ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1172 - 2005 / 4 / 19 - 13:21
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
إن الثقافة بنيان. وشأن كل بنيان هي بحاجة إلى أركان قوية من اجل بناء صرحها القويم. ولا تعني الاستقامة هنا السير في طريق لا حياد عنه، بقدر ما تعني السير ضمن إدراك الحاجات الكبرى والجوهرية المتعلق ببناء الذهنية العقلانية والديمقراطية. وهي حاجات تتكامل في مجرى العمل الاجتماعي المعقد الذي يرافق الآن مهمات العمران الديمقراطي في العراق. وهو عمران مترابط من حيث مبادئه وغاياته. مما يفترض بالضرورة سيادة الرؤية المنظومية تجاه كل الحلول المقترحة لإشكالياته المعاصرة والمستقبلية. وهو أمر ينطبق على بناء الدولة والمجتمع والثقافة بقدر متساو.
من هنا فان الفلسفة البديلة للثقافة تفترض الانطلاق من الحالة الثقافية المعاصرة والنظر إليها ضمن التاريخ الذاتي (العام). بمعنى الانطلاق من واقع الإشكاليات الفعلية التي تمخض عنها تاريخ العراق الحديث. وهي إشكاليات مركبة ومتداخلة، أعطت لها العقود الأربع من سيطرة التوتاليتارية والدكتاتورية أبعادا مشوهة للغاية. ولعل التشويه الأكبر يقوم في انعدام الثقافة الحرة والحية. ومن الممكن أن نعثر على صيغة نموذجية لهذه الحالة في إجابة أحد النحاتين العراقيين الذي كان "متخصصا" في صنع تماثيل الطاغية في مقابلة تلفزيونية، على سؤال فيما إذا كان يشعر بالأسى من رؤية تدمير ما كان ينحته، قائلا "لا! انها مشاعر الناس! والفنان ينبغي أن يحترم مشاعر الناس!". وهي إجابة لا تتسم بغرابة ليس لها مثيل، بل وبنموذجيتها الخالصة المعبرة عن واقع الثقافة العراقية في ظل التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. بمعنى تشوه المبدأ فيها والغاية والأسلوب والمنهج وفقدان الحس والإحساس والذوق الجميل والمعنى. مع ما يرافق ذلك من مساع حثيثة لتجميل القبيح. لقد كان الفنان ينحت أصناما، إضافة إلى كونه لا يؤمن بها! وكانت الثقافة ككل تصنع أصناما لا تؤمن بها. وهي حالة يرثها العراق ويقف أمام إشكالياتها وبالأخص أمام تحديد حدودها ومكوناتها وآلية فعلها وأساليب أدائها وغايتها واستمرارها وكيفية تذليلها.
إن حدود الانحطاط الثقافي في العراق لا حد لها، فهي تشبه البلادة والسخف والجشع. والصيغة المعقولة لإدراكها تقوم عبر تحليل الخصائص العامة الكبرى للثقافة الظاهرة والمستترة في مرحلة التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. ففي ظاهرها لم تكن غير نتاج فج لشعارات اكثر فجاجة وسخافة من حيث مضمونها ومن حيث علاقتها بالواقع ومن حيث مستوى وكيفية تجسيدها. وهو ظاهر أدى إلى إنتاج مظاهر الابتذال الشامل في مستويات الإحساس والذوق والعقل.
إذ لم تكن الثقافة عموما سوى ابتذال دائم للقيم الإنسانية والاجتماعية وترديد ممل وكريه ومرذول بمعايير العقل والشرع كما كان يقول أسلافنا. بمعنى انها كانت تعبيرا فعليا عن كيفية الانحطاط الممكن في الذات الإنسانية وأفعالها، مع ما يترتب على ذلك من انحطاط في عوالمها الداخلية، أي في صنع الثقافة المستترة للرذيلة.
والرذيلة هي أيضا "ينبوع" للفساد والإفساد، الذي عادة ما يعرض الثقافة إلى الهلاك بفعل كونها النسيج الأكثر شفافية للحياة. ومن ثم فإن حصيلة مكوناتها كانت تصب في اتجاه تجفيف الروح الإبداعي في الثقافة العراقية. ومن ثم تحويلها إلى خادم وضيع للسلطة ونزواتها المغامرة. بحيث أدى إلى صنع آلية تطابق في الأداء بين السلطة والحقيقة. وهي ارهب حالة بالنسبة للإبداع، بفعل "مساهمتها" الدائمة في صنع المستنقعات ومدها إلى كل الفجوات الممكنة للروح والجسد. مما أدى في نهاية المطاف إلى أن تتحول الثقافة إلى مستنقع تبتلع كل من يحاول أن يخطو فيها خطواته الأولى. ويصبح الحل الثقافي الحقيقي الوحيد هو اعتزال الثقافة، أو الهجرة.
