|
قراءة في كتاب:-السياسة الشرعية في اصلاح الرعي والرعية- لابن تيمية
انجي وحيد فخري
الحوار المتمدن-العدد: 4093 - 2013 / 5 / 15 - 13:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة: ابن تيمية هو شيخ الإسلام الإمام أبو العباس: أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله ابن تيمية الحراني ولد يوم الاثنين العاشر من ربيع الأول بحران سنة 661 هـ، ولما بلغ من العمر سبع سنوات انتقل مع والده إلى دمشق؛ هربًا من وجه الغزاة التتار، نشأ في بيت علم وفقه ودين ، فأبوه وأجداده وإخوته وكثير من أعمامه كانوا من العلماء المشاهير، ولم يترك الشيخ مجالًا من مجالات العلم والمعرفة التي تنفع الأمة، وتخدم الإسلام إلا كتب فيه وأسهم بجدارة وإتقان ، وتلك خصلة قلما توجد إلا عند العباقرة النوادر في التاريخ. قد وهبه الله خصالًا حميدة ، اشتهر بها وشهد له بها الناس ، فكان سخيًا كريمًا يؤثر المحتاجين على نفسه في الطعام واللباس وغيرهما ، وكان كثير العبادة والذكر وقراءة القرآن ، وكان ورعًا زاهدًا لا يكاد يملك شيئًا من متاع الدنيا سوى الضروريات ، وهذا مشهور عنه عند أهل زمانه حتى في عامة الناس ، وكان متواضعًا في هيئته ولباسه ومعاملته مع الآخرين، واشتهر أيضًا بالمهابة والقوة في الحق ، فكانت له هيبة عظيمة عند السلاطين والعلماء وعامة الناس، كما عرف بالصبر وقوة الاحتمال في سبيل الله ، وكان ذا فراسة وكان مستجاب الدعوة ، وله كرامات مشهودة. وقد شهد له أقرانه وأساتذته وتلاميذه وخصومه بسعة الاطلاع ، وغزارة العلم ، فإذا تكلم في علم من العلوم أو فن من الفنون ظن السامع أنه لا يتقن غيره ، وذلك لإحكامه له وتبحره فيه، وأن المطلع على مؤلفاته وإنتاجه، والعارف بما كان يعمله في حياته من الجهاد باليد واللسان، والذب عن الدين، والعبادة والذكر، ليعجب كل العجب من بركة وقته، وقوة تحمله وجلده، فسبحان من منحه تلك المواهب. أما عن العصر الذي عاش فيه ابن تيمية فاجتماعيا فهو زمن خارَت فيه قوى الامة، وتفككت وحدتها، واندثرت معالم في الإسلام، وشاعَت بدع؛ حتى ظنَّ الناشئة أنها من عُرى الإسلام، وتكالَبَت الباطنيَّة على الإسلام والمسلمين، وتداعت امم الكفر على حِياض الأُمة، وتهاوت ثغور العِزة، وانتزعت هيبة المؤمنين من أعدائهم، وفشَا الهوان بين المسلمين. وسياسيا كان عصر ابن تيمية زمنًا ضَعف أمر الخلافة العباسية فيه، وتَدَهورت أحوالها السياسيَّة، فكان الخليفة لا يَسوس غير حاضرة البلاد، وسُلطانه لا يُباعد أسوار بغداد، وما حوْله مُقَسَّم مَمالِك ودُويلات، تدين بالولاء للخليفة اسمًا لا أكثر، فطَغى بعضهم على بعضٍ، وجُعِل بأْسهم بينهم، حتى لَم يَدُر لهم قتال إلا بينهم، وما دَخَلوا قرية إلا أفْسَدوها، وجعلوا أعزَّة قومها أذِلَّة، وزادَ ظُلمهم للرعيَّة بالضرائب والمُكوس، وعَمَّ الفساد والرِّشوة للرأس والمرؤوس. ويُمكن إجمال الحال السياسيَّة لعصر ابن تيميَّة في انقسام الخلافة إلى دويلات لا حول لها ولا قوة، ثم زوال الخلافة، وضَعْف الحُكَّام، وقِلَّة سيطرتهم على شؤون الدولة، وسُوء سياستهم لأمور الرعيَّة، وكثرة الدَّسائس والمؤامرات الداخليَّة للاستيلاء على الحُكم، واضطراب في تدبير الدولة، فبين ليلة وضُحاها ينُصَّب ملكٌ، ويُخْلَع آخر، فتَمَيَّز الحُكم بغَلَبة السيف على الوراثة، وتناحُر وتنازُع الدويلات فيما بينها، وجَعْل هَمِّها في قتال جاراتها من أخواتها، وتربُّص النصارى الإفرنج بالشام، وزحْف التتار على الخلافة، وإسقاط رمز الوحدة السياسية "الخليفة". ومن جملة مؤلفات ابن تيمية نتناول بالعرض والتفصيل كتابه "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ، حيث تناول الكتاب الموضوعات والمفاهيم التالية:
