|
في داخل سُرادق عزاء أبي !
توماس برنابا
الحوار المتمدن-العدد: 4075 - 2013 / 4 / 27 - 22:46
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
توفىّ أبي منذ سنوات؛ وكان لزاما علىّ أن أرجع الى بلدي وقريتي لأشارك في دفنه وتلقي العزاء فيه... وقد كان! ووقفت في صف العزاء... الصف الذي يتشكل من أقرب أقرباء المتوفي من الدرجة الاولى والثانية وأحياناً الثالثة وكلما زاد عدد الصف ، كلما كان أفضل فهذا يدل على العزوة والقوة!
أبي العزيز؛ الذي كان من أفقر فقراء العائلة... ولكن كان أغناهم عزة بالنفس والكرامة ... فإلى يوم مماته لم يمد يده لأحد ولا حتى لأبنائه! كان يساعد الجميع بحسب مقدرته ومعرفته التى لا تكاد تُذكر أذا كُيلت بمكيال العلم الأكاديمي! وقد كان ماهراً في عمله الحرفي لدرجة أن زملائه كانوا يطلبون العون منه كثيراً... ولكنه لم يكن متديناً... لم يكن يعرف شيئاً عن المسيحية... ومعرفته عن الله تتلخص في عبارات مقتضبة ، مقتبسة مما يسمعه من ميكرفونات مآذن المساجد ومن التسجيلات التي كانت تدار بالبيت عن طريق أخوتي والتي كانوا يحضرونها من الكنيسة! نعم لا تستطيع أن تسمي معرفته عن الله مسيحية أم إسلامية ... فقط كان يسلم أمره لله... ودائماً يقول " سلمت أمري لله! " " منهم لله! " " ربنا كبير ! " !!! كان أنساناً بسيطاً... وطالما كنت ضده في كثير من الامور... وكان رده دائماً... "هتكبر يا توماس وهتفهم لما يكون عندك أولاد وهتندم يا أبني!" ويا ليتني كنت بسيطاً مثله... حينذاك كنت سأرتاح كثيراً!... متكلاً على الوهم المريح... وقد لخص سليمان الحكيم هذا في سفر الجامعة... (لان في كثرة الحكمة كثرة الغم و الذي يزيد علما يزيد حزنا (جا 1 : 18) ) !
ورحت أتأمل الحضور في السُرادق... البعض منهم... من أخوة الكنيسة المترددين عليها بإنتظام... والبعض الأخر لا يدخل الكنيسة الا في المناسبات؛ سواء مناسبات الزفاف أم العزاء! والكل في حالة وجوم يستمعون الى عظة يلقيها أحد خدام الكنيسة... أو أحد القسوس الذين أتوا لقضاء واجب العزاء! الكل يهز رأسه موافقاً على ما يقال على الميكرفون ... بالرغم من أن من ينفذ الكلام في سلوكه ... عدد لا يكاد يُذكر! فقد أعتاد الناس مثل هذه المناسبات ... وهذا الكلام... كلام الوعظ الترهيبي والترغيبي... قد تعودوا عليه لدرجة أنهم يدعونه كلام جنازات... على وزن كلام جرايد!!!
وقد سمعت قرابة إحدى عشر عظة في اليوم الأول في العزاء ... ولم يتطرق أحد من الخدام والقسوس الى أين سيكون مصير أبي... هل السماء؟! كما يقول القسوس في أخوة الكنيسة حينما يموتون! وهذا معناه أنهم مقتنعون أن مصيره جهنم... وتسائلت أنا: هل أنت يا قسيس فلان ستذهب للسماء... بالرغم مما تفعل وأنا أعرف عنك الكثير؟... وأبي الغلبان البائس الذي لم يضر أحداً ولا أغضب أحدا في حياته بمجملها، سيذهب للجحيم ... فقط لأنه لم يكن يريد أبداً حضور الكنيسة لأنه كان متعثراً لما يراه هناك وكان لا يشرفه أبداً أن يكون عضواً بها...! كم كنت عظيم يا أبي رغم بساطتك فقد كان عندك من الحقيقة الكثير!
وكنت أصافح الداخلين والخارجين من السُرادق ... ولاحظت أن الناس من كثرة ما أعتادوا على هذا التقليد أنهم أستخصروا أن يقولوا حتى العبارات المعتادة " البقية في حياتكم! " ، " البقاء لله " ، " البركة فيكم! " وكانوا حتى صامتين يمررون يدهم من شخص لأخر في الصف حتى دون أن يشدوا على الايادي ! فقط مجرد تلامس للأيدي وكانت تسري برودة شديدة من أياديهم لجسمي! فقد كنت أشعر بنفاقهم الشديد ومدى ثقل الموقف على قلوبهم! وكنت أريد أن أنفجر أيها المنافقون...! إن كنتم بهكذا البرود... فلماذا أتيتم أساساً؟! وتمالكت نفسي... ورحت أتسائل مع نفسي ما جدوى هذه الممارسة الاجتماعية للعزاء في القرية بل في مصر بمجملها؟!
