أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - جورج حداد - سوريا الى أين؟















المزيد.....

سوريا الى أين؟


جورج حداد

الحوار المتمدن-العدد: 1170 - 2005 / 4 / 17 - 14:32
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


منذ وقت بعيد، أطلقت على سوريا تسمية: قلب العروبة النابض!
وكانت هذه العبارة تحمل شحنة وجدانية قومية، تستمد معناها من الإكبار الذي يكنه العرب لسوريا لسببين رئيسيين:
الاول ـ التضحيات الكبرى التي قدمها شعبنا في سوريا من اجل قضية التحرر والتقدم والوحدة العربية.
الثاني ـ التجربة السياسية الغنية، التي كانت تجعل من سوريا مرجلا حقيقيا للتيارات والحركات الفكرية والسياسية والدينية، والحياة الحزبية النشيطة المناضلة.
وعلى هذا الصعيد وذاك، كانت سوريا أشبه شيء بمدرسة في التطلع نحو غد عربي أفضل.
وبطبيعة الحال لم يكن، وليس الآن، لهذه التسمية أي علاقة من قريب او بعيد بأمراض التزلف والنفاق والنفعية والارتزاق والزحفطونية، السياسية والمافياوية والشخصية، التي انتشرت فيما بعد حيال السلطة السورية، خصوصا، او بشكل شبه حصري، في لبنان، وهي الأمراض التي لا تقل إضرارا بالدور القومي لسوريا، وبقضية الاخوة السورية ـ اللبنانية، عن "مركـّـبات النقص" الانعزالية المعادية لسوريا، التي هي مظهر من مظاهر العداء لعروبة لبنان.
فهذا التوصيف القديم الذي اكتسبته سوريا، لم يكن موجها بأي دافع انتهازي، الى أي نظام حكم سوري، بل الى جماهير الشعب العربي السوري، بكل تياراته ومثقفيه وأحزابه ونقاباته وطوائفه وحركاته النضالية التجديدية، بما فيها حزب البعث العربي الاشتراكي، حينما كان حزبا مناضلا خارج السلطة، وقبل ان يصبح حزبا حاكما.
ولكن فيما بعد، غداة التحرر من الاستعمار التقليدي والانظمة شبه الاقطاعية، ووصول القوى الوطنية والتقدمية الى السلطة، وبداية النزاعات والصراعات العقيمة فيما بينها، اخذ ضباب الحساسيات يحيط بالموقف القومي الوجداني السابق من سوريا.
ومع ذلك، فإن تسمية "قلب العروبة النابض" احتفظت بكل اهميتها، ولكن بمعنى عملي وعقلاني، اكثر منه معنوي ووجداني. فطوال 60 سنة، منذ نيلها استقلالها، مرت سوريا بتجارب سياسية واجتماعية واقتصادية وعسكرية، وطنية وقومية، على درجة كبيرة من التنوع والتعقيد، جعلت منها، ربما، أغنى "مختبر سياسي" عربي، مما كان وسيكون له، وللدروس المستخلصة منه، بشكل مباشر وغير مباشر، انعكاسات وتأثيرات عميقة في المشرق العربي خاصة، والوطن العربي عامة، تطال لا الحياة السياسية الجارية وحسب، بل والمصائر القومية العامة للأمة العربية.
فخلال هذه المدة الطويلة اختبرت سوريا: التعددية الدمقراطية، والدكتاتورية الفردية، والتأميم والاصلاح الزراعي والتعاونيات، والحركة النقابية والفلاحية الناشطة، والوحدة والانفصال، وخوض جميع الحروب مباشرة مع اسرائيل، وستراتيجية الحرب الشعبية بـ "طبعاتها العربية" (مباشرة حتى 1970، وغير مباشرة بعد ذلك عبر دعم المقاومة الفلسطينية واللبنانية ضد اسرائيل، وحزب العمال الكردستاني ضد النظام الشوفيني التركي)، وستراتيجية الحرب النظامية، وعشرات الانقلابات العسكرية والحزبية التي استمرت اكثر من عقدين من الزمن، ثم تحقيق الاستقرار السياسي القائم على محور الزعامة الفردية لاكثر من ثلاثة عقود كاملة، وغير ذلك من التجارب بالغة الاهمية.
