|
بنجوين شمال الله... الجبايش جنوب الله
نعيم عبد مهلهل
الحوار المتمدن-العدد: 4086 - 2013 / 5 / 8 - 10:17
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
يحتفظ الشمال بمودته معي، كما تحتفظ الفراشة بمودتها لعطر الزهرة. وأنا في كل شمال (أقصد شمال بلادي العراق) أحاول أن أستعيد مودة الحب لتلك الأيام المضفورة بشوق لملمة جهات البلاد كلها إلى عاطفة واحدة. ولهذا تبقى تلك الأمكنة بالنسبة لي رؤيا لحلم حالم إزاء فتنة القصيدة أو قراءة تضاريس الطبيعة التي منحها الله جمالا تحسد عليه. لهذا ظل المكان في كل مودة اشتاق إليها يلبسني معطفه، صيفا وشتاء. وحين أردت ذات يوم أن اكتشف رؤى الحس عند شاعر كبير مثل شيركو - بيكه س، لم أجد سوى بنجوين وناحية فيها تسمى (نال باريز) من أن أجعلها بدء الرؤى مع أساطير بيكه س الجميلة. وكانت ناحية نال باريز التي عشت فيها عامين هي رؤية البدء عندما ألبست أحلام بيكه س شراويلها وأطلقت العنان للمكان ليقرأ معي النص ولنتحاور سوية في ليل شتائي ما أنفك فيه الثلج تتساقط قمصانهُ البيض على رأسي الحاسر إلا من رغبة بإمساك نجمة في الجنوب البعيد. هناك سومر التي ولدت بها، وهناك أمهاتنا اللائي يلدن الدموع الذهبية بسبب ضحايا حروب الوطن التي لاتعد. نشرت مجلة سردم الفصلية نصي عن الشاعر شيركو بيكه س. صدفة في صباح بغدادي عثرت على المجلة في معرض دار المدى، وفي عدد آخر نشرت ذات المجلة الفصل الأول من كتابي (طوبوغرافيا المكان من أربيل إلى حاج عمران).. لا ادري من أين أتى النص إلى سردم، ربما من الشاعر محمد عفيفي الحسيني الشاعر الكردي المقيم في اوربا الذي أعلن إعجابه بنصي في رسالة معنونة الي وهو زوج الشاعرة الكردية المعروفة (آخين ولات) ونشره في موقعه، ربما أخذته سردم من موقع جهة الشعر، وربما من مواقع أخرى نشرت النص. المهم وأنا اقلب سردم أقلب معها أيامي هناك.. في البلاد التي تأوي طروحات حلم العاشق بعيدا عن ربايا البنادق والموت. كانت بنجوين وقراها وجبالها الهائلة بالشوق والبلوط (هرزلة، تاريار، حديد، قاية، لاله حمران، قبر الشيخ) عوارض مصنوعة من الحجر لكنها تخفق بقلوب نايات لاتهدء. كانت تمثل رؤية لتمكن الطبيعة من كسب ود الإنسان ليكون، وهي صناعة ماهرة للحظة التأمل، لهذا كنت أرى في طبيعة قضاء بنجوين، طبيعة الله المصنوعة بمهارة الخلق، وحين مسكت فيها لحظة الاشتياق، مسكت روحي بكل أصابعي ودونت لهذه البلاد القصائد والسمفونيات التي ردت على حزن أُمي التي قالت (أنا قلت يا علي.. والشمال قال هاتيه لي).. كانت بنجوين، لحظة من عاطفة شتاء لذيذ، صوت ام كلثوم، صوت صديقي دلشاد، صوت فيروز، صوت حسين نعمة ونجاة الصغيرة، صوت عبد الله كوران وهو يضع الطبيعة بين يديك ويسألك بهاجس الحلم إن كان الشتاء يجلب الأسى، فالربيع تعويض له بكونٍ من الحب. وحين أتى الربيع بعد صيف حالم بالزرقة والضوء. نشرت ذاكرتي قراءات لا تحصى لمكان هو بعض من جنة دلمون وعدن وعاد. مكان تقرأ فيه شوارد الحس وصناعة اللحظة وطباع الكرد الذي يبتسمون دائما، لمجرد إنهم يبتسمون. الآن استعيد نقاء مساء الرعاة، وصانعات خبز (الرقاق) في قرى اودية بنجوين وسفوح جبالها، استعيد مهارة نظرة الفتيات في ناحية نال باريز، وطيبة وكرم كل تلك اللأُسر البريئة التي لم تخشَ من صواريخ الحرب وظلت تعيش مدنها وأمكنتها. إلى أولئك. اتمنى رؤية أخرى وسياحة لعودة الذكريات. ولهم ستمطر الأوراق ذكريات على صفحات هذا المطبوع الأثير... وفي التوازي الجهوي بين الشمال والجنوب أضع مدينة الجبايش التي اعشق بيئتها نموذجا للمزاوجة الجغرافية والروحية بين شمال الوطن وجنوبه. تقع مدينة الجبايش في جنوب كل أزمنته وأمكنته في المكان الموجع من القلب وهو مكان يصلح أن يكون آنية للعاطفة التي تشرب منها ذاكرة الشعر عندما تعطش وتصير رغيف خبز لذاكرة القص عندما تجوع. والجنوب ربيب أزلي للاستلاب ولا أدري لماذا؟ غير أن جملة وليم فوكنر تفك لغز اللماذا؟ عندما كتب: لأنك جنوبي.. عليك أن تحلم جيداً.. حين يطل الخريف في مدينة الجبايش على تلك الأمكنة المتوجعة يظهر الشكل الحقيقي للفقر قبل ظهور الرغبة لدى مساكين الجنوب باحتضان مواقد الدفء وفي الليالي المرتبكة مابين الرغبة بالحصول على رغيف خبز وتحقيق مودة الحب مع امرأة يهتز خيط التفكير في قدرة هذا المناخ على جعلنا نفكر بسر أن نخلق هنا مع أكواخ الطين وخوذ الحرب وأجهزة المذياع الصغيرة عندما يشدنا صوت فيروز في الصباحات المرتعشة ويذهب بنا إلى شهوة أن نكون شعراء أو أثرياء بخدم وحشم غير أننا سرعان ما ننتبه إلى أطراف أثوابنا المبللة بالطين والبرد والحزن فنعود إلى مناخ الأغنية ونطل على هاجس حنجرة الشوق وهي تعيد صلوات الطبيعة والفن والتشوق إلى ما نعتقد رغبة بامتلاك ما هو لنا ولكنه مأخوذ منا. أذن نحن مستلبون! يوقظ الخريف في الجبايش خواطر المدن الجنوبية حين يأتي طيف النساء أولاً. يحرك البرد فينا نوافذ الرغبة والسفر وتعزف الآلات الوترية أنشودة المودة إلى الورد حيث لا زلنا نراه على أسيجة بيوت الأغنياء يكافح لكي يبقى رغم معاول البرد والمطر والوحل الذي تقذفه عجلات السيارات، إنها ديناميكية من التفكير حين يصير الخريف عاطفة معطلة سوى أنك تشتاق فيه إلى معطف وصدر امرأة أو دمية تبتسم بعيون زرق فيما يكون شوقك في الربيع أبعد من ذلك تتمنى مدنا أوربية وحضور عروض أزياء وحضور مراسم دفن رومي شنايدر فجأة يذكرك جيبك الفارغ وسعال أبيك بهذا الهذيان المجنون فتعود إلى أطلس الجغرافيا تعدد العواصم وتتخيل شكلها وتضحك حيث تشاهد باروكة الملكة الهولندية ارتفاعها أكثر من متر فتتذكر ضفائر بنات الجنوب في قريتكم وكيف كانت ضفيرة كل واحدة أطول من خيط سحاب رسم على السماء بيانا من بيانات الجوع ورغبة بجعل الحب ملكا أو رئيس جمهورية أو حتى مختارا لقريتنا. لقد أدمن خريف المدن الجنوبية على إشعارنا بأن الامتلاك ليس أمرا سهل الحدوث وليس كل الذي تتمناه الثورات تنجزه ولهذا ظل الجنوب يمارس بهجته مع الحب والفقر ودلال النساء كلما أحس بشجن تمطر على رأسه الحاسر جراء مزن الخريف الثقيلة. لتمر عليك عبارة صاحب كتاب قصة الحضارة ديوارنت والقائلة: أقرا كلمات ديوارنت. أبعثر نظراتها في أزقة الزمن وألبسها معاطف خريف موسيقى نثرها الجميل فيقف معي ملاك أخضر يشبه كرة العشب ومثلي يمسك ريشة فنان ويرسم تحت أجفانها منظرا لمساء خريفي في واحدة من مدن الجنوب ولتكن أور مثلاً. يرتدينا الجنوب قبعات من الشعر نتأمل تحت ظلها ما قد نعتقده كشفا لعواطفنا المبعثرة في هم الكد العجيب من أجل أن نعيش وأطفالنا بقناعة. هذا الكشف يصوره فرويد حاسة مضافة إلى الرغبة بصناعة الحلم. يقول بافلوف: نحن نحلم بالأمكنة أكثر مما نحلم بالأزمنة. الحلم الجنوبي في مدينة يسكنها الطير والقصب والأبوذيات والذين سرقتهم الحروب والمقابر الجماعية كأبناء الجبايش هو حلم الرمل والماء والملح والنار والآلهة والنخلة وسمكة الشط. كل تلك الأشياء تنشط فينا الرغبة للبحث عن التكوين الذي تقول عنه حنين انه صناعة للبرد الذي يبهج خواطرنا برغبة أن نولد سعداء ونموت كذلك. ولأن الموت يبدأ بلحظة زمان وينتهي أبديا بالمكان أفكر في جعل هذه الجهة التي تعتني بالاستلاب والفقر مكانا ميثولوجياً لحواس