عبد السلام أديب
الحوار المتمدن-العدد: 1173 - 2005 / 4 / 20 - 12:14
المحور:
الادارة و الاقتصاد
كثر الحديث منذ بداية 2005 عن عملية المغادرة الطوعية خلال سنة 2005 والتي تستهدف احالة حوالي 30 ألف موظف عمومي على التقاعد المبكر. والمبرر أن هذه العملية ستقلص من نسبة نفقات التسيير مما يخفف من الأعباء المالية للميزانية، وكذا دفع الأطر المحالون على التقاعد إلى العمل في القطاع الخاص الشيء الذي سيؤدي إلى حركية اقتصادية تمتص نسبة من الأيدي العاملة المعطلة خصوصا حملة الشهادات العليا.
وبغض النظر عن مدى الانسجام الحاصل في هذا المجال بين التحالف الطبقي السائد ومدى استفادته من مثل هذه الخطوة التي ستدمر ما تبقى من المرافق العمومية لكي يحل القطاع الخاص الأجنبي على الخصوص مكانها في مجالات التعليم والصحة والنقل والخدمات الشبكية... الخ، فإن العملية تبدو من الناحية الموضوعية مدمرة للاقتصاد الوطني ككل نظرا لأن تمويل العملية تتم بواسطة الاستدانة الخارجية مما يرفع من حجم المديونية الخارجية، وأن الإدارة العمومية ستفتقد لأطرها المؤهلة التي بوسعها قيادة قاطرة التنمية في حالة ترشيد القطاع العمومي بدل خوصصته، كما ستؤدي إلى إهدار مزدوج للطاقات البشرية وللمال العام وبالتالي تكريس تدهور الخدمات العمومية وإنتاج تفاوت طبقي لا مثيل له سواء من الناحية المادية أو المعيشية أو الخدماتية.
من هنا يمكن التساؤل حول واقع الرواتب والأجور في قطاع الوظيفة العمومية وهل تشكل فعلا عبئا على الميزانية العامة للدولة؟ البحث هنا لا يستهدف هذه الرواتب والأجور من حيث الكم، بل الغاية تكمن في دورها الاجتماعي وفي الخلفيات التي جعلتها تتفاقم وبالتالي يتم التآمر على تقليصها، ولعل كل هذه الأشياء من شأنها خلق أوضاع اقتصادية واجتماعية جديدة سيستفيد منها رأس المال على حساب العمل.
فمنذ عقدين من الزمن يشهد قطاع الوظيفة العمومية تحولا سريعا مطبوع بتجميد التوظيف وتناقص عدد الموظفين بسبب تزايد عدد المحالين على التقاعد مقارنة بالنشطاء منهم مما يحدث انقلابا في قدرة الصندوق المغربي للتقاعد على المحافظة على توازنه المالي. ويعود هذا التحول إلى أزمة الميزانية العامة المزمنة المتسمة بهيمنة نفقات التسيير والمديونية على نفقات الاستثمار وتدخل المؤسسات المالية الدولية في سياسة تدبير هذه الميزانية عبر تقليص تدخل الدولة والقطاع العمومي في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وتمكين القطاع الخاص الأجنبي على الخصوص من الاستحواذ على المساحات التي كانت من تدبير القطاع العمومي سواء في مجال التعليم أو الصحة أو النقل أو الخدمات الأساسية الشبكية كالماء والكهرباء والسكك الحديدية ... الخ.
لكن ما هي حقيقة الوضع داخل القطاع الوظيفة العمومية؟ وهل بالفعل أن هذا القطاع لم يعد قادرا على استيعاب المزيد من اليد العاملة؟ وهل من الممكن التقليص من عدد العاملين ومن كثلة الأجور المدفوعة؟ تم ما هو المستوى الأمثل لأعداد العاملين بهذا القطاع؟ وهل يمكن الربط بين عدد هؤلاء وبين مستوى الإنتاجية؟
تلك هي بعض الأسئلة التي تطرح بمناسبة الحديث عن إشكالية الرواتب والأجور بقطاع الوظيفة العمومية ببلادنا. وسنحاول من خلال ما يلي طرح بعض الأفكار والملاحظات المتفرقة والتي تحاول التنبيه إلى خطورة الإشكالية المطروحة.
فاليد العاملة في قطاع الوظيفة العمومية تشكل بعدا مهما في الميزانية العامة للدولة، حيث أصبح بند أجور والمرتبات تشكل شطرا مهما من الإنفاق العمومي الجاري. ويوجد مقابل أداء هذه الأجور والمرتبات ما ينتجه العاملون من خدمات عامة مختلفة تقدمها الدولة للمواطنين كخدمات التعليم والصحة والنقل والأمن والدفاع والعدالة، …الخ، فضلا عن باقي المنتجات السلعية التي ينتجها القطاع العمومي.