ولا بد من التوقف بشكل خاص عند تجربة الحكم الفردي ـ العسكري ـ الحزبي، التي مرت بها سوريا في عهد الرئيس الراحل حافظ الاسد.
هناك نظرتان متعارضتان الى هذه المرحلة:
ـ فالبعض يرى أنها تميزت، على العموم، وبالرغم من السلبيات الثانوية التي لا تخلو منها أي مرحلة تاريخية، بوحدة الارادة الستراتيجية الضرورية، وبالاستقرار الداخلي، والنجاح في بناء دولة متماسكة وقوية نسبيا، ذات نفوذ قومي واقليمي ودولي لم تتمتع به سوريا من قبل، وهو ما كان يظهر بوضوح، على اكثر من صعيد.
ـ والبعض الآخر يرى ان ذلك لم يتم الا بثمن تاريخي باهظ، هو تجويف هذه الدولة وتزييـف غائيتها، وجعلها أشبه ما يكون بعملاق من خزف، يجيد مراوغة الاعداء ولكنه لا يستقوي الا على شعبه، وهو ما يظهر في تكبيل وتعطيل المجتمع المدني، وعَـقـْم الحياة السياسية والثقافية والنقابية الحرة، وتسييد ثالوث الديماغوجية والارهاب والفساد، و"التآمر المكتوم" لهذا الثالوث على الزعيم ـ الرمز ذاته، بصرف النظر عن ارادته ونواياه، بتحويل الهالة التي أحيط بها الى غطاء لجميع ارتكابات ذلك الثالوث، بحيث اختفت سمات الفعل الديناميكي والارادة الذاتية الحرة التي كانت تميز المجتمع السوري، كي تحل محلها "سمات" جديدة تتمحور حول عناصر الصمت والشك والقهر والخوف العام المتبادل، والإذعان ونشدان السلامة، و"تدبير الحال" كيفما كان، بما يشبه "نهاية التاريخ" بالنسبة للحياة السياسية في سوريا.
ولكن أيا من هاتين النظرتين، بكل ما فيهما من معطيات واقعية، لا تستطيع "اختزال" التجربة السورية:
فـ "الدولة القوية" التي بنيت في المرحلة السابقة، انما قامت على قاعدة ستراتيجية اساسية هي التوازن الستراتيجي مع اسرائيل، لتحرير الجولان والاراضي العربية المحتلة الاخرى، بكل ما اقتضته هذه الستراتيجية من اخضاع لمجمل الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد، داخليا، ومن اطروحات وممارسات سياسية وعسكرية وامنية، خارجيا، وخصوصا في العلاقات "الإملائية" مع مختلف الاطراف المعنية، ولا سيما لبنان والفلسطينيين. وقد آلت هذه الستراتيجية الى الفشل الموضوعي والذاتي. ولم يبق منها سوى دعم، مجرد دعم، المقاومة الوطنية والاسلامية، اللبنانية والفلسطينية. وفي لبنان تحديدأ فإن هذه "الستراتيجية" تقلصت، منذ تحرير الجنوب والبقاع الغربي في ايار 2000، الى حدود دعم المقاومة لأجل تحرير مزارع شبعا. ولكن "ألعبانية" النظام الدكتاتوري السوري لم تصل الى حدود المغامرة بتقديم "الاوراق الثبوتية" الضرورية للامم المتحدة، لتأكيد لبنانية المزارع، من اجل تأكيد مشروعية المقاومة اللبنانية فيها. أما بالنسبة للجولان، فلم يعد يوجد منذ سنين طويلة لا ستراتيجية "حرب نظامية"، ولا "مقاومة شعبية" سورية لتحريره، واصبح مصير الجولان معلقا بارادة اسرائيل واميركا، من جهة، وبمفاوضات الخدعة الذاتية العربية المسماة "السلام العادل والشامل"، من جهة ثانية. وبذلك انهار تماما منطق "الدولة القوية" وتوازناتها الستراتيجية، بالمدلولات والمفاعيل العسكرية والسياسية والاقتصادية معا، وما ارتبط بها من التضحيات الجمة والتشوهات، تحت الشعارات الطنانة لهذه الستراتيجية.
