|
مكونات الطبقة الوسطى العراق نموذجاً
ياسين النصير
الحوار المتمدن-العدد: 1173 - 2005 / 4 / 20 - 12:15
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
1 لم يتشكل أي مفهوم واضح للطبقة الوسطى أدبيا، لا في كتابات رواد النهضة العربية، ولا في أدبيات المثقفين الكبار. وحتى في كتابات مؤسسي الأحزاب السياسية في العراق بقيت هذه المفردة غائبة رغم وجودها. كما لم نجد لها تعريفا معيناً في ثقافتنا العربية القديمة نستدل به على تركيبة اجتماعية أو هوية لمجموعة من الناس. أما قواميس السياسة والاقتصاد فهي الأكثر غرابة فلم تفرد لها أي نص معين يحددها ويشخص ملامحها. وقد أكون على خطا، فلست ملما بكل ما ينشر في هذا الموضوع ولكننا في المجتمعات العربية بدأنا نقتبس من الأفكار الماركسية ما يقرب فهمنا عن تركيبة المجتمع في مفهوم الطبقات بشكل عام وهو اقتباس خضع للإيديولوجية الماركسية وفق ما يراه مطبقوها وثقافتها الميدانية. فهناك وفق هذه الثقافة الرأسمالية والبرجوازية بشقيها الكبير والصغير، وهناك الطبقة العاملة المسندة بالمثقفين والفلاحين ولم نجد ما يشير في أدبيات الماركسية التي تربينا عليها إلى مفهوم الطبقة الوسطى إلا في إطار البرجوازية الوطنية وشرائحها المتعددة. من هنا يصبح المفهوم إشكالية معرفية وثقافية بحد ذاته حينما تتوزعه مفردات مثل الرأسمالية والبرجوازية الكبيرة والبرجوازية الصغيرة وطبقة العمال والفلاحين والمثقفين. ثم يزداد المفهوم غموضا عندما نحلل تركيبة مجتمعاتنا العربية ذات الإرث العريق والمتكونة بحكم وجودها القديم من خليط غير متجانس من التركيبة الاجتماعية والدينية والسياسية، وهو أمر لم تفرد له دراسات ميدانية عدا كتابات الدكتور الطيب التزيني. كما إن الافتقار للدراسات المتخصصة في هذا المجال أحدى إشكاليات الثقافة المعاصرة. فما نقرأه حينا هنا أو هناك هو جملة مقالات عن هوية للاقتصاد وللسياسة وللثقافة وللدين وللعمل دون الغوص فيها وهو أمر غير كاف، مما جعل مفهوم الطبقة الوسطى يحمل في أبعاده تناقضا جديداً أتى إليه من تناقض أوسع هو تركيبة المجتمع العربي نفسه التي لم تعرف فروقا كبيرة بين الطبقات مثل ما حدث في المجتمعات الأوربية حيث الحدود فيها واضحة بين الطبقات الاجتماعية وضوح السياسة وهوية الإنتاج. ولكن هل يعني ذلك أن لا وجود لها في مجتمعنا العربي؟ أم أنها ولدت وهي تحمل كل هذه النوى المختلطة للطبقات الأخرى.؟ في مكونات الطبقة الوسطى العربية نلمح تشكيلا غريبا لم نر مثله في تشكيلاتها في المجتمعات الغربية، فهي مكونة من المثقفين، والموظفين وصغار التجار وصغار الرأسماليين الصناعيين ومن البيروقراطيين ومن الأسر الميسورة وصاحبة المصالح، ومن أساتذة الجامعات والدبلوماسيين ومن قادة الجيش والضباط ومن بعض رؤساء العشائر. وبالطبع أن هذا التكوين لا يمكنه أن يكون على فكر واحد أو في بنية تفاهمية وثقافية واحدة، ولكنه نسيج متقارب كما يبدو من ظاهرة في حين يحمل في أحشائه تناقضاته الجوهرية. وأول ملاحظة منهجية في مثل هذا التكوين أن هذه الطبقة لم تكن وليدة الفكر الديني أو الفكر القومي، أي لم تكن وليدة التأسيسات الأولية المتوارثة منذ العصور الغسلامية، بل هي حركة جديدة ومتطورة ومتقدمة على التشكيلات العشائرية والقبلية والدينية القديمة خاصة في أيام الدولة العثمانية وبعد انهيارها ومن ثم هيمنة فكر معاهدة سايكس بيكو وتقسيم العالم العربي، وفتح المجال أمام الكثير من أبناء الأسر الدراسة في تركيا وأوربا نشأت الأفكار التحررية ولكن بأثوابها الإيديولوجية القديمة. ولما حدث ما حدث في العالم بعد ثورة البلاشفة في روسيا ونشوء حركات تحرر وطنية في العالم العربي، نشأت أحزاب ماركسية وقومية تقدمية تنطلق من حاجة البلدان العربية لمواكبة ما يحدث في العالم. إلا إن هذه الانطلاقة منعت من التقدم بسب ذهابها بعيدا عن الأهداف الأولية التي أنشأت من أجلها حينما وضعت قضية الاستقلال نصب أعينها. لذا يمكن القول أن هذه النوى هي تشكيل اجتماعي اقتصادي يتقارب فيه المسيحي مع المسلم، الاقتصادي مع المثقف العسكري مع رجل الدين، ويتقارب فيه العربي مع الكردي المصري العربي مع القبطي الشيعي اللبناني مع الدرزي، دون أن تكون القومية أو الأديان فواصل كبيرة بين