|
غَسيلُ شهاداتٍ ...
حسام محمود فهمي
الحوار المتمدن-العدد: 4089 - 2013 / 5 / 11 - 20:02
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
الغسيلُ هو إزالة ُشئ ما لا يُراد ظهورُه، حتى لا يبدو على السطحِ إلا ما يريحُ الذاتَ أو ما يرُضي الآخرين، أو كِلاهما. بالتالي، لا يرتبطُ الغسيلُ بالمادياتِ الملموسةِ من ملابسٍ وأوانٍ وأرضياتٍ وحوائطٍ، فهو أشملُ بكثيرٍ، وقد درَجَ عالميًا مصطلحُ غسيلُ الأموالِ money laundering للدلالةِ على إظهارِ واجهاتٍ نظيفةٍ شريفةٍ لأموالٍ مصادرُها غيرُ ذلك، مثل فتح مكاتبٍ ومحالٍ شهيرةٍ فخيمةٍ لاستثمارِ أموالِ تجارةِ مخدراتٍ أو سلاحٍ أو بشرٍ، بحيث تكون غطاءًا ظاهرًا لنشاطٍ خفيٍ وتبدو مصدرًا كاذبًا لثراءٍ كاسحٍ، حتى لو لم تحققْ ربحًا حقيقيًا.
الغسيلُ إذن في مفهومِه غير المرتبطِ بالمادياتِ، هو إخفاءُ واقعٍ مَرفوضٍ أو مُخجلٍ بإظهارِ واجهةٍ مُخالفةٍ تُبديه جميلاً صحيحًا، لا خجلَ منه ولا عُقَدَ ولا مُركباتِ نقصٍ. الغسيلُ بهذا المفهومِ ليس عملاً محترمًا ولا يكون إلا في بيئةٍ غيرِ سويةٍ تسمحُ به، أو تتسامحُ معه، بيئةٌ لا قانونَ فيها، الانتهازيةُ أهم وسائلُها. وقد عرفت مصر كل أنواعَ الغسيلِ وأضافَت إليه من خصوصياتِها، ولا ننسى أثرياءَ الانفتاحِ وتوظيفِ الأموالِ وتجارةِ العملةِ والشنطةِ الذين بنوا في الممنوعِ وافتتحوا تحت الأضواءِ المبهرةِ، وكلُه تحت شعارٍ شاعَ، أنجَرُ الفتة. ومع مرور الوقت وتغَيُر النفوسِ والأزمنةِ ومع انتشارِ مبدأ "الحمرأة" ظهرَ غسيلٌ جديدٌ في المجالِ التعليمي والوظيفي، غسيلُ الشهادات. لتأكيدِ المعاني قبلَ دخولِ التفاصيلِ، الحمرأةُ هي التَمَسكُن والطأطأةُ عند الحاجة والتَنَمُرُ وقت المقدرةِ أو تصورِ المقدرةِ.
ولنتوغل الآن في التفاصيلِ. الثانوية العامةُ بما لها وما عليها هي المعيارُ الأعدلُ لتوزيعِ الحاصلين عليها، تعليم عال أو متوسط، علمي أو أدبي. لكن مع مصطلحِ أو تصنيف الكلياتِ إلى قمةٍ وقاعٍ، وبالتالي التفرقةُ بين الخريجين اجتماعيًا، ومهاريًا، ظهرَت العُقدُ الاجتماعيةُ. فمن يدخلُ كليةً بمجموعٍ متدنٍ يظلُ طوال عمرِه منعوتًا بما لا يحبُ، لا بدَ إذن من مخرجٍ يتفقُ مع الفهلوةِ والفتاكةِ المصريةِ حتى لو كان شاذًا نشاذًا متخاصمًا مع جرى عليه العالمِ، ومن هنا ظهرَ غسيلُ الشهاداتِ، بالذوق وبالعافيةِ خاصةً في هذه الأيامِ التي تحكمُها الغتاتة والغوغائيةُ وحكمُ الشارعِ.