إن إشكالية الرواتب والأجور بقطاع الوظيفة العمومية تكمن في مدى التناسب القائم بين الأجور المدفوعة ومستوى الإنتاجية. فمن بين الحلول التي تم طرحها لمعالجة الأزمة الاقتصادية الحالية ببلادنا هناك العمل على رفع مستوى الإنتاجية.
ولا يخفى أن تزايد حجم تدخل الدولة واتساع الوظائف التي تقوم بها كان من نتائجه المباشرة تزايد أعداد العاملين بالقطاع العمومي وبالتالي تزايد حجم الإنفاق العام في هذا المجال. فكلما كان حجم تدخل الدولة كبيرا وتطلب ذلك إنشاء عدة وحدات إدارية بموظفيها وبتجهيزاتها اللازمة كلما كانت مبالغ الاعتمادات التي تخصصها ميزانية الدولة كبيرة. ويبرز تعدد وظائف الدولة في هذا الإطار من خلال عدد الوزارات القائمة على مباشرتها وعدد المؤسسات والمرافق العمومية ويعكس كل ذلك هامش متزايد من التكاليف التي تتحملها الميزانية العامة.
فخلال عقد السبعينات التزمت الدولة في إطار الخدمة المدنية بتعيين الخرجين الجدد من المدارس والمعاهد الفنية والجامعات كأحد سبل مكافحة البطالة. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع بند الأجور والمرتبات في الميزانية العامة للدولة. بيد أن عددا كبيرا من هؤلاء الموظفين أصبح ذا إنتاجية منخفضة بسبب عدم جدية تخطيط القوى العاملة وإعادة هيكلتها بما يتناسب واحتياجات التوسع الوظيفي المنتج وبسبب انخفاض حجم الاستثمار العمومي منذ بداية عقد الثمانينات.
وقد ترتب على نمو أعداد الموظفين تزايد بند الأجور والمرتبات في الميزانية العامة للدولة، وأصبح الإنفاق العمومي في هذا المجال يمتص نسبة لا بأس بها من الإنفاق العمومي الجاري. كما ترتب على ذلك أيضا ارتفاع النصيب النسبي للأجور المدفوعة لموظفي الدولة مما شكل إطارا رئيسيا في مجال توزيع الدخل الوطني.
حصة مرتبات الموظفين ضمن الإنفاق العمومي
وضمن الإنفاق الجاري 1958-1986 بالمليون درهم وبالنسب المئوية
السنوات مجموع الإنفاق العمومي الإنفاق الجاري مرتبات الموظفين نسبة مرتبات الموظفين إلى مجموع الإنفاق العمومي نسبة مرتبات الموظفين إلى الإنفاق الجاري
1958 1.608 1.300 780 --- 48,70 54,5
1960 1.840 1.480 890 14,1 48,30 60,1
1962 2.320 1.820 1.050 17,9 45,25 57,6
1964 3.050 2.191 1.180 12,3 38,60 53,8
1966 2.770 2.160 1.240 5,1 44,70 57,0
1968 3.776 2.640 1.430 15,3 37,90 54,1
1970 4.156 2.930 1.780 24,4 42,80 60,7
1974 10.075 6.646 2.870 38,5 26,07 37,8
1976 18.845 9.085 4.250 48,1 25,01 48,4
1978 19.477 11.177 5.750 35,5 30,30 50,4
1980 23.563 15.135 8.110 41,0 33,70 48,1
1982 39.361 22.554 10.350 27,6 26,20 45,8
1984 38.829 28.674 11.930 16,9 30,60 41,6
1986 61.982 14.500 10,1 32,30 44,9
المتوسط 24,0 35,50 50,5
المصدر: جدول مستمد من تقارير بنك المغرب
بيد أنه في ضوء تفاقم الأزمة الاقتصادية ببلادنا، اتجهت السلطات العمومية، وتحت ضغط صندوق النقد الدولي، إلى الضغط على أجور ومرتبات المشتغلون في قطاع الوظيفة العمومية، كمحور رئيسي في إجراءات التقويم الانكماشي المالي للميزانية العامة، انطلاقا من كون بند الأجور والمرتبات يشكل كتلة رئيسية في الإنفاق العمومي، وأن أي ضغط عليها يحقق نتائج إيجابية في توفير الموارد العمومية.
