منتهى عابد
الحوار المتمدن-العدد: 4085 - 2013 / 5 / 7 - 19:38
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
مذ أُن خرجت إلى هذا العالم كان وجه أبي غائباً عن المشهد, و وجه أمي كان ممتقعاً بالحزن لسببين, الأول, أني كنت طفلةً مقيتة المظهر, جلدي كان قاتماً و رأسي غريبٌ أقرب الي البيضاوي منه الى المدور, لدرجة أن أمي بكت و رفضت أن تحملني. أما الثاني, فكان انها و بطبيعة احساس الأم أدركت و أحست أنني لن أكون في هذا العالم سوى التمرد و الاختلاف و الرفض لكل شيءٍ باهتِ تحكمه الغرائز المكبوتة و شذوذ المجتمع الفكرية. و لهذا الاحساس قصةٌ و اقعية, و هي انه خلال الفحوصات الطبية التي بدأت بكوني نطفةً و انتهت بمجيئي الى هنا, أكد الاطباء لأمي أنني ذكر, و أثبتت الصور الطبقية أنني ذكر, و اثبتت قراءة جدتي للفنجان و تجربة الخيط الغريبة أنني ذكرٌ أيضاً, و فرحوا جميعهم ب"عزوة" بيت عابد الأولى. لا أعرف ماذا حدث, لا اعرف ان كان تخطيطا من الله أو دعابةً أو امتحان, و إن كان امتحاناً فأنا ما زلت لا أدرك الهدف من وراء تغييرٍ بسيط لأعضائي التناسلية, التي كان الله يدرك تماماً انه باستحضار أنوثتي المستعجلة في الشهر التاسع من احتضاني في رحم أمي سيقلب حياتي رأساً على عقب. لكن ما لم يتوقعه الله و أمي و بقايا القهوة في الفنجان هو أنني لم أكبر لأندرج تحت أي من المسميات و الفئات التي خلقها مجتمعٌ يعاني من رهاب التغيير و رعب النضوج بأعضاءٍ تحمل في طياتها غشاءً بكرياً يثبت وجوده نوع التقوى أو شكل العهر. مجتمعٌ يختبئ في جنبات الماضي و الانتصارات العقيمة التي سجلت على أوراق بردى لتتغذى عليها هتافاتنا التي لا نحمل منها الا اسماً و و بضع وريقاتٍ تذكرنا بخيباتنا و انتصاراتنا و متاجرتنا بعذرية الوطن, و مفتاح صدئٌ متآكل.
الشطار و الساقطة و رائحة القرفة و انا, محظورين نحن, خاضعين لرقابة النظام, هاربين نحن. لنا تقاطعاتٍ مغرية في حياتنا, و لنا تشابهاتٌ موجعةٌ حد البكاء حيناً, و حد التمرد الملحد أحياناً أخرى. فنحن خلقنا لنُطمس, لنُقتل بعد كل شهيق نبحث في ثناياه عن مخرجٍ من العاصفة الهوجاء التي تعصف بالأوطان التي تعاني عقداً لا حصر لها و لا مغزى. في هذه الروايات تقمصت حياة الفقر و المثلية و العاهرة, أوصاف يرفضها المجتمع في صحوه و يرددها مراراً و تكراراً في نومه و خلوته, يكذبونها و لا يقرون بوجودها, يخافون من مواجهتها و يستغفرون الرب عند مرورها. و يولون الدبر كاظمين شفاههم تحت السنتهم لينعتوني بالعاهرة البرجوازية و المثلية الزنديقة, ليعودوا الى كهوفهم ليمارسوا الشذوذ مع نسائهم, و ليفضوا عذرية فلذات اكبادهم, و ليسجدوا للرب متضرعين رغيفاً من الخبز الحافي .