توجهاتها. مبدئيا أعتبر الطبقة الوسطى أقدم الطبقات الاجتماعية العربية فهي وليدة تيارات قومية وثقافية واقتصادية وإقطاعية وعسكرية وعشائرية وفئات الانتجلستيا فكانت خليطا تجمعها قضية التحرر من ربقة الدولة العثمانية أولا ثم الاحتلال الإنجليزي والفرنسي ثانيا. وحتى تتمكن القيادات الدينية والسياسية من تشكيل النوى الأولى للحداثة بدأت هذه الطبقة الواسعة تتشكل عملاتيا في مجتمعات عربية متفاوتة النمو. ففي مصر يمكن أن نعد رواد النهضة هم المبادرون لتأسيسها وصاحب التأسيس حركة ترجمة وثقافة وتعليم وتأسيس جامعات وبعثات دراسية ونواة لجيش عربي وفرز لمفهوم التحديث والنهضة والحديث يطول في هذا المجال- وربما لا نملك مصادر غير تلك التي درست حركة التنوير في مصر منذ محمد علي وعمر مكرم وحتى طه حسين. أي المزاوجة بين السياسي والديني مستندة على خلخلة الحكم العثماني والرغبة في نهوض مصر دون أن يكون فيها يوم ذاك طبقة للمثقفين كبيرة-. وفي العراق بدأت أولى بوادر التنوير في مرحلة الدستور عام 1908 ثم نمت في العشرينات عندما كانت هناك نواة قومية تقدمية وحلقات ماركسية وطنية وصناعة وثورة ضد الإنجليز لتتأكد عام 1920 بثورة وطنية ضد الإنجليز ثم توسعت قطاعاتها لتبدأ بالنمو عندما ارتبط الاقتصاد العراقي بالاقتصاد الإنجليزي وذلك في بداية الثلاثينات.وسنأتي على جوانب من هذا ضمن المقال. فالطبقة الوسطى في البداية مستثمرة لثقافة الغير ومن ثم منتجة لها مع تقدم في آليات عملها،وهي مستفيدة من تنوع حاجات الشعب ولكنها في النهاية توظف هذه الحاجات لوسائل عمل تستثمرها برأسمال وطني بسيط وخبرة ، وهي مستثمرة لقدرات التكنوقراط والمتدربين والأساتذة والخريجين ولكنها توظف هذا الاستثمار لصالح القدرة على التطوير والتنمية بما فيها قدراتها هي ، وهي مستثمرة لحاجات المجتمع السياسية فتطرح برامج عمل تقارب فيها بين حاجات الناس ومتطلباتهم المعيشية وبين استثمارها لقدرات العمل في تطوير آليات عملها دون أن يعني ذك تحقيقا لمطالب العمل والطبقات الفقير ولا تحقيقا لمتطلبات الرأسمالية الكبيرة، وحياتها الوسطية في مجال السياسة تجده في كل المواقع دون أن تخسر شيئا.
2
تشكل الطبقة الوسطى في بنية المجتمع العراقي الحديث البؤرة المولدة للطبقات الاجتماعية الأخرى كما نوهنا قبل قليل فهي بحكم نشوئها المستمر والمتغاير جغرافيا واجتماعيا تمتلئ، عندما تكون واضحة باحتمالات المستقبل. ومنذ ظهور نواها الأولى في أوائل القرن العشرين وحتى اليوم لم تكف هذه الطبقة من تجديد نفسها، ممهدة لظهور طبقات اجتماعية تتناسب وطبيعة المجتمع العراقي المتعدد الأعراق والديانات والقوميات واللغات والجغرافيات والتواريخ. فتبدو خلال تاريخها أنها جدل المجتمع وحاضنته. فمنها ظهرت الشرائح السياسية والعسكرية والتجارية لاحقا ليسهم بعضها في قيادة المجتمع العراقي نحو الحروب والتدمير و يسهم بعضها الآخر في البنية والتعمير. وأفضل نماذجها الوطنية كانت ممثلة في مجتمع ما بعد ثورة تموز عام 1958 ولمدة قصيرة لا تتجاوز الخمس سنوات حيث فرز الصراع نتيجة لظهورها المفاجئ والكبير عن تناقض داخلي في مكوناتها لترتد ثانية إلى بنيتها المؤسسة على العقلية العسكرية والدينية والقومية والثقافية والعشائرية. وكما نمت في داخل هذه الطبقة العريضة قوى التحديث نمت كذلك الفئات غير القادرة على الاستمرار والديمومة وما حركتها هذه بين الحياة والموت إلا نتاج اجتماعي وثقافي وفكري يشخص بداية حداثة المجتمع العراقي. فكان منها من مات وهو في مهده مثل التيارات الفاشية الصغيرة التي تركزت في عام أحداث مايس1941 كنتيجة لتأثير دور ألمانيا في الفكر القومي، ومنها من اندمج نتيجة ضعفها في فئات أخرى منها أقوى اقتصاديا وسياسيا كالفئات الوطنية التقدمية مثل حزب الشعب وحركة أنصار السلام ومنها الحزب الوطني الديمقراطي الذي أراد أن يجاري التيار الماركسي القوي الممثل بالحزب الشيوعي العراقي بالبحث في داخل المجتمع العراقي عن شرائح يمكنها أن تؤلف حزبا ليس شيوعيا ولا قوميا فاشيا، بل حزب وطني يقوم على مفهوم " الشعبية" كما يؤكد الجادرجي وبقية الأعضاء دون أن يديروا ظهورهم للتيار الماركسي القوي الذي بدأ يؤثر حتى على تركيبة الحزب وينشر الكثير من مقالاته التقدمية