فقد كانت الغاية الأساسية للثقافة التوتاليتارية هي تصنيع الرذيلة بمختلف أشكالها ومستوياتها من عبودية وخنوع واستسلام وتملق وتحذلق وزيف وتزييف وابتذال شامل لقيم الروح الاجتماعي والأخلاقي والإنساني. ولم يكن انهيارها السريع والفاضح أمرا غريبا، على العكس، انه يبرهن من جديد على أن الثقافة بنيان تتوقف قوته على مكوناته ومواده ومن يخطط له ويبنيه. وعلى ذلك تتوقف من حيث الجوهر إمكانية وكيفية تذليل بقايا ورواسب الثقافة التوتاليتارية البعثية في العراق.
وهي مهمة ممكنة التحقيق من خلال صياغة وتنفيذ منظومة من البدائل تشمل كل مكونات الثقافة في العراق من فكر وفن وأدب وسينما ومسرح وتلفزيون. وذلك لان المشروع البديل بهذا الصدد هو المشروع الواقعي، الذي ينطلق من إشكاليات التاريخ العراقي بهذا الصدد ويستشرف آفاق المعاصرة فيه. بعبارة أخرى، إن أي مشروع أصيل في الثقافة يفترض به أن يكون واقعيا من حيث منطلقاته، وغير متناه من حيث غاياته. إذ لا غاية نهائية للثقافة سوى تكاملها الديناميكي في مسار الحرية. وهي عملية ممكنة في ظل تأسيسها الفلسفي المبني في ظروف العراق الحالية على ثلاثة أركان كبرى، الأول هو تأسيس ثقافة العقل النقدي الفعال.
فهي الثقافة التي ينبغي أن تولف بين العقل والنقد والفعل في تأسيس منطلقاتها وغاياتها النهائية. على أن تكون الواقعية هي منطلق الثقافة، أما غايتها فبحسب المكمل الضروري لها. ففي مجال الثقافة العقلية ينبغي أن تكون منطلقاتها واقعية وغايتها عقلانية، وفي مجال الثقافة النقدية ينبغي أن تكون منطلقاتها واقعية وغايتها ليبرالية، وفي مجال الثقافة الفعالة ينبغي أن تكون منطلقاتها واقعية وغايتها التزام حر.
والمقصود بالثقافة العقلية هنا هي الثقافة التي تستند في جميع مواقفها من مختلف قضايا الوجود الاجتماعي إلى العقل النظري والعملي والثقافي. بمعنى الواقعية في تناول الأسباب من اجل بلوغ العقلانية في الإجابة على إشكاليات الواقع. أما المقصود بالثقافة النقدية هنا فهي الثقافة التي تنطلق من منهجية الشك العقلي من اجل بلوغ اليقين التجريبي. في حين ينحصر مضمون الثقافة النقدية هنا في إطلاق الحرية الملتزمة بالقضايا الواقعية للمجتمع والدولة. بمعنى تجريد كل وجود وموجود فيها من احتكار القدسية المزيفة. وبالتالي إمكانية تعريضه للنقد الواقعي والعقلي من اجل ترسيخ قيم الحرية والعقلانية.
إذ لا يمكن، على سبيل المثال، بلوغ حقيقة الحرية في مجال مساواة المرأة بالرجل في ظروف العراق الحالية من دون تحليل المستوى الواقعي للنفسية الاجتماعية وطبيعة العلاقات الاجتماعية السائدة وتراث التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية التي حاولت أن تضفي على إذلال المرأة أبعادا سياسية وأخلاقية! وهي أبعاد كانت تعيد إنتاج البنية التقليدية وتوفر النموذج غير المباشر للصيغ الدينية المتخلفة في إعادة إنتاج نفسها، بحيث جعلت من التراث التقليدي المتخلف والتغطية الدينية المزيفة والأبعاد السياسية للاستبداد سبيكة قوية للغاية في إعاقة أية إمكانية للتحرر الاجتماعي الفعلي. بينما تفترض المساواة الفعلية بوصفها أحد الشروط الضرورية للحرية تأسيسا عقلانيا ينطلق من أحكام العقل المجرد (النظري) عن أن انتقاص قدر المرأة هو انتقاص لقدر الرجل، وان الرجل لا يتمتع بأي شئ يعطي له حق الأولوية والاستعلاء وما شابه ذلك. لان المرأة هي التي تصنع الرجل وليس العكس! وبالتالي فان ضمان مساواتها وحريتها هو ضمانهما في الرجل. وان الرجولة الحقيقة هي الوجه الآخر للأنوثة الحقيقية. وهي المقدمة التي يمكن أن توضع في مضمون الرؤية العقلانية عن المساواة الفعلية والضرورية لبناء المجتمع المدني والنظام الديمقراطي، أي انها الغاية التي يؤيدها العقل العملي (الأخلاقي) والثقافي. إذ للعراق أيضا تقاليد الأخلاقية المتراكمة في مجرى تاريخه الثقافي. لكنها شأن كل تقاليد ليست صافية أو واحدة من حيث مقدماتها وغاياتها ومستوى تأسيسها.
من هنا فان المهمة الواقعية للعقلانية العملية بهذا الصدد تقوم في تأسيس التراكم الحقيقي للقيم المتسامية والإيجابية الفاعلة على ترسيخ قيم المساواة والحرية، من اجل قطع الطريق أما النزعات والتيارات التقليدية المتخلفة والراديكالية المعاصرة. بمعنى العمل من اجل ترسيخ قيم الاعتدال العقلاني بهذا الصدد، انطلاقا من أن الثقافة الحقيقية هي الثقافة القادرة على ترسيخ وإعادة إنتاج نفسها بطرق ومستويات متجددة تخدم إمكانيات التقدم والحرية. وبالتالي فإن الإجابة العقلانية على إشكاليات المساواة الفعلية بين المرأة والرجل في ظروف العراق الحالية بوصفها أحد الشروط الجوهري للحرية والمجتمع المدني تفترض نزع التقديس عن كل الصيغ المزيفة المتراكمة في العرف والتقاليد والقيم والأفكار عما يسمى بنقص المرأة ودونيتها وما شابه ذلك من السخافات والسفاسف.
بمعنى أن من الضروري إخضاع كافة هذه المفاهيم إلى شك منهجي عقلي يرمي إلى بلوغ اليقين القائل بضرورة تجاوزها بوصفها صور نمطية تتناقض مع قيم العدالة والحق، وبالتالي تعرقل فرص التقدم والتطور والحرية. ذلك يعني ضرورة نزع "الصفة القدسية" المزيفة أيا كان مصدرها في حالة معارضتها لإمكانية تذليل كل ما يعارض الحرية الفعلية والمساواة التامة، وتثبيت ذلك في مواد الدستور والقانون وترسيخها في الوعي الاجتماعي وإعادة إنتاجها بالشكل الذي يجعل منها أسلوبا طبيعيا لوجود المجتمع والدولة. ونفس الشيء يمكن قوله وتطبيقه على كافة القضايا التي تواجه مهمات بناء الثقافة البديلة في العراق.
إن دفع مكونات العقل والنقد والفعل إلى نهايتها المنطقية يفترض بدوره أن تكون فلسفة الثقافة في ركنها المشار إليه آنفا جزء من تاريخ وعي الذات القومي والعالمي. فالثقافة في نهاية المطاف هي الحصيلة النظرية والعملية لتجارب الأمم. وبالتالي فان حدودها فيها. بمعنى انها ليست منطقا مجردا. وبالتالي لا تتصف تصوراتها وأحكامها وقيمها ومفاهيمها بطابع شمولي وكوني. وهو إدراك ينبغي أن يوضع في صلب الرؤية الثقافية في ميدان المواقف العقلانية والنقدية والعملية. من هنا ضرورة الواقعية في تناول إشكاليات الثقافة. ومن ثم فان الإجابة الحقيقية تفترض الانطلاق من الواقع القومي والإجابة على إشكالياته الفعلية. إذ ليس بإمكان أية إجابة "أجنبية" مهما كانت عقلانية وعلمية وواقعية أن تكون بديلا عن الإجابة القومية. فهي الإجابة الوحيدة القادرة على جمع وتحقيق الهموم الواقعية في رؤية بديلة تخدم التراكم الفعلي في التصورات والقيم والمفاهيم والأحكام الثقافية. وفي هذه العملية يمكن للرؤية العقلانية والنقدية والفعلية أن تشترك في خدمة التأسيس الحقيقي للانفتاح على الثقافة العالمية والتفاعل الحي والبناء معها.
وفي ظروف العراق الحالية والمستقبلية، لا تعني الإجابة القومية سوى ضرورة الانطلاق من إشكاليات وعي الذات القومي الحالي ودفعه بالطريقة التي تخدم تكامل وحدته الثقافية ضمن حدود الوطنية العراقية، أو ما ادعوه بالاستعراق. انطلاقا من انها الوطنية القادرة على رفع مكونات وعي الذات القومي إلى مصاف الرؤية الثقافية وليس القومية الضيقة والعرقية. لاسيما وأنها الفكرة التي تشكل من حيث الجوهر صلب المكون التاريخي الثقافي للعراق وهويته الذاتية.
ففي هذه الوحدة الثقافية للقومي والوطني في العراق يمكن للثقافة أن تتنافس بصورة حرة في ترسيخ وتعميق الروح العقلاني والنقدي والعملي الفعال من خلال توحيد همومها المتنوعة والمختلفة والجزئية في هموم وطنية كبرى. فهو الطريق الفعلي لصنع ثقافة متنورة وحية ومبدعة. كما أنه الأسلوب الواقعي لتراكم وتعميق وعيها الذاتي. لاسيما وأنه الأسلوب لإرساء مقدمة ترسيخ وتوسيع وعي الذات المتجانس والحر، أي الوعي المنظومي. وفيه فقط تتوفر شروط التفاعل الحر والمتجانس مع حصيلة الثقافات الأخرى. حينذاك يجري تحررها الفعلي من الاستلاب ويعطي لها إمكانية المشاركة الفاعلة في صنع "المصير العالمي". آنذاك يمكن للهموم القومية أن تكون جزءا من الهموم العالمية. وعندها فقط تصبح الثقافة العالمية ثقافتنا نحن أيضا.
***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