الكاتب المصري عباس محمود العقاد لخص تجربتي في القراءة مؤكداً: "أحب الكتب لأن حياة واحدة لا تكفيني", و حنان الشخصية التي خلقتها سمر يزبك في رائحة القرفة أعادتني إلى الحياة في كل كلمةٍ استخدمتها لوصف السعادة التي اشتقتها من خادمتها عليا التي كانت لها الصديقة و الأم الحنون و العشيقة, بعد أن تزوجت برجلٍ لم تستطع ان تكبت اشمئزازها من اكتشاف تفاصيله, "عليكِ أن تعيشي بسعادة. و السعادة هي أن تتحولي إلى كرة زجاجية مغلقة, تنتشر في داخلها نثرات الثلج بكثافة, كيفما يحركها الآخرون, لا يستطيعون اكتشاف ما بداخلها. هذه هي القوة. أن تكوني أنت منبع و نهاية ذاتك. لا أحد يجرؤ على الاقتراب من وجودك "(يزبك, 72). سمر يزبك تطالب كل الحالمات بالتمرد أن يكنَّ تلك الكرةَ التي يرى كل رجال الكون ما بداخلها و يتضرعون شبقاً لاكتشافها, إلا أن أمنياتهم لا تتجاوز حد الحلم و الانتظار. يزبك تريد أن نكون البئر الذي ينضح بكل الحب و الحنان الذي نستقي منه وحدنا, لنترك آدم يرتع في حقول الشرف و التقاليد التي اجترحها بمناقشاتٍ و مفاوضاتٍ مع قضيبه الذي يحركه كالدمية الخشبية. و من هنا أصبحت سعادة المرأة الخطيئة الأولى التي قرر القضيب و خادمه وأدها في عالمهم الخيالي و سياستهم العقيمة, لذا كانت رائحة القرفة الكتاب الإلحادي الأول على قائمة الممنوعات في الأوطان اليابسة الناضحة بالقبور و قضايا الشرف الموؤودة المصطنعة. يزحف القضيب كالأفعى السامة باحثاً عن كتابٍ مقدسٍ آخر ليطمسه, لتجمعه الأقدار مع هيفاء بيطار و الساقطة , يستغفر القضيب خالقه عند ظهور هذه المجموعة القصصية التي تصف فيها بيطار طلاق المرأة كأي حدث طبيعي, و تحلل ممارسة النساء للجنس كفاتورةٍ لشراء ربطة خبزٍ عند هروب الرجل من البيت لأن متعته الجنسية فقدت لذتها بعد أنين أطفالٍ ينامون جياعاً. تسرد بيطار قصص شخوصها اللاتي تجمعهن الأنوثة, تتعمق في امتصاص سمومهن لتبثها في وجه الرجال الذين تركوهن ليصارعن الشرف و الرذيلة و الحرمان و نخر الروح اللعين, تقول بيطار في وصف المتخاذلين :"و كيف كان همه الوحيد ان يقضمها, كما يقضم تفاحة و يرمي النواة في القمامة"(بيطار,27).