التي تعبر عن رأيه في جريدة الأهالي نواة الحزب الوطني الديمقراطي، وكان نجاح الحزب الوطني الديمقراطي هو في استيعاب هذه الشرائح المتسعة والتي نجد لها توصيفا أوليا في المذكرات متمثلة بـ: المثقفين والموظفين وبعض شرائح الطبقة العاملة والعشائر والبرجوازيين الصغار وأصحاب التجارة والمعامل الصغيرة. وقد مثلهم في الحزب خير تمثيل لاحقا محمد حديد وحسين جميل وفي مرحلة ثورة تموز هديب الحاج حمود. ولان الطبقة الوسطى العراقية وليدة تناقض داخلي وإقليمي ودولي؛ داخلي حيث العراق ظهر نتيجة اندماج ثلاث ولايات عثمانية مختلفة: البصرة والموصل وبغداد، وإقليمي حيث العراق يشكل عاصمة للدولة العربية الإسلامية قديما، ودولي لان العراق حلقة وسطى جغرافيا وتجاريا بين أوربا واسيا ناهيك عن أن العراق الحديث وريث لتراث عريق هو تاريخ البابليين والسومريين والأكديين والآشوريين مما طبعت كل فئاته بالعراقة التراثية. كل هذا الإرث جعل من الطبقة الوسطى العراقية متفقة على المصالح الكبيرة محاربة الاستعمار وتحديث البلاد والحفاظ على ثرواته القومية واحترام الدستور وأنصاف الطبقات الفقيرة والشعبية وتعمير البلد وكانت برامج الأحزاب كلها تقريبا تتفق على مثل هذه الطروحات المطلبية. في حين أنها مختلفة فيما يخص العرق والمنطقة والحكم فما يخص العرب لا يخص كليا التركمان أو الأكراد، فغلب الطابع القومي عند الأكراد والتركمان على الطابع الوطني وهذا ما وجدناه في الأحداث الدموية التي أعقبت ثورة تموز 1958... فقد حملت الطبقة الوسطى تاريخ الدولة العربية الإسلامية بما فيه من تناقض ديني وقومي ، تجاري واقتصادي ، ثقافة البادية وثقافة الريف، عربي وأجنبي فحكمت حكمت العالم الإسلامي ثم أصبحت أسلامية كالفرس والعثمانيين، ثم لما اكتشف الألمان النفط في العراق في أواسط القرن التاسع عشر نشأت فيه عدة مراكز تجارية عربية ودولية يتصل بعضها ببلدان حوض البحر الأبيض المتوسط ومن ثم أوربا ويتصل بعضها الآخر ببلاد فارس والهند وأفغانستان والصين، ونشأت فئات أخرى تتصل بمراكز عربية وغير عربية. فانصهر في بوتقة " العراقية" عدد من القوميات والأديان والعشائر والمذاهب لتشكل ملامح أيديولوجية للطبقة الوسطى في العراق بالتالي لتحمل صفات التناقض والتغيير المستمر في بنيتها بحيث يكون الاختلاف فيها سمة من سمات الحداثة. بمعنى أن مكوناتها العراقية فرضت عليها نموذجا هو غير ما نجده في مجتمعات لم تعرف مثل هذا التنوع والتعدد في التاريخ والتراث والأديان والقوميات والطوائف والمذاهب ، وهي غير ما نقرأ عنه في بلدان ذات قومية واحدة أو بدين واحد أو بعرق واحد. فعند الحديث عن بدايات تشكل الطبقة الوسطى العراقية لابد وأن تعرج على تأثير الدولة العثمانية بوصفها دولة إسلامية قوية وذات نفوذ دولي وأقليمي ومتقدم على نماذج كثيرة في العالم وكانت حاضنة لنوى التحديث السياسي والتعليمي فكل السياسيين والعسكريين والمثقفين الذين أثروا إيجابا في مرحلة العشرينات والثلاثينات درسوا في الاستانة واسطنبول وغيرها. وعندما احتل الإنجليز العراق وانهزمت الدولة العثمانية نشأت فئات اجتماعية وسياسية جديدة خاصة في جنوب العراق كجزء من بنية التحديث الإنجليزي، ولما ثارت ثورة العراق في عام 1920 وبدأت ملامح الشريفيين والضباط العرب وتأثير الهاشميين في الحجاز على الوضع الداخلي العراقي وارتباط كل ذلك بالهاشميين الذين ينظرون لميراثهم في مقابر ومراقد آل البيت في النجف والكوفة وكربلاء وسامراء بدأت نزعة العروبة والقومية الموشاة بالدين وبالأسرة الهاشمية تنمو إلى جوار تلك النزعات، ولما كان وسط العراق وجنوبه كله شيعيا أو أغلبيته شيعية نشأت مع إيران علاقات ثقافية تمتد بجذورها إلى أيام الدولة الصفوية فنشأت طبقة من التجار الذين احتلوا مراكز تجارية كانت حكرا على اليهود والمسيحيين قبل ذلك،ولما كانت القومية الكردية مبنية على العشائر والقبائل والعلاقات مع تقسيماتها في بلدان الجوار تركيا وإيران وسوريا نشأت قاعدة أخرى للطبقة الوسطى هي قاعدة العلاقات التجارية والاقتصادية والثقافية حيث أن فئات الأنتجلستيا العراقية كانت تقرأ الفارسية والتركية فقرأت كما تقول مدونات الثقافة العراقية الأدب العالمي وخاصة الروسي والإنجليزي عن طريق هاتين اللغتين