عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 4090 - 2013 / 5 / 12 - 22:18
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
هناك حوراية بين الله وبين الملائكة تكشف لنا خيوط قد غابت عن أذهان الكثيرين ممن بحث مسألة الخلق والأستخلاف فبين إني جاعل وبين تجعل فيها تمتد قصدية وعلة لا ندرك أبعاد علاتها إلا من خلال فهمنا لمعنى الجعل{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}.. {قَالُواْ}....{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}...{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }البقرة30,هذه الحوارية لابد أن ندرج من قرأتها النقاط التالية وهي ركيزة البحث.
• هل أن أخبار الله للملائكة كان عن ضرورة أم عن أخبار لأجل الأخبار وما يترتب على ذلك من تكاليف أو أوامر؟, فإذا كان لضرورة تقتضي أن يكون للملائكة دور في هذا الجعل ,فما هي هذه الضرورة التي تدعو الله للأخبار عن أشاءة حصرية وقدسية له دون أن يكون لمخلوق دور في تنفيذها أو المشاركة في هذا الجعل.
إن لم يكن هناك ضرورة ترتب حتمية له فما قيمة الأخبار أذن؟,فإذا كان الأخبار لمجرد العلم فكان بالأمكان أن يعلم الملائكة لاحقا بهذا الأمر كما في كافة أمور الخلق والجعل التي لحقت خلقهم أنفسهم فيصبح الأمر تسليم بما هو كائن,وهذه هي سنة الله مع الخلق.
هنا الأحتمال الأول يرجح في الميزان العقلي والنقلي من أن وجود ضرورة للأخبار متحققة ولكن ليس بمقام طلب الرأي أو المساعدة أو الحاجة,ولكن للأعلام عن أمر له علاقة بتكاليف الملائكة ,وأن هذا الأمر يتطلب منهم طاعة ليست عبادية محضة وإن كان شكلها كذلك , ولكنها صورة قياسية أمتحانية لهم بمعنى البلاء.
• النص يخبر أيضا عن أن الأخبار كان مخصوص لنوع واحد من خلق الله وهم الملائكة,ومن سياقات النصوص القرآنية ومن خلال السرد الروائي القرآني لقصة الجعل لا بد أن يكون هناك خلق عاقل أخركان يشارك الملائكة في الوجود السابق للآدمية ألا وهو وجود الجن,بدليل أن ابليس كان من الجن وهو يعيش مع الملائكة.
الجن هنا لهم وجود حقيقي ومؤكد ولكن الله لم يخبرهم لعلتين الأولى أنهم غير معنيين بالأمر الذي سيفرضه الله على مجمع الملائكة ومن هم بدرجتهم والأمر الثاني أنهم سيعلمون به من خلال ألية أستراق السمع التي كان يمارسه الجن كما ورد في النصوص القرآنية فهم سيعلمون به دون أن يكون لهم دور محدد به أو منه.هذا الاستنتاج يعزز القول الاول ويقوي أتجاه ان الأخبار كان ضروريا لما بعده,وأن هذا الجعل سيصطدم بمسلمات وعلم سابق عن معنى أن يجعل الله خلفة في الأرض.
• النص كذلك يؤكد حقيقة مهمة أن الحلق الذي سيجعله سيكون محكوما منذ البداية انه سيسكن الأرض وأن هذه الأشاءة واجبة النفاذ ولا يمكن الهروب منها أو تجاوزه على أي حال,وأن مجرد وجود آدم في مكان غير الأرض ما هو إلا حال مؤقت لا بد أن ينتهي بنزوله للأرض.
وكذلك يظهر من الكلام أن الأرض التي أشير إليها بصيغة أسم العلم هي أرض واحدة محددة لا يمكن ان تكون لها شبيه أو مثال وهي الأرض التي نسكن عليها وفيها الأن,وإن كل المحاولات التي تجري الآن للكشف عن حياة آدمية خارج الأرض هي مجرد أحلام قطع النص بأستحالتها,فلا أرض اخرى غير هذه الأرض ولا آدم غير آدم الأول المجعول خليفة في الأرض.