يشكل منع هذه القصص مفارقةً غريبة, فمعظم الكاتبات نسوة, و كل المنتصبينَ رفضاً رجالٌ أو نسوةٌ يخفن العصيان. و المضحك أن هيفاء بيطار و سمر يزبك دفعن ثمن جرح و خدش الرجولة عن طريق فرض رقابة مهينة على ابداعاتهن, لكن ينطلق السؤال مفاجئاً صاعقاً, من دفع ثمن صرخات شخوصهن الروائية؟ و من احترم اختيار احداهن للطلاق لتحافظ على مهنتها كمحامية؟ و تحول الأخري إلى مثليةٍ تساحق خادمتها لأن زوجها كان كهلاً تجمله ثروته بينما كان جسدها ما يزال يكتشف روعة النضوج؟ و محمد شكري و إن كان رجلاً في الشطار فمن وقف لاعناً رجولته و روايته؟ أهم نفس الفئة من الرجالِ أيضاً؟ أهم من يعكرون المصير اليومي لنسوةٍ لم يقبلن أن يصبحن خادمات و يمسين جاريات, و يزندقون الرجال الذين اختاروا ترجمة أفكار و فضح كل رغبات الرجال؟ هل انتقدوا هذه الروايات لمجرد النقد فقط, هل لأنها فضحت واقعهم و نقاط خوفهم و محرماتهم؟ أم لأن لها عمقها السياسي و الديني الذي يعارض شريعة الحاكم الخالدة و كتب الرب التي تفسر وفقاً للحكام و اعوانهم؟ يطرح محمد شكري في روايته كل هذه الأسئلة بطريقة ابن طنجة الأصيل: "إن السكارى و الحشاشين و طوافي الليل يتشابهون و يتآزرون أينما كانوا, في أي زمان و مكان. إنهم يرفضون الدخيل عليهم و الوسيط, إذا لم يعتنق لعنتهم"(شكري, 38) و أعرف تماماً انه و إن كان يتحدث عن شوارع طنجة فلا بد انه في لحظةٍ ما من تذكر قذارتها استبدل الحشاشين و السكارى بالحرف و المضمون بهؤلاء الذين اعتنقوا لعنة أنظمتهم و حاولوا جاهدين استنزاف عقله في رحلة البحث عن الرغيف, لئلا يحلم بالحرية و بالحبر الذي سيغطى جزءاً بعد جزءٍ من أنامله و هو يخط سيرته الذاتية المتعبة. يعود شكري ليؤكد صحة ظنوني في آخر وريقاتٍ من روايته ليهمس لنا سراً بان نحذر الكذب اللطيف قائلاً "أليس ان الكذابين يتآزرون فيما بينهم مثل السكارى, و لهم مزاجهم الأقبح من الكذب اللطيف؟"(211) أوليست الرقابة الأدبية نوعاً من الكذب المنمق اللطيف؟
"كيف تعلمت حلاقة وجهك هكذا دون أن تجرحه؟ في أسفل بطني. لقد جرحته مرات كثيرة حتى لا أجرح وجهي." هذا الشاب الأمي استطاع ترجمة الواقع العربي في حوارٍ مزدوجٍ مبطنٍ آخر, استطاع أن يخبئ بين ثنايا الرواية صرخات تمردٍ و رفضٍ لكل شيئ, و وجهها للقارئ المتمرد حقاً, و استطاع أن يفلت من الرقابة الفاسدة على الأحلام الصغيرة. شكرى يقول في المعنى المجازي لإجابته أن ما خفي كان أعظم, و لئلا يرى العالم الندوب في وجهنا العربي نحرص على أن نشوه ما بداخلنا, لئلا يلحظوا الفقر نخبئ الجياع في ثنايا المساجد و نكرمهم بموائد الرحمن, و لكي نحافظ على الشرف نرسل العذراواتِ إلى أحضان الكهلة, و نخبئ امهاتنا و أناثنا خلف نوافذ مزركشة من الخيزران لنشرح فن العمارةِ الأموي المتمثل في تلك النوافذ للسياح. محمد شكري يعطي الأمل بأن ما أخفي من الروايات و خبئ أسفل البطون, مهمشاً و مذلاولاً ليترك الأوطان تتباهى بحلتها المثالية, ما زال ينتظر التئام الندوب ليخرج صارخاً و ليلوح بأعضائه و أسراره في وجوه مصطنعي الشرف الممتقعة. فعل خيراً شكري بكتابة و نشر الشطّار بلغةٍ أجنبية, فما إن تُرجمت الرواية إلى تسعُ و ثلاثون لغة, و تبوأت مركزاً مرموقاً في أروقة الآداب و المعارض الأجنبية حتى أصبحت فوراً و بمعجزة توصف بأنها من أشهر النتاج الأدبي العربي. الآن يا طنجة؟ بعدما تنكرت لابنكِ البار في طفولته و دموعه و جوعه؟ الآن يا طنجة غفرتِ اختلافه و ابداعه و جنونه؟ الآن تعود الذاكرة بأحلام مستغانمي ككل مرةٍ تخذلين فيها جزءاً منكِ يا طنجة, لتقول لكِ ملئ الفمِ : "هذه مدينة ترصد دائما حركاتك، تتربص بفرحك، تؤول حزنك، تحاسبك على اختلافك، ولذا عليك أن تراجع خزانة ثيابك، وتسريحة شعرك، وقاموس كلماتك، وتبدو عاديا.... وبائس المظهر قدر الامكان، كي تضمن حياتك فهي قد تغفر لك كل شيء عدا اختلافك,وهل الحرية في النهاية سوى حقك في أن تكون مختلفا." ما أنتِ يا طنجة إلا كبش الفداء في هذه الرواية, فكثيرةٌ غيركُ تنكرت لكل من أحبها و لكل من غاب, هي هكذا المدن في وطني الكبير, تحصرنا بين الخوف و الجهل, و يلسعنا سياط جلاديها, فإما ان ننحني لنتجنب وخز السياط الأليم أو نهرب لنصرخ في الفضاء الرحب في مدنٍ لن تعترف بنا إلا كبشر. و ما اجمل الهروب عندما يمتقع بالذل وجه الأم المدينة!
يسمونها "الحرية في الأدب العربي" و نعرف و نؤمن بأنها سراب, حيث أنه ليس وليد مصادفة أو مغامرةٍ استكشافية أن يكون ثلاثة من أبرز الكتاب العرب مقيمين بصورة دائمة في المنفى دون أي انتهازٍ لفرصةٍ للعودة أو أي مدخل واسعٍ للحنين. الكاتب الفلسطيني إدوارد سعيد الذي كان يقيم في الولايات المتحدة شرح في كتابه تأملات حول المنفى جزءاً مبطناً من راحته و سعادته حيث أشار إلى ان انجازاته كان لها وزنها هناك, و هذا التقدير الذي حصل عليه كان كافياً ليشعر أن المنفى هو أجمل وطن قد يحصل عليه. أما الكاتب اللبناني أمين معلوف فيقيم في باريس، و الروائي السوري رفيق شامي اختار المانيا لتكون وطنه الجديد. من احد اهم الأسباب التي شرعت لهؤلاء المبدعين الهروب هي أنه وسط كل الحصر و التقييد الذي تفرضه الرقابات و الأنظمة السياسية و الدينية في الوطن العربي استحال ان تتوفر الفرصة لهؤلاء الكاتب ليصفوا حقيقة ما يرون و يكتشفون. و لأن أيٍ من هؤلاء يثق بأنه لن يقف مكتوف اليدين مكمم الفم و العينين دون ان يصرخ "لا" ضد كل شيءٍ يناهض الحرية أو يمثلها باصطناع و ازدواجية, و لأن الحياة أثمن من أن نتنتهك في خنادق المعتقلات, يختارون الهروب, لأنهم يدركون مسبقاُ إنهم تفوهوا بكلمةَ حقٍ واحدة, لن يقولوا غيرها لأن احداً لن يسمعهم حينها,وكيف نسمعُ من يتكلمُ تحت التراب؟! يقول رفيق شامي: "إننا لا نستغرب لأنه لا تأتينا من العالم العربي فنون تهزّ العالم. وأنا لا أعرف واحداً من الذين يوصفون بأنهم كبار الشعراء العرب، يعيش في بلد عربي وأنه لم يدخل في نزاع مع حكم مستبد." هذا الكاتب يعرف جيداً عما يتحدث و ما مرت به رواية الشطار من مهانة و استنكار لأصالتها و انتمائها, حيث ترجمت أعمال رفيق شامي إلى ثلاث و عشرون لغة, و لم يصدر منها أي عملٍ عربي. و يتجلى غضبه في أنه لم يحصل على دعوة رسمية من جامعة الدول العربية للاعتراف به ككاتب رسمي في محافل الأدب العربي، و مع ذلك يؤكد شامي إنه و إن وجهت له تلك الدعوة فلم يكن ليقبلها لأن اسمه مسجلٌ في جميع القوائم السوداء في القوى التنفيذية للأنظمة العربية، وهذا ما وصفه بأعلى جائزة كان ليحصل عليها في الوطن العربي. و أستطيع أن أوجز حياته و حياة محمد شكري و غيرهما, بأن العار ليس في وصف مغامرات حنان المثلية و لا يكون في كشف ألم الجوع في أيام شكري, و حتماً ليس العار أن تخبرنا بيطار عن المطلقات و العوانس, بل يكمن في سذاجة الصراع الفكري هنا, يكون العار في اوجه عندما يتوجك وطنك بتاجٍ من الأشواك لتحمل خطايا أنظمة العهر و الفساد, يكمن الوجع و الصرخة الاخلاقية في دولةٍ تؤمن بكلماتك حتى و إن لم تشابهك في معتقداتك, اتجاهاتك, شذوذك أو الحادك.
