احمد هيبي
الحوار المتمدن-العدد: 1170 - 2005 / 4 / 17 - 13:25
المحور:
الطب , والعلوم
(أو لماذا كان 1+1=2)
الرياضيات والزمن
ليس في الرياضيات زمن. وبأي معنى؟ ليس هناك عمليات رياضية كتلك التفاعلات الكيماوية التي تحتاج الى وقت كي تتم. ولو سئل شخص ما العدد الأولي الأول الذي يأتي بعد العدد 100, فانه قد يحتاج لبعض الوقت لكي يقرر أنه العدد 101. ولكن هذا الوقت المحتسب هو وقت ضائع بالتأكيد. وهو مرتبط بطبيعة التفكير الانساني أكثر مما هو مرتبط بالحقيققة الرياضية. فالعدد 101 هو عدد أولي, وهو الأول بعد العدد 100 الذي يحمل هذه الصفة, وليس هذا متوقفا على الوقت الذي فيه نصرفه للتوصل الى هذه الحقيقة ..
وجذور معادلة من الدرجة الثالثة – مثلا - موجودة, سواء استطاع المرء حسابها أو لا , وسواء استغرقه حسابها وقت طويل أو قصير. وهذا يعني بالنسبة لنا أن جذور المعادلة قائمة, جنبا الى جنب, مع المعادلة, بدون أي فاصل زمني بينهما.
وليس الأمر هكذا في الطبيعة. فلو قذفنا حجرا الى أعلى, فانه سيسقط الى الأرض. ولكن الأمر سوف يستغرق بعض الوقت. والتفاعل الكيماوي الذي يجمع بين الاكسجين والهيدروجين لتكوين الماء, انما يستغرق زمنا لكي يتم, كما أنه يمضي بعض الوقت حتى يأخذ الدواء الذي نتناوله مفعوله.
وهذا الوقت الذي يستغرق تفاعلا كيماويا حتى يجري, لا يتوقف على ذكائنا او على قدرتنا في الحساب. وحتى عندما يكون الأمر متوقفا علينا, عند تعرضنا لمنبّه خارجي - مثلا, فانه يأخذنا بعض الوقت لكي يصدر عنا أي رد فعل.
تخيلوا اذن أن جميع قوانين الرياضيات, معادلاتها ومشتقاتها, كلها قائمة في وقت واحد, في مكان واحد. لا يفصل بينها أي فاصل زمني, ولا يتوقف وجودها على تفكيرنا او اجتهادنا.
الزمن في الطبيعة
وقد نستطيع تخيل الشيء نفسه بالنسبة لقوانين الطبيعة. فالجسم المقذوف يسقط الى الأرض, ما دام في نطاق الجاذبية الأرضية, مهما طال الزمن أو قصر. كل ما هنالك أن الزمن الذي نُقرّه في الطبيعة لا نُقرّه في الرياضيات.
ان قانون "الجبرية" (Determinism) يقضي بأن النتائج مرتبطة بمقدماتها ارتباطا وثيقا لا سبيل الى فكه. ولو أعطينا في لحظة معينة شكل العالم, أو مجموع الوقائع فيه, فاننا نستطيع أن نتنبأ بما سوف يكون عليه شكل العالم بعد لحظات, أو بعد آلاف السنين.
ما أهمية الزمن في كلتا الحالتين، أوليست أهميته ثانوية؟ بحيث أنها في الرياضيات ليست الا تعبيرا عن عجزنا عن احتساب النتيجة القائمة اصلا, حتى أننا استطعنا في بعض الحالات اختصاره الى ثوان أو اجزاء من الثانية, عند استعمال الحاسبات الضخمة؟ فهل تعبر الفواصل الزمنية في الطبيعة عن عجز ما أيضا, عن قصور الأجسام في الوصول الى غاياتها بأقصر مدة ممكنة, أو دون الحاجة الى زمن بالمرة؟
تخيلوا عالم الآباء والابناء شبيها بعالم المعادلات وجذورها: سيوجد الآباء وأبناؤهم وأحفادهم في نفس الوقت, واحدا الى جانب الآخر أو فوقه, وكأنهم لوحة رُسمت فوق صفحة واحدة. انه تصور صعب المنال.
