|
كرنفالات فاتح ماي .. نحو تأسيس خطاب مناهض لعنف الشغل
عبد الجبار الغراز
كاتب وباحث من المغرب
(Abdeljebbar Lourhraz)
الحوار المتمدن-العدد: 4078 - 2013 / 4 / 30 - 09:21
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
تتظاهر الشغيلة في كل أرجاء المعمور في اليوم الأول من شهر ماي من كل سنة ، احتفالا بعيد الشغل . فهذا العيد الأممي يشكل بالنسبة إليها فرصة للاحتفال و الاعتزاز بمختلف الإنجازات الكبيرة التي تم تحقيقها ، و في نفس الوقت يشكل فرصة للتعبير عن مطالبها المشروعة و العادلة في تكريس العدالة الاجتماعية و المنصفة و تحقيق المساواة . و نحن في هذه المناسبة السعيدة ، نقف وقفة المتأمل في كل ما يرمز إليه هذا العيد الأممي من دلالات و معان . و لعلها أهمها ينصب ، على المستوى الفلسفي ، على نقد مفاهيم تتاخم مفهوم الشغل كمفهوم مركزي ، يتعلق الأمر بمفهومي "الاستلاب " و " الحرية " . فبين هذين المفهومين تتشكل مسيرة نضالية كبيرة تجمع بين كل الأطياف من عمال و مثقفين و طلبة و هيئات نقابية و جمعيات حقوقية، تحاول بعزم و طموح تجاوز تلك الوضعيات التي يفرزها واقع الشغل في كل أرجاء العالم ، مكرسة خطابا مضادا و مناهضا لخطاب الشغل ، الذي يتأرجح بين اعتباره يشكل عامل استيلاب و في اعتباره ، في مقابل ذلك ، يشكل عامل تحرر . فكل التعريفات الفلسفية و الأنثروبولوجية التي حددت الإنسان قد عبرت عن جانبين إثنين ، الأول واع و الثاني لاواع . فالجانب الأول فقد أظهرت فيه الإنسان على أنه كائن قد انسلخ عن مملكة الحيوان بفضل ما يتميز به من عقل و وعي . و هذا شأن الفلسفات الكلاسيكية ابتداء من أرسطو ( الإنسان حيوان ناطق ) و مرورا بالفلسفة الإسلامية مع ابن رشد و انتهاء بالفلسفة الحديثة مع ديكارت و هيوم و كانط و فيخته و هيجل . أما الجانب الثاني فقد أظهرت فيه الإنسان على أنه كائن تتحكم فيه غرائز و رغبات و أهواء و تتجاذبه ميولات لاواعية و هذا شان ماركس في نقده للإيديولوجيا كوعي زائف و نيتشه في نقده للوعي السطحي ، و مدرسة التحليل النفسي مع فرويد في تحليلها لبنية اللاشعور، والوجودية السارترية في نقدها للعقل ، و مدرسة فرانكفوت في نقدها للإنسان المعاصر . و كتوفيق بين النظريات الكلاسيكية و النظريات المعاصرة في فهم جوهر الإنسان ، يمكن القول مع الفيلسوف الألماني الماركسي إرنست بلوك أن الإنسان لديه حاجات نابعة من رغباته المتعددة . و الحاجات هي بطبيعتها تعبير عن عوز و نقص ، فهي لا تتحقق إلا ارتبطت تلك الرغبات بالإرادة الواعية التي ينبغي لها أن تتوفر لديها وسائل التنفيذ " فلا وجود لإرادة غير مسبوقة برغبة قابلة للتنفيذ " . فبناء على هذا التأطير العام، يمكن القول أن الإنسان لا يتحدد في جوهره كإنسان إلا من خلال خاصية ملازمة له ، ألا وهي خاصية الشغل ، تلك الخاصية التي جعلت منه كائنا فاعلا و مبدعا قام بتحويل الطبيعة ، كمادة خام ، إلى عناصر صناعية قابلة للاستعمالات لمتعددة . لقد عبرت ظاهرة الشغل عن مفارقة فلسفية تضمنت تقابلا جعل ، بالتالي ، من الشغل ، من جهة أولى ، فاعلية إنسانية تقود الإنسان نحو الإبداع و الابتكار و بالتالي نحو التحرر ، و من جهة ثانية ، جعل منه أداة سيطرة و تبعية و عبودية . و هذا التقابل يدفعنا إلى طرح التساؤلات التالية : ما الشغل ؟ و لماذا يعتبر في نظر العديد من المفكرين و الفلاسفة ، فاعلية إنسانية و خاصية ماهوية مرتبطة فقط بالنوع الإنساني دون باقي أنواع الكائنات الأخرى ؟ و هل يمكن الحديث ، في إطار التقسيم الاجتماعي و التقني للعمل ، عن استيلاب الإنسان جراء شعوره بنوع من الاغتراب و الغربة عن منتوج عمله المسلوب منه ؟ هل يمكن إدخال الشغل في خانة الإيجابيات أم في خانة السلبيات ؟ بمعنى آخر : هل الشغل هو أداة استعباد و سيطرة و تبعية ، أم هو عامل يسعى إلى تحرير الإنسان من تلك الطاقة السلبية الكامنة فيه ؟ و بأي معنى يمكن فهم أن الشغل يشكل عامل تحرر ، يسترد بواسطته الإنسان ذاته و حريته و كرامته المسلوبتين ؟ يعتبرالشغل ظاهرة تتسم بالتعقد . و وجه تعقد هذه الظاهرة يتجلى في كونها ، في نفس الوقت ظاهرة فلسفية و سياسية و اقتصادية و سوسيولوجية . فقد ارتبطت هذه الظاهرة أولا بالإنسان و ثانيا بالمجتمع البسيط في تركيبته العضوية، و ثالثا بمستوى معين من تطور هذا المجتمع التقني و الإنتاجي . و قد استطاع الإنسان بفضلها أن يصون كرامته و يحقق إنسانيته و آدميته . و لكن ، و في المقابل ، اعتبرت هذه الظاهرة عنصر استيلاب و أداة اغتراب تمحي وجود هذا الإنسان و تطمس هويته . لقد اختلف عدد كبير من المفكرين و الفلاسفة حول الغايات و الدوافع الرئيسية التي جعلت الإنسان يعمل ، و بالتالي ينسلخ بفعل ذلك عن مملكة الحيوان التي كان ينتمي إليها منذ أزمان سحيقة . فالبعض منهم قد اعتبر أن الشغل هو استجابة عضوية لتجدد الطاقة لدى الكائن الإنساني حتى يضفي طابع الاستمرارية على حيويته و نشاطه. بينما اعتبره البعض الآخر ، استغلالا للجهد العضلي و الفكري من أجل الكسب أو ضمان لقمة العيش واستجابة لدوافع نفسية لانتزاع الاعتراف من المجتمع أو إثبات الذات . كما أن ، البعض الآخر اعتبره نشاطا منظما و مهيكلا و ممأسسا غايته تحقيق الجودة و مراكمة الثروات و الزيادة في الإنتاج لتحقيق الرخاء الاقتصادي و الازدهار الاجتماعي و الاستقرار السياسي . فبفضله راكم الإنسان تجارب إنسانية ساعدته على سرعة التكيف مع المستجدات التي يفرضها محيطه . لكن و بالرغم من كل هذه الاختلافات في تحديد دوافع الشغل ، فقد أجمع الكل أن الشغل يشكل ، و بكل المقاييس ، الظاهرة الإنسانية بامتياز كبير. عادة ما يتم الحديث عن حيوانات تشتغل، كالنمل و النحل و العنكبوت مثلا ، لكن ، حسب ماركس، تلك الحيوانات لا تشتغل، لأن ما تقوم به من أعمال يعتبر شيئا آليا نابعا من صميم غريزتها . فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك خاصية الشغل . و قد ظهرت هذه الأخيرة كنتيجة تفكير مسبق عن كل إنجاز . فبفضلها تمثل الإنسان مواد الطبيعة و أعطاها صورة تفيد حياته. الشغل إذن ، بحسب هذا المعنى الماركسي، هو فعل قد أثر على الطبيعة الخارجية و غيرها ، وبقيامه بذلك فقد غير أيضا حتى الطبيعة الإنسانية ذاتها . لكن هذا المظهر الأولي للشغل الذي ظهر كعنصر محرر للإنسان من جور الطبيعة و جبروتها ، لم يصمد مع ظهور الأزمنة الحديثة ، التي ارتبط اسمها بنهضة شاملة قد مست جميع الهياكل و البنيات السياسية و الاقتصادية و الفكرية في أوربا . نتيجة تطور النظام الرأسمالي كنسق انبنى على الملكية الفردية لوسائل الإنتاج وعلى الربح السريع و والعمل المأجور و الوفرة في الإنتاج و الاستهلاك و التوسع و الاستغلال ، فقد تحول الشغل من أداة لتحقيق الرخاء و الازدهار و التقدم في جميع الميادين ، إلى قوة استيلاببية تستنزف العامل و تحوله إلى مجرد قوة عمل تستغل جهده . فإذا كان تقسيم الشغل وسيلة ناجعة للزيادة في الإنتاج و الاستهلاك و تحقيق المردودية و الرفاه ، كما عبر عن ذلك آدم سميت ، فإنه في المقابل من ذلك ، قد أدى إلى تدمير الماهية الحقيقية للإنسان التي تكمن في حريته و كرامته و استقلاليته . العضلي و النفسي مقابل أجر زهيد . فالفيلسوف الألماني فريديريك نيتشه يكشف لنا أن الشغل ما هو إلا أداة قوية و جبارة تعمل " بلا هوادة على عرقلة تطور العقل و الغرائز و الإحساس بالاستقلالية ". فالشغل بهذا المعنى يشكل قوة مضادة تستنفذ قوة الإنسان الساعية إلى الحيوية ، و" هدف يؤمن الإشباع السهل و المنتظم " فالأمن الذي أصبحنا نعشقه كما لو كان من طبيعة إلهية ، يقول نيتشه، دائما يسود في الأماكن التي يكون فيها العمل شاقا و متواصلا و إذا كان الشغل ، حسب ميشال فوكو قد نشأ كتحد طبيعي للموت ، و للندرة و تقلص موارد العيش ، بحيث اعتبر ، في هذا الصدد ، إيذانا بالبحث عن آليات جديدة لاستخراج ما تزخر به الطبيعة من خيرات ، فأنه حسب ، هيبرت ماركيوز ، قد حول الإنسان المعاصر و اختزله ، مع تطور علمنا التكنولوجي ، إلى مجرد آلة تعمل و تستهلك و تساهم في تسريع وتيرة منظومة الإنتاج و الاستهلاك و الإبقاء عليها كما هي . أما السوسيولوجي الفرنسي جورج فريدمان فإنه يعتبر أن إدخال نظام الآلية في شكله المكثف في صناعة مجتمعات استهلاكية قد أخل ، بالتوازن النفسي للإنسان ، كما هدد مصيره الروحي . فإذا كان الشغل قد شكل في أصله عنصر تحرير و تحرر للإنسان فإن آلياته الجديدة التي أصبح يعمل بها ، و التي فرضها هذا النظام ، لا تسمح عمليا بتحقيق تلك الحرية المنشودة. فتبسيط الشغل قد أدى إلى اختزاله في حركات تافهة يكررها العامل تبعث على الملل و الرتابة المبلدة للذهن، و الانحدار به إلى مستوى الحيوانية . فأوقات الفراغ التي يقضيها العامل خارج الشغل تعتبر مجرد وظائف حيوانية : الأكل ، النوم ، التوالد .
و كتخريج عام ، يمكن القول مع جان بول سارتر أن الإنسان لا يستطيع أن يحقق حريته المنشودة في عمله الذي يقوم به إلا من خلال الوعي بهذا الاستعباد في عمله ، ، سواء كان هذا العمل في مصنع أو في عيادة أو في جامعة ... و هذا لعمري ، هو جوهر المظاهرات التي تقام في فاتح ماي . فإذا كان الشغل يعمل على كبح جماح رغبات الإنسان في التحرر و الاستقلال الذاتي ، فإن مناهضته مرهونة بجودة الخطاب الشعبي و العالم ( بكسر اللام ) المناهض لعنف الشغل . http://algharrazabdeljebbarblogspot.blogspot.com
#عبد_الجبار_الغراز (هاشتاغ)
Abdeljebbar_Lourhraz#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أي دور للفلسفة في بناء الإنسان العربي ؟
-
المنظومة التربوية المغربية : من المسؤول عن تعنيف نساء و رجال
...
-
الأخضر الإبراهيمي كبش فداء ؟
-
الرئيس المصري الجديد و أسئلة المرحلة الصعبة التي تجتازها مصر
-
الربيع العربي كما يبدو في نسخته المعدلة جينيا
-
سنة 2011 أو سنة زمانية العرب . قراءة سريعة في أنطلوجيا الثور
...
-
الثورات قدر الشعوب .. فهل من معتبر ؟
-
مغرب اليوم بين طريقين ملغومين
-
- الإعاقة الفكرية - وآلية إنتاج المجتمع المدبلج
المزيد.....
-
السيد الحوثي: الامريكي منذ اليوم الاول بنى كيانه على الاجرام
...
-
السيد الحوثي: السجل الاجرامي الامريكي واسع جدا وليس لغيره مث
...
-
Greece: Great Strike Action all Over Greece November 20
-
25 November, International Day for the Elimination of Violen
...
-
25 تشرين الثاني، اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة
-
استلم 200000 دينار في حسابك الان.. هام للموظفين والمتقاعدين
...
-
هل تم صرف رواتب موظفي العراق؟.. وزارة المالية تُجيب
-
متى صرف رواتب المتقاعدين لشهر ديسمبر 2024 وطريقة الإستعلام ع
...
-
استعد وجهز محفظتك من دلوقتي “كم يوم باقي على صرف رواتب الموظ
...
-
-فولكسفاغن-.. العاملون يتخلون عن جزء من الراتب لتجنب الإغلاق
...
المزيد.....
-
الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح
...
/ ماري سيغارا
-
التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت (
...
/ روسانا توفارو
-
تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات
/ جيلاني الهمامي
-
دليل العمل النقابي
/ مارية شرف
-
الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا
...
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال
/ حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
-
نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها
/ جهاد عقل
-
نظرية الطبقة في عصرنا
/ دلير زنكنة
-
ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟
/ محمد الحنفي
المزيد.....
|