أخبار الشرق - 23 تشرين الأول 2002
بعد أكثر من أربعين عاماً وفي خطوة مفاجئة اعتبرتها الأوساط الكردية هامة قام الرئيس السوري بشار الأسد منذ اقل من شهر، بزيارة إلى محافظة الحسكة (الجزيرة السورية) ذات الأغلبية الكردية وسط مناخ عالمي وإقليمي تسوده تطورات وأحداث خطيرة وخاصة تلك التي تتعلق بإصرار القيادة الأمريكية بتوجيه ضربة عسكرية إلى العراق. وقد داهم الأكراد في سورية بشكل عام وفي الجزيرة بشكل خاص بعد الزيارة قليل من والقلق والارتباك واخترق السؤال أحلامهم: ترى هل ستعترف سورية بأكردها ..؟؟ خاصة أن الغمز واللمز أو ما يسمى حديث الناس عن الوضع السوري عامة والكردي خاصة واحتمالات تغييره يسود المناخ السوري العام، سيما وأن مرتكزات التغيير ومبرراته أكثر وأقوى في ظل الرئيس بشار الأسد الذي تشير معطياته الشخصية إلى أنه يؤمن بالإنسان والتعددية السياسية والثقافية والانفتاح الفكري، وقد ظهرت بالفعل هذه السمات في كثير من المواقع من أهمها جولاته المفاجئة إلى مواقع عديدة واتصاله المباشر بالشارع السوري وبالشرائح الاجتماعية المتنوعة, فضلاً عن محاولاته إشاعة هامش ديمقراطي عبر تخفيف الرقابة على وسائل الإعلام وملاحقته لبؤر الفساد والمقصرين وطيفياً في أجهزة الدولة. وفي حال كهذا يبقى الوضع الكردي من أدق وأهم الأوضاع في سورية خاصةً وأن الكثير من الأوساط السياسية والثقافية العالمية بدأت تهتم بهذه المسألة تحت ذريعة التعاطف معها بالإضافة إلى المستجدات التي طرأت على أوضاع الأكراد في الدول المجاورة لسورية (تركية وإيران).
ودون الابتعاد عن سؤالنا الأول ولمزيد من الإيضاح عن الموضوع الكردي عامة والكردي السوري خاصة لا بد من هذه المقدمة الموجزة، فقد بقيت الواقعة الكردية بدلالاتها ومعطياتها السياسية والقومية ومفاهيمها الاجتماعية والثقافية والتاريخية كإحدى أهم الأمم القومية التي شغلت العلماء والساسة والمؤرخين، فانبثقت الكثير من الفرضيات والنظريات والآراء حول أصل ونشوء هذه الأمة. منها ما تقاربت وتطابقت ومنها ما تخالفت واختلفت لكنها بالنتيجة مثلت جميعها المفهوم الاجتماعي والأخلاقي والحضاري لمجموعة بشرية تمتعت بميزات واحدة وتركيبة اجتماعية ونفسية واحدة، وتعددت مواقعها الجغرافية لتفصل بينها خطوط هندسية مصنوعة. وقد بقيت قضية هذه المجموعة البشرية من أكثر القضايا تشعباً وتعقيداً بسبب السياسات التي مورست بحقها من قبل الأنظمة التي نالت من تقسيم وطنهم حصة لها عبر اضطهادها وقمعها وممارسة سياسة التعتيم على حقيقة هذه المجموعة التي تشكل الأمة الكردية.
إلا أنه وبعد الأحداث المتلاحقة في العالم وما رافقها من المستجدات والتغييرات في المنظومة الفكرية للعالم وتأسيس مفاهيم سياسية واقتصادية جديدة وتبني الأمم المتحدة موضوع حقوق الإنسان وإشاعة الديمقراطية التي أصبحت مقياساً لتقدم المجتمعات وتطورها تم الإفراج نسبياً عن قضية هذه الأمة وخفت وطأة الغبن والتعتيم على الأقل ثقافياً وبدأ يلوح في الأفق بوادر الإفراج عن الثقافة الكردية المسجونة منذ عقود في معظم الدول التي تتواجد فيها الأكراد باستثناء سورية التي تحوي أكثر من مليوني كردي موزعين في معظم المحافظات السورية.
ففي تركية تم رفع الحظر على الثقافة الكردية واعترفت الحكومة رسمياً بوجود الأكراد وهي على وشك الموافقة على تدريس اللغة الكردية في مناطق التواجد الكردي (جنوب شرق تركية) فضلاً عن مشروع تأسيس محطة فضائية كردية تبث البرامج باللغة الكردية، ورفع حالة الطوارئ في جنوب شرق البلاد (المنطقة الكردية). أما في إيران فقد تم وبقرار رسمي افتتاح جامعة كردية في مدينة سنندج كما تم افتتاح قسم الأدب الكردي في جامعة طهران وقد أشارت وسائل الإعلام مؤخراً إلى احتمال تدريس اللغة الكردية في مناطق التواجد الكردي فضلاً عن كتلة نيابية كردية تمثل معظم الشرائح الاجتماعية الكردية في إيران.