فاحتل التجار الكرد الكثير من مواقع مهمة في الاقتصاد وفي السياسة. كل هذا التناقض والمؤثرات أفرزت ثقافتها ونماذجها المتباينة لكنها الموحدة في بنية المجتمع العراقي. فكونت منذ استقلال الدولة العراقية عام 1921 وحتى اليوم الطبيعة المتناقضة والحركية للمجتمع العراقي. لذا يمكن تشبيه الطبقة الوسطى العراقية بعش الدبابير التي تفتح نوافذها للرياح وانطلاق نحلها للتزود بالرحيق من مختلف حقول المعرفة ولما تعود تغلق عليها نوافذ خلاياها إثناء العمل ثم تلدغك إن اقتربت منها، لكنها في النهاية تنتج عسلاً يغذي الجميع. فإنتاجها الفكري والثقافي ليس على وتيرة واحدة أو سياق واحد، بل يحمل سمة هذا التعدد والتنوع ، التشابه والاختلاف. بمعنى آخر أن كل ما ظهر في المجتمع العراقي من قوى التقدم والارتكاس لاحقا كان إنتاج هذه الطبقة الواسعة الجذور والمناشئ. تمثل الطبقة الوسطى في مجتمعنا العربي المعدة بكل ما تعني هذه الكلمة من دلالة الاستقبال والهضم والإفراز. أما رأس المجتمع فهو: المثقفون التنويريون والعسكريون وفئات الأغنياء من الأسر العربية. بينما قدما المجتمع هي الفئات الاجتماعية من عمال وفلاحين وكسبة وعاطلين وجنود وسكان الريف. فالمعدة مطبخ المجتمع وفيها تتجاور وتنصهر كل الفئات، أما الرأس فأفكاره ومؤسساته ومفكروه، وفيه موقع القيادة والتخطيط، وأما القدمين فهم منفذو الإنتاج ومستهلكوه معاً. ولكن هذه المعادلة لا تصلح أن تكون مثالا لكل المراحل ففي مجتمع مثل العراق تتحول الكثير من الفئات إلى مواقع أخرى بفعل سياسة الدولة التي ترفع من شرائح على حساب أخرى وهذا ما حدث في الخمس والثلاثين سنة الأخيرة عندما تسيد بنية المجتمع العراقي بدو الصحراء على حساب عمران المدن وثقافة البستان. ولذا لم نجد لهذه الفكرة أن تستقيم في الأربعينات عندما بدأت حركة تنوير سياسية واقتصادية وثقافية تمثلت بقيام أحزاب وطنية في العراق ومصر وسوريا ولبنان وبرلمانات وحكومات دستورية كنتيجة من نتائج الحرب العالمية الثانية عندما اندحرت الفاشية ومؤسساتها في العالم وقيام تنظيمات وطنية وتقدمية تمثلت في العراق بثلاثة نماذج: حزب الشعب والحزب الوطني الديمقراطي وحركة أنصار السلام.. في هذه المرحلة أسست الطبقة الوسطى لنفسها مؤسساتها الدستورية والإنتاجية المتميزة والقادرة على التأثير في الشارع وفي القرارات العليا وكان من نتائجها المباشرة حركة الضباط الأحرار في كل من مصر يوليو عام 1952 في مصر و العراق يوليو عام 1958 في. لتبدأ مرحلة البناء والتنمية ولكن لم تترك القوى الاستعمارية لهذين البلدين الاستمرار بمشاريعهم التنموية. فخلقت لهما بؤر توتر كبيرة كان من نتيجتها هزيمة حزيران وصعود البعث للسلطة في والعراق ليقضي على طماح الطبقة الوسطى العراقية التي بدأت بالفعل بعد تموز 1958 بالتشكل العملي. فالاتجاه القومي ليس من مصلحته التمايز بين الفئات الاجتماعية وإن ادعى عكس ذلك.والدليل أن سنوات البعث في العراق كانت سنوات محاولة لاصهار كل الفئات السياسية والقومية في تنظيم حزب البعث. وفي أفضل نموذج للطبقة الوسطى في العراق هو الحزب الوطني الديمقراطي أما في مصر فهو حزب الوفد نجد طرفي المعادلة فيهم هما البرجوازية التجارية والصناعية والمثقفين التقدميين. هذه هي المشكل في المجتمعات العربية فقد يصادر الرأس حق المعدة وحق القدمين وقد يستغلهم في حين أن أي تركيبة جدلية لابد من تفاهم بين عناصر الإنتاج.. وفي مذكرات واحد من مؤسسي تيار الطبقة الوسطى العراقية واعني به الأستاذ كامل الجادرجي لم نجد فيها أي كلمة يشير بها كمفهوم واضح إلى الطبقة الوسطى عدا ما ورد في صفحة 126 بإشارة عابرة عنها ومن أن شرائحها يمكن أن تؤيد تأسيس الحزب الوطني الديمقراطي. فقد كان مفهوم الحزب يقوم على فكرة " الشعبية" ص 92 من المذكرات.وهي فكرة غامضة وغير دقيقة في وصف الفئات التي سيشكل منها الحزب الوطني. لكن أفكاره وأفكار الهيئة المؤسسة في عام 1945كانت تمثل هذه الطبقة سياسيا، مما حدا بابنه المهندس رفعت الجادرجي وهو يعيد طبع مذكرات والده من جديد أن يقدمها بمقدمة مهمة تتركز على أهمية دور الطبقة الوسطى في تشكيل بنية المجتمع العراقي وأحزابه فيرد مفهوم " الطبقة الوسطى " كثيرا في هذه المقدمة الناضجة والمهمة.
