حمزة رستناوي
الحوار المتمدن-العدد: 1172 - 2005 / 4 / 19 - 13:14
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
تشكل الطائفية و العشائرية مظهراً من مظاهر التحديات التي تقف حجر عثرة في وجه الدولة القطرية و وحدتها الوطنية ، و هما جزء من ظاهرة التخلف التي نعيشها ، وذلك بخلق التناقض بين الانتماء للوطن و بين الانتماء إلى الطائفة و العشيرة, و تفضيل هذا الأخير على الانتماء للوطن ، حيث كان الانتماء القبلي مسيطراً في العصر الجاهلي ، إلى أن جاء الإسلام برسالته التي نبذ فيها التعصب القبلي ، و لكنه لم يعمل ضد القبيلة بصفتها كياناً اجتماعياً و سياسياً فاعلاً ، بل استفاد من الإمكانيات التي تقدمها له القبيلة ، و سخرها لنشر دعوته ، فأصبحت المعادلة على الشكل التالي :
الدولة القوية المركزية تفرض سيطرتها على القبائل و العشائر الواقعة تحت سيادتها ، فتلجأ إلى الترغيب و البذل حيناً ، و إلى الترهيب و الجبروت حيناً آخر ، و لكن هذا لم يغير في جوهر المسألة ، فالدول العربية الإسلامية تاريخياً تنسب إلى قبيلة الزعيم المؤسس لهذه الدولة و سلالته ، ابتداءً من الأمويين و العباسيين مروراً بالفاطمين و الأيوبيين و انتهاءً بالسعوديين و الهاشميين بالأردن حالياً ، طبعاً مع استثناء دولة الخلافة الراشدة التي لم تكن حكراً على قبيلة محددة من قريش ، و لكنها قامت على توازن قبلي استثنى الأنصار و القبائل العربية الأخرى لأسباب تتعلق بتاريخية و جغرافية مهد الرسالة ، و في أثناء السيطرة العثمانية و الاستعمارية للبلاد العربية كانت العشائرية إلى جانب الطائفية إحدى الوسائل المفضلة بغية تكريس الاحتلال و تفتيت المجتمع ، و عقب خروج الاستعمار الأوربي لجأت الأنظمة الحاكمة إلى نفس الطريقة التي كان يتبعها الاستعمار ، فاستغلت الفئات الحاكمة هذا الإرث التاريخي لتثبت قوة الأنظمة و جبروتها ، فحدثت انتهاكات مستمرة عقب الاستقلال للمؤسسات الدستورية في الدولة ، إلى أن ألت الأمور إلى ردة طائفية و عشائرية صريحة في الدول " التقدمية " و بدون قناع ديمقراطي أو قانوني شرعي .
إن تنكّر الدولة للخصوصيات العرقية و الإثنية ، و قيامها بدور مركزي في عملية دمج قسرية غالباً ما يؤدي إلى قيام سلطة عصبوية تخدم مصالح القائمين عليها ، و لا تخدم مصالح الدولة بمعناها القانوني الذي لا تشكل السلطة سوى أحد أبعاده ، و من هنا يرى برهان غليون أن انفجار العصبيات الطائفية و العشائرية في المجتمعات العربية مرتبط باستبدادية الدولة التحديثية و أيديولوجيا الحداثة عبر تبنّي النظرية الدمجية للأمة – الدولة .
فالزعم أن الانبعاث الطائفي و العشائري هو وليد قصور في الوعي, أي أنه مظهر من مظاهر إخفاق الدولة القومية ، أو انحسار المد التقدمي الاشتراكي ما هو إلا تفسير قاصر ، فهذا الانبعاث الطائفي و العشائري يطرح إشكالية تعامل السلطة مع الشعب دون أخذها بعين الاعتبار الثقافات المحلية العرقية و الإثنية ، إن هذه الثقافات تسعى للتعبير عن نفسها و تسعى للمشاركة في اتخاذ القرارات أي البحث عن مقابل سياسي لها ، و طالما أن السلطة أٌغلقت الأبواب أمام هذه الثقافات المحلية فإنها لجأت إلى الانفجار في و جه السلطة المحتكرة للدولة في محاولة منها لإثبات و جودها و الدفاع عن مواقعها المهددة ،و عندما و جدت هذه السلطة نفسها في مأزق لجأت إلى الإستيعانة بعدو الأمس ، فأصبحت هذه السلطة حليفة القوى المحلية التقليدية بما يقوّيها على مواصلة الحكم ، أياً كان حجم الانحراف عن الوعي الأيديولوجي و القومي و الحداثي .