وبالفعل توجهت الاختيارات المهيمنة منذ بداية عقد الثمانينات إلى إلغاء عددا من المناصب المالية الشاغرة والوظائف المؤقتة، وقامت بتجميد التعيين، وأوقفت العمل بالضمانات المتاحة لتوظيف الخريجين الجدد من حملة الشهادات. وعملت على تجميد الأجور والعلاوات، ووضعت حدا أقصى لها. كما شجعت على التقاعد الاختياري قبل بلوغ السن القانونية منذ بداية التسعينيات في المؤسسات العمومية وخلال سنة 2004 و2005 في قطاع الوظيفة العمومية. وقد ساهم كل ذلك في تزايد حدة البطالة وتردي مستوى معيشة كاسبي الأجور والمرتبات في القطاع العمومي.
ونظرا لكون السلطات المالية تجد صعوبة في إيجاد الموارد المالية الكافية للزيادة من نسب الاستثمار العمومي فهي تعمل على ضغط نفقات التسيير وتقليص نفقات المديونية لتحقيق غايتها تلك، وبما أن أبرز نفقات التسيير تتمثل في أجور ومرتبات العاملين بالقطاع العمومي فهي تحاول التأثير على هذا المستوى.
تطور الإنفاق العمومي بالمغرب
1957 -2000
بالمليون درهم وبالنسب المأوية
السنوات
نفقات التسيير نسبة نفقات التسيير إلى مجموع النفقات العمومية
الدين العمومي
نسبة نفقات الدين العمومي إلى مجموع النفقات العمومية
نفقات الاستثمار نسبة نفقات الاستثمار إلى مجموع النفقات العمومية مجموع نفقات الميزانية العامة
1957 1100 72 117 8 302 20 1519
1960 1483 74 155 8 369 18 2007
1965 1896 66 206 7 775 27 2879
1970 2753 65 324 8 1132 27 4209
1975 8848 56 615 4 6288 40 15751
1980 12635 54 2500 11 8428 36 23563
1985 21284 48 10747 24 12282 28 44313
1990 30347 46 22433 34 12675 19 65455
1995 47174 52 27673 30 16624 18 91471
2000-99 63438 52 40468 33 18327 15 122234
2003 78.250 56 41.759 30 19.547 14 139.556
المصدر: 1957-1964 الحسابات الاقتصادية والمالية للمغرب
1968-1971 الإحصائيات السنوية للمغرب
1972-200 تقارير بنك المغرب ووزارة الاقتصاد والمالية
يستفاد من الجدول أنه حدث تزايد هائل في الإنفاق العمومي ما بين 1957 و1970 حيث بلغ معدل التزايد نسبة 36 % . بينما تراجع هذا المعدل خلال عقد السبعينات (1970 –1980) إلى 17%، لكن خلال العقد الموالي (1980-1990) سيرتفع هذا المعدل مرة أخرى ليصل إلى 35 %، ثم سيتواصل هذا التزايد خلال عقد التسعينات(1990-2000) ليبلغ أعلى معدل له 53 %.
ويظهر أن التطور الهائل الذي عرفه الإنفاق العمومي خلال عقد التسعينات يرجع إلى الأهمية النسبية لنفقات المديونية الخارجية حيث بلغ معدلها إلى مجموع الإنفاق العمومي على التوالي سنتي 1990 و2000 نسب 34% و33%. وبذلك أصبحت تشكل أهم بند في الميزانية العامة. غير أن المفارقة التي تبرز هنا هي أن استفحال المديونية قد انطلق مع بداية عقد الثمانينات أي مع انطلاق سياسات تدبير الأزمة الشيء الذي يذكرنا بأن هذه السياسات هي المحرك الحقيقي لتفاقم المديونية، فبدلا من أن تؤدي هذه السياسات إلى حصرها وتقلصها نظرا للشعار الذي ظل يطبع المرحلة والمتمثل في استعادة التوازنات الهيكلية نجد أن العكس هو الذي حدث.
ويستدعي الواقع الراهن للقطاع العمومي إبداء جملة من الملاحظات كما يلي:
أولا - شكلت اليد العاملة في القطاع العمومي حتى بداية عقد الثمانينات مجالا أساسيا لمكافحة البطالة، بمعنى أن النسبة الكبرى من استيعاب العمال الذين كانوا يخرجون سنويا إلى سوق العمل كانت تستأثر بها الإدارات العمومية وإدارات الجماعات المحلية والمؤسسات العمومية. ويعود ذلك في كثير من الحالات إلى الالتزام بتعيين الخريجين الجدد من المعاهد والجامعات . فقد ترتب على هذا الالتزام، فضلا عن تزايد الإنفاق على التعليم، ضمان وجود فرصة عمل لكل خريج جديد. وتبدو أهمية هذا الالتزام، من حيث امتصاص البطالة، ففي ظل النمو السكاني المرتفع وضعف قدرة القطاع الخاص عن استيعاب إعداد متزايدة من العاطلين عن العمل، كان القطاع العمومي يتمكن من استيعاب اليد العاملة الجديدة بشكل مؤثر.