ولكن بالمقابل، من التسطح اعتقاد البعض بأن المرحلة السابقة كانت بمثابة "زمن ضائع" او "بقعة بيضاء" في التاريخ السياسي الحقيقي لسوريا، بما يشبه النظرة المسطحة الى النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي السابق، بعد انهياره، بوصفه ظاهرة عبثية. بل على العكس تماما، فإن هذه المرحلة تمثل اغنى تجربة في التاريخ السياسي السوري، ومن اغناها في التاريخ السياسي العربي الحديث برمته. وإن المعارضة السورية، والعربية، ذاتها، للنظام السوري الموروث، قد اسهمت بشكل فعال، من حيث تدري او لا تدري، في هذه التجربة بطريقتين:
الاولى ـ عملية النقد النسبي التي كانت تمارسها، والتي لم تكن تغيب عن مركز القرارالرئيسي في قيادة النظام، بالرغم من الانطباعات العكسية التي كانت تخلقها سياسة القمع والارهاب الهادفة، من قبل تلك القيادة، الى "احتواء" المعارضة والاحتفاظ بـ"الوحدة" الظاهرية للارادة الوطنية لسوريا والقرار السياسي للنظام الدكتاتوري السوري. ولا يغير من جوهر هذه الحقيقة، الاستغلال الهدام للارهاب من قبل المستفيدين من النظام، والعنف الشديد الذي طبع علاقات النظام والمعارضة، والذي تبدى، مثلا، في سياسة الارهاب المتبادل بين النظامين "الشقيقين" السوري والعراقي (السابق)، وسياسة الاغتيالات الطائفية التي مارستها بعض الفصائل الاسلامية، والاعتقالات واسعة النطاق وطويلة الاجل والتعذيب والتصفيات و"العقوبات الجماعية" التي مارسها النظام، مثلما في مجزرة سجن تدمر و"التأديب" الوحشي الفظيع لمدينة حماه العريقة.
والثانية ـ أن المعارضة لم تستطع، طوال اكثر من ثلاثين سنة كاملة، أن تقدم بديلا ستراتيجيا تاريخيا، بالمعنى الواقعي لا النظري للبديل، لستراتيجية النظام، لا في الشأن الداخلي، ولا ـ وهنا المحك المفصلي ـ في المواجهة المصيرية مع اسرائيل. فاذا كان النظام قد تخلى عمليا، مثلا، عن ستراتيجية المقاومة الشعبية لتحرير الجولان، فإن المعارضة لم تخرج عمليا ايضا من تحت هذا السقف، ولم ترشق اسرائيل بحجر طوال هذا الوقت.
ويبدو من ذلك بوضوح ان المعارضة لم تستطع، في احسن الحالات، ان تتجاوز وظيفة "الناقد السلبي" وعمليا "المستشار اللدود" للنظام الذي تعارضه. وبالتالي أنها كانت شريكا موضوعيا، من حيث ارادت ام لم ترد، في تجربة الحكم الفردي والحزبي الواحد في سوريا، التي فرضتها "ضرورة" المرحلة، لجهة العلاقة بين القضايا المطروحة والمستوى التاريخي للقوى السياسية الفاعلة في البلاد، بالاضافة الى الظروف الاقليمية والدولية التي كانت سائدة، ولا سيما العلاقة الخاصة مع الاتحاد السوفياتي السابق، الذي كان يدعم "الستراتيجية النظامية" للدكتاتورية السورية ويعارض ستراتيجية "الحرب الشعبية" في الجولان، وانعكاسات تلك العلاقة.
ويؤكد موضوعية التجربة السورية السابقة، واهميتها العربية، ان قيادة النظام ذاتها، بدأت تتجه نحو الاصلاح والتغيير، قبل وفاة الرئيس حافظ الاسد. وبدت ملامح ذلك في عدة مؤشرات منها:
1 ـ الشروع في مصالحة داخلية تدريجية مع المعارضة، عبر بداية الافراجات عن المعتقلين السياسيين.