مفهوم الولاية عند ابن تيمية وارتباطه بقاعدة "الأصلح يحكم" : من ولي من أمر المسلمين شيئًا، فولى رجلا وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله، من ولي من أمر المسلمين شيئا فولى رجلا لمودة أو قرابة بينهما فقد خان الله ورسوله والمسلمين. وقد رأى ابن تيمية أن الخلق عباد الله ، والولاة نواب الله على عباده ، وهم وكلاء العباد على نفوسهم ؛ بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، أي انه اهتم بمفهوم "المساواة" بين الناس وهؤلاء البشر يكونون "الأمة" التي ينوب عنها رجل هو من يتولى الحكم ، أي أن الحاكم هو وكيل لتلك الأمة وهي فكرة أصيلة بالفكر الإسلامي. وولاية أمر الناس كما يرى من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا ﺑﻬا، لان بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض. أما عن من يعاون الوالي في أداء وظائفه فقد ذكر ابن تيمية انه يجب علي الوالي البحث عن المستحقين للولايات من نوابه على الأمصار ؛ من الأمراء الذين هم نواب ذي السلطان، والقضاة ونحوهم ، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر الصغار والكبار، وولاة الأموال : من الوزراء ، والكتاب، والشادين ، والسعاة على الخراج والصدقات ، وغير ذلك من الأموال التي للمسلمين . وعلى كل واحد من هؤلاء ، أن يستنيب ويستعمل أصلح من يجده. وتمتد قاعدة الاصلح يحكم حين يقول "فيجب على كل من ولي شيئا من أمر المسلمين ، من هؤلاء وغيرهم ، أن يستعمل فيما تحت يده في كل موضع أصلح من يقدر عليه ، ولا يقدم الرجل لكونه طلب الولاية ، أو سبق في الطلب ؛ بل يكون ذلك سببا للمنع". وتلك السلطة شبهها ابن تيمية بالأمانة والمؤدي للأمانة مع مخالفة هواه ، يثبته الله فيحفظه في أهله وماله بعده ، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده فيذل أهله ، ويذهب ماله. وقد دلت سنة رسول الله على أن الولاية أمانة يجب أداؤها في مواضع، وقال النبي "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة". فالأصلح هو الأولى وقد لا يكون في موجوده من هو أصلح لتلك الولاية ، فيختار الأمثل، وإذا فعل ذلك بعد الاجتهاد التام ، وأخذه للولاية بحقها ، فقد أدى الأمانة ، وقام بالواجب في هذا ، وصار في هذا الموضع من أئمة العدل المقسطين عند الله، أي أن ابن تيمية دشن مفهوم "الكفاءة ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب". ثم تطرق ابن تيمية إلي أركان الولاية، ورأى أنها ركنان القوة والأمانة ، والقوة في كل ولاية بحسبها ؛ فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب ، وإلى الخبرة بالحروب ، والخادعة فيها ، فإن الحرب خدعة ، وإلى القدرة على أنواع القتال، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة ، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام، والأمانة ترجع إلى خشية الله ، وإلا يشتري بآياته ثمنا قليلا وترك خشية الناس. ووضع ابن تيمية قاعدة عامة حيث رأى أن اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل ،لتصبح القاعدة أن الواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها . فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والأخر أعظم قوة : قدم أنفعهما لتلك الولاية : وأقلهما ضررا فيها : فيقدم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع -وإن كان فيه فجور- على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أمينا ؛ كما سئل الإمام أحمد : عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو ، وأحدهما قوي فاجر والآخر صالح ضعيف ، مع أيهما يغزى ؛ فقال :أما الفاجر القوي ، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه؛ وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين . فيغزى مع القوي الفاجر. وإذا كانت الحاجة في الولاية إلى الأمانة أشد، قدم الأمين؛ مثل حفظ الأموال ونحوها؛ فأما استخراجها وحفظها، فلا بد فيه من قوة وأمانة، فيولي عليها شاد قوي يستخرجها بقوته، وكاتب أمين يحفظها بخبرته وأمانته . وكذلك في إمارة الحرب ، إذا أمر الأمير بمشاورة أهل العلم والدين جمع بين المصلحتين ، وهكذا في سائر الولايات إذا لم تتم المصلحة برجل واحد جمع بين عدد ؛ فلا بد من ترجيح الأصلح ، أو تعدد المولى ، إذا لم تقع الكفاية بواحد تام. ووضع ابن تيمية ثلاثة أمور لعون الوالي خاصة، ولغيره عامة ، أحدها : الإخلاص لله، والتوكل عليه بالدعاء وغيره ، وأصل ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن .الثاني : الإحسان إلى الخلق ، بالنفع والمال الذي هو الزكاة . الثالث : الصبر على أذى الخلق وغيره من النوائب. فبالقيام بالصلاة والزكاة والصبر يصلح حال الراعي والرعية. إذا عرف الإنسان ما يدخل في هذه الأسماء الجامعة: يدخل في الصلاة ذكر الله تعالى ، ودعاؤه ، وتلاوة كتابه ، وإخلاص الدين له ، والتوكل عليه . وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع : من نصر المظلوم ، وإغاثة الملهوف ، وقضاء حاجة المحتاج. ثم بين النوع الثاني من الأمانات: وهو الأموال ، ويدخل في هذا القسم: الأعيان، والديون الخاصة والعامة، مثل رد الودائع، ومال الشريك، والـمُوَكِّل، والمضارب، ومال المولَّى من اليتيم وأهل الوقف، ونحو ذلك. وكذلك وفاء الديون من أثمان المبيعات، وبدل القرض، وصَدُقات النساء، وأجور المنافع، ونحو ذلك. وتطرق ابن تيمية إلي مقصود الولاية: حتى يكون المتولي من أن يكون عدلا أهلا للشهادة يجب أن يعلم المقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود ؛ فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر . فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصد الدنيا ، دون الدين ؛ قدموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد. فالمقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم. وهو نوعان : قسم المال بين مستحقيه ؛ وعقوبات المعتدين ، فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه . فإذا اجتهد الراعي في إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان كان من أفضل أهل زمانه ، وكان من أفضل اﻟﻤﺠاهدين في سبيل الله. فالمقصود أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله العليا ، وكلمة الله : اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه، فالمقصود من إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، أن يقوم الناس بالقسط في حقوق الله ، وحقوق خلقه. الصالحين أرباب السياسة الكاملة ، هم الذين قاموا بالواجبات وتركوا المحرمات ، وهم الذين يعطون ما يصلح الدين بعطائه ، ولا يأخذون إلا ما أبيح لهم ، ويغضبون لرﺑﻬم إذا انتهكت محارمه ، ويعفون عن حقوقهم ، وهذه أخلاق رسول الله في بذله ودفعه ، وهي أكمل الأمور .وكل ما كان إليها أقرب ، كان أفضل . فليجتهد المسلم في التقرب إليها بجهده