3 يمكن القول ان الطبقة الوسطى العراقية لها مكوناتها التي تشبه من حيث التركيبة الاجتماعية والدينية والثقافية العديد من البلدان العربية وفي المقدمة منها مصر وسوريا ولبنان لكن ثمت خصوصية لابد من التنويه لها ثثمل بمكونين رئيسين هما: المكون الأول للطبقة الوسطى العراقية هو ديموغرافي -سياسي: رؤساء العشائر وملاك الأرض وباشوات المماليك، وكبار ضباطهم العسكريين، والسادة الذين يتحدرون من سلالة الرسول، ورؤساء المذاهب الصوفية، وكبار علماء السنة والشيعة والجلبيين الذين كانوا تجارا، وبقايا الأسر العثمانية والأشراف وغيرهم من الذين احتلوا مراكز اجتماعية مرموقة. فهم مالكو الثروة والمناصب والأرض والناس والعمل والجيش. ابتداء من فترة حكم الدولة العثمانية للعراق وحتى قيام الدولة العراقية عام 1921. مرورا بما أسسه الإنجليز بين عامي 1917-1930 عندما سنوا قانون الطابو ووزعوا الأراضي على المشايخ ثم ترسخ هذا الوضع بسن قانونين لإدارة الدولة أحدهما خاص بالمدن والآخر خاص بالعشائر مما يعني أن المجتمع العراقي بقي منذ العثمانيين وحتى ثورة تموز عام 1958 محكوما بقانونين أداريين أحدهما ينظم العلاقات في المدينة والآخر ينظم العلاقات في الريف منسجما وطبيعة التركيبة السكانية التي كانت من قسمين مدن الأرياف الجنوبية ومدن البادية وتبع ذلك تقسيم طائفي مقيت بين الشيعة الذين يشكلون أغلبية مدن الجنوب وعشائرها والسنة الذين يشكلون سكان المدن الشمالية والغربية. ولعل مقولة الملك فيصل الأول من أن " الضريبة والموت على الشيعة بينما السلطة بيد السنة" عبد الرزاق الحسني تاريخ الوزارات العراقية، تعكس الوضع الهجين للمجتمع العراقي في بداية تشكيل الحكم الوطني عام 1921. شكلت هذه الفئات بعد قيام الملكية في العراق النواة الصلبة للسياسة العراقية على مدى ثلاثين عاما ونيف إلى حين قيام ثورة تموز/ يوليو1958. ثم توسعت بعد مجيء حكم البعث الذي ورث كل هذه المتناقضات في بنية المجتمع العراقي دون أن يصف نفسه طبقيا أو فئويا بل كان كما فكر قادته حزبا للأمة العراقية فجرى تبعيث المجتمع العراقي" كل العراقيين بعثيون وإن لم ينتموا" كما فعل المسلمون الأوائل مع البلدان المحتلة في زمن الفتوحات إما أن يتأسلموا أو أن يدفعوا الجزية للدولة المحتلة وتبع ذلك تغييب حقيقي لمفهوم الطبقات حتى أن حزب البعث الغى مفهوم الطبقة العاملة من قاموسه السياسي وجعله مجرد كلمة تُخجل الناس . المكون الثاني هو قانوني – دستوري هو: وجود دولة دستورية تأسست بموجب قانون دستوري عام 1925 وهذا القانون كان يحكم المجتمع الجديد رغم أن قادة هذا المجتمع ما زالوا تحت هيمنة القانون العثماني ولذلك أنيطت رئاسة الدولة ومؤسساتها بفئة هي جزء من ذلك التكوين الثقافي والسياسي القديم والجديد وعلى رأسهم نوري السعيد وياسين الهاشمي وجميل المدفعي وجعفر العسكري وهم من الشريفيين وفهمي المدرس وعبد المحسن السعدون وناجي السويدي وساسون حسقيل وهم من بنية المجتمع العراقي رغم وجود ملك هاشمي ونظام حكم جديد. ويعني هذا ضمنا أن مفاهيم مثل المجتمع المدني، مفهوم الدولة، مفهوم الدستور، الحوار، المعارضة، التعددية وغيرها لم تنضج بعد رغم إقرار الدستور وقبوله بها وقد احتوى على مثل هذه الحقوق التي لقيت إسنادا من قبل الإنجليز لكن السياسة الاقتصادية والهيمنة الإنجليزية كانت تتعارض ومنطق المجتمع المدني وحقوق المواطن كما يفهم من كلام رفعت الجادرجي في تقديمه لمذاكرات والده كامل الجادرجي، بحيث لم يدر الشعب أن الدستور قد ضمن له حقوقه الأساسية. لان السياسة العامة ممثلة بسلطة الإنجليز والساسة العراقيين تقاسمت دفة الحكم لأكثر من ثلاثة عقود فألغت ما يسمى بالحقوق. وفي خضم هذا الوضع نشأت فئات اقتصادية و نشأت هوية للموظفين وللمثقفين وظهرت حلقات سياسية وثقافية صغيرة يمكن الآن نطلق عليها مظاهر المجتمع المدني الحديث لتنشأ في الوقت نفسه وبحكم التنوع السياسي والاقتصادي وانتعاش الصحافة وإجازة الأحزاب وقيام مجلس نيابي، ملامح الطبقة الوسطى العراقية ولكن من دون منهج أو رؤية واضحة لها." ويقول المهندس رفعت الجادرجي عنها " أن الطبقة الوسطى المتعلمة عامة، التي كانت صغيرة وضيقة،لم تع التغيير الحاصل في تكون الدولة الجديدة ولذا لم يكن لها دور فعال في السياسة وفي مختلف حالات التغير الحاصل ومواقعها، أو لم تجد لها دوراً في كل هذا،أو لم تتخيل أن لها دوراً.