عارفية سابقة وشاهد بعينيه كيف كان البعثيون من حراس الجلاد ناظم كزار يهينونه. مرة كان معه كاظم الصفار او حميد الصافي وغيرهما من تنظيم القيادة المركزية . بعد ذلك تمّ اطلاق سراحه بعد قضاء بضعة شهور – حوالي الستة - روى لي بألم شديد ما رآه في قصر النهاية من تعذيب جسدي ونفسي لرئيس وزراء العراق – عبد الرحمن البزاز - الذي أجبروه على القيام بمهمة كنس ومسح وتنظيف غرفة ناظم كزار وبعض الغرف الأخرى.
كان هواه في شبابه يميل نحو الأدب فقد كان في لقاءاتنا المتواصلة ببيتنا في أوائل السبعينات يجعلني اكتشف أن في عقله مؤهلات قد تجعله أديبا او كاتبا عراقيا. كان مهتما إهتماما كبيراً بقراءة مؤلفات عبد الرحمن بدوي وجان بول سارتر ومحمد عبده وعلي عبد الرزاق وبرتراند رسل وغوغول وحسين هيكل وطه حسين وعلي الوردي ومحمود امين العالم. كما أنه كان محبا لقراءة نجيب محفوظ ويوسف ادريس. حين كنتُ ألح عليه بضرورة أن يقوم بتجربة ممارسة الكتابة والتأليف. لم يستجب لي رغم أنه في أحد زياراتنا المشتركة في بداية السبعينات إلى صلاح خالص كان قد لقي تشجيعا ودفعا من الدكتور صلاح حين استمعَ إليه متحدثاً عن بعض أمور التراث والقضايا الفكرية، خاصة عندما تطرق في حديثه إلى كتاب علي الوردي المعنون (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي) قائلاً عن الكتاب بعض ملاحظات ناقدة – لا أتذكرها الآن - فأعجب بها الدكتور صلاح خالص طالباً منه كتابة مقالة يستعرض فيها هذا الكتاب لكنه لم يستجب لأنه لا يحب الكتابة..! كما ظهر لي في تلك الجلسة أنه كان من محبي برنامج تلفزيوني عنوانه ( أنت تسأل ونحن نجيب) قـُدّم عام 1960 من قبل الدكتور علي الوردي على شاشة تلفزيون بغداد ، لم أكن قد سمعت به. كان البرنامج يعرض على الشاشة التلفزيونية بعض المشاكل الأجتماعية التي يعانيها العراقيون الفقراء . لكن حامد أيوب ظل لا يهوى فنون الكتابة طيلة حياته . ظل حتى آخر حياته قارئاً نهما من الطراز الأول، متحدثاً لبقاً من الطراز الاول، لكنه لم يكن من الكتـّاب، لا في السياسة ولا في الادب ولا في القانون . اللقاء والجوال في بخارست حين أخبرني، ذات يوم من أيام بدء السبعينات، أنه سيسافر إلى الإتحاد السوفييتي لإكمال دراسته. كان مسروراً جداً وممتناً لصديقه ورفيقه عبد الوهاب طاهر، الذي رشحه لزمالة دراسية ، غير أن هذه المنحة لم تكتمل فاستبدلت بزمالة دراسية إلى رومانيا. حين سألته: ماذا ستدرس يا حامد ..؟ أجاب باسماً: لا أدري..! ربما الفيزياء الحديثة وربما الشعر الذي أحبه وربما في الرواية ، لكن المصادفة في بخارست غيـّرت قراراته من أكمال دراسته في الأدب العربي أو في الإشتراكية العلمية إلى دراسة ( القانون الدولي). هناك تغيّر مسار حياته الدراسية رغم أنه كان من الشيوعيين المدركين أن الأدب والفن وسيلتان لترقية الناس وأذواقهم ووعيهم ومداركهم، بل كان يعتقد أن معرفة حضارة وتقدم أي شعب من الشعوب يمكن أن يتم من خلال انتشار الآداب والفنون بين الناس من مختلف الطبقات الاجتماعية . يكرر ،دائماً قولا: ترقـّى ذوق الشعب البريطاني بأدب وفن شكسبير وغيره وترقــّى الشعب الروسي بأدب وفن تولستوي وجايكوفسكي وغيرهما ..