وفيما يتعلق بالعلاقة بين الوالي والرعية: على الولاة والرعية أن يؤدي إلى الآخر ما يجب أداؤه إليه ، فعلى ذي السلطان ، ونوابه في العطاء ، أن يؤتوا كل ذي حق حقه ، وعلى جباة الأموال كأهل الديوان أن يؤدوا إلى ذي السلطان ما يجب إيتاؤه إليه ؛ وكذلك على الرعية الذين تجب عليهم الحقوق ؛ وليس للرعية أن يطلبوا من ولاة الأموال ما لايستحقونه. "ولا لهم أن يمنعوا السلطان ما يجب دفعه إليه من الحقوق ، وإن كان ظالما"، وهنا نرى ان ابن تيمية وان كان لم يذكرها صراحة الا انه بهذا ضد الثورة على الحاكم او الخروج عليه. وكثيرا ما يقع الظلم من الولاة والرعية: هؤلاء يأخذون ما لا يحل ، وهؤلاء يمنعون ما جب، كما قد يتظالم الجند والفلاحون . وكما قد يترك بعض الناس من الجهاد ما يجب ، ويكتر الولاة من مال الله ما لا يحل كتره . وكذلك العقوبات على أداء الأموال ؛فإنه قد يترك منها ما يباح أو يجب ؛ وقد يفعل ما لا يحل . والأصل في ذلك : أن كل من عليه مال ، يجب أداؤه ، كرجل عنده وديعة ، أو مضاربة ، أو شركة ، أو مال لموكله ، أو مال يتيم... الخ، أو عنده دين وهو قادر على أدائه ، فإنه إذا امتنع من أداء الحق الواجب : من عاين ، أو دين ، وعرف أنه قادر على أدائه ؛ فإنه يستحق العقوبة، حتى يظهر المال ، أو يدل على موضعه . فإذا عرف المال ، وصير في الحبس ، فإنه يستوفى الحق من المال ، ولا حاجة إلى ضربه ، وإن امتنع من الدلالة على ماله ومن الإيفاء ، ضرب حتى يؤدي الحق أو يمكن من أدائه. فمن ولي ولاية يقصد ﺑﻬا طاعة الله ، وإقامة ما يمكنه من دينه ، ومصالح المسلمين ، وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات واجتنب ما يمكنه من المحرمات : لم يؤاخذ بما يعجز عنه : فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار ومن كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ، ففعل ما يقدر عليه ، من النصيحة بقلبه ، والدعاء للأمة ، ومحبة الخير ، وفعل ما يقدر عليه من الخير : لم يكلف ما يعجز عنه ؛ فإن قوام الدين بالكتاب الهادي ، والحديد الناصر ، كما ذكره الله تعالى، ثم م وضَّح أن الأموال التي أصلها في الكتاب والسنة ثلاثة أصناف: الغنيمة، والصدقة، والفيء واستطرق الحديث فيها. مقاومة ابن تيمية لمفهوم الرشوة كما نعرفه حاليا: اكد ابن تيمية على أن "ما أخذه العمال وغيرهم من مال المسلمين بغير حق ، فلولي الأمر العادل استخراجه منهم ؛ كالهدايا التي يأخذوﻧﻬا بسبب العمل. وكذلك محاباة الولاة في المعاملة من المبايعة ، والمؤاجرة والمضاربة ، والمساقاة من عماله والمزارعة ونحو ذلك ، هو من نوع الهدية". فلما تغير الإمام والرعية ، كان الواجب على كل إنسان أن يفعل من الواجب ما يقدر عليه ، ويترك ما حرم عليه ، ولا يحرم عليه ما أباح الله له . وقد يبتلى الناس من الولاة بمن يمتنع من الهدية ونحوها ؛ ليتمكن بذلك من استيفاء المظالم منهم. الطبيعة البشرية وأنواع البشر كما ذكرها ابن تيمية: الناس ثلاث فرق : فريق غلب عليهم حب العلو في الأرض والفساد ، وهؤلاء نظروا في ، عاجل دنياهم ، وأهملوا الآجل من دنياهم وآخرﺗﻬم ، فعاقبتهم عاقبة رديئة في الدنيا والآخرة. وفريق عندهم خوف من الله تعالى ، ودين يمنعهم عما يعتقدونه قبيحا من ظلم الخلق ، وفعل المحارم ، فهذا حسن واجب. والفريق الثالث : الأمة الوسط ، وهم أهل دين محمد وخلفاؤه على عامة الناس وخاصتهم إلى يوم القيامة ، وهو إنفاق المال والمنافع للناس -وإن كانوا