نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1172 - 2005 / 4 / 19 - 13:20
المحور:
حقوق الانسان
لم يكن جلال الطالباني الرئيس العراقي الجديد يدلي بتصريح عادي أبدا ,أو كان يقول كلاما عابرا للاستهلاك المحلي وتخدير المساكين ,والمغلوبين على أمرهم , كما جرت العادة عند ولاة الأمر الأبرار,ولم يكن يمشي على التقاليد التي اعتدنا عليها في مؤتمرات الشجب والاستنكار, حيث لا يلتزم أحد بشيء بعد أن يستقل الطائرة متوجها نحو البلاط ,متحررا من كل ماوقع عليه من بيانات تخديرية وتسويفية تستلمها لجان الإختصاص الوهمية والنفعية التي تحيلها بدورها إلى سلال المهملات,وماهي في النهاية - البيانات- سوى ذرا للرماد في العيون التي أعمتها وأدمتها ,أصلا, حقب الشموليات الظلماء .بل كان ,في الواقع, من خلال تصريحه هذا يؤسس لحقبة جديدة من ثقافة التسامح, ونكران الذات ,والعفو عند المقدرة ,في هذه المنطقة الفسيفسائية المتفجرة والمليئة بكل أسباب الاحتقان,والتي لا ينزع فتيلها سوى سلوك من هذا القبيل والمثال. وكان أخيرا يكتب سفرا جديدا في أصحاح بناء الأوطان القائم على مبدأ المواطنة والمشاركة والتسامح ونسيان مافات,لا الثأر والأحقاد والقصاص الأعمى ,والإنجرار وراء أوهام الإمبراطوريات ,وبناء ممالك الرعب الدموية من جماجم الفقراء. ويؤرخ ,في حقيقة الأمر, لحقبة جديدة ,ومختلفة كليا عما شهدناه من فصول دامية جعلت جهنم الحمراء نزهة جميلة أمام كل ماحصل من فجور واستبداد,ولولا هذا السلوك الإنساني والمثل الحاضر أمامنا لكان التاسع من نيسان أبريل يوميا عاديا من أيام العربان.
وأرجو ,وبشدة, ألا يفسر هذا كإطراء لأحد أي كان لأن هذا من أسوأ الأفعال,ولم يكن من شغلتنا في يوم من الأيام.ولكنها ظاهرة جديدة ,وحدث غير مسبوق في هذه الأصقاع التي شاهدت الكثير من الحقد, والغل, والثارات , وهوموقف جدير بالتوقف والمتابعة ,والأفعال البيضاء تتكلم عن نفسها بقوة ,وهي ماثلة للعيان ,وإنها في النهاية ترجمة حقيقية للواقع كما هو دونما زيادة أو نقصان ,وهذا ليس بعيب على أية حال.
وهذا التصريح هو الأحدث الذي يدلي به الطالباني, وموجود وفي متناول اليد .ونحن بانتظار ما ستسفر عنه الأيام من تطورات. فقد أعرب الرئيس العراقي للمرة الثانية, عن رغبته بعدم إنزال عقوبة الإعدام بالرئيس العراقي المخلوع صدام حسين,وأنه لن يصادق على قرار إعدام صدام في حال صدوره, لعدة أسباب, من أهمها أنه كان من الموقعين على التماس دولي كونه من رجال القضاء لوقف العمل بعقوبة الإعدام, برغم معاناة الأكراد الشديدة إبان حكم صدام حسين, وستكون مشكلة كبيرة بالنسبة له في حال صدور حكم بالاعدام ,وأن الأمر في النهاية هو بيد مجلس رئاسي مكون من ثلاثة أفراد ,وقد يتغيب أو يذهب في إجازة حين مناقشة هذا الأمر تفاديا لإحراج, رغم اعترافه الصريح بأن إعدام صدام سيكون له آثاره على التمرد ,وقد ينهي آمال المتمردين بالعودة إلى ما كان عليه الحال قبل الإطاحة بالرئيس المخلوع . وهو بهذا الموقف اللافت يحترم توقيعه أولا على الالتماس الدولي ,ويفي بتعهداته اتجاهه ,وينسجم مع ذاته ,ويلتزم بما قاله سابقا ,بالرغم من كل التاريخ الأسود ,والأفعال الشنيعة,والأيادي الملطخة بالموت والدماء لبطل أمهات الهزائم والاندحارات,ولكونه ثانيا رئيسا لكل العراق يحاول ,حثيثا وجاهدا أن يؤسس لبدء حقبة جديدة تمحو من الذواكر الحبلى بالآلام كل ذاك التراث الاستبدادي الإستئصالي من عقول وقلوب الناس.
وقد نقل عمن قابلوا صدام حسين في بداية اعتقاله, عن اضطرايه الشديد ,وإحساسه بدنو أجله لأنه سينفذ فيه حكم الإعدام فور,ا كما جرت العادة عند حدوث الانقلابات الدموية التي صبغت وجه هذه الشموليات, وأصيب برعب شديد حين تركه من قابله لأول مرة ,لأن هذا ما كان يحصل مع أسلافه بعد "انتهاء المقابلة",وما فعله هو بسلفه حين انقض على السلطة .ولكن يبدو أن لقادة العراق الجديد توجها إيجابيا بالعزوف عن كل ذاك الفجور والبطش والدموية والإجرام, وها هو صدام حي يرزق بعد مرور سنة ونصف على اعتقاله,وهذه نقطة بارزة للعهد الجديد برغم مما قيل عن معوقات إدارية ,وأسباب أخرى لا تسمح بإتمام محاكمة العصر المنتظرة.
فلقد سادت ولعقود طويلة ثقافة دموية, إقصائية, واستئصالية شمولية سوداء لا تؤمن بشكل من الأشكال بوجود أي نوع من المعارضة ,أو اعتراف بالآخر ,وكانت التصفيات تشمل أقرب المقربين, كل ذلك من أجل بريق ذهب السلطة ,وشرورها العمياء.والحقيقة لا يوجد إحصاءات ثابتة ,ودقيقة عن حجم وعدد الضحايا الذين قضوا في المعتقلات ,وإن كان هناك بعضها ,فإن الرقم الحقيقي سيظل بعيدا وغائبا عن الأنظار,وأكبر من كل التوقعات, بسبب التعتيم الشديد على هذا الموضوع ,ورفض السلطات المعنية الدائم التعاون مع المنظمات الدولية في هذا المجال.ولم تكن السلطات تنتقل إلا بفصول دموية تزهق فيها الأرواح ,وتسيل من أجلها الدماء. وحتى وقت قريب جدا تم اكتشاف مقابر جماعية لأشخاص مجهولين ,وهناك الكثير من الأفراد المفقودين لا يعرف أحد شيئا عن وجودهم ,فيما يستطيع المرء اللجوء إلى مواقع متخصصة لأخذ فكرة ,قد تكون ,وبرغم كل الجهود المبذولة ,غير وافية وشاملة.وكانت ثقافة الانتقام الفردي والجماعي هي الحل الوحيد لتوطيد الأمن واستمرار مسلسل التسلط والاستعباد.وقد شهدت هذه المنطقة كثيرا من الأحكام القضائية الظالمة التي وضعت القانون جانبا ,وكل الاعتبارات الأخرى إرضاء لعيون ورغبة القابضين على السلطة في القصور التي تحولت إلى قلاع حصينة ,وأبراج عاجية تفصل بين الشعوب والحكام.
إن مقتضيات الزعامة تتوجب أن يتحلى من تبوأ هذه المكانة الرفيعة بروح التسامح,والنزاهة والحب والترفع عن الصغائر والأحقاد,وأن هؤلاء المحكومين هم أمانة في أعناق ولاة الأمر ,وليسوا حقل تجارب لأحدث آلات التعذيب ,وإرضاء لغرور وسادية ومرض السجانين والجلاوزة. وأن تتحرى كل قراراته الصالح العام, وما ستتركه من أثر على الناس ,وألأ يكون زعيم عشيرة,وآخذا بالثار ,أو سجانا و رئيس مخفر ,ومحضرا للمحاكم الشكلية غير القانونية التي أول مايجب أن تنزل الأحكام بقضاتها المرتزقين والمتعيشين على الآلام ,أويصبح في النهاية بوابا شريرا لـ"قاووش" كبير نزلاؤه بالملايين وكان اسمه ,في يوم من الأيام , وطنا وحضنا دافئا للشعوب.
كم نحن بحاجة للمزيد من هذه المواقف التي تنشر ثقافة التسامح والعفو والتعالي على الجراح, برغم كثرة الويلات والآثام ,ومع الإدراك التام والكلي لأهمية سيادة القانون, ومعاقبة المجرمين الموتورين الجناة عما اقترفته أياديهم الملطخة بدماء وعذابات وأنين الفقراء ,لأن في ذلك درسا وعبرة ومثالا للأجيال توطد لمرحلة من التعايش السلمي بين جميع الأطياف , تتناسى أحقاد وأهوال الماضي الكئيب ,الذي كتبه الفجار بشلالات ونوافير الدماء. وألا تبقى ثقافتهم الهمجية بعد انقشاع ظلهم الثقيل ,وألا يتحكموا بمسار السياسات , ويفرضوا إملاءاتهم وتراثهم البغيض من وراء الستار ,ولكي ينسى الجميع تماما حقب البطر السلطوي ,وفجور الإستبداد,وسادية وجنون وفلتان الإجرام.ولترفرف ,أخيرا ,فوق الجميع رايات التسامح والصفح والوداد,وياحبذا,وكم هي الروعة, لو يتم استنساخه في أكثر من مكان.
وبرغم موقفي الكامل بالمنتصف, تماما, من هذا الأمر شديد الحساسية لأسباب كثيرة ,لاترجح ميلان الكفة لأي اتجاه وتصيبني ,بالتأكيد بالحيرة, والضياع ,إلا أنها تبقى في المحصلة النهائية لفتة كريمة وطيبة ,وسابقة تستحق الوقوف والتأمل, وموقفا ولا شك يثير, أولا وأخيرا, منتهى التقدير والإعجاب.
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