إن القوميين و الماركسيين و اللبراليين قد أغفلوا المضمون الإسلامي و المضمون العصبي للثقافة العربية ، لذلك ارتدت هذه المضامين عليهم ، و استعانت بما يسمى الأصالة للعودة إلى الساحة الاجتماعية من جديد .
لقد حدث هذا رغم الدعوات و الإيديولوجيات العديدة التي رفضت العشائرية و الطائفية و وسمتها بالتخلف و الرجعية .
إننا بذلك نخفي الوجه الحقيقي لذواتنا ، فتحت التمدن يوجد البربرية ، و تحت الشعب يوجد الحشد ، و تحت رجل الدولة يوجد القائد ، إننا عبارة عن حشود صغيرة " طائفية و عرقية و عشائرية ... " أي حشود أولية اقتربت في محطات تاريخية معينة – كالتجربة الناصرية – لتصبح حشود ذات امتداد أفقي واسع ، و لكنها لم تتجاوز كونها حشداً ، و الحشد يتصرف بناء على رغبات رجل واحد ، ذلك لأن أعضاءهُ محركون بالاشعور الجمعي ذاته ، فالحشد يعزى للأساس الا شعوري المشترك بين أعضاءه ، و هذا ما يفسر لنا إلغاء الخصائص الفردية لصالح الوحدة المخلصة لروح الحشد – أي ما يسمى بسيكيولوجيا الحشود حسب لوبون – و هي سيكيولوجيا نكوص ، تزدهر في ظل غياب الوعي و عدم احساس الفرد بوجوده ككينونة مفردة و عظمى .
إن لجم الحشد مستحيل سواء كان الحشد دينياً أو عرقياً أو عشائرياً لأنه لا يحتمل أي فاصل بين الرغبة و تلبيتها ، فالحشد هو نسيج متجانس سريع التصديق لا يعرف الشك , مغرور بقوته ، عصي على التناقض وهذا ما يفسر لنا التأيد الذي حظيت به أنظمة ديكتاتورية عديدة عبر التاريخ من قبل شعوبها " النازية – الفاشية – الشيوعية – الناصرية – عراق صدام حسين " مع وقفة قصيرة أمام نموذج " عراق صدام حسين " إذ أن الشعب العراقي كان بمعظمها ساخطاً على النظام ، في مقابل حماس عربي كبير على المستوى الشعبي لهذا النظام ، و مع ذلك لم يستطع العراقيون و خلال ثلاثة عقود أن يسقطوا أو يشكلوا تهديداً جدياً للنظام – و أستثني هنا العوامل الخارجية التي توكلت بعملية إسقاط النظام العراقي – فعراق صدام حسين هو عبارة عن مجموعة حشود عرقية و طائفية و عشائرية ، و لم يرتقي الشعب العراقي ليشكل حشداً عراقياً موحداً تحت قيادة صدام حسين كما هو الأمر في ألمانيا النازية مثلاً ، ففي المجتمعات التي يسيطر عليها الانتماء الغريزي و اللا واعي تسهل قيادتها عبر صفقة بين الزعيم الكبير و الزعماء المحليين الصغار ، صفقة خسيسة يذهب ضحيتها الفرد المواطن أولاً و الوطن الجماعة ثانياً ، إن النموذج العراقي ليس استثناءاً بل هو نموذج قابل للتعميم بنسب مختلفة بين الأقطار العربية ، و هو نموذج يطرح علينا قضايا بالغة الخطورة و سؤلاً مركزياً‘ ماهي المكانة التي يشغلها الوطن في الذهنية العربية ؟ !
أدّعي أنها مكانة ضئيلة ، فنحن مجتمعات قبل و طنية و قبل قومية ، نحن مجتمعات عشائرية و طائفية و عرقية بامتياز ، و الواقع خير برهان على ما أدّعي .