رؤساء- بحسب الحاجة ، إلى صلاح الأحوال ، ولإقامة الدين ، والدنيا التي يحتاج إليها الدين ، وعفته في نفسه ، فلا يأخذ ما لا يستحقه فيجمعون بين التقوى والاحسان، ولا تتم السياسة الدينية إلا ﺑﻬذا ، ولا يصلح الدين والدنيا إلا ﺑﻬذه الطريقة. والناس اربعة اقسام: القسم الأول : يريدون العلو على الناس ، والفساد في الأرض وهو معصية الله ، وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون ، كفرعون وحزبه . وهؤلاء هم شرار الخلق، والقسم الثاني : الذين يريدون الفساد ، بلا علو ، كالسراق واﻟﻤﺠرمين من سفلة الناس والقسم الثالث : يريدون العلو بلا فساد ، كالذين عندهم دين يريدون أن يعلوا به على غيرهم من الناس .أما القسم الرابع : فهم أهل الجنة ، الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا مع انهم قد يكونون اعلى من غيرهم. لأن إرادة العلو على الخلق ظلم ؛ لأن الناس من جنس واحد . فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ظلم . ومع انه ظلم فالناس يبغضون من يكون كذلك ويعادونه ؛ لأن العادل منهم لا يحب ان يكون مقهورا لنظيره وغير العادل منهم يؤثر أن يكون هو القاهر . ثم إنه مع هذا لا بد لهم -في العقل والدين- من أن يكون بعضهم فوق بعض ، كما قدمناه ، كما أن الجسد لا يصلح إلا برأس.
العدل بالعقاب وتطبيق الحدود: العدل عند ابن تيمية يتم بتطبيق حدود الله ، وحقوق الله : مثل حد قطاع الطريق ، والسراق ، والزناة ونحوهم. وهذا القسم يجب إقامته على الشريف ، والوضيع ، والضعيف ، ولا يحل تعطيله؛ لا بشفاعة ، ولا ﺑﻬدية ، ولا بغيرهما ، ولا تحل الشفاعة فيه . ومن عطله لذلك -وهو قادر على إقامته- فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وهذا لأن المعاصي سبب لنقص الرزق والخوف من العدو ، فإذا أقيمت الحدود ، ظهرت طاعة الله ، ونقصت معصية الله تعالى ، فحصل الرزق والنصر .ولا يجوز أن يؤخذ من الزاني أو السارق أو الشارب أو قاطع الطريق ونحوهم مال تعطل به الحدود ؛ لا لبيت المال ولا لغيره . وهذا المال المأخوذ لتعطيل الحد سحت خبيث ، وإذا فعل ولي الأمر ذلك فقد جمع فسادين عظيمين : (أحدهما : تعطيل الحد ، والثاني : أكل السحت. وولي الأمر إذا ترك إنكار المنكرات وإقامة الحدود عليهما بمال يأخذه : كان بمترلة مقدم الحرامية ، الذي يقاسم المحاربين على الأخيذة ، وبمترلة القواد الذي يأخذ ما يأخذه ؛ ليجمع بين اثنين على فاحشة ، وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، وهذا هو مقصود الولاية . فإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه ، كان قد أتى بضد المقصود ، مثل من نصبته ليعينك على عدوك ، فأعان عدوك عليك. فينبغي أن يعرف أن اقامة الحدود رحمة من الله بعباده: فيكون الوالي شديدا في اقامة الحد ، لا تأخذه رأفة في دين الله فيعطله . ويكون قصده رحمة الخلق بكف الناس عن المنكرات ؛ لا شفاء غيظه ، وإرادة العلو على الخلق. وجماع القول أن العقوبة نوعان : أحدهما: على ذنب ماض ، جزاء بما كسب نكالا من الله ، كجلد الشارب والقاذف ، وقطع المحارب والسارق . والثاني: العقوبة لتأدية حق واجب ، وترك محرم في المستقبل ، كما يستتاب المرتد حتى يسلم، فإن تاب ؛ وإلا قتل . وكما يعاقب تارك الصلاة والزكاة وحقوق الآدميين حتى يؤدوها . العقوبات التي جاءت ﺑﻬا الشريعة لمن عصى الله ورسوله نوعان : أحدهما : عقوبة المقدور عليه، من الواحد والعدد ، كما تقدم . والثاني : عقاب الطائفة الممتنعة ، كالتي لا يقدر عليها إلا بقتال. وكما أن