2 ـ الشروع التدريجي في طرح القضايا الشائكة علنا.
3 ـ البدء في مكافحة الفساد المستشري، واستبدال حكومة الزعبي السابقة، وهي العملية التي انكفأت لاحقا، في الظاهر على الاقل.
4 ـ تسليم "الملف اللبناني" لشخصية مدنية كالدكتور بشار الاسد، قبل رئاسته، وبعض مؤشرات التغيير في نمط العلاقة مع لبنان.
5 ـ التوجه نحو اعادة تنشيط حزب البعث، وفسح هامش حركة اكبر للاحزاب الموالية، وأحزاب المعارضة غير الرسمية.
6 ـ وأهم هذه الملامح هي تحضير الدكتور بشار الاسد لـ "الخلافة". وهو ما نتوقف عنده بشكل خاص.
لقد سجلت هذه الظاهرة سابقة أطلقت عليها تسمية "الجمهورية الوراثية"، وهو ما لا يجوز الاستهانة بجوانبه السلبية، من قبل المعنيين به بالدرجة الاولى. ولكن من الملفت ان المعارضة ذاتها، بكل فصائلها، لم يكن رد فعلها على هذه الظاهرة بالسلبية التي كان يتوقعها المراقب السطحي. بل على العكس، فقد كان هناك "تفهم"، مهما كان حذرا ومشروطا، من هذه العملية. ونشير هنا الى سببين رئيسيين لهذا "التفهم"حتى من قبل المعارضة ذاتها:
الاول ـ الهوية المدنية والصفات الشخصية للدكتور بشار الاسد. وبالرغم من "ترفيعه" الى رتبة "فريق"، مما يقتضيه دستوريا كونه القائد العام للقوات المسلحة، الا ان هذا لا يغيّـب حقيقة اساسية، ولا يقلل من اهميتها، وهي ان هذه "الوراثة" حملت في طياتها عنصرا مهما، وهو قرار نقل قيادة السلطة، وربما لاحقا كل السلطة ـ وعن سابق تصور وتصميم ـ من العسكريين الى المدنيين. ومن الخطأ، برأينا، الظن ان ذلك تم بمحض "الصدفة"، لمجرد ان الوريث كان مدنيا. بل على العكس: اذ كان بالامكان "عسكرة" الوريث منذ وقت بعيد. وهنا تبدو الوراثة ذاتها كضمان كبير للنقل "السلمي" و"المضمون" للسلطة الى اليد المدنية.
الثاني، وهو الاهم، ان الوراثة اقترنت باعطاء قرار الاصلاح ابعادا واسعة. وقد جاءت التطورات اللاحقة لتؤكد هذا المنحى للاحداث، بصرف النظر عن أي ملابسات كانت.
وقد تمخضت التجربة السورية عن ظهور خطوط واضحة لحركة اصلاحية فوقية كبيرة، من الممكن ان يكون لها، اذا قدر لها النجاح، او الانحراف والفشل، تأثير ايجابي او سلبي كبير، ليس على الاوضاع السورية وحسب، بل وعلى الاوضاع العربية والاقليمية برمتها.
وقد تبدت هذه الحركة حتى الامس القريب في ثلاثة ميادين رئيسية:
اقتصاديا: الشروع في تحرير الاقتصاد من الهيمنة الاحتكارية البيروقراطية، والتحكم السلطوي الذي فقد مبرراته، ومحاولة ردم الهوة بين الدولة وبين القوى المنتجة، عبر طرح موضوع تحسين الاوضاع المعيشية ومكافحة البطالة، وبينها وبين الرأسمال الوطني الخاص، الهارب الى الخارج او "المختبئ" في الداخل، والعمل بالتدريج على تحويل السلطة ومراكز القوى فيها من دور "مصاص ارباح" و"فارض خوات" و"نهاب" للاقتصاد، بقطاعيه العام والخاص، الى دور مخطط مساعد ومحرك للاقتصاد.
سياسيا: الشروع في تحرير الحياة السياسية من تسلط الاجهزة القمعية، الفكرية والسياسية والبوليسية، التي تتلطى خلف الزعامة الفردية وحكم الحزب الواحد، الذي اصبح هو ذاته "رهينة" لتلك الاجهزة.