لكن في ضل ضغط عجز الميزانية العامة، وندرة مواردها المالية ، ظهر اتجاه قوي لتقليص دور الدولة في تعيين الخريجين الجدد، وذلك في ضوء السياسات الانكماشية التي اضطرت بلادنا لتطبيقها، بإيعاز من المؤسسات المالية الدولية.
ثانيا - أصبح الإنفاق العام في مجال صرف رواتب وأجور العاملين في القطاع العمومي يمتص النسبة الكبرى من الإنفاق العام الجاري. ومع النمو المتزايد للأجور، وفي ضوء تراجع طاقة الدولة الضريبية المترتب على اثر الإصلاح الجبائي إضافة إلى عوامل متفرقة، فإن العجز بالميزانية العامة أخذ يتسع عاما بعد الآخر. وإذا لم يكن النمو الحادث في بند الأجور هو المسؤول الأول والأخير عن عجز الميزانية العامة. فلا يمكن التقليل من أهمية بند الأجور باعتباره أحد المحاور المسئولة عن نمو الإنفاق العمومي، ومن ثم عجز الميزانية العامة، وبخاصة في ضوء تردي أو جمود موارد الدولة السيادية.
تطور عجز الميزانية العامة في المغرب
1964 - 1998
بالمليون درهم
السنوات المداخل
العمومية الإنفاق العمومي الفائض العجز نسبة العجز إلى الناتج الداخلي الإجمالي
1964 2265 3010 -745 5.96
1965 2877 2876 -0,26 0.00
1970 4176 4210 -33,53 0.20
1971 4652 4718 -65,47 0.35
1972 4732 5214 -481,41 2.39
1975 13533 15751 -2218,26 6.09
1976 1613 18945 -2812,39 6.81
1980 21666 23562 -1896,25 2.56
1981 25698 28174 -2476,14 3.13
1985 38055 44313 -6257,92 4.83
1986 50628 61983 -11355,14 7.36
1990 66217 65455 762,218 -
1991 70104 70623 -518,93 0.22
1995 88900 91471 -2571,32 0.93
1997/1996 88550 98363 -9812,60 3.07
1998/1997 94808 106732 -11923,66 3.73
2003 136.769 139.556 2787 - 0,66
المصدر: جدول مستمد من تقارير بنك المغرب
ثالثا - إذا كانت معدلات الأجور بالقطاع العمومي تبدو مغرية، في ظل تفاقم البطالة والكساد، نتيجة عدم تعرضها لمؤثرات قوى السوق (العرض والطلب) ووجود قوانين ومراسيم تحميها. فإن انتعاش سوق العمل، خارج القطاع العمومي، يجعل أجور العاملين في القطاع العمومي لا تكون في وضع يمكنها من أن تنافس أجر الوظائف المعروضة خارج هذا القطاع. وتجدر الإشارة إلى أنه منذ أواسط عقد الثمانينات أصبحت الأجور التي تدفعها السلطات العمومية لموظفيها تفصلها عن الأجور التي يدفعها القطاع الخاص مسافات طويلة، وتزداد هذه المسافة بعدا في حالة الأجور التي يدفعها قطاع الاستثمارات الأجنبية الخاصة، وخصوصا فيما يتعلق بالعمال المهرة والكفاءات الإدارية والفنية. حيث كثيرا ما تعتمد هذه الاستثمارات على سياسة زيادة الأجور والمرتبات كسياسة ذات فاعلية لجذب أحسن وأكفأ المهارات التي ترعرعت في أحضان القطاع العمومي.
ورغم وجود فروق كبيرة الآن بين معدلات الأجور بالقطاع العمومي وبين تلك المعدلات التي يدفعها القطاع الخاص، إلا أن الاشتغال في الوظائف العمومية لا يحدده فقط معدل الأجر النقدي. فهناك بعض الوظائف التي تخول المركز والأهمية الاجتماعية وضمان الوظيفة والمنصب والسلطة، فضلا عن بدلات السفر والتمثيل، بالإضافة إلى المزايا الأخرى التي تتحقق لكبار موظفي الدولة، مثل السكنى الوظيفية والسيارات والتعليم والرعاية الطبية، إلى آخره.