العقوبات شرعت داعية إلى فعل الواجبات ، وترك المحرمات ، فقد شرع ايضا كل ما يعين على ذلك فينبغي تيسير طريق الخير والطاعة ، والإعانة عليه ، والترغيب فيه بكل ممكن؛ مثل أن يبذل لولده ، وأهله ، أو رعيته ما يرغبهم في العمل الصالح : من مال ، أو ثناء أو غيره ولهذا شرعت المسابقة بالخيل ، والإبل ، والمناضلة بالسهام ، وأخذ الجعل عليها ؛ لما فيه من الترغيب في إعداد القوة ورباط الخيل لجهاد في سبيل الله. مفهوم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر: صلاح العباد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ فإن صلاح المعاش والعباد في طاعة الله ورسوله ، ولا يتم ذلك إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وبه صارت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس. ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس : صلح للطائفتين دينهم ودنياهم ؛ وإلا اضطربت الأمور عليهم . وملاك ذلك كله صلاح النية للرعية ، وإخلاص الدين كله لله ، والتوكل عليه . فإن الإخلاص والتوكل جماع صلاح الخاصة والعامة. فكرة الجهاد عند ابن تيمية: كل من بلغته دعوة رسول إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له ؛ فإنه يجب قتاله، أي أن الجهاد في تلك الحالة هو جهاد الكفار. فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين والدنيا ، ومشتمل على جميع أنواع العبارات الباطنة والطاهرة ، فإنه مشتمل من محبة الله تعالى ، والإخلاص له ، والتوكل عليه ، وتسليم النفس والمال له ، والصبر والزهد ، وذكر الله ، وسائر أنواع الأعمال ؛ على ما لا يشتمل عليه عمل آخر .والقائم به من الشخص والامن ان احدى الحسنيين دائما إما النصر والظفر ، وإما الشهادة والجنة .فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه، ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار ، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم، فأما أهل الكتاب واﻟﻤﺠوس فيقاتلون ، حتى يسلموا ، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون. مفهوم الصبر: وقد اعطى ابن تيمية تعريف للصبر بأنه "احتمال الأذى ، وكظم الغيظ ، والعفو عن الناس ، ومخالفة الهوى ، وترك الأشر والبطر". ثامنا: مفهوم العدالة: عند ابن تيمية العدالة هي "الصلاح في الدين والمروءة ؛ باستعمال ما يجمله ويزينه ، وتجنب ما يدنسه ويشينه." تاسعا: مبدأ الشورى: اكد ابن تيمية على أنه لا غنى لولي الامر من المشاورة ، إن الله أمر ﺑﻬا نبيه لتأليف قلوب أصحابه ، وليقتدي به من بعده ، وليستخرج ﺑﻬا منهم الرأي فيما لم يترل فيه وحي : من أمر الحروب ، والأمور الجزئية ، وغير ذلك ، فغير النبي أولى بالمشورة . واذا استشارهم ، فإن بين له بعضهم ما يجب اتباعه من كتاب الله أو سنة رسوله أو إجماع المسلمين ، فعليه اتباع ذلك ، ولا طاعة لأحد في خلاف ذلك ، وان كان عظيما في الدين والدنيا. وان كان امرا قد تنازع المسلمون فينبغي أن يستخرج من كل منهم رأيه ووجه رأيه ، فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به. وأكد ابن تيمية على أن اولو الامر صنفان الأمراء والعلماء ، وهم الذين إذا صلحوا صلح الناس، فعلى كل منهما أن يتحرى بما يقوله ويفعله طاعة الله ورسوله ، واتباع كتاب الله . ومتى أمكن في الحوادث المشكلة معرفة ما دل عليه الكتاب والسنة كان هو الواجب ، وإن لم يمكن ذلك لضيق الوقت أو عجز الطالب ، أو تكافؤ الأدلة عنده أو غير ذلك ، فله أن يقلد من يرتضي علمه ودينه.