ولم يحدث تغير جذري في ثقافة كل تجربة الطبقة الوسطى، فبقيت طبقة خارج السلطة كما كانت منذ آلاف السنين، فكانت تحت حكم سلطوي عسكري متمثل بالحاكم القريشي أولاً، والدويلات التابعة لها والتي خلفته، ومن بعده الحكم العثماني، عدا فترات متقطعة" ص 19 مذكرات كامل الجادرجي. ولم يخف كامل الجادرجي في مذكراته التوجه النظري والعملي لمفهوم المعارضة في العقود الثلاثة الأولى من تشكيل الدولة 1921-1954 أن حزبه الحزب الوطني الديمقراطي هو فكر معارض يقول رفعت :" بأن حجم المعارضة التي كان يقودها الحزب الوطني الديمقراطي، وخاصة الجادرجي، كانت ضد إفساد الدولة،أي معارضة كمنظمة ضمن الدولة وليس خارجها، هدفها إصلاح الدولة. أنه موقف يختلف جوهريا من ذلك للأحزاب والتنظيمات الثورية، كالشيوعي والبعث والعسكر وغيرها" ص 19 مذكرات الجادرجي. لذا كانت معارضته تتم من داخل مؤسسات هذه السلطة وليست معارضة لتغيير بنية وشكل السلطة،وتحت هيمنة القانون ووفق الشرعية التي يضمن لها الدستور. وبهذا اختلف عن أهم تيارين سياسيين هما تيار الحزب الشيوعي العراقي الذي يريد بناء مؤسسات المجتمع المدني من نقابات وتنظيمات سياسية لها حق التظاهر والإضراب والمقاومة وبالتالي تغيير شكل الحكم عن طريق الثورة. والتيار القومي الذي يمثله حزب البعث الذي كان يريد تغيير الحكم والاستيلاء عليه عن طريق الانقلابت العسكرية معتمدا على الإرث القديم في بنية الدولة، والحركات الإسلامية المعارضة خاصة الشيعية التي رفضت حتى التوظيف في وظائف الدولة بحجة أنها دولة مستبدة وخاضعة لمنطق غير دستوري لا يؤمن بالمذهب الشيعي، وكل أشكال المعارضة تنطلق من فكر وبنية الطبقة الوسطى عدا جزء منها خاص بالحزب الشيوعي العراقي الذي تبنى الماركسية ومنهج التغيير عن طريق الثورة وإعطاء دور أكبر للطبقة العاملة العراقية وهي في بنيتها جزء من الطبقة الوسطى التي جرى عملية تحول جذري لها بعد قيام الصناعات الكبيرة في العراق: صناعة النفط والموانئ والسكك والسكاير والكبريت والمشروبات. أي أن نهوض وتمايز الطبقة العاملة في العراق جاء بعد وأثناء نشوء الصناعات الوطنية الكبيرة. وكان بعض أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي من ممثلي البرجوازية الصناعية والتجارية كمحمد حديد وحسين جميل والأزدي وغيرهم يعارضون تشبيه حزبهم بالحزب الشيوعي ولذلك كانوا يعارضون الإضراب ومطالب العمل رغم وطنيتهم التي لا غبار عليها، وذلك بحكم أن الحزب الوطني الديمقراطي هو جزء من بينة اقتصاد المجتمع، في حين كان حزب البعث مثلا يعتمد على فئات المدينة العسكرية تلك التي نشأت منذ زمن بعيد في أحضان الدولة العثمانية والأرستقراطية العربية التي كانت تملك بحكم وجودها أدوات التغيير. لذلك اعتمد حزب البعث سياسة الانقلابات العسكرية وتصفية الخصوم عن طريق القتل لا الحوار منطلقا من مبادئ قومية ضيقة في رؤيته لبنية مجتمع متعدد القوميات. وعلى مقربة من ذلك كانت الأحزاب الكردية التي قامت على أسس عشائرية تنطلق هي الأخرى من مفاهيم قومية ودينية وجدت في مفهوم الحكم الذاتي طريقة لمخالفة الدولة العراقية فوجدت نفسها وهي من شرائح اجتماعية مختلفة أنها في موقف متصاف مع الحركات السياسية المغيرة للنظام عن طريق الانقلابات فنشأت الحركة الكردية المسلحة التي انحرفت في بعض مراحلها عن توجهها الترري الكبير لتدخل في نزاعات عشائرية وتصفيات طالت حتى أصدقائها من الشيوعيين، وإلى الآن ما تزال مفاهيم القبيلة والعشيرة والطائفة والدين والنسب مهيمنة على مقومات الدولة الجديدة وتمتد جذور هذه النزعة إلى فترة احتلال العراق من قبل الإنجليز عام 1917 وحتى عام 1930 عام المعاهدات والنهوض السياسي حيث نجد أن الأنظمة لم تختلف كثيراً بل أن تنويعا