رابعا - ظاهرة الجمود النسبي الذي تتميز به أجور العاملين بالقطاع العمومي والنتائج المترتبة عن ذلك، من ضعف الطاقة الشرائية أمام ارتفاع نسب الأسعار السائدة. حيث يصعب تغيير معدلات الأجور العمومية على نحو مرن لكي تواكب التغير الحادث في نفقات المعيشة، نظرا لكونها تتحدد بواسطة قوانين ومراسيم يصعب تغييرها. وقد ترتب على ذلك أن القوة الشرائية الحقيقية لدخول أصحاب الأجور والمرتبات بالقطاع العمومي ظلت تتعرض لتآكل مستمر من جراء الارتفاع المستمر للأسعار. ولم تفلح العلاوات والترقيات الدورية، وما تأتي به من زيادات في الأجور النقدية، أن تمنع تدهور أحوال ومعيشة الموظفين والعاملين بالقطاع العمومي. ويترتب عن هذا الجمود عدة أمور هامة منها:
1 - أن وحدات القطاع العمومي تتعرض لظاهرة هروب الكفاءات المدربة للاشتغال في القطاع الخاص (المحلي أو الأجنبي) حيث الأجور المرتفعة. وفي حالة عدم وجود فرص كافية للتوظيف بالقطاع الخاص المحلي، فإن هذه الكفاءات تهاجر إلى البلاد ذات الأجور العالية. ويمكن الإشارة هنا إلى ظاهرة تزايد هجرة العديد من الإعلاميين والتقنيين بقطاع الإعلام العمومي للاشتغال بمحطات إعلام أجنبية.
2 - أن هروب أعداد كبيرة من العاملين بالقطاع العمومي خارج هذا القطاع يؤثر بشكل سلبي على كفاءة الإنجاز في مجال تقديم الخدمات العمومية، كما يؤدي ذلك إلى تعطيل الطاقات الإنتاجية بالقطاع العمومي. ويضاعف من هذه المشكلة عدم وجود خطط للتكوين المستمر لمواجهة هذا الهروب.
3 - أنه في ظل جمود الأجور وعدم تغييرها على نحو يعوض العاملين في القطاع العمومي للخسائر التي يتكبدونها من جراء ضعف قدرتهم الشرائية، فإن ذلك قد أدى إلى استشراء ظاهرة الرشوة والفساد الإداري، حيث يلجأ عدد من العاملين بالقطاع العمومي إلى استغلال المسؤولية والسلطة المخولة لهم للحصول على دخول غير مشروعة، كخط دفاع لمواجهة موجة الغلاء وتدهور مستوى معيشتهم.
خامسا - اختلال بنية اليد العاملة بالقطاع العمومي. فبينما تعج الإدارة العمومية والجماعات المحلية ووحدات القطاع العمومي بالعمال والموظفين غير المؤهلين، هناك تناقص واضح في نسبة الأطر الكفأة من الفنيين والأخصائيين وذوي المهارات الخاصة. ومن هنا تتفشى بشكل واضح ظاهرة البطالة المقنعة وشبه المقنعة في القطاع العمومي. وتعتبر مشكلة "الأجور المنخفضة" التي يقدمها القطاع العمومي لعنصر العمل الماهر، أحد العوامل المهمة في تفسير هذا الاختلال. كما تعاني الجماعات المحلية من نقص واضح في الكفاءات المدربة على تقديم الخدمات العمومية.
سادسا - عدم وجود ارتباط واضح بين الأجور المدفوعة في القطاع العمومي وبين الإنتاجية. فالأجور والعلاوات تدفع بناء على قوانين ومراسيم وزارية، لا علاقة لها، في غالب الأحيان، بكفاءة الإنجاز. وفي كثير من الحالات تتم الترقية إلى وظائف أعلى وإلى مناصب المسئولية بناء على اعتبارات لا علاقة لها بكفاءة الموظف أو العامل أو بحسن أدائه. بل تلعب العلاقات الزبونية دورا حاسما في سد الأبواب أمام هذه الكفاءات وإحباط طموحاتها. كما أن البيروقراطية الصارمة والروتين الجامد، كثيرا ما يعطلان زيادة إنتاجية العاملين ويعوقان التمييز بين العامل المنتج وغير المنتج.
سابعا - تستفيد فئة من كبار المسئولين من تواجدها في أعلى هرم الإدارات والمنشآت العمومية، بحيث تتوصل هذه الفئة، التي يمكن اعتبارها طبقة متميزة، عادة بدخول مرتفعة ذات طابع متغير وتشكل اعتمادات مهمة ضمن الإنفاق العمومي للميزانية العامة للدولة. كما أن أفراد هذه الشريحة تعتبر أكثر قربا من مراكز السلطة وصناع القرار الاقتصادي والسياسي، وتحتل مواقع هامة في أجهزة الدولة. ولا يخفى على أحد ما تشكله حصة الأجور والعلاوات ومعاشات الوزراء وقدماء الوزراء وكبار المسئولين المدنيين والعسكريين والمدراء بالإدارات العمومية والمؤسسات العمومية والبرلمانيين العاملين أو المحالين على التقاعد من ثقل على الميزانية العامة للدولة.