ترقــّت شعوب أوربا كلها، من وجهة نظره، بالفنون الإيطالية في الرسم والنحت والموسيقى والسياسة وبجهود وابداع الفنانين والادباء من الفرنسيين والنمساويين والألمان وغيرهم . قضيت شهرا جميلا بصحبته في زيارة عدد من الأماكن والبحيرات والمسارح والمتاحف في بخارست وعدد آخر من المدن الرومانية أثناء زيارتي لها عام 1974 . شاركنا في بعضها الفنان الصديق العزيز روميو يوسف ، نتحدث عن هذه الموضوعات وما شابهها في جلسات مطاعم ومقاه مقهى جميلة وسط بخارست بينما النبيذ يمضي بيننا ، في صحبتنا، ضارباً رحاب وجوده في وجودنا كل ليلة من تلك الليالي الثلاثين، التي أجاد فيها الفنان روميو يوسف مساعدتنا في تحقيق اطلالتنا الحقيقية على دنيا الزهور في دولة كان العمال والفلاحون يريدون بناء نموذجها بينما كانت أشواك الدولة القمعية في بلادنا تتأهب للإنبات في التربة العراقية . أول شيء فعلته حال وصولي الى بخارست ليلاً في ذلك العام كان مخابرة صديقي (حامد ايوب) في ساعة كانت تقترب من منتصف الليل. كنتُ نازلاً للتو في غرفة فندق 5 نجوم وسط العاصمة الرومانية . تكلمت معه مخبراً إياه برغبتي الشديدة لرؤيته ومقابلته في اليوم التالي. لكنه كان مثلي مستعجلاً في لقاء سريع مصراً على زيارتي في الصباح الباكر قبل ذهابه إلى مبنى جامعة بخارست حيث كان يستعد لتحضير بعض مراحله الدراسية لنيل شهادة الدكتوراه في القانون الدولي العام . في الساعة السابعة صباحاً كان حاضراً في صالة الفندق التي شهدت عناقاً أخوياً ذا دلالة أثار انتباه الحاضرين . تناولنا وجبة إفطار رومانية اقترحها هو، ثم اتفقنا على اللقاء بعد الظهر لنبدأ في استخدام ثمار الدهر الهنغاري الجميل عسى أن تصلح أيامه ما أفسده الدهر العراقي في صدورنا . انتهت جولتنا الطويلة الأولى في قطارات وباصات الليل والنهار لمشاهدة وعبور العديد من امتدادات البناء الجديد الشاهق في تلك العاصمة الجميلة. كان قراري الأول لأن تكون مدة زيارتي بحدود أسبوع واحد ثم قررت تمديد الفترة حيث بقينا معا أكثر من شهر قلبنا فيها دروب العديد من المدن والمزارع الرومانية الجديدة. في اليوم الثاني من وصولي إلى بخارست اتفقنا على الذهاب معاً إلى ساحة الإحتفالات الكبرى الواقعة قريبا من مقر الحزب الشيوعي الروماني حيث ستشهد احتفالاً هو الاول من نوعه في القارة الاوربية بعد الأنقلاب العسكري الذي كان قد حصل قبل شهرين في دولة البرتغال. كان الاحتفال بهيجا شارك فيه الشباب بجنسيه بملابس زاهية وبرقصات واغان بديعة ما وجدت لها مثيلا من قبل ، إذ حتى الزعيمان الروماني والبرتغالي رقصا مع الراقصين في الساحة احتفاء بالقضاء على نظام الدكتاتورية في البرتغال يوم 25 – 4 – 1974 . الانتماء الى الطبقة والحزب في سيرته الذاتية كثير من عناصر الدراما . عمل في معمل نسيج الكاظمية. كان مسئوله إبراهيم الحريري وقد تم اعتقاله بعد الإضراب.. كذلك دخل الى دورة تربوية لمدة ستة شهور تخرج منها معلماً لمدرسة ابتدائية لكنه لم يتعين بسبب عدم حصوله على شهادة حسن السلوك من مديرية التحقيقات الجنائية، أي مديرية الأمن العامة . تم ترشيحه الى الحزب الشيوعي عندما كان يدرس في المدرسة الثانوية بمدينة الديوانية وحصل على عضوية الحزب عام 1956 في بغداد عندما اشتغل عاملا في معمل نسيج الكاظمية . عرفته متعدد الاهتمامات.. ففي شخصيته الثقافية تتجمع شخصية المحب للمعرفة التاريخية حيث ألمّ وشغفَ بكل مجريات التحولات والتغيرات السياسية في العراق منذ بداية تـأسيس الدولة العراقية، خاصة التحولات التي حدثت بالعراق بعد ثورة 14 تموز عام 1958 ، وقد نجح في متابعة وحفظ الكثير من تفاصيل الأحداث والوقائع السياسية عن ظهر قلب . كذلك عرفته متعدد العلاقات مع