• نقطة جديرة بالأهتمام ألا وهي مسألة الأستخلاف محكومة بالأبدية والفردانية فلا مجال لأن يكرر الله التجربة وإن كان ذلك ليس ببعيد عن القدرة ولكن الله أراد أن يجعل من هذه التجربة الجعلية مدار للأبتلاء الكوني كله بالطاعة والتسليم له,فلو قدر أن الله أنهى الوجود في زمن ما,وأستنادا للنص فلا يمكن ان تعود التجربة من جديد لأن النصوص خلت من هذه الأشارة,
وإذا كان الأمر كذلك فأن واقع المنطق القرآني والعقلي ينفي حدوث التجربة هذه قبل خلق آدمنا,فهي تجربة منفردة ولمرة واحدة,وهنا يثار السؤال كثيرا عن قول مشهور ينسبه البعض إلى مصادر إسلامية ينص على (أن قد خلق ألف آدم مثل آدمكم) وحيث أن النصوص الوافرة والمتوفرة لا تفصح لا باليقين ولا بالظن أن هذا القول يمكن أن يكون متوافقا مع المنهج الرباني في الجعل ولا يتماشى مع فهم النصوص وبالتالي فأن هذا القول مردود ولا صحة له.
• بعيدا عن الأستنتاجات وتماشيا مع قراءة النص هناك نقطة ملفتة للنظر جدا ألا وهي قول الملائكة لله تعالى من باب الأعتراض{قَالُواْ}القول هنا لا بد أن يكون ذا معنى محدد ومقصود وإلا كان عبثا إن لم يكن دالا على شيء{أَتَجْعَلُ فِيهَا}أي في الأرض ومن خلال هذه الأشاءة من الله,نتائج لا بد أن تسبقها علم توفر للملائكة من نتيجته أما متوقعة أو معلومة والسؤال المهم هو عن مصدرية هذا العلم وكيفيته إذا سلمنا بعلمه به كما تدل بقية سياقات الآية عليه{مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}.
فإن كان الملائكة يعلمون فالنص ينفي ذلك عنهم بالقطع التام{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ },وإن كانوا لا يعلمون فمن أين أستنتج هؤلاء الإفساد وسفك الدماء من المجعول الجديد؟,هنا لا بد أن نتدبر مخرجا عقليا وتأوليا لا يتناقض بين البناء النصي روحه ومدلولاته وقصدياته وبين واقع حال فرضه النص نفسه وأشار إليه.
• النقطة الأخيرة هنا والتي تجلب الأنتباه هي حقيقة قول الملائكة تحديدا عن محددات هذا الأعتراض فهو تعلق بنقطتين أثنتين لم يتعداهم النص وقد أشارت الكثير من الآيات في القرآن على التحذير منهما وهما سفك الدماء والأفساد في الأرض,ومن ربط النصوص مع بعض نجد أن للكلائكة في أعتراضهم هذا وجه حق ولكن الحق الأكبر الذي نؤمن به هو قول الله { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ},
فلم يشير النص إلى خشية من محدد أخر غير سفك الدماء والإفساد وهاتان الخصلتان من مفرزات النفس الإنسانية الحسية الثانية ومن نتائجها وخصيصاتها التي تتمثل بالشهوانية المدمرة والسبعية الفاتكة حيث تشير خصيصة الشهوانية دوما للإفساد{وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً}النساء27,بينما تشير السبعية دوما إلى إراقة الدماء {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}الفرقان68.
هنا لابد أن من يتمتع بهاتين الخصلتين وهما سفك الدماء وإتباع الشهوة لو تقلد بهما على الوجه الكامل الذي يطغي على أي محدد أخر وتستوعب كامل سلوكياته لا بد أنه ينزل من المرتبة الآدمية إلى المرتبة الحيوانية ليس بالوصف فقط بل بحقيقة واقعه الخلقي فالله تعالى أراد أن يجعل من هذا الخليفة مخلوق مركب تتصارع فيه الشهوانية والسبعية مع ملكة التعقل والنطقية ليكون محلا لتمثل أمر الله الرسالي لذلك وهبه الأثنين معا النفس الأمارة بالسوء والعقل الذي يدرك حقيقة وجود الله ويترجمها بالفطرة والتعلم والتعليم والإدراك والحس والفهم والحلم والعلم والأنتباه والتذكر.
من خلال توضيح النقاط اعلاه وما استلهمناه من قصديات النص القرآني نصل إلى مجمل في الفهم ندرك به أن عملية الجعل هذه لم تكن إلا حلقة من حلقات ترتيبات العلل وتسويق الغاية الربانية فيها بما يتلائم مع منهج أصلي كلي يربط بين البدايات والنهايات دون أن يكون هناك خلل أو تعارض في حلقات الوجود,بأشكاله المتعدده وخاصة فيما يرمي إليه بحثنا هذا من تشابه في بعض الحلقات ظاهريا وإن كان يخفيه هذا الترتيب من مكنونات لا بد من أن ندركها لنفهم روح التوافق بين العلم الرباني ونتائج العلم الوضعي.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