ومن العرض السابق يتبين ان المفهوم المحوري في كتاب أبن تيمية هو مفهوم "الامامة" والذي يتفرع منه عدة مفاهيم – سبق شرحها- وهي مفهوم الامة ومبدأ الطاعة وقاعدة ولاية الاصلح ومفاهيم القوة والامانة والعدل والعدالة والمساواة ومبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومبدأ الشورى ، الا ان مفهوم الامامة كما عرضه ابن تيمية يدل على أن تاريخ ظهور الأئمة يرجع إلى نظرية الغلبة والقهر في تعيين الإمام، إذ يدل على أن معظم الأئمة جاءوا نتيجة القهر والغلبة. ولم يحدث انتخاب على الطريقة الديمقراطية وفق مفهومها الحديث، ولذلك لم يتطرق او يشير الي مفهوم الديمقراطية . كما يمكن القول أنه اذا كان الولاة هم المسئولون عن جمع الاموال وتحقيق العدل والمساواة فتكون بذلك تلك هي وظائف الدولة عند ابن تيمية من حفظ الاجتماع بين البشر بالعدل والمساواة وتأدية الامانات من كلا الطرفين واقامة العقوبة على المخالف وهو جزء من العدل، وامتلاك الجيش لتحقيق وظيفة الجهاد.
#انجي_وحيد_فخري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في -بيان الحزب الشيوعي- لكارل ماركس وفريدريك انجلس
-
قراءة نقدية في كتاب: التبر المسبوك في نصيحة الملوك للإمام أب
...
-
قراءة نقدية في كتاب -الأمير- لمكيافيللي
-
العلاقة بين جماعة الاخوان المسلمين والولايات المتحدة الامريك
...
-
احتمالات توجيه ضربة عسكرية اسرائيلية لايران
-
تحليل مقولة -الاسلام دين ودولة-
-
قراءة نقدية في كتاب -عن الحرية- للمفكر جون ستيوارت ميل
-
العلاقة بين الدين والدولة في فكر جماعة الاخوان المسلمين
-
السياسة الخارجية في الخطاب السياسي لرئيس الجمهورية محمد مرسي
المزيد.....
-
بعد ارتفاع أسهم تسلا عقب الانتخابات الأمريكية.. كم تبلغ ثروة
...
-
وزير الخارجية الفرنسي: لا خطوط حمراء فيما يتعلق بدعم أوكراني
...
-
سلسلة غارات عنيفة على الضاحية الجنوبية لبيروت (فيديو)
-
هل تعود -صفقة القرن- إلى الواجهة مع رجوع دونالد ترامب إلى ال
...
-
المسيلة في -تيزي وزو-.. قرية أمازيغية تحصد لقب الأجمل والأنظ
...
-
اختفاء إسرائيلي من -حاباد- في الإمارات وأصابع الاتهام تتجه ن
...
-
أكسيوس: ترامب كان يعتقد أن معظم الرهائن الإسرائيليين في غزة
...
-
بوتين يوقع مرسوما يعفي المشاركين في العملية العسكرية الخاصة
...
-
-القسام- تعرض مشاهد استهدافها لمنزل تحصنت فيه قوة إسرائيلية
...
-
للمرة الأولى... روسيا تطلق صاروخ -أوريشنيك- فرط صوتي على أوك
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|