فهل كانت المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الصهيوني مقاومة وطنيه أم هي مقاومة طائفية ، يقوم بها حزب الله كفرض كفاية عن اللبنانيين ؟ و ليس في ذلك انتقاصا من مكانتها ، و كذلك هل المقاومة العرقية العنفية ضد الاحتلال الأمريكي هي مقاومة و طنيه ، أم هي طائفية و عشائرية إلى حد كبير ؟
فالأنظمة العربية الحالية أعادت إنتاج التفكك الاجتماعي ، و الطائفي منه و العشائري و العرقي بصورة موسعة ، و احتدام غير مسبوق حيث أفرغ المجتمع من محتواه الأخلاقي ، و دمرت أحزابه و نقاباته و مؤسساته و جمعياته ، و تم إلحاقه بالسلطة المركزية ، و نموذج عراق الأمس خير مثال ، حيث مع تنامي الحصار على العراق تضاعف حجم التناقضات الداخلية " حيث حكم العراق من قبل التكارتة و أهل العوجا ، حكم بعائلة لا تاريخ لها في التعليم و المؤسسات و الاقتصاد الحديث ، و لا في الانفتاح على العالم الخارجي ، و قد وجدت عصبيتها تعبيراً لها في الزيجات الداخلية ، و لم تكتف هذه العائلة بتعطيل السياسة بل غدت سلالة ملكية ممعنة في الفساد ، و حتى إذا انكمش ريعها و تراجعت هيبتها ، ارتدت عليها عصبياتها و زيجاتها التي استخدمت في تمتين السلطة و تكشفت عن مكائد العفن و الانحطاط " حيث قام صدام حسين بمصادرة العراق لصالح عشيرته و أقاربه دون النظر إلى الكفاءات و المؤهلات العلمية و الشخصية .
فحسين كامل : صعد من شرطي في موكب حماية زوجة صدام حسين " ساجدة " إلى وزير دفاع و تصنيع حربي و فريق أول ، و برزان التكريتي : المتهم بجرائم عديدة و المحكوم بالسجن تم إطلاق صراحه عقب الانقلاب البعثي عام 1968 ليصبح بعد ذلك مديراً للمخابرات العامة و من ثم سفيراً ، و نبيل نجم التكريتي الممرض في مشفى الطفل العربي ببغداد أصبح سفيراً فوكيلاً لوزارة الخارجية ، و طه ياسين رمضان : الذي لم يكن أكثر من عريف في الجيش لينتهي نائباً لرئيس الجمهورية ، هذا عدا سيرة عدي و قصي الذائعة الصيت ، لقد انحسرت السلطة في العراق ضمن دائرة ضيقة من التكارتة الموزعين بين الجيش و الأمن و البزنس مان حيث تقوم بينهم شبكات قرابة متفاوتة الصلات ، و قد بدا الحسد واضحاً من قبل العشائر الأخرى في العراق للتكارتة ، فكان من نتيجة ذلك حدوث انقلابات عسكرية بدوافع عشائرية ، ففي عام 1992 حدث انقلاب عسكري من قبل ضباط جبورين ، و في عام 1995 حدثت محاولة انقلاب من قبل ضباط من الدليم فأعدم أحد قادتهم و هو العقيد مظلوم الدليمي .
إن المجتمعات ذات الثقافة الفحولية الممزوجة مع القيم الاجتماعية البدوية و التفكير الديني السائد هي أكثر المجتمعات كارثيةً و دمويةً ، فأفراد هذه المجتمعات لا يرفضون الظلم و الاستبداد من منطق أخلاقي ، لا يرفضون الظلم الموجه للفرد و قد يتحملونه ، و لكنهم يقيمون القيامة إذا ما شمل الظلم عشيرتهم أو طائفتهم و القائمين عليها المتحكمين في أمرها و أمرهم ، إنهم يفكرون كجماعات ، و ليس كأفراد ، و من هنا تكمن سهولة السيطرة عليهم و إخضاعهم و استخدامهم أدوات طيعة في خدمة المستبد العادل أو المستبد الجائر و كلاها على كل حال مستبد ، ففي عام 1996 أوكل النظام العراقي إلى العشائر مهمة فرض الأمن و جباية الضرائب و إقامة الحدود في مناطقها مقابل تسليحها ، و رد الأراضي المصادرة منها سابقاً ، إنه وضع مشابه لبعض العائلات الإقطاعية أو العائلات المبروكة التي كان السلطان العثماني يعطيها الامتيازات و يعفي أبنائها من الخدمة العسكرية و الجهاد المقدس , مقابل خدمات خسيسة كانت تؤديها إلى السلطة العثمانية و الباب العالي .
