أخبار الشرق - 26 تشرين الأول 2002
تتناقل أوساط المهتمين بالشأن العام خبراً عن قرب صدور قانون الأحزاب
السياسية في سورية، وهو ما أشارت إليه وأكدته صحيفة "النور الناطقة بلسان الحزب
الشيوعي السوري في عددين متتاليين (67 و68 تاريخ 4 و11/9/2002).
إن المبادرة إلى إثارة حوار مبكّر حول هذا القانون قبل
إصداره يعتبر أمراً ضرورياً وغريباً في آن معاً، والأشد غرابة أن تتعمد غالبية
الفعاليات السياسية والثقافية السورية التزام الصمت، وتتخذ موقف المترقب السلبي
حيال هذا الحدث الهام والنوعي، كأن الأمر لا يعنيها أو كأنها نسيت أو تناست الصدمة
الكبيرة التي تلقتها عند صدور قانون المطبوعات في مثل هذا الوقت من العام الفائت،
الذي سلب الكتاب والمبدعين بعضاً من أبسط حقوقهم وقيدهم بسلاسل من الممنوعات
والمحظورات مسلّطاً على رقابهم سيف عقوبات قاسياً لا يرحم!!
فلا أمل يُرجى من الصمت أو الانتظار، ولا نفع من القول إن "الدرب مسدود"
وليس بيدنا ما نفعله تجاه "قانون" لا بد أن يأتي ليعزز سيطرة السلطة على ساحة العمل
السياسي، بل على العكس ربما نجني بعض الفائدة من رمي حجر صغير في الماء الراكد عساه
يحرك حواراً ويثير نقاشاً حول واقع الحياة السياسية السورية يترك بعض الأثر في مجرى
بناء الشكل الحقوقي الأكثر توافقاً لإدارتها سلمياً بغية تفعيل كل قوى المجتمع
واستنهاضها في مواجهة تحديات البناء الداخلي والأخطار الخارجية المحدقة.
أقف في قراءتي النقدية من الاحتمالات المفتوحة على بناء
وإقرار قانون الأحزاب السياسية في سورية عند نقطتين:
النقطة الأولى: تتعلق بالآلية والطرائق التي خبرناها تاريخياً في صياغة
وإصدار مختلف القوانين، بوصفها آلية فوقية إرادوية تحكمها مرجعية واحدة، هي السلطة
نفسها ورؤيتها الخاصة للواقع السياسي السوري وتالياً تقديرها الخاص أو حدود مصلحتها
في الاستجابة لمتطلبات المجتمع وحاجاته. وحين يصدر قانون الأحزاب بذات الآلية فلا
بد أن يكرس ماهية الفسحة التي ترتأيها السلطة نفسها (مع حفظ الفوارق بين الحليف
والمعارض) لطابع حضور أشكال التنظيم والنشاط في الحياة السياسية السورية.
فهل نعزف على وتر اللامعقول عندما نطمح إلى اتباع آلية جديدة
توفر للجميع، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، الفرصة المناسبة لمناقشة قانون
الأحزاب وإبداء الملاحظات حوله؟! وما وجه الخسارة من طرحه على بساط البحث كمشروع
عام وفتح ميدان المشاركة أمام أوسع القطاعات السياسية والثقافية ودعوتها لمحاورته
ونقده وتقديم ما تراه مناسباً من اقتراحات قبل إقراره؟! ألا يشكل ذلك سابقة نوعية
في التفاعل الصحي بين الدولة والمجتمع تخفف إلى الحد الأدنى من الأخطاء المحتملة
وأيضاً من اندفاع المصالح لبناء صورة حقوقية ظالمة لعلاقة مفترض أن تكون توافقية
ومتكافئة بين مختلف القوى السياسية المرتبطة مصيرياً بهذا المستوى النوعي من النشاط
الإنساني؟
فمجتمع، عانى طويلاً من سيادة قانون
الطوارئ والأحكام العرفية، يحتاج جدياً إلى قوانين طبيعية تلبي حاجاته في التفاعل
الفكري والسياسي، وتالياً إلى عقود وأطر تنظم الحياة والأنشطة السياسية لأفراده
وترسم الحدود والمسافات بين حقوقهم وواجباتهم. ومن دواعي العدل والإنصاف أن ينهض
ذلك على قاعدة المشاركة والتفاعل بغية تمكين الجميع من المساهمة بفاعلية في صياغة
هذا الرابط الهام من عقدهم الاجتماعي وتوفير المناخ الصحي، موضوعياً، لحماية هذه
القوانين وضمان الالتزام بها والخضوع لها.