الشعراء وأدعوهم ليفكروا بمشاريعهم الجديدة من هنا من أور حيث المكان الذي تنام فيه عاطفة الحرف والموسيقى والأطلال المحترقة بدموع الأمراء المنتحرين. أولئك الذين تصفهم المدونات بأنهم انتحروا لأنهم مليئون بحاسة عشق مجنون وكبرياء لا ينحني لمحنة الشعب وأليه ينتمي قدر الجنوب وضياع الممالك العظيمة وبقاؤنا نتدلى على حبل القدر. مرة في الفم رغيف ومرة أخرى في الفم حصاة. تبقى مدينة مثل الجبايش هاجسا كبيرا في دفاتر الشعر ويبقى خريفها لونا من ألوان انتظار الأمل وحاسة سابعة تضاف لحواس البشر الخمس أسمها حاسة الحزن. فالخريف الرمادي يسعى في أطيافه الوليدة من موسيقى الريح والمطر لصنع ذاكرة يكون الرومانس فيها خاضع لتدحرج حبات الدمع على بلاط الخد وخلف الدمعة يسير قدرنا وهو يبحث عن متاهة أن نكون بحارة في محيط من الكلمات. كلمات لعبث القدر وحاجة الحلم والرغبة بأن العشق هو الرصاصة التي تطلق على رأس الحرب وتمحوها من الوجود. كلمات زرق كذاكرة بحر صاف لا شيء يعكر مزاجه سوى مزاح النوارس ورغبة البحارة بأن تقترب الموانئ والنساء معا وهنا حيث أور تسجد للرمل وللنسيان يكون الخريف الجنوبي مثل جرس الكنيسة المهدمة لا شيء يدعوه إلى التراتيل سوى ريح نسيت أن ترتدي معطفها وجاءت إلى بوابة التأريخ لتقرا ما محاه الزمن وما أبقاه. وما يبقي سوى بهجة تنظر نهاية دوامة البنادق ومراسم دفن من يموتون في جبهات القتال أو في خطوط حجابات السيارات المفخخة أو تموت وأنت منكب كعامل بناء في زقورة في كتابة رسالة حلم لامرأة هي أصفى من كل مرايا شهرزاد عندما كانت تصنع لشهريار كل يوم تسريحة مغرية كي تنسيه رغبة قتلها. وهكذا تؤسطرنا مناخات الخريف تجعلنا مثل سكنة الأقبية لا ننتظر إلا صباحات دلمون. ولأن الجنة لم تأت بعد يبقى الأمل بأن الخريف سيتحول في يوم ما إلى ربيع لا تأتي معه سوى الحواري وحدائق الورد والرغبة بكتابة القصائد الجديدة.
#نعيم_عبد_مهلهل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأمان الديني في مناطق الأهوار....(الديانة المندائية انموذجا
...
-
خواطر سينما الأندلس الشتوي.......!
-
راجيش كنا ... وطفولتنا الهندية
-
تذكروا الرائد (( نيل ارمسترونغ ))
-
روح ماركس وسبعينيات الذكريات
-
دموع العراق وفقراء الكريستال..............!
-
أيام ساكو وفانزيتي ..........!
-
بعْ من دمكَ لتسقي عَطشَ عَمكَ.....!
-
عقد متعة..!
-
كن سمكة قرش..ولاتكن ملكا ظالما .......!
-
عيون بان كي مون
-
قل للدمعة : وحدكِ أنتِ الملكة .......!
-
لاتقل لها أنت وردتي
-
مرات يشعر اللص أنه نبي.....!
-
يولسيس الأبحار للمفخخة.....!
-
إبن لادن ورومي شنايدر
-
الراين / الغراف / سنجاب / بغل / جوليا روبرتس...!
-
خد رامبو وخد التفاحة ...
-
يسوع في سوريا ...!
-
النأي عن السياسة بالتصوف...........!
المزيد.....
-
العراق يعلن توقف إمدادات الغاز الإيراني بالكامل وفقدان 5500
...
-
ما هي قوائم الإرهاب في مصر وكيف يتم إدراج الأشخاص عليها؟
-
حزب الله يمطر بتاح تكفا الإسرائيلية ب 160 صاروخا ردّاً على ق
...
-
نتنياهو يندد بعنف مستوطنين ضد الجيش الإسرائيلي بالضفة الغربي
...
-
اشتباكات عنيفة بين القوات الروسية وقوات كييف في مقاطعة خاركو
...
-
مولدوفا تؤكد استمرار علاقاتها مع الإمارات بعد مقتل حاخام إسر
...
-
بيدرسون: من الضروري منع جر سوريا للصراع
-
لندن.. رفض لإنكار الحكومة الإبادة في غزة
-
الرياض.. معرض بنان للحرف اليدوية
-
تل أبيب تتعرض لضربة صاروخية جديدة الآن.. مدن إسرائيلية تحت ن
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|