و ينتهي بنا المطاف إلى التجربة السورية , فقد تبنت السلطة مبدأ التعيين و عطلت العمل بالانتخابات على مستوى مجلس الشعب و مجالس الإدارة المحلية و النقابات و الحزب , حيث يتم اختيار القوائم المسبقة التنضيد ,فلا يغدو من خيار أمام الناخب سوى الاستفتاء على هذه القوائم , و خاصةً مع احتكار البعث و أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية للمرشحين ,و لكن ابتداءً من دورة مجلس الشعب عام 1990 زيد عدد المستقلين فدخل المجلس رجال الأعمال و رجال الدين و زعماء العشائر , و إن كانت هذه الخطوة قد زادت من المشاركة الشعبية إلا أنها جاءت في سياق قرار و ليس في سياق مؤسساتي مقونن , و في الدورات التالية تم تحرير العملية الديموقراطية نسبياً من خلال زيادة عدد المستقلين و خضوع قائمة الجبهة" للمنافسة" , و بدا ذلك واضحاً في انتخابات المجالس البلدية و بعض النقابات كاتحاد الكتاب العرب و نقابة الفنانين و الأطباء , و تم العمل بالانتخاب داخل البعث ابتداءً من القاعدة و لكن هذه العملية لم تستمر و تؤتي ثمارها و قدر لها التوقف في مراحل باكرة , لن أدخل في تفاصيل الانتخابات , و لكن الذي يعنيني هنا أن مبدأ التعيين الذي تم اعتماده طويلاً يقوم على حجة مقبولة ظاهرياً‘ و هي أنه في حال قيام ديموقراطية "كاملة" فإن الشعب سوف ينتخب زعامات عشائرية و دينية و رأسمالية لن تقوم بخدمة المصلحة العليا للوطن , و ستكتفي بالحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب لنفسها , و لذلك فإن عملية التعين بقرار فوقي تحل المشكلة , و تفرض توازن يضمن الوحدة الوطنية و لا يفرط بحقوق المستضعفين ؟!
ولكننا و بعد التجربة وجدنا أن عملية التعيين غير حكيمة , حيث أدت إلى نمو شبكة عنكبوتية من المنتفعين و السماسرة و البيروقراطيين و المفسدين في الأرض الذين أصبح وجودهم بمثابة عقبة حقيقية أمام أي برنامج إصلاحي , حاولنا أن نتجنب سلطة العشيرة فانتهينا إلى عشيرة السلطة , إننا مضطرون لخوض التجربة الديموقراطية مع الاعتراف بأنها تجربة بشرية لها مساوئها و محاسنها , ولكن استمرارية هذه التجربة هو الضمان الوحيد لتقويمها , و بحيث تتزامن مع برنامج تنمية بشرية واضح الأهداف و محدد التوقيت يشمل التربية و التعليم و الصحة و الإسكان و الاقتصاد و قضايا تحرير المرأة وتنمية ثقافة حقوق الإنسان و المواطنة .
أثناء انتخابات مجلس الشعب للدورة الأخيرة , فوجئت بمظهر غير مألوف في المدن السورية – باستثناء دمشق مدينة البزنس مان – وهو تزاحم الزعامات القبلية وشيوخ العشائر على اللوحات المخصصة للإعلان عن الحملة الانتخابية , و قد فاض بهم العدد , فهاجموا جدران المدارس و أبواب المنازل و أعمدة الكهرباء و الهاتف و واجهات المحلات , تاركين ورائهم صور ورقية ملونة يعلوها الشماخ , وتسدل العباءات الفاخرة على جسومهم , بينما تزين الشوارب و اللحى الوقورة صور وجوههم . إنهم مرشحين مضموني الفوز بفعل الكتلة الآدمية الهائلة التي تقف خلف كل واحد منهم , هذا إذا لم يحصل صراع بين أولاد العمومة لا قدر الله !!.
فجأة يكتشف الناس قراباتهم و أرحامهم الجدد , ينقبون في تاريخ السلالة , و يكتشفون مهد العشيرة المقدس , فجأة تنصب خيام الشعر و تدور القهوة المره احتفالاً بقدوم البطون المفقودة من العشيرة , إنها الوحدة القبلية في أرقى تجلياتها , حيث تلتقي البطون بالأفخاذ بالأقدام بالقهوة المرّه و مناسف اللحم و أناشيد الربابة ؟!!
يالها من معجزة , لقد اهتوا فجأة , و عملوا بحديث النبي " لا يدخل الجنة قاطع " قال ابن عمر : قال سفيان : يعني قاطع رحم .
#حمزة_رستناوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