النقطة
الثانية: تعود إلى الدور المفترض أن يلعبه قانون، كقانون الأحزاب السياسية في
سورية، الذي يتجاذبه طرفا حبل: الأول، يعمد إلى قوننة الواقع القائم بما يضمن
استمرار المناخات القديمة في تشديد قبضة السلطة على كل شاردة وواردة في مجرى العمل
السياسي، والآخر يرنو إلى مناخ يطلق حرية ومبادرات كل القوى والفعاليات السياسية
لتمارس وظيفتها ودورها الطبيعيين في المجتمع.
وطالما
أن الأمر يرجع إلى مصالح متعارضة والى دوافع مختلفة وتالياً إلى مفاهيم ورؤى
متباينة، فلا يبشر بخير أن يكون السائد منها والمؤثر في تحديد محتوى هذا القانون
ودوره يعود إلى الخطاب الخاص لبعض أطراف السلطة في فهم واقع التعددية وأفقها،
وإصرارها على التفرد في تقرير ما يمنع أو يتاح من حريات سياسية.
فهناك من يرى أن لا ضرورة لجديد حول التعددية السياسية في
سورية، فهي واقع قائم وناجح، بدليل نجاح تجربة الجبهة الوطنية التقدمية التي تضم
تنوعاً سياسياً متميزاً في تمثيل كافة مصالح المجتمع وفئاته!! .. وهناك من يبالغ في
إظهار خصوصية المجتمع السوري، ويعتبره قاصراً، دون سن الرشد لتقبل تعددية سياسية
كما عرفتها الديمقراطيات الغربية بدعوى أنها تهدد استقراره وتضعف وحدته الوطنية
تجاه ما يعترضه من تحديات ومخاطر!!
من المؤسف، تحت
حجج وذرائع أصبحت من عاديات الزمن، الاستمرار في رفض الآخر ومنع نشوء وتبلور قوى
اجتماعية أو سياسية خارج حقل سيطرة السلطة المباشرة، كما من المقلق الإصرار على
تعددية سياسية صورية تقتصر على أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وحالة هذه الأخيرة
معروفة للجميع، بأنها حتى الآن، ليست أكثر من امتداد لنظام الحزب الواحد، ومحكومة
منذ نشأتها، سياسياً وتنظيمياً، بهذا الأفق مهما تعددت وتنوعت أحزابها!!
كما أن الخصوصية السورية لا تتناقض أبداً مع حقيقة أن أي
مجتمع مكون من علاقات وقوى ومصالح متعارضة وتالياً من تيارات فكرية وسياسية متنوعة
ومتنافسة، وأنه يحتاج كغيره من المجتمعات من أجل ضمان وحدة وطنية على أسس راسخة،
إلى قانون عادل ينظم أوجه الصراع والاختلاف بين قواه بوسائل سلمية، يقيه احتمال
العنف والانفجار ويمنح كافة الفعاليات السياسية على تنوع أرائها ومواقفها، حق
الوجود والنشاط، مهيئاً الأجواء والفرص المناسبة لمساهمة أوسع القطاعات الشعبية في
الحياة العامة.