قانون العلية
خذوا ما يحدث في ظاهرتي البرق والرعد على سبيل المثال: اننا نرى البرق أوّلا, ثم نسمع صوت الرعد بعد قليل. وليس هذا ما كان في الواقع, فقد تزامن صوت صدور الرعد مع انبعاث الضوء. ولكن الضوء سبق الصوت في الوصول الينا. أو هو عجزنا عن التقاط الاصوات الصادرة في الوقت الصحيح الذي يدل على زمن صدورها.
لقد آمن الأقدمون, بسبب هذا العجز, أن الرعد ناجم عن البرق ملازم له. وهكذا فعلوا مع كل ظاهرتين متلازمتين تسبق احداهما الأخرى. فغروب الشمس يلزم عنه الليل, والأكل يلزم عنه الشبع, وظهور اللهب في الشمعة ينجم عنه الحرارة, وهكذا .. وقد أطلقوا على هذا التسلسل قانون العليّة (السببيّة). ورأوا ظواهر الطبيعة سلسلة من الوقائع التي يجر بعضها بعضا, وأعادوا السلاسل جميعا الى العلة الأولى, الله خالق الكون ومحدث الحوادث, بل أطلقوا على الله اسم "العلة الأولى".
ويحظى قانون العلية بشهرة قد تفوق شهرة قانون الطاقة أو المادة التي لا تفنى ولا تُستحدث. فالأقدمون رأوا المادة تتلاشى حين تتحول من صورة الى صورة, ولكنهم لم يروا حوادث بدون مسببات. وكان – ولا يزال – قانون العلة من القوة, بحيث أن الناس يجدون العلة أو يختلقونها حين لا يرون علة بعينها وراء حادثة معينة. فالحظ هو علة, والأرواح الشريرة وحتى الصدفة العمياء هي علل لا يجوز التغاضي عنها.
ولكن ما الذي يجعل الحجر المقذوف في الهواء يرتد الى الارض؟ لقد رأى الناس في هذه الظاهرة شيئا بديهيا لا حاجة لتفسيره. ورأى أرسطو أن يضع البديهي في صيغة قانون عام, فُنقل عنه قوله أن الأشياء تعود الى أصولها, والحجر الذي أصله في الأرض يعود اليها, كلما وجد الى ذلك سبيلا. أما نيوتن فقد صنع من ذلك ضجة كبيرة, حين وضع الظاهرة في صيغة السبب والنتيجة: فالأرض تجذب الحجر. وهناك قوة جاذبية بين الحجر والأرض كما بين الكتل المختلفة, الأرض والقمر مثلا. وبما أن الأرض أكبر كتلة من الحجر بما لا يقاس , فان الحجر هو الذي ينجذب نحو الأرض, وليس العكس. والأرض تجذب القمر فتجعله يدور حولها, بينما القمر يجذب الأرض فيؤثر على مياه المحيطات, ويُحدث ظاهرة المد والجزر.
الجاذبية تأثير عن بعد!
ولكن ما هو قانون الجاذبية هذا؟ وماذا في الأرض يجذب الحجر المرتفع في الهواء؟ لا أحد يعرف تماما. صحيح أننا, وبفضل نيوتن, نعرف مقدار هذا الجذب ونستطيع أن نحسب سرعة سقوط الجسم, والزمن الذي يستغرقه حتى الوصول الى الارض, ولكننا لا نعرف ماهية هذه الجاذبية, خصوصا وأن الارض تؤثر على الحجر من بُعد. وقد نستطيع أن نتفهّم كيف يؤثر جسم على جسم آخر بشكل مباشر, وعن قرب, مثلا عندما نسحب طاولة ونجرها من مكانها بقوة سواعدنا, ولكننا لن نتفهم كيف يمكن تحريك الطاولة من بعيد ودون لمسها.