أصدقاء متوافقين معه او متعارضين في القضايا والمواقف السياسية والفكرية . كان يعتقد في ما بعد أن عالم الجبهة الوطنية المعقودة بين الحزب الشيوعي وحزب البعث الحاكم قد انتهى إلى الأبد لأن بعض أعمال الحزب الحاكم قد انكشف أوله بذلك الحين في مدينة البصرة بمحاولاته في هدم التنظيمات الشيوعية والاستمتاع بتعذيب أجساد الشيوعيين في زنزانات الأقبية السرية. لم يعد حامد أيوب مثل غيره من أعضاء وكوادر الحزب الشيوعي يعتقدون بإمكانية ضمان السلامة الحزبية والشخصية على المدى البعيد والقريب ومواصلة العمل الجماهيري والسياسي داخل الوطن بعد أن ظهر (التوحش) في سياسة وقيادة صدام حسين للسلطة الحقيقية في البلاد. وليمة التوديع قبل المغادرة كان مثل هذا الحديث قد جرى آخر مرة بيني وبين الصديق البصراوي القديم عبد العزيز وطبان حين دعاني إلى بيته لتناول آخر كأس (واين أحمر) مشترك وآخر وجبة عشاء عراقية مشتركة هيأتها زوجته المناضلة جليلة ناجي الهاشمي في تمام منتصف الليل. ودّعتُ بالحب والدموع صديقي وزوجته وأطفاله المسافرين إضطراراً إلى خارج الوطن، كما أسّرني أن وجهته الأولى ستكون إلى الكويت ومنها الى بلاد الله الواسعة. أقر عزيز وطبان بأن العالم السياسي في العراق لم يعد حصيناً وأن مغادرة أرض العراق السوداء غدت خطوة ضرورية يتخذها الشيوعيون العراقيون للحفاظ على وجودهم وعلى وجود الاجيال الشيوعية العراقية في المستقبل. بعد سفر الدكتور عزيز وطبان أحسستُ بفراغ أليم ، بفقدان وجود صديق حيوي كثيراً ما كنتُ استطيع التمتع بأنفاس الحرية حين أتحدثُ معه بصوت ٍ عالٍ في البيت وبنوع من الهمس حين أزوره في نقابة المعلمين بالمنصور، لكن سرعان ما جاء الى سمعي أذى أكبر حين صارحني صديقي حامد العاني بقراره مغادرة البلاد أيضاً. - إلى اين يا حامد..؟ - لا أدري.. لكن بلاد الله واسعة.. اخترت قراراً يجنبني خطر الموت. لم يعد بإمكاني ولا بإمكان غيري من الشيوعيين أن يقاوم البيئة الارهابية السوداء، التي أحاطها حزب البعث الحاكم حول الشيوعيين.. سيكون عالم الغربة والمنفى بلا شك أفضل حالا لنا من البقاء في عالم السياسة الوحشية. مرّت أيام وأسابيع كان حمدي أيوب يفكر فيها بمشروع السفر، المرهق والمرعب، في عواقبه كرحلة الى المستقبل. أولمت وليمة التوديع في خريف حديقة بيتي الواسعة بحي المنصور ببغداد دعوتُ إليها اصدقاء أعزاء من بين صفوف الحزب الشيوعي : باقر ابراهيم وعبد الوهاب طاهر وعباس بغدادي وحامد ايوب ومحمد السعدي وربما آخرين لا تحضر أسماؤهم إلى ذاكرتي في هذه اللحظة. كان أغلب الحديث، في تلك الليلة، عن سيناريو أسود ،محتوم، قد يقوم به النظام الحاكم سريعاً لتسوية الأرض تحت أقدام الشيوعيين بالدم وبحجر السجون لخلق مجتمع عراقي لا دور فيه للشيوعيين ولا دور لهم في رسم خطوط مستقبله. كانت تلك الليلة الجميلة آخر لقاء لي مع حامد أيوب في بغداد، التي كان يتوقع أن تكون بعد وقت قصير عاصمة التعذيب في العالم . ظلت صلتي به متقطعة بعد مغادرته الوطن. حين أكون في القاهرة أو في لندن أو في غيرهما من الدول التي أسافر إليها في سائلاً عنه وعن بعض أصحابي الآخرين. عام 1979 كنتُ قد حضرتُ الى مؤتمريْ الأوبك والأوابك اللذين انعقدا ليومين متتالين في الجزائر بصيف ذلك العام وقد كان المؤتمر مهماً من الناحيتين العربية والعالمية فهو أول مؤتمر يحضره وزير النفط في حكومة إيران الاسلامية بعد بضعة شهور من سقوط نظام الشاهنشاهية . بعد