ثامنا - تتوصل فئة من أطر القطاع العمومي بأجور متوسطة وتضم من حيث الحجم عدد أكبر من الأفراد بالمقارنة مع فئة كبار المسئولين. ويعمل أفرادها بمرتبات ثابتة أو شبه ثابتة، ويشغلون في الوظائف الإدارية والفنية والإشرافية في الوزارات والأجهزة والمصالح الإدارية وإدارات الجماعات المحلية والمؤسسات العمومية، حيث ينتمي إلى هؤلاء المدرسون والموظفون في الإدارات والمؤسسات العمومية. ويعتبر أغلب هؤلاء من خريجي الجامعات أو المعاهد العليا والمتوسطة.
ويبدو أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لهذه الفئة قد تعرض للتدهور بشكل واضح بسبب السياسات الليبرالية الجديدة المعتمدة في بلادنا منذ بداية عقد الثمانينات. فأغلب أفراد هذه الفئة تعيش على المرتبات والدخول الثابتة التي تحصل عليها من عملها في الوظائف الإشرافية والإدارية والفنية بأجهزة الدولة والجماعات المحلية والوزارات المختلفة. وقد تدهور وضع هؤلاء بسبب تزايد الأسعار المواكبة لهذه السياسات، فتدهورت مرتباتهم الحقيقية. وزاد الأمر سوءا حينما تقرر إلغاء الدعم على المواد الضرورية كالمواد التموينية وتزايد أسعار منتجات القطاع العمومي كالماء والكهرباء، والرسوم المقررة على الخدمات العمومية، كما هو الشأن بالنسبة لمختلف وسائل النقل العمومي.
كما تضررت هذه الفئة من خفض الإنفاق العمومي المخصص للخدمات الاجتماعية كالصحة والتعليم والضمان الاجتماعي والسكن الاقتصادي من جراء التدهور الذي أصابها ومن خوصصة بعض هذه الخدمات وارتفاع أسعارها على يد القطاع الخاص. كذلك كان لتجميد فرص التوظيف بالوزارات والمؤسسات العمومية تأثير بالغ الحدة على أوضاع هذه الفئة، حيث زادت البطالة بين أبنائهم خريجي الجامعات والمعاهد العليا.
كما تجب الإشارة إلى التدهور الذي طرأ على مستوى معيشة بعض أفراد هذه الشريحة الذين بلغوا سن التقاعد، وأصبحوا يحصلون على معاشات نقدية ثابتة. ففي الوقت الذي تنخفض فيه باستمرار القيمة الحقيقية لهذه المعاشات تنعدم في المقابل الفرصة المتاحة أمامهم لزيادة دخولهم من خلال مزاولة أعمال إضافية، بحكم ارتفاع أعمارهم وظروفهم الصحية وعدم قدرتهم على العمل. و هنا يمكن أن نتصور مثلا مدى تأثير ارتفاع أسعار الأدوية والخدمات الصحية على تدهور مستوى معيشتهم وأحوالهم الصحية.
تاسعا - هناك فئة ثالثة من صغار العاملين بالقطاع العمومي ويحصلون على دخول متواضعة. وتضم صفوف هذه الشريحة عددا كبيرا من صغار الموظفين الذين يعملون في الوظائف الكتابية والبيروقراطية. كما تضم عددا من المشتغلين لحساب أنفسهم في قطاعات الخدمات والمشروعات الصغيرة، كالموظفين في المراكز الصحية والمستشفيات والإدارات بالمصالح المركزية والخارجية، والعاملين في مجال البيع والتوزيع وأقسام الحسابات والأرشيف بالقطاع العمومي، والفئة الغالبة من عمال قطاع البريد والسكك الحديدية ...الخ. وتتوفر أغلبية أفراد هذه الفئة على قسط محدود من التأهيل المهني والتعليمي. وهم يمثلون أغلبية لا بأس بها من الشغيلة المغربية. ويعتبرون من ذوي الدخول الثابتة والمحدودة. لذلك يتسم نمط توزيع دخولهم بغلبة نسبة ما يذهب منه إلى الاستهلاك الضروري، حيث أن معدلات ادخارهم ضئيلة جدا، أو تكاد تكون معدومة.
وقد انحدرت السياسات الليبرالية الجديدة المعتمدة في بلادنا منذ بداية عقد الثمانينات بهذه الشريحة إلى الحضيض. ذلك أن أجور ومرتبات أعضاءها منخفضة في الأصل، ولهذا كانوا يعتمدون إلى حد كبير على الدعم السلعي الذي كانت تخصصه الدولة لضرورات الحياة. فقد أدى تقليص هذا الدعم تحت حجة خفض عجز الميزانية العامة للدولة وتصحيح تشوهات الأسعار، إلى الإضرار بهم ضررا شديدا. وزاد الطين بلة، مع تزايد أسعار الضرائب غير المباشرة، وارتفاع أثمان الطاقة وأجور النقل، وخفض الأنفاق العمومي الموجه للخدمات الاجتماعية.
