جمانة حداد
الحوار المتمدن-العدد: 4070 - 2013 / 4 / 22 - 09:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قرأتُ في الآونة الأخيرة كتاباً ممتازاً للناشطة والمربية الأميركية ميشيل ري، عنوانه "راديكالية: كفاحي من أجل وضع الطلاب في الأولوية"، وقد أثار لديَّ تأملات كثيرة حول نظامنا التعليمي والتربوي وحاجته الملحّة الى الإصلاح. لكني لن أتناول ذلك في شكل مباشر، بل سأتحدث عن الطريقة التي أعادت فيها بعض المقاطع في الكتاب، التي تتناول سبل تحفيز الطلاب، حادثةً من أيام طفولتي ودراستي، قد تكون مسؤولة عن صوغ طباعي في شكل حاسم ولا رجوع عنه.
في ذلك اليوم كنتُ أنتظر بفارغ الصبر عودة والدي الى البيت، لكي أقدّم إليه دفتر علاماتي. كنت في غاية الحماسة والاعتزاز لأني نلتُ معدلاً عاماً، 18 على عشرين، واحتللت المركز الأول على لائحة التميّز في المدرسة. لطالما أولى والدي دراستنا أهمية كبرى، وكنّا، أخي وأنا، نفعل ما في وسعنا لإرضائه.
أخيرا، وصل. ركضتُ إليه وسلّمته التقرير وعلى وجهي ابتسامة لا تخلو من بعض غرور. كنتُ واثقة من إثارة إعجابه. لكني كنتُ مخطئة. لا إعجاب ولا من يحزنون. نظر الى دفتر العلامات، ثم إليّ، وقال بهدوء تلك الكلمات التي جعلتني من أنا عليه اليوم، تلك الكلمات التي لن تنفك تتردد في رأسي ولاوعيي طوال حياتي. قال ببساطة قاتلة: "18 ماشي الحال. بس ليش مش 19؟".
لا أخفي أني شعرتُ يومذاك بالحنق، بل بخيبة أمل مؤلمة. لم أستطع أن أفهم كيف أن والدي الصعب لم يقدّر جهودي وكدّي. لكني لاحقاً، أي بعد سنين طويلة، فهمت: كان يتوقع مني أكثر، ويريدني، خصوصاً، أن أتوقع أكثر من نفسي. على العكس من الجملة الشهيرة التي يرددها الجميع: "القناعة كنزٌ لا يفنى"، كان يردد على مسامعنا: "سقفكم السماء"، ويريدنا ألاّ نكتفي لأن في الاكتفاء موتاً.
اليوم، وقد أصبحتُ امرأة في الثانية والأربعين، أشك إن كنتُ قد تجاوزتُ حقاً تلك الفتاة الصغيرة التي كانت تريد إثارة إعجاب أبيها. لمّا تزل هنا، في داخلي، تزداد طموحاتها وأحلامها ومطالبها وتوقعاتها يوماً بعد يوم، تحدياً إثر تحدٍّ. لمّا تزل هنا، تحاول جاهدة أن تحقق معدّل الـ19 على عشرين لأنه مع الـ18 "ماشي الحال"، لكن "الماشي" لا ولن يكفيها.
أجل، تلك الفتاة لمّا تزل هنا بالتأكيد. الفرق الوحيد أنها ما عادت تحاول إثارة إعجاب والدها بها.
هي تريد، فحسب، إثارة إعجابها بنفسها.
#جمانة_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