عودتي كتبتُ مقالاً عن المؤتمر أشرت فيه ، بصراحة، إلى احتمال قيام حرب عسكرية مدمرة بين بلديين نفطيين في الخليج نشرته في مجلة (النفط والتنمية) عدد حزيران 1980 – كما أتذكر وقد ظل صديقي حامد أيوب معجبا بالمقالة يذكرها في أحيان كثيرة. اللقاء مع عبد العزيز وطبان أول شيء فعلته حال وصولي إلى الجزائر هو البحث عن لقاء مع كاظم حبيب أو حامد أيوب حيث كنت أعرف عن احتمال وجودهما هناك . لكن المصادفة هي التي جعلتْ لقائي السريع يتم مع صديقي العزيز الدكتور عزيز وطبان . كان يوما متصلا بالسعادة متوافراً بأحاديث متنوعة عن داخل العراق وبأحاديث عن ألم الغربة العراقية في الجزائر. في هذا اللقاء السريع عرفت أن كاظم حبيب غير موجود في تلك الفترة بالجزائر كما أن حامد أيوب كان في ذلك اليوم خارج مدينة الجزائر . اكتفيت بلقاء بقي حتى الان في ذاكرتي في سماع اخبار طيبة من الدكتور عبد العزيز عن حال الشيوعيين العراقيين المهاجرين الى الجزائر وهم يواصلون التحلي بفضائل أخلاق الشيوعية، الصبر، والحذر، والمثابرة في العمل، وقد كلفتُ الدكتور عبد العزيز بإيصال تحياتي وامنياتي إليهم جميعا وفي مقدمتهم حامد العاني. هكذا ظلت أخباره تصلني عن طريق شقيقه (جمعة أيوب) الذي زودني برقم تلفونه في الجزائر فخابرته مرة من عمان – الاردن ومرة اخرى من القاهرة. لكنني منذ بداية مجيئه إلى دمشق في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات كنتُ أطلع على بعض أحواله، تلفونيا ، وكذلك على أحوال عائلته بعد زواجه من سيدة دمشقية نبيلة أهدته باقة من الأولاد الطيبين الحاملين فضائل شعوره بالمسئولية. عام 1996 أرسلتُ له رسالة بيد ادكتورة خيال الجواهري أثناء لقائي بها قادمة من دمشق إلى عمان خلال فترة العناية الطبية بأخيها الراحل فرات الجواهري. أخبرته فيها أنني قد أغادر الاردن إلى بلد أوربي قريبا فأجابني ، تلفونياً، في اليوم التالي لاستلامه الرسالة ، أنه قد يلحق بي في يوم قادم دون ذكر اسم البلد . اللقاء في هولندا في بداية شهر كانون أول من عام 1997 كنتُ قد توجهتُ إلى مدينة لاهاي للاطلاع على بعض معالمها بعد وصولي الى هولندا واستقراري في جزيرة صغيرة في بحر الشمال . استضافني الدكتور علي إبراهيم في بيته بمدينة روتردام لمدة يومين حيث كان في تلك الفترة مسئولاً عن منظمة الحزب الشيوعي العراقي . بوسط السوق وتحت ريح هولندية باردة وعاصفة دفعني نبض هائل لعناق مصادفة ومحبة غير متوقعين بحامد أيوب. كان حامد أمامي في منتصف السوق فماذا بمقدوري فعله غير عناقه . كان قد وصل الى لاهاي قبل بضعة أيام. بدأ بعد هذا اللقاء أطول سيناريو لعلاقة صداقة بيننا أعدنا فيها تاريخاً قديماً.. جددنا خططنا للعيش بافضل طريقة في بلاد الغربة والمنفى. اختار بعناية أن يكون مسكنه قريباً من مسكني . بقينا نلتقي، كل يوم ، تقريبا، أو كل يومين، في بيتي أو في بيته، طيلة السنين الست عشرة الماضية. كان نمط حياتنا عادياً جداً. لا علاقة لنا بأسعار السلع والخضار واللحوم والملابس . نعرف جيدا أن اللاجئ السياسي في هولندا يتناول راتب الحد الادنى ليعيش بدون حاجة وبكرامة ولا يعاني أي ضغط اجتماعي أو مالي. كان همنا الأول وهوايتنا الكبرى أن نتبادل الكتب الجديدة الواصلة إلينا من لندن أو من سوريا أو من بعض اصدقائنا العراقيين في البلاد الأوربية . كنت سابقاً عليه في المرض المزمن، الذي أقعدني عن الحركة منذ عام 2002 فكان قد اخترع لنفسه هوية جديدة