كلمة عزاء... من الفعل يعزي أي يواسي بالافعال أو الاقوال الشخص المكلوم أو المثكل... حتى يستطيع أن يخرج من حالة الحزن الشديد التي قد تتملكه فيموت كمداً! و قد يكفي شخص واحد ، قد يكون صديقاً مقرباً ، ويعرفك جيداً ، لإداء هذه التعزية التي تريح القلب فعلاً بل تقيمه من ممات إكتئابي! ولكن العزاء الحالي التقليدي ... فقد أصبح واجب و عادة إجتماعية ثقيلة الدم على الجميع سواء على أهل الميت... أم على المُعزيين أنفسهم! فقد أصبح واجباً أن تذهب لتسمع ( رُبعاً) أو ( عظةً) أو أكثر... وكلما زدت في الجلوس في السرادق كلما كان أفضل ويُعتبر ذلك أنك تحب الميت وأهله كثيراً! وكلما زاد المُعزيين... كلما كان ذلك معناه أن أسرة المتوفي لها نفوذ في المنطقة! فلقد تحول معنى العزاء ... من مواساة... الى فشخرة !! وحينما تجلس في السرادق عشر دقائق فسأردها لك في يوم من الايام! لكن مهلاً من المستفيد من هذا الواجب العزائي... لست أتوقع أبداً أن المستفيد هو الشخص المكلوم في أبيه أو أمه أو أحد ذويه... فالحزن يكاد يعتصر قلبه... وهذا البرود من الناس في مصافحته حتى دون الكلام اليه... لا يمكن أن يبعث العزاء الى قلبه! والمعزيين هم من يستمعوا الى القرأن والى العظات ... أي أنهم المستفيدون أولاً وأخراً... ولكم كنت أتمنى أن أقضي هذا اليوم وسط أصدقائي الاعزاء على قلبي في بيتي... ولكن الواجب والتقليد المصري الاصيل يحتم عليّ أن أتلقى العزاء في السرادق.... وكدت أنفجر أين العزاء الذي يُقدم من قبل هؤلاء الناس الباردين الذين لم أتشرف بمعرفة 90 % منهم! كيف لشخص لا أعرفه ولم يكن لي علاقة معه ن يُعزيني بالمعنى اللغوي الصحيح أي يواسيني بالقول والعمل!!!
ومن هو صاحب فكرة أن هذه الممارسة الاجتماعية تُجرى في دور مناسبات الكنائس والمساجد تحت رعاية وإشراف رجال الدين؟ أليس هم رجال الدين؟! وما الذي يفعلونه أثناء العزاء؟! أليس سكب لأيات ترهيبية وترغيبية في أذان السامعين لتزيد أرتباطهم بالكنيسة والمسجد! فقد تجد الكثير ممن لم يدخلوا كنيسة في حياتهم... فلن يهرب من العظات الترهيبية من النار والجحيم الموجهة من القسوس الى الحضور من السامعين ... مما يزيد من سطوة الكنيسة ورجال الدين على عقول السامعين... الذين وصلوا الى اليقين أنه لا يمكن بأي حال من الاحوال أن يقام أي عزاء دون رجال دين... ودون ترغيب وتهويل وتخويف وترهيب... فقد أدمنوا هذه الأمور!
يا ليتنا أعزائي نفكر ونحلل ما توارثناه من ممارسات إجتماعية... فهل فعلاً يُبتغيّ منها ، ما نُفذت من أجله؟! أم أن المستفيد منها أناس أخرين يستغلوننا بأسم الله والدين... فما المانع إن كنت مبادراً ولم أُقم عزاء عام لأبي المتوفي... وكنت أستقبلت أصدقائي ممن يرغبون في مواساتي مهما كان عددهم في ساحة منزلي! ماذا سيقول الناس؟! عفواً! إن أتبعت الناس ... إن أتبعت القطيع في معتقداتهم فلن تتقدم قيد أُنملة في حياتك الشخصية أو المجتمعية... فقط كن مبادراً ورائداً! ... ولتتمرد على العادات الاجتماعية الموروثة التى لا معنى لها... سوى إستعباد البشر داخل منظومة أساسها و المستفدين منها هم جماعة من الافاقين النصابين... يقال عنهم رجال دين!!!
#توماس_برنابا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حللني يا أبونا !!!
-
الإله الظالم !!!
-
هل يمكن للأحياء أن يتحكموا في مصير موتاهم بعد موتهم؟!
-
الإله العاجز !!!
-
هل الله يحتاج الى إرفاق ملاحق لكتبه؟!
-
المطاريد الأعزاء !
-
مسرحية بعنوان ( في البدأ خلق الإنسان الله!)
-
أخطاء علمية في الكتاب المقدس!!!
-
الإله الدموي!!!
-
الرطن المقدس
-
منبع السعادة
-
طبقاً للإنجيل: المسيح هو أول من يخالف وصية تحويل الخد الاخر؟
...
-
أسطورة الملاك الشافي في إنجيل يوحنا!!
-
جدلية أينشتاين في وجود الله!
-
(من الكتاب المقدس ) من قتل أكثر؟ الله أم الشيطان؟!!
-
تقويض قصة أدم وحواء في سفر التكوين!!
-
الشحاذ... هل أعطيه حينما يسألني؟!
-
نداء لوزارة التعليم العالي للإشراف المباشر على كليات وإكليرك
...
-
دائرة الخوف المرضي... هل من فرار لا ديني منها؟!!
-
الاعمال السحرية والحسد من منطلق علمي لاديني!!
المزيد.....
-
هكذا أعادت المقاومة الإسلامية الوحش الصهيوني الى حظيرته
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة-إيفن مناحم-بصلية
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تعلن استهداف مستوطنة كتسرين بصلية
...
-
المواجهات الطائفية تتجدد في شمال غربي باكستان بعد انهيار اله
...
-
الإمارات تشكر دولة ساعدتها على توقيف -قتلة الحاخام اليهودي-
...
-
أحمد التوفيق: وزير الأوقاف المغربي يثير الجدل بتصريح حول الإ
...
-
-حباد- حركة يهودية نشأت بروسيا البيضاء وتحولت إلى حركة عالمي
...
-
شاهد.. جنود إسرائيليون يسخرون من تقاليد مسيحية داخل كنيسة بل
...
-
-المغرب بلد علماني-.. تصريح لوزير الشؤون الإسلامية يثير جدلا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف حيفا ومحيطها برشقة صاروخي
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|