بتأثير ثقافة وقرارات المس بيل والحاكم العسكري مستربيرسي كوكس السابقة قد أسست مفهوم المجتمع المدني عندما تأسس البرلمان و شرعت قوانين الانتخابات. وهذه نقلة خاصة في الثلاثينات جعل الكثير من الأنتجلستيا العراقية تسعى لتأسيس أحزاب وطنية قامت على تجمعات نشأت قبل هذا الوقت كالحزب الوطني الديمقراطي الذي قام على جماعة الأهالي، والحزب الشيوعي العراقي الذي قام على تجمعات يسارية. وما نشأت السوق العراقية التي ارتبطت بالسوق العالمية عن طريق التجارة مع بريطانيا وارتباط الدينار العراقي بالأسترليني إلا مثال على نمو هذه الطبقة واتساعها فولدت الأسواق تجارا جددا وأصحاب أموال وصيارفة ومالكي عقارات وأراض، ونقدا، وهؤلاء جلهم من تجار السنة والشيعة والأكراد ثم تمركزت ثرواتهم في المدن الكبيرة: بغداد والبصرة والموصل. ولما كان مجتمعنا العربي لم يعرف من الفكر الاشتراكي إلا تياراته الماركسية المتنوعة ومن الفكر الرأسمالي إلا تياراته المرتبطة بالغرب وبعجلة الاستعمار، فأن المراوحة سمة من أهم سمات الطبقة الوسطى العربية. ويرى حنا بطاطو في كتابه الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية من العهد العثماني وحتى قيام الجمهورية" العراقية عام 1958 ص23 " أن الطبقة عبارة عن تكوين اقتصادي في أساسه بالرغم من أنه يشير في النهاية إلى الموقع الاجتماعي للأفراد والعائلات المكونين له في مظاهره المختلفة " كما أن فكرة الطبقة كما يقول بطاطو تتطلب أو تفترض مسبقاً وجود فكرة " اللا مساواة" وبالتالي فإنها تتضمن وجود طبقة أخرى على الأقل، أو، في النظرة الثنائية، وجود مجرد طبقة أخرى رئيسية إلى جانب فئات أخرى اصغر،على اعتبار أن " اللا مساواة" تعتمد أساساً على " الملكية" وهو المفهوم نفسه الذي جاء به جيمس مادسون وكارل ماركس وماكس فيبر. وتعتبر الملكية من أكثر المفاهيم شيوعا في وجود الطبقات، ويشير بطاطو في الهامش ص 23" ... كان العنصر الأكثر شيوعا وثباتا لوضعية الفئات هو التوزيع المختلف وغير المتكافئ للملكية فقد شكل دوماً أولئك الذين يملكون وأولئك الذين لا يفتقرون إلى الملكية مصالح متمايزة في المجتمع..." ومن ثم ترك المهمة للفكر الرأسمالي نتيجة الظروف الدولية أن يأخذ زمام المبادرة منها خاصة في المنطقة العربية، هو الذي جعل الطبقة الوسطى نهبا لكل من التيار اليساري والتيار اليميني في السياسة والأحزاب العربية فنجد هذه الطبقة تتفت بعد مجيء أحزاب عربية قومية ودينية مثل حركة الأخوان المسلمين وحزب البعث. بينما الجانب التنويري منها مثل الناصرية وحركة القوميين الاشتراكية وبعض الأحزاب الوطنية وقفت تراوح في مكانها بانتظار أن تحسم الظروف الأمر لصالح قوى جديدة تشارك هي فيه وهذا ما حدث عندما عاد الأخوان بنشاطهم ثانية وهيمنوا على دول واسندوا البعثيين في العراق فانكفأت قوى التحرر العربية والأحزاب اليسارية بعد أن كانت منكفئة أصلا بعد هزيمة حزيران لتسمح الظروف بصعود تيار المقاومة الديني الذي تغذى من العجلة الغربية والأمريكية رافقه نهوض لقوى الاشتراكيات الديمقراطية في أوربا على حساب الاتحاد السوفيتي كنتاج واضح لنجاح الحرب الباردة التي قادتها السياسة الأمريكية بكلا حزبيها في العالم ثم الهيمنة الاقتصادية على الأسواق وإنشاء الأحلاف الموضعية والكبيرة وبالتالي هزيمة التيار اللبرالي الدولي أمام تيار العولمة الجديد. كل هذه النتائج هي حصيلة تأرحج الفكر التنويري الدولي والعربي بين تيارات فلسفية وفكرية وتطبيقات سياسية وإقليمية مختلفة لذا فالطبقة الوسطى العراقية هي تشكيل متعدد الأطراف كما يشخص بطاطو هامش ص46" فهو يشير".... إلى ذلك الجزء المركب والمتعدد الوظائف من المجتمع، والذي يشترك- في الوقت نفسه- في الدخل المتوسط والمنزلة المتوسطة، وهو يضم التجار والحرفيين وملاّك الأراضي وضباط الجيش والطلاب والمهنيين والموظفين لدى الحكومة أو في الشركات الخاصة. ومن الخطأ إقامة تمييز حادّ بين قسم وآخر من هذه الطبقة، كالتمييز بين ضباط الجيش مثلاً، والحرفيين وملاّك الأراضي، لأنه يجب أن لا ننسى أن الوحدة الحقيقية للطبقة هي العائلة وليس الفرد،وأن أفراد العائلة من الطبقة الوسطى يتوزعون على مهن مختلفة.