تترجم هيفاء البيطار واقعاً مؤلماً قد يكون السبب الذي دفع محمد شكري و غيره من الكتاب التوجه إلى لغات غير لغتهم الأم في التعبير عن مدنهم و حياتهم فتقول: "يبدو أننا نفضل البوح بجراحنا للغرباء, فهم لا يدينوننا, و لا يصلبوننا باحكامهم, إنهم كالأموات, يغادرون دافنين معهم السر"( بيطار,53), إذن, هؤلاء الكتاب الذين خرجوا بطريقةٍ ذكية من حدود بلادهم و لم يغادرواها فعلياً, و استنشقوا الحرية, لماذا عادوا؟ محمد شكري, طنجة استقبلتكَ غريباً حزيناً و جاهلاً, طنجة لم تحولك إلى انسانٍ يُذكر. أنت تغلبت عليها, فلماذا عدت لها و لشرقيتها, أمراضها, قملها و فسقها؟ أعدت لتتذكر سيرةً مليئةً بالوجع, و لتذكر الأزقة التي اغتُصبت معدتك فيها , و أنفك المحرومُ من رائحة الخبز و المزكوم بأكوام القمامة؟ كُتابنا الحقيقيون يدركون جيداً مساحة الحرية في لغاتٍ ليست لهم, يؤلمهم استخدامها و يسعدهم أنها تعطيهم مساحتهم الخاصة للتعبير عن كل ما يجول ببالهم مما يرونه صحيحاً أو خاطئاً. يتضرع شكري للغة الأم طالباً منها الرحمة : "كوني كما تشائين إلا التي أنتِ على صورتها"(215), يطلبون من اللغة ان تكف عن إيلامهم, يحاولون أن يقولوا لها انهم ما زالوا يحلمون بالعربية, و تتسلسل أفكارهم دون وعي باللغة العربية, و ينتجون أحلام يقظتهم باللغة العربية, فلماذا أنكرتهم كل هذا الإنكارَ الساحق؟
يقول شكري نادباً ناعياً أدباؤنا "إن الأديب إما هو خفي, و إما هو ميت"( 106). الأديب هو من يندي الجراح و يمسحها بالملح, هو من يعري مدينته قطعة قطعة, و هو من يظهر بين زوجين نائمين في سريرٍ ليكتب قصيدة في عذريتها و معلقةً في شهامته, هو ما يراه الرجل في عذرية زوجته, الأديب هو العاقل المجنون الأبكم الصارخ, هو الشاذ و الشيخ و الأمُ و العاهرة, هو من لا يعبأ بمحافل الممنوع في الوطن, الأديب هو المنتمي أبداً للاشيئ, لذلك يخيفنا حد الكفر, فنحن تعودنا استقاء مبادئنا من مصدرٍ ثابت, و تشبثنا في قشة دياناتنا و أنظمتنا. لذلك يقتل الاديب, ينفى الأديب, ثم يبدع فنصفق له طويلاً شاتمينه في سرنا, طاعنين في نزاهنه و شرفه, نسلمه جائزةً و وساماً و نطلب منه العودة من حيث جاء. فيعود مبتسماً متألماً, حاملاً درعاً في راحته, و وساماً مغروزاً في صدره, فيطمئنه محمد شكري و يواسيه قائلاً:"لمن هذه الأنغام الحزينة التي أسمعها من بعيد؟ إنها للراحلين في الجمارك و هم يزحفون واقفين. بطء زحفهم يذلهم حتى نخاع العظام, إن مذلة الوطن أقسى عليهم من مذلة الغربة."(136) فارحلوا, ارحلوا حيث لا تسمعون كلمة الحرية اكثر مما تمارسونها, ارحلوا, و لا تحزنوا و تلتفوا من فوق الكتف لتستمدوا النظرة الاخيرة من الوطن, فالوطن أدار ظهره لكم للمرة الثانية و سعى, لا تجترحوا التعاطف من أولاد أوطانكم, فلو فهموكم لتمردوا مثلكم, و لجعلوا من اجسادهم سلاسلَ تعبرون فيها الأرض عودة الى الوطن, فارحلوا.
لا ينسى محمد شكري و من عانى من رهاب الوطن الوجه الآخر للعملة, الوجه المؤلم حد الخيانة, فإدارات الرقابة في الوطن العربي تشدد الخناق و العقوبات على كل من تطاله يداها من الكتاب العرب الذين يزعم أنهم عبثوا بحرية الآخرين, بينما تحتضن كتاب الغرب و تروج في معارضها لهم و تترجم رواياتهم بطيبة خاطر مهما احتوت أعمالهم من تجاوزات جنسية ودينية. فالكاتب الكبير باولو كويلو و روايته المشهورة احدى عشر دقيقة يعدان من أهم المظاهر التي قد تثبت ثقافة المرء و اهتمامه بالأدب, فلم يحدث ان استفسرت من قارئٍ في محيطي عن كتابه المفضل إلا و أجاب قبل أن يفكر احدى عشر دقيقة, محاولاً اخفاء نظرة الشهوة في عينيه, فحتى القراءة في وطني أصبحت فعل اسمتناءٍ لا اكثر! سأبدأ باسئلةٍ جديدةٍ منذ الآن, أينك أيها القارئ من وجع الفقر؟ لمَ لا تهمك ذاكرة النسيان لدرويش؟ و هل تهمك مراهقة فتاةٍ خلقها باولو كويلو اكثر من جدران مطبخٍ تتهاوى على ابريق القهوة اليتيم تحت دموع بيروت؟ تقول بيطار فيما يمكن أن يمثل تفضيل و استحواذ الأدب الغربي على أوطاننا: "الناس قسمان, قسم يحلم و قسم يسرق من القسم الآخر أحلامه " (109). لعقدة النقص تجاه الغرب قصةٌ قصيرة تتلخص في الازدواجبة في التعامل الرقابي مع الأعمال الأدبية التي يكتبها روائيون شرقيون عرب ونظيراتها التي يكتبها غربيون. نحن نصنع الحلمَ بالحرية و الثورة و الأدب الصادق و هم يقتاتون عليه و تجلسهم مدننا في الاحضان مدللين كالرضيع ليمتصوا الرحيق منها و يعودوا محملين بما يشتهون, بينما يفترش كتابنا الموانئ في انتظار زجاجة محكمة الإغلاق تحمل رسالة اعتذارٍ من الوطنِ للغريب المنسي, مطالبةً إياه بالعودة فوراً لتعوضه الحنان الذي سرق منه و لتقطب جراح الخذلان النازفة. هل سيعودون؟
#منتهى_عابد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