خارجيا: الشروع في تحرير سياسة الدولة من تحكم آلية الترابط بين الحكم الفردي والاجهزة التنفيذية القمعية، التي تجد مصلحتها في احاطة سوريا دائما بجو "تآمري" متوتر في العلاقات بينها وبين مختلف الاطراف، بما فيها الحليفة والشقيقة. والتحول الى جعل المصالح الحقيقية العليا للدولة، هي الاساس الذي تنطلق منه وتخدمه السياسة الخارجية للسلطة، والذي تخضع له التقديرات والاجتهادات الذاتية وحتى الاختلافات مع الاطراف الاخرى، وليس العكس. وكان من بوادر هذا التغيير، "اعطاء الأذن" لشركاء المصير، وبداية تنفيس الاحتقان بين سوريا، وكل من لبنان والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ومع كل اهمية الحركة الاصلاحية الجديدة، التي كان قد بدأها عهد بشار الاسد، هناك ملاحظتان اساسيتان حولها:
اولا ـ طرح المبادرات الجديدة بدون أي نقد ذاتي وتقييم لانحرافات واخطاء المرحلة السابقة، وكأن شيئا لم يكن. وهذا نقص جوهري، يخلق الشكوك حول جدية وصدقية المبادرات القائمة، وامكانية استمرارها. إذ ماذا يمنع أن تنعكس الآية غدا، وتصدر "مبادرات عكسية" بدون أي مقدمات وتبريرات أيضا.
وبناء على هذا التقييم، يذهب بعض المشككين "المتشائمين" الى ان الحركة الاصلاحية التي بدأها عهد بشار الاسد لم تكن اصيلة، بل كانت مناورة سياسية، هدفها الالتفاف على أي مخاطر منظورة وغير منظورة قد تهدد النظام، تمهيدا للعودة الى سيرته السابقة.
ويذهب بعض المشككين الاخرين "المتفائلين"، الى وجود انقسام عضوي في تركيبة النظام الدكتاتوري القائم، وظهور تدريجي ضعيف ومتردد لكتلة "اصلاحية" جديدة، يقف على رأسها بشار الاسد ذاته، كان هدفها انقاذ النظام، بقواه الذاتية، عبر الانفتاح التدريجي على المعارضة الوطنية والدمقراطية ونبض الشارع السوري، ومحاصرة واضعاف ما يسمى "الحرس القديم"، او الكتلة الصلبة القديمة للنظام، القائمة على ثالوث الديماغوجية والارهاب والفساد. ولكن في مواجهته لأي حركة اصلاحية، فإن "الحرس القديم" لم ولا يتوانى عن القيام بكل ما من شأنه الدفاع عن مواقعه، ولا سيما عن طريق تشديد القبضة ضد المعارضة، وافتعال الاحداث الامنية ايا كانت، واضعاف و"ترهيب" الكتلة الاصلاحية ذاتها في النظام، عبر جر النظام ككل الى معارك جانبية، داخية وخارجية، الهدف منها اجهاض التوجهات الاصلاحية. وتدخل ضمن هذا السياق المشاركة المباشرة، او على الاقل "تسهيل" اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق الشهيد رفيق الحريري، توصلا الى هذا الكسر الدراماتيكي للعلاقات اللبنانية ـ السورية، لقطع الطريق على التفاعل بين لبنان وسوريا، ان على صعيد "مخاطر" نشر عدوى "المقاومة الشعبية" ضد الاحتلال الاسرائيلي من لبنان الى سوريا، وان ـ بالاخص ـ على صعيد "مخاطر" نشر عدوى "الدمقراطية" من لبنان الى سوريا، بعد ان اصبح من المستحيل على الاجهزة القمعية للنظام السوري منع الانفتاح والتفاعل بين الشارع الوطني والشعبي السوري وبين القوى الوطنية والتقدمية والدمقراطية اللبنانية، ذات التجربة الغنية.