هذه الحقيقة أكدتها نتائج ودروس
المتغيرات العالمية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ومنظومة الدول الاشتراكية، حين لم
تفلح الإرادة العامة البكماء وتسييد الرأي الواحد وأشكال الجبهات الأحادية في
إنقاذها من أزماتها الخانقة المتفاقمة، كما لم تقِ القبضة الحديدية، مجتمعات بدت
لسنين قوية متماسكة من انهيار سريع ومروع. أضف إلى ذلك أن الخلل الكبير في ميزان
القوى بعد أن تفردت أطراف الهيمنة الأمريكية والصهيونية في التحكم بمسارات الصراع
العالمي، يستدعي بإلحاح ضرورة الالتفات أولاً وقبل أي شيء، إلى الوضع الداخلي، إلى
الخيار الوحيد الباقي للنجاح في التصدي للأخطار المحدقة. وليس من مخرج إلا العمل
الواضح لتوفير أفضل أجواء الحرية والمساواة، وأن تنال كافة القوى، صغيرها وكبيرها،
أضعفها وأقواها، حقها في الوجود والحياة السياسيين.
من هذه القناة يجب النظر إلى دور يُرتجى من قانون أحزاب، إلى مستقبل للحياة
السياسية السورية تسود فيها لغة الحوار وتتشبع بروح قبول الآخر وبشرعية وجود
تنظيمات وأحزاب سياسية تنبذ العنف وتخوض صراعات سلمية تنمي روح المنافسة الشريفة
والسعي نحو الأفضل وتشارك بقسطها في عملية الانفتاح الديمقراطي وفي التصدي لمهام
البناء والتنمية ومواجهة ما يعترض الوطن من تحديات ومخاطر.
ورب قائل إنه طموح بعيد المنال أن نحظى في سورية في الظرف الراهن بقانون
أحزاب يطلق حرية العمل السياسي ويضمن مستوى من التعددية السياسية والانفتاح كما
عرفناه في بلدان الحريات والديمقراطية، مستنداً إلى أن السمة الأساسية لمعظم
الأنظمة في استجابتها لحاجات المجتمع أو لضغط المتغيرات العالمية، هي البطء
والتثاقل وتقديم القليل والمحدود، خاصة عندما يستدعي الأمر تعديل طرائق حكمها
وسيادتها، بدليل نجاح العديد من الأنظمة في اختلاق أشكال من التعددية السياسية
الصورية يمكن أن نصفها بأنها تعددية مقيدة تقتصر على السماح ببناء وتكوين الأحزاب
والجمعيات السياسية لكن دون سقف تداول السلطة ووفق قيود وضوابط متفاوتة الشدة بين
بلد وآخر.
طبيعي أن الأنظمة التي تخشى تفتح الصراع
السياسي تضع ما يحلو لها من اشتراطات مكبّلة لحرية التنظيم والنشاط السياسيين
وتبقيه ضمن حدود السيطرة والتحكم، لكن هذا الأمر ليس أهواء ورغبات بل نتاج لعلاقة
توازن على الأرض، والتعددية السياسية هي شكل ملموس وعياني يعالج وضع سياسي قائم في
ظرف محدد، قابل للتغيير والتطوير بتغير أو زوال هذا الظرف، وتالياً فان الشرط
السياسي الراهن إذ يحد من أفق التعددية السياسية ويبقيها تحت سقف تداول السلطة إلاّ
أن ضيق وسعة زاوية الانفراج السياسي يعودان أساساً إلى مقدرة القوى السياسية على
التأثير في مجرى العملية الديمقراطية وتطويرها.
ولا
مفر من تجاوز المعادلة المتطرفة "كل شيء أو لا شيء"، ومن السعي، بصبر ومثابرة،
لتطوير تعددية سياسية منقوصة نحو الاكتمال. فالصيرورة مفتوحة ويفترض بالقوى
السياسية المتضررة من ضيق الهامش الممنوح أن تستثمر كل ما هو متاح وتوظف كل ما هو
ممكن كي تفرض واقعا جديدا يؤدي بدوره إلى توسيع ماكان متاح أو ممكن. وما المبادرة
لحوار مبكر واستباقي حول قانون الأحزاب المرتقب إلاّ محاولة رافدة وخطوة صغيرة على
هذه الطريق.
__________
* كاتب سوري - دمشق