بجعل نفسه صانعاً الثقة والأمل لي. لكن سرعان ما انقلب الأمر حين صار مريضاً، مقعداً مثلي على كرسي متحرك. لم يعد أمامنا غير الابتعاد عن نظام الحياة الروتينية السابقة ودراسة تفاصيل الحياة الروتينية الجديدة والذهاب يوميا – تقريبا- إلى بحيرات منطقتنا في جنوب لاهاي لمصادقة طيور النورس، والبط الأبيض، والوز العراقي الملـّون، والاشتراك، معاً، في تقديم الخبز المنتج لهم . كان يكثر الحديث العميق عن بعض مظاهر المستقبل في بلد يضيع فيه الكثير من الحق و العدل إلى حد لا نجد فيه غير سيادة أساليب الترضية والنفاق والمجاملة الحزبية والمذهبية وإرهاب القضاة وتخويفهم بديلا عن استقلال القضاء . كان يتمنى أن يكون القضاء العراقي نظيرا للقضاء الهولندي وغيره من الدول العريقة . قال ذلك أمام مجموعة من القضاة العراقيين كانوا يتدربون عام 2005 في دورة تدريبية بمدينة لاهاي التقينا بهم بمناسبة اجتماعية. اشتد به الشوق لمكالمة مظفر النواب بعد انقطاع أسلاك الهاتف الموبايل بينهما منذ عام 2011 حين وجد رحاب دمشق يخلو من وجود مظفر النواب حاول البحث عن آمال المكالمة في بيروت لكنه رحل أخيرا عن الدنيا حاملا معه قلقه على مظفر النواب . كذلك اشتد به الشوق لزيارة العراق في تموز الماضي وقضاء شهر كامل في ربوع مدينة أربيل. استعد فعليا لهذه السفرة لكنني مثل غيري من أصدقائه ورفاقه في بغداد وغيرها كنا ننصحه أنه غير مؤهل صحياً لمثل هذا الجهد . قرر تحت الضغط إيقاف تنفيذ فكرة السفر وكان سعيدا جدا حين استلم مكالمة تلفونية من رفيقه حميد مجيد موسى.. كان كلامهما المتبادل شكلا من أشكال فضيلة أمانة الروح الرفاقية الشيوعية في مواجهة حقائق الدهر، كما وجد في أب الماضي ، في أحد أيامه، سعادة من نوع آخر حين قام الشاعر سعدي يوسف بزيارته في بيته. شعر خلال هذه الزيارة أنه قد وقــّع عقداً جديداً من الحب مع الشعر العراقي لمواصلة الاطلاع على تطور تجاربه وضروراتها . كذلك وجدت أن زيارة كاظم حبيب و لبيد عباوي وحسان عاكف والطبيب العراقي - الاسترالي أحمد موسى الربيعي وغيرهم قد جمعت لديه ما يتطلب الصمود ضد المرض الهاجم عليه. في يوم 22 – 4 – 2013 استبدلت بطاقة سفر حامد أيوب إلى أربيل، فعليا، متضمنة (جنازة) المحب لأرضها وللعراق كله لكي يحط رحاله فيها الى الابد .
#جاسم_المطير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سفينة نوح وسفينة نوري المالكي ..!
-
في احتفالية العاصمة الثقافية .. بغداد بين اليأس والسطوع ..
-
محمود عبد الوهاب .. سعادة الصداقة ومرارتها..
-
براءة العراقيين من فسقة الحكومة ومجلس النواب..!
-
وزراء بغداد.. لصوص وعسطوس من الدرجة الأولى ..!
-
مها الدوري في عيد الحب..!
-
بيان هام من الله سبحانه وتعالى ..
-
محافظ نيويورك يستنجد بأمين العاصمة بغداد ..!
-
بعض مظاهر الفساد في قلب الشركات الرأسمالية المنتجة للسلاح ..
-
القضاء العراقي موضع السؤال عن العدالة ..
-
حوار مع الرئيس جورج بوش الابن ..!
-
أفلام الرعب من أخراج الشيخ صباح الساعدي..!
-
عالية نصيف لا تملك الحاسة السادسة ..!!
-
اضطراب عصبي في مجلس النواب العراقي..!
-
كوكب حمزة يبحث عن قيم الحرية
-
شيء عن بدر شاكر السياب لم يكتمل بعد..
-
ليس بالسياسة وحدها يحيا الإنسان ..!
-
طبائع الفساد و الفاسدين
-
أجمل ما في بلادنا حرية اللصوص..!
-
تأبط شراً ..ّ وتأبطوا شراً .. !
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|