وباختصار, يمكن القول ان الاستعانة بالجاذبية لتفسيرسقوط الحجر, لا يجعل هذا السقوط أمرا مفهوما. وان كان الفيزيائي يستطيع أن يصف ظاهرة السقوط وصفا حسابيا, فانه لا يستطيع أن يقول شيئا عن ماهية الجاذبية, أو سبب وجودها أساسا.
ونحن أقدر على استساغة ظاهرة جذب مغناطيس لقطعة من الحديد, أكثر مما نستطيع استساغة جاذبية الارض للقمر, وكلاهما يحدث عن بعد بدون وساطة مادية. وذلك لكثرة ما رأينا المعناطيسات تجذب الحديد, ولكوننا لا نرى كيف تجذب الارض القمر. دون أن يعني ذلك أننا نفهم تماما ما الذي يجعل قطعة الحديد منجذبة بهذه القوة للمغناطيس.
هيوم ينكر قانون العلية
اننا نرى اللهب ونتوقع الحرارة, ونستنتج أن اللهب يسبب الحرارة. ونعتمد في استنتاجنا هذا على وقائع متواترة, فكلما رأينا اللهب, وجدنا الحرارة ملازمة له. فهل هذه هي الحقيقة؟
يقول هيوم الفيلسوف الانجليزي (1711 – 1771م) أن "العلة" (السبب) ليست سوى فكرة, وأنه ليس في مقدورنا أن نثبت أنها واقع موضوعي. فاذا أدركنا
أن أ (اللهب مثلا) تعقبه دائما ب (الحرارة) , استنتجنا أن أ كانت العلة في ب. وليس هذا صحيحا بالضرورة: فكل ما لاحظناه هو تعاقب الأحداث فقط, لا عملية علية. وليس في استطاعتنا أن نضمن أن ب سوف يعقب أ دائما. يقول هيوم: "كل استدلالاتنا العقلية المتصلة بالسبب والنتيجة, لا مصدر لها غير العادة, وليست قوانين الطبيعة التي نتحدث عنها الا تعاقبات مألوفة في تجربتنا, ولا روابط ثابتة وضرورية في الأحداث, ولا ضمان أنها ستصدق غدا. فالعلم هو تراكم للاحتمالات المعرضة للتغيير دون انذار. "
لماذا 1+ 1= 2
ظهور الحرارة واحساسنا بها هو تجربة حسية نألفها, كلما اقتربنا من لهب شمعة. صحيح أننا لم نر لهبا لا يصدر عنه حرارة, أو لهب تصدر عنه برودة, الا أن هذا لا يعني أنه قد لا توجد عوالم لا يتزامن فيها ظهور اللهب مع ظهور الحرارة. وليس أدل على ذلك من مثل من عالم الحساب. فلماذا برأيكم كان 1+ 1= 2 ؟ ليست هذه برأيي أكثر من تجربة حسية نمر بها كلما اجتمع واحد وواحد.
واجتماع الواحد مع الواحد بدون أن يختفي أحدهما (مثلا), هو ما يسمى اثنين. وربما كانت هنك عوالم أخرى يؤدي فيهما اجتماع الواحد مع الواحد الى اختفاء كليهما, فاذا تكرر هذا الامر, بحيث لم ير الناس ولم يجربوا غيره, قالوا مطمئنين أن 1 +1 = 0
وهذا ما عنى به هيوم, حين قال ان ترافق ظاهرتين هو ما يدعو الناس الى الظن انهما سبب ونتيجة. يقول هيوم: "الضرورة شيء يوجد في العقل, وليس في الأشياء". أي أن ما نراه سببا ونتيجة وفاصلا زمنيا بينهما, ليس الا ما نراه نحن كذلك. يقول هيوم مؤكدا: "ان الرابطة السببية بين حادثين ليست في واقع الأمر الا تتابعهما على نحو مطرد, وهو تتابع لا يعدو أن يكون واقعة من وقائع المشاهدة."
