مسعود محمود حسن
الحوار المتمدن-العدد: 4069 - 2013 / 4 / 21 - 21:33
المحور:
الادب والفن
" البارانويا منهجاً للحياة ومنطلقاً للشعر "
لأجل فهم أبعاد و مسببات بارانويا بودلير (جنون العظمة), نجد من الضرورة التصدي للسنوات الأولى من طفولة بودلير بالتحليل النفسي المبرهن, و تسليط الضوء عليها لتوضيح معالمها . وسبب آخر يدفعنا إلى الاهتمام بتلك الأيام من حياته, و هو أن الكثير من أشعاره ما هي إلا رجع الصدى النفسي لتلك السنوات المخزونة في ذاكرته, الأمر الذي يدفعنا ويحثنا على استيعاب شخصيته على المستويين الفكري و السلوكي. ولد بودلير من أب يدعى( فرنسوا بودليرFRANCOIS BOUDELAIRE) و أم شابــــة تدعى( كارولين ديفايس KAROLINE DUFAYS). وكان لوالده من العمر اثنا و ستون عاماً حين تزوج من والدته التي كانت تبلغ من العمر خمس و عشرون عاماً. قضى بودلير معهما ستة سنوات متقلباً فيها على أوجه النعيم و السعادة متذوقاً الحب حتى الثمالة . ومن ذلك الفردوس الأسري, وتأسيساً على (حب الأم والأب ) شرعت بارانويا بودلير(جنون العظمة) وجودها, بعد مرورها بعدة مراحل و مستويات في النشوء و التطور. تمتد تلك الفترة الحساسة من طفولة بودلير من الولادة ( 9/نيسان/ 1821) حتى تزوج الأم من المقدم ( أوبيك) بعد وفاة والده. وكانت تلك الفترة بمثابة الفردوس المفقود بالنسبة له, فقد ظل حتى نهايات عمره يحتفظ بصورةٍ لوالده بريشة ( رينيوREGNAULT)؛ وفي رسائله لوالدته كثيراً ما كان يذكر شوقه و حنينه لتلك الذكريات, وهذا مقطع من رسالة الى أمه بتاريخ 6/أيار/1861 " ليس هناك ما