ثانيا ـ ان السلبيات التي حدثت في الماضي، لم تقتصر على الاخطاء والانحرافات غير المقصودة، او ذات الدوافع السياسية وحسب، بل تجاوزت ذلك ـ بـ"تطنيش" العاجز او "برغم" قيادة النظام ـ الى ارتكاب مخالفات خطيرة وشتى ضروب الفساد واحيانا الجرائم، بما فيها الاخلاقية التي تمس الشرف والاعراض، مما يندى له في حالات معينة جبين الاعداء انفسهم. والملاحظ أنه، بعد "الابعاد الاخوي المجزي" لشخصية دموية ـ سادية ـ متهتكة مثل رفعت الاسد، و"استنحار" رئيس الوزراء السابق المرحوم محمود الزعبي، فإن عملية المحاسبة الجدية للفاسدين والمنحرفين لا تسير "على ما يرام"، او هي لا تسير بالمرة، الى الان على الاقل.
فإذا لم تجر المحاسبة المطلوبة، سياسيا ـ شعبيا، وسلطويا ـ قانونيا، وهو ما تقع مسؤوليته بالدرجة الاولى على بقايا التيارات السليمة في "فلول" (حسب تعبير الزعيم الوطني وليد جنبلاط) حزب البعث، بما في ذلك جناحه العسكري، واذا بقي المنحرفون والفاسدون والمجرمون يرتعون في مراكزهم، ويفسح لهم الوقت والمجال لترتيب اوضاعهم، وتبييض اموالهم، وتغيير ألوانهم الحربائية كما يليق بأمثالهم، فماذا يمنع ان لا يعيدوا تشكيل مراكز القوى في النظام بطريقة يستطيعون معها لاحقا:
ـ اما الانقلاب على الحركة الاصلاحية وقيادتها، بمختلف الذرائع والحجج، بما في ذلك ذريعة معارضة "الوراثة".
ـ واما لغم الحركة الاصلاحية من داخلها، حيث يصبح الفاسدون والمجرمون هم "ابوات" تلك الحركة، فنكون شهودا لبيريسترويكا سورية، على طريقة البيريسترويكا الغورباتشوفية، ولـ"ثورة مخملية" جديدة، "زهرية" او "بنفسجية" او "برتقالية" او "لازوردية" الخ، على طريقة رومانيا وصربيا ودول البلطيق وجورجيا واوكرانيا وقيرغيزيا.
وهذا أخطر ما يمكن مواجهته. إذ قد برهنت تجربة البيريسترويكا الروسية انه لا يوجد حاجز بين الفساد والخيانة الوطنية. واحضان اسرائيل، واموال الصهيونية العالمية واميركا، جاهزة تماما، لا لانعاش و"الاصلاح الدمقراطي" لسوريا، كما يعتقد بعض المغفلين، ودعنا من المشبوهين، بل للتسلط الاميركي ـ الصهيوني المباشر على الشعب السوري، وإذلال "قلب العروبة النابض"، كما أذلت روسيا العظيمة ذاتها. ومن ثم تسهيل السيطرة على المشرق العربي برمته، عبر السيطرة على سوريا.
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
* كاتب لبناني مستقل مقيم في بلغاريا



#جورج_حداد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق2
- سنتان على الحرب الاميركية ضد العراق
- وماذا بعد الانسحاب السوري من لبنان؟
- جنبلاط، القضية الوطنية والمسيحيون الدجالون
- المفارقات التاريخية الكبرى في الازمنة الحديثة وتحولات المشهد ...
- المسيحية العربية والاسلام في المشهد الكوني
- من هم مفجرو الكنائس المسيحية في العراق؟! وماذا هم يريدون!؟
- الامبريالية الاميركانو ـ صهيونية و-شبح الارهاب-: من سوف يدفن ...
- العراق على طريق -اللبننة- الاميركية!
- أضواء على انشقاقات الستينات في الحزب الشيوعي اللبناني: الاضا ...
- مؤامرة اغتيال فرج الله الحلو


المزيد.....




- كيف يرى الأميركيون ترشيحات ترامب للمناصب الحكومية؟
- -نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح ...
- الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف ...
- حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف ...
- محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
- لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
- خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
- النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ ...
- أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي ...
- -هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - جورج حداد - سوريا الى أين؟