مبدأ العلية عند الغزالي
ويتفق رأي الغزالي في العلية مع رأي هيوم, على الرغم من بعد المسافة بين الرجلين, وبعد قناعاتهما الشخصية في أمور أخرى. (وبما أن الغزالي سابق هيوم بمئات السنين, فمن العدل أن يكون له حق الأولوية). ويرى الغزالي أن العليّة التي نراها في الطبيعة هي عليّة واهمة. اسمعه يقول:
"الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سببا, وبين ما يُعتقد مسببَا, ليس ضروريا عندنا. بل كل شيئين ليس هذا ذاك, ولا ذاك هذا, ولا اثبات أحدهما متضمن اثبات الآخر. ولا من ضرورة عدم احدهما عدم الآخر. مثل الري والشرب, والشبع والأكل, والاحتراق ولقاء النار, والنور وطلوع الشمس, والموت وجزّ الرقبة, والشفاء وشرب الدواء وهلم جرا.."
وليس الأكل هو ما يؤدي أساسا الى الشبع في رأي الغزالي, بل هو الله. والله هو من يقرن الأكل بالشبع, وكان يمكن الا يقرنهما. .يقول الغزالي:
" .. فان اقترانها لما سبق من تقدير الله سبحانه وتعالى . يخلقها على التساوق, لا لكونها ضرورية في نفسه غير قابلة للفوت, بل في المقدور خلق الشبع دون الأكل, وخلق الموت دون جز الرقبة, وادامة الحياة مع جز الرقبة".(التهافت ص 227).
واذا اخذنا بالاعتبار كون هيوم رجلا ملحدا - بخلاف الغزالي - فانه لا اختلاف أساسي بين ما يقوله هيوم, وما يقوله الغزالي, بالنسبة لمبدأ العلية. فليس الأكل ما يؤدي الى الشبع برأي الفيلسوفين. انهما مقترنان فقط, وهذا ما نشأنا عليه وخبرناه دائما. وفي حين يقول الغزالي أن الله خلق الاكل والشبع مقترنين على هذه الشاكلة, وقد كان يستطيع ان يخلقهما بطريقة أخرى, يرى هيوم أننا وجدنا الاكل والشبع مقترنين, وقد كان من الممكن أن لا يكونا كذلك – دون أن يكون لله الذي لا يؤمن به هيوم - أي دور في المسألة.
بين العلية الرياضية والعلية الطبيعية
واذا انكرنا السببية او العلية كما ينكرها هيوم والغزالي, مكتفين بالقول أن هذه هي طبيعة الأشياء, فاللهب والحرارة متلازمان في عالم دأبنا فيه على رؤيتهما على هذا النحو, فلن يكون هناك أي خلل في المنطق, لو أن اللهب تزامن مع البرودة . كل ما هنالك أن العالم سيبدو لنا مختلفا عن العالم الذي ألفناه.
واذا الغينا العامل الزمني من هذه العلية, ونحن نستطبع بالفعل الغاءه في بعض الأحيان, كما بين البرق والرعد, فاننا سنختصر العلية الطبيعية – في الكيمياء مثلا - الى علية رياضية. فقد رأينا أن مجموع الأعداد من 1 الى مليون قد لا يستغرق الكمبيوتر اكثر من جزء صغير من الثانية لحسابه, بينما قد يستغرق الانسان العادي الدقائق أو ربما الساعات.
فاذا ضربنا الصفح عن عنصر الزمن في كلتا الحاتين, بانت لنا حقيقة مؤكدة, وهي ان العلية الطبيعية لا تختلف جوهريا عن العلية الرياضية. فالحجر المرتفع في الهواء يعاود السقوط على الأرض لأننا ببساطة نعيش في عالم تسقط فيه الأحجار, تماما كما أن 1 + 1 = 2
#احمد_هيبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