كما أن تسريح المستخدمين بالمقاولات العمومية بعد خصخصتها غالبا ما ينصب على أفراد هذه الشريحة، وبخاصة أولئك الذين تتدنى كفاءتهم المهنية وتنخفض مؤهلاتهم التعليمية، ومن كانوا يعملون بعقود عمل مؤقتة كما أن كتلة كبيرة من أعداد هذه الشريحة هوت إلى ما دون خط الفقر المطلق في الكثير من الأحيان .
خلاصة التحليل
تستدعي الأطروحات التي تبرر الإحالة المبكرة على التقاعد وخفض أعداد الموظفين في القطاع العمومي وكذا تخفيض كثلة المرتبات والأجور المرتبطة بهم إضافة إلى تقليص الاعتمادات المخصصة للأدوات والمعدات والصيانة التي تعتبر ضرورية لإدارة المرافق العمومية وذلك باسم عقلنه النفقات العمومية إبداء ثلاث ملاحظات جوهرية كما يلي:
أولا : المفهوم الأيديولوجي والمفهوم الموضوعي لعقلنه النفقات العمومية.
يبدو أنه من الضروري التمييز بين الطرح الإيديولوجي لمفهوم عقلنه نفقات الميزانية المعتمد في بلادنا منذ بداية عقد الثمانينات والطرح الموضوعي لهذا المفهوم. فالمفهوم الأول يعتبر إيديولوجيا لكونه جاء في سياق سياسات التقويم الهيكلي المفروضة من طرف المؤسسات المالية الدولية والذي يخدم مذهبا اقتصاديا معينا ونجده يدعو من بين ما يدعو إليه إلى:
1 - خفض مستوى الإنفاق العمومي غير العسكري المتعلق على الخصوص بالخدمات الاجتماعية التي يستفيد منها الفقراء ومحدودي الدخل.
2 - خفض ما يسمى بالحجم الكبير للقطاع العمومي من خلال تجميد التوظيف العمومي وتجميد الأجور، ونقل الكثير من الوظائف التي تضطلع بها الإدارات العمومية إلى القطاع الخاص مثل خدمات التعليم والصحة والإسكان ومرافق المياه والكهرباء والنقل ... الخ.
ويعتبر هذا المفهوم بطبيعته ذو طابع انكماشي يستهدف تحقيق مبدأ التوازن الحسابي السنوي للميزانية العامة للدولة ، الذي لم يعد له أي مبرر مقبول في عصرنا الراهن، حيث يؤدي التمسك بهذا المبدأ في الغالب إلى تعميق الكساد وزيادة البطالة ووقف التنمية و تردي مستوى معيشة الناس.
أما المفهوم الموضوعي للعقلنة فيفترض أن تكون له أهداف تنموية ويعمل على وضع برنامج فعال لـمحاربة الإسراف المبالغ فيه في استخدام معدات وخدمات الإدارات العمومية كالسيارات والبنزين والكهرباء والورق ومخـصصات سفر المسئولين إلى الـخارج وتكاليف المآدب والحفلات … الخ ودون أن يمس ذلك بمتطلبات التنمية.
وفي هذا الإطار تتلخص المشكلة الأساسية لعقلنه نفقات الميزانية في كيفية الحصول على نتائج أفضل بنفس القدر من الإنفاق العمومي، أو في كيفية الحصول على نفس القدر من النتائج بإنفاق عمومي أقل. فمثلا، إذا كانت كلفة تشغيل مستشفى عمومي هي مائة مليون درهم، ويقوم هذا المستشفى بعلاج عشرين ألف مواطن في السنة، فإن عقلنه الإنفاق العمومي هنا يجب أن يتمثل في كيفية معالجة نفس العدد من المواطنين بأقل كلفة ممكنة، أو في كيفية معالجة عددا أكبر من المواطنين بنفس التكلفة، مع افتراض أن يكون مستوى الخدمة العلاجية مرتفعا.
ثانيا: تركيز مفهوم عقلنه النفقات العمومية على تقليص النفقات ذات الطابع الاجتماعي
ما هي خلفيات تركيز المفهوم المعتمد لعقلنه النفقات العمومية على تقليص الاعتمادات الموجهة للقطاعات الاجتماعية الحيوية كالتعليم والصحة والوظيفة العمومية أو على تقليص المعدات والخدمات الضرورية لعدد من المرافق العمومية الحيوية في الوقت الذي يسمح فيه بهامش واسع من التبذير في مجالات أخرى كثيرة كالإفراط في منح الامتيازات والرواتب إلى كبار موظفي الدولة والمخصصات الكبيرة للسفر إلى الخارج والاعتمادات الضخمة التي تصرف في إقامة الحفلات والمآدب.
فمنذ صدور تقرير البنك الدولي سنة 1995 ما فتئ عدد كبير من الاقتصاديين والمسئولين المغاربة يدعون في إطار المفهوم الانكماشي للعقلنة إلى التقليص من حجم كثلة الرواتب والأجور السائدة في القطاع العمومي، معتبرين بأن تسريح أعداد كبيرة من موظفي الإدارات العمومية أو إجراء تخفيضات في أجورهم أو تأجيل علاواتهم الاجتماعية أو تجميد التوظيف العمومي من شأنه أن يرفع من درجة كفاءة الإنجاز في القطاع العمومي.
لكن التجربة التي عاشتها بلادنا في إطار سياسة التقويم الهيكلي والمتمثلة في تجميد مستوى المرتبات والأجور والحد من التوظيف العمومي .. الخ ترتبت عنه آثار ومشاكل اجتماعية واقتصادية لا يستهان بها. فقد عمقت هذه الوضعية من حالة الكساد. علما بأن أجور الموظفين وإن كانت تشكل أهم وأكبر بنود الإنفاق العمومي الجاري في الميزانية العامة، إلا أنها من ناحية أخرى تعتبر المصدر الأساسي لإنفاقهم، وبالتالي فإن تخفيضها من خلال تجميد الأجور والتوظيف سينعكس مباشرة في تخفيض حجم الطلب الداخلي، مما يترتب عنه تأثير انكماشي على الإنتاج والاستثمار.
ثالثا: النتائج السلبية المترتبة عن تقليص المعدات والأدوات والصيانة.
ما مدى موضوعية الدعوة إلى تقليص اعتمادات الصيانة والإحلال والتجديد للبنايات والمعدات التي تستعملها المرافق العمومية في تقديم منتجاتها وخدماتها كالمرافق الصحية والتعليمية حيث كثيرا ما يتم ضغط النفقات المتعلقة بها بحجة العقلنة وتوفير فائض مالي للميزانية العامة.
فهذا الضغط قد يؤدي إما إلى الـتـراجع في قدرة المرفق العمومي على تقديم الخدمة أو تقديمها بشكل رديء أو قد يؤدي ذلك إلى تسارع استهلاك العمر الإنتاجي للأصول الرأسمالية الثابتة نتيجة تراجع مستوى الصيانة، وهذا من شأنه أن يشكل تبديدا للموارد.
فكثيـرا ما نسمع عن مدارس ومدرسين بدون أدوات لتدريس تلامذتهم، وكذلك عن مستوصفات وموظفين صحيين بدون لقاحات أو أدوية أو ضمادات، كما قد تتعطل الطاقات الإنتاجية في بعض الحالات بسبب انقطاعات طويلة في التيار الكهربائي بسبب عدم توفر قطع غيار أو بسبب عدم توفر المواد الخام اللازمة، المصنعة أو شبه المصنعة.
فالإشكالية الأساسية لقضية المرتبات والأجور في قطاع الوظيفة العمومية تتمحور في أن مدخلات عنصر العمل لا يواكبها مدخلات عناصر الإنتاج الأخرى. وقد استفحلت هذه المشكلة، حينما تفاقمت مظاهر الأزمة الاقتصادية ، وما رافقها من شح في الموارد المالية الخارجية والداخلية، مما يلقي بضلاله على الكفاءة الإنتاجية للقطاع العمومي.
فلا يمكن للمفهوم الموضوعي للعقلنة أن يتقبل فكرة اعتبار إجراءات تجميد الأجور، أو تجميد التوظيف، أو طرد العمال من وظائفهم، بمثابة المخرج من الأزمة. بل تكمن حلول الإشكالية في زيادة وتنمية الموارد التي تمكن الإدارات العمومية ومؤسسات القطاع العمومي من مواجهة المشاكل المسؤولة عن تدهور الإنتاجية، فضلا عن ضرورة إحداث ثورة إدارية وتنظيمية للتخلص من مظاهر عدم الكفاءة والجمود، وعدم التمييز بين القطاع العمومي والقطاع الخاص من خلال وضعه في منافسة غير متكافئة مع القطاع الخاص، الوطني والأجنبي، ومحاربة مظاهر الفساد والإفساد الإداريين، ووضع نظم جديدة للأجور والحوافز.
#عبد_السلام_أديب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