أما في سورية فمازال الحزب الحاكم غير قادر على استيعاب الحالة الكردية كجزء من الحالة الوطنية العامة، وما زالت المسألة الكردية غائبة تماماً على خارطة اهتمامات القيادة السياسية الأمر الذي يشكل حالة من الإحباط والانكسار في الأوساط الكردية السورية. خاصة وأن أوضاع إخوانهم في الدول المجاورة بدأت تتحسن، ووضعهم (الكرد السوريين) ما زال على حاله بالرغم واقعية حلمهم القومي والوطني وبالرغم من أن المعطيات السياسية لخطابهم القومي تؤكد أنهم جزء لا يتجزأ من التكوين الثقافي والتاريخي والجغرافي لسورية وأنهم أصبحوا كتلة بشرية مهمة في النسيج الاجتماعي السوري، إلا أن الإجراءات والقوانين الاستثنائية بحقهم ما زالت سارية المفعول فضلاً عن سياسة الملاحقة للعناصر الكردية النشيطة في المجالات السياسية والحزبية وحتى الثقافية، فقانون الإحصاء الاستثنائي ما زال يلقي بأعبائه على أكثر من (200) ألف كردي جُردوا من جنسيتهم عام 1962 وما زال العمال والطلبة الأكراد معرضون للفصل من معاملهم وجامعاتهم ومعاهدهم والثقافة الكردية محظور ممارستها واللغة الكردية المكتوبة غير مسموح بها وسياسة تعريب مناطق التواجد الكردي جارية على قدم وساق إلى ما هنالك من إجراءات تعسفية غير مسئولة، الأمر الذي يفتح الباب أمام احتمالات أُخرى لاستغلال هذه الحالة غير الصحية من قبل أوساط خارجية وللعب بها أوقات اللزوم. وهذا ما حصل بالفعل منذ فترة عندما قام وفد كردي بزيارة إلى واشنطن بناءً على دعوة موجهة من وزارة الخارجية الأمريكية بقصد عقد ندوات ولقاءات عن القضية الكردية في سورية تحت ذريعة التعاطف معها، فضلاً عن تلك المظاهرات والاعتصامات التي تقوم بها الجالية الكردية المنتشرة في أوروبا أمام السفارات السورية هناك كردِ فعل على ممارسات الحكومة السورية بحق أكرادها.
أما وقد تغيرت المفاهيم وانتقلت البشرية إلى عالم أكثر تفاهماً واقتربت الأمم والشعوب من بعضها أكثر وزالت الحدود نتيجة للتطور التقني الهائل والغزو التكنولوجي لجميع ميادين الحياة (الإنترنت والفضائيات وسرعة انتقال المعلومة) فضلاً عن تخلي الكثير من الشعوب عن الدولة القومية الكلاسيكية وقبولها بمبدأ التعايش بين عنصرين أو ثلاثة أو أربعة عناصر ومن اثنيات مختلفة على أساس من المواطنة الحقيقية (الاتحاد الأوروبي، الاتحاد الإفريقي، الكتل الاقتصادية التي حلت محل الكتل القومية والسياسية)؛ فإنه مطلوب من الدولة السورية وحكومتها الاقتراب أكثر من المسألة الكردية وقراءة تضاريسها وواقعها الاجتماعي والثقافي والوقوف عليها بشكل جدي واستيعابها إن لم يكن على المستوى السياسي فعلى المستوى الثقافي على الأقل.
فالخلاف السياسي يجب أن لا يحول دون التواصل الثقافي خاصة إذا اعتبرنا وهي الحقيقة أن اللغة الكردية هي جزء فاعل ومتجذر من الثقافة الوطنية السورية، ورفع الحظر عنها يعني فتح آفاق رحبة أمام التفاعل الثقافي وكشف النقاب عن مخزون روحي للتصالح مع الواقع وإعطاء زخم جديد للثقافة الوطنية بكل ألوانها الزاهية وأطيافها المتعددة. وأعتقد أن الاهتمام بثقافة وطنية كالكردية من شأنه الخروج من حالة الغيبوبة الثقافية والتاريخية التي نعيشها اليوم، وهو مفتاح هام لقراءة الواقع ثقافياً وسياسياً كما هو، وليس كما أراد البعض للواقع أن يكون معلباً مؤدلجاً. فهل ستخطو الحكومة السورية للاعتراف بواقع قائم فعلياً وتلحق بمسيرة التجديد العالمي أم أنها ستبقى أسيرة مصالح شخصية لا تريد اللحاق بقطار التقدم التي سترفع مكانتها الدولية والإقليمية أكثر؟
وأخيراً وبالرغم من محاولات السلطات في محافظة الحسكة محاصرة الزيارة الرئاسية، ساد شعور بالتفاؤل لدى المواطنين الكرد السوريين لما قد تشكل هذه الزيارة من إظهار بعض الجوانب من معاناة هؤلاء المواطنين السوريين وخاصة المجرّدين من الجنسية السوري منذ أكثر من أربعين عاماً، وإن كنا نشك أن الكثير من الأمور المتعلقة بالأكراد بقيت ضبابية وغير واضحة.
__________
* كاتب كردي سوري - حلب