مظاهراتٌ واعتصامات أمام وزارة التعليم العالي ومجلس الشعب وفي الجامعات، لماذا؟ للحصولِ على شهادةٍ أخرى أو لقبٍ وظيفي غير مستحقٍ. طلابُ أقسام الهندسة الزراعية بكليات الزراعةِ يريدون دخول نقابة المهندسين، فهم يرون أنهم مهندسون، الحكايةُ بدأت بمجموعٍ أوصَلَ إلى كليات ِالزراعةِ بلائحتِها الدراسيةٍ وانتهَت بالمطالبةِ بلقبِ مهندسِ. نفس الوضعِ بدأ باقسام ٍللحاسباتِ في كلياتِ العلوم بمجموعِها ثم تحولُها إلى كلياتٍ للحاسباتِ والمعلوماتِ بمواصفاتِها ولائحتِها وبمجموعِها، وانتهَى إلى أن خريجي وطلاب كليات الحاسبات والمعلومات أطلقوا على أنفسِهم مهندسين بوضعِ اليد، كيف؟ لأنهم يَدرِسون هندسة برمجيات software engineering فتمسكوا بلقب مهندس، في غير إطارِه ومعناه وتعريفِه ومواصفاتِه، وأغفلوا لقب مُبَرمِج programmer. وكأن الألقاب الوظيفيةِ تخضعُ للهوى الشخصي وليس المعاييرِ العالميةِ. حدوتةُ سخيفةُ تكررَت وتكررَت، بدأت مع طلاب المعاهد الفنية العليا التي أُنشئت بغرضِ تخريجِ فني على قدرةٍ مهاريةٍ ليست نظريةٍ، وبلائحةٍ دراسيةٍ أُعِدَت لذلك، وانتهَت بمظاهراتٍ واعتصاماتٍ للحصولِ على لقبِ مهندس. نفسُ الحالِ، خريجو المعاهدِ الفنية للقوات المسلحةِ يريدون معادلةَ شهاداتِهم بتلك الممنوحةِ من كلياتِ الهندسةِ، لماذا لا تُعادلُ شهاداتُهم بشهادةِ الكليةِ الفنيةِ العسكريةِ لو كان ذلك ممكنًا؟ هو كده في زمن اللامنطقِ. وأيضًا حكايةُ معهدِ الكفايةِ الإنتاجيةِ التي انتهَت بالمعادلةِ مع بكالوريوس الهندسةِ بعد استيفاءِ عامين دراسيين إضافيين، وبعدها تمت تصفية المعهد! العنوانُ الرئيسي المُعادُ بنفسِ السيناريو، الالتحاقُ بدراسةٍ بمجموعِها والقبولِ بشروطِها مؤقتًا بنيةِ "الحمرأة" لتحسين الأوضاع بالقفزِ إلى شهادةٍ أخرى وبمُسمى وظيفي آخر. ابتذالٌ للشهاداتِ الدراسيةِ والألقابِ الوظيفيةِ، وكأن أصحابَ المهنِ اليدويةِ هم القدوةُ لما أطلقوا على أنفُسِهِم ألقابَ مهندس ودكتَرة وكفاءة.
خريجو وطلابُ كليات العلاجِ الطبيعي، اعتبروا أنفسَهم أطباء، الصيادلةُ يصفون الأدوية، صحةُ المريض لا تهمُ، هوجة. طلابُ الجامعاتِ والمعاهدِ الخاصةِ وبعض الجامعات الحكومية يُسَجِلون للدراسات العليا من دبلوم وماجستير ودكتوراة في جامعات القاهرة والإسكندرية وعين شمس حتى تُنسى شهادَتُهم الأسبق، غسيلُ شهادات، المهمُ آخرُ شهادةٍ، لا غرابةَ من تدني مستوى الدراسات العليا أيضًا، خاصةً مع عدمِ قدرةِ الإداراتِ الجامعيةِ على قبولِ نتائجٍ مُتدنيةٍ للامتحاناتِ، وكذلك مع رغبتِها الغالبةِ في تحصيلِ رسومٍ عن الدراساتِ العليا ولو تواضعَ مستوى المتقدمين.
أما منحِ درجاتٍ علميةٍ قبل اتباع إجراءات المعادلةِ فقد درجَت عليه بعض الجامعاتِ عملًا بسياسة الأمر الواقعِ، بإتاحةِ شهاداتٍ بوضع اليدِ، وعلى المتضرِرين، وهم جمهورُ الطلابِ، التظاهرُ والاعتصامُ، أمام الوزرات، في الجامعاتِ، في أي مكانٍ، باعتبارِها وسيلة الحصولِ على المعادلةِ، الغسيلُ. وكأن الجامعاتِ كمؤسساتٍ تربويةٍ تسلك نفس النهجِ الذي نعيبُه، لحساباتِها الخاصةِ جدًا.
وكدأبِها، ساعدَت بعض الفضائياتِ على شيوعِ مفهومِ غسيلِ الشهاداتِ وروجَت له طالما أن الموضوعَ تربيطاتِ في تربيطاتِ، ثوريو غسيل الشهادات مع فضائيين، المهم الدوشة والزيطة حتى في أمرٍ أكاديمي بحت، له معاييرُه العالميةُ وقواعدُه، والتي لا تؤدي مخالفتُها إلا إلى استمرارِ تدهورِ سمعةِ التعليمِ المصري وخريجيه. يظهرُ الفضائيون وكأنهم فاهمون جدًا ومُهتَمون بالقوي، ويظهرُ ثوريو غسيلِ الشهاداتٍ صائحين بمنطقٍ مُعوجٍ، مُتباكين على ما يُظهرونه ظلمًا وعدمَ فهمِ الدولةِ لهم، وطبعاً مظاهراتُ واعتصاماتُ الطلابِ جاهرةٌ ومُستعدةٌ، أليسوا المستقبلَ، أليست ثورةً.
في مصر، كله يروح في الغسيل، كلُه يَغسِلُ، وكله يُغسَلُ، كلُه بالحَمرأة. غسيلُ شهاداتٍ certificates laundering، مصطلحٌ مصريٌ. غسيلُ ماضي، كلُهم ثوريون اليوم. غَسيلُ تاريخٍ، بلدٌ كُتِبَ تاريخُه منذ آلاف السنين، يُعادُ الآن تصويرُه وصياغتُه. ولسه، ما أكثر ما في الجرابِ من غسيل،،
مدونتي: ع البحري www.albahary.blogspot.com Twitter: @albahary
#حسام_محمود_فهمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قبل أحمد ومحمد ما ييجوا ...
-
الجامعاتُ في محنةٍ .. الكلُ على خطأ
-
في المستشارين ...
-
هل تحتاج مصر وسيط دولي؟
-
المرأة كائن أدنى .. فِعلًا
-
تعريبُ العلوم ِبين العاطفةِ والسياسةِ والواقعِ ...
-
الجَودةُ الفسدانةُ ...
-
عالمُ فيسبوك ... الوهمُ
-
حَجبُ جوجل ويوتيوب ... مصر للوراء
-
إخواني ...
-
الأبحاث السيكو سيكو ...
-
فتح مصر
-
إعلام السيكو سيكو
-
هل تتفقُ مصلحةُ الإخوان مع مصلحةِ مصر؟
-
حَجبُ المواقعِ ليسَ من الإنترنت ....
-
المدينة الفخارية ...
-
صُحفُ الإخوانِ ... الوطني سابقًا
-
من وحي انقطاع الكهرباء ...
-
منحُ اللجوءِ السياسي للأقباطِ ... لَطشةٌ مسكوتٌ عنها
-
العشوائيات في السكك الحديدية
المزيد.....
-
الإدارة الأمريكية توضح جهودها لـ-تهدئة التوترات- بين تركيا و
...
-
عائلات فلسطينية ترفع دعوى على الخارجية الأمريكية بسبب دعمها
...
-
نهاية أسطورة الاستبداد في المنطقة
-
-ذي تلغراف-: الولايات المتحدة قد تنشر أسلحة نووية في بريطاني
...
-
-200 ألف جثة خلال 5 سنوات-.. سائق جرافة يتحدث عن دفن الجثث ب
...
-
وليد اللافي لـ RT: البرلمان الليبي انحاز للمصالح السياسية وا
...
-
ميزنتسيف: نشر -أوريشنيك- في بيلاروس كان ردا قسريا على الضغوط
...
-
خوفا من الامتحانات.. طالبة مصرية تقفز من الطابق الرابع بالمد
...
-
ألمانيا وفرنسا وبريطانيا تدعو إيران إلى -التراجع عن تصعيدها
...
-
طهران تجيب عن سؤال الـ 50 مليار دولار.. من سيدفع ديون سوريا
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|