وهكذا فأننا نلاحظ أن من بين 15 عضوا في اللجنة العليا للضباط الأحرار والأعضاء التسعة في لجنة الاحتياط للضباط الأحرار، الذين حضروا لانقلاب 14/تموز/1958 وكان هنالك في اللجنتين على التوالي: سبعة- في اللجنة العليا- وستة – في لجنة الاحتياط- من أبناء التجار أو السماسرة أو صغار أو متوسطي ملاّك الأراضي...الخ. فالبنية هذه هي حاضنة ومؤسسة البرجوازية بشرائحها الرأسمالية والوطنية قبل أن تتحول أجزاء منها لاحقا خاصة في الثلاثينات لتؤسس تجمعات ماركسية مكونة من عدد من الإنجلستيا العراقية اليسارية عام 1934 لتتجمع لاحقا في الحزب الشيوعي العراقي بفئتيها الصغيرة منها والكبيرة. وفي مجتمعنا العربي كانت هذه الطبقة موطن الحداثة وحركة التنوير شبلي الشميل ونقولا زيادة وطه حسين وسلامة موسى ورئيف خوري وحسين عبد الرازق ومن قبلهم الكواكبي ورفاعة الطهطاوي وفي العراق محمود أحمد السيد وحسين الرحال وذنون ايوب ، وسليمان فيضي، وفهد- يوسف سلمان يوسف مؤسس الحزب الشيوعي العراقي- وزكي خيري وروفائيل بطي، وكامل الجادرجي وإبراهيم كبه وغيرهم، إلا إن الجذور للطبقة الوسطى في العراق تشكلت بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921 عندما بدأ التيار القومي ينتشر نتيجة ما أحدثته التجمعات الصغيرة المطالبة بالاستقلال تجاوبا مع جمعية تركيا الفتاة التي ناهضت الاستعمار وأسندت مجيء حكم هاشمي حديث لسوريا والعراق هذه الانتجلستيا ذات التيار الإسلامي القومي التجاري والعسكري والوظائفي والديني والعشائري اتسمت بطابع تنويري دون أن يكون هناك فكر قومي متبلور في اتجاه حزبي أو سياسيي. ولعل الضباط الشريفيون العراقيون الذين قادوا لاحقا دفة الحكم رغم تناقضاهم ياسين الهاشمي ونوري السعيد وجعفر السكري مثلا وغيرهم قد مهدوا لظهور هذه الطبقة من الانتجلستيا العراقية التي تؤمن بإسلامية الوضع والانفتاح عن طريق التعليم والبعثات لاستنبول على الغرب للقيام بمشاريع وطنية جديدة من شأنها أن تؤسس رؤية قومية تحررية، تجمع بين وحدة الأمة العراقية المؤلفة من العرب والأكراد والتركمان والآثوريين وغيرهم وبين أمة عربية واحدة قبل أن يكون ثمة رغبة حقيقية لمثل هذا الطرح. إلا أن هذه الفئة المثقفة وجدت طريقا آخرا في بداية الثلاثينات عندما بدأ النفوذ التركي والفارسي يتقلص في العراق أن تعتمد على بنية نفسها من خلال عاملين: التجارة والانخراط بالجيش. فالطبقة الوسطى مؤسسة البنية المدنية العراقية ومغيرتها أيضا، فهي خلية نحل تبني وتهدم ويكون الناتج تطورا دون أن تعي مهمتها التاريخية في تأسيس الإيديولوجيا الخاصة بها. وفي التاريخ الاجتماعي لم يشهد أن أسست هذه الطبقة فكرانظرياً خاصا بها، بل كانت أفكارها مزيجا من حركتي التنوير والنهضة وهما مفهومان غير دقيقين في واقع لا يملك التنويريون ولا النهضويون فيه إلا مجموعة أفكار دون أرضية اقتصادية أو سياسية ولذلك بقيت أفكارهم حبيسة الثقافة وميادين إبداعها: المقال والرواية والأغنية والصحافة والسينما.
#ياسين_النصير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في رواية الضالان
-
أدباء عراقيون - الشاعر سعدي يوسف
-
أدباء عراقيون -ابو كاطع: شمران الياسري
-
أدباء عراقيون- غائب طعمة فرمان
المزيد.....
-
رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق
...
-
محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا
...
-
ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة،
...
-
الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا
...
-
قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك
...
-
روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
-
بيع لحوم الحمير في ليبيا
-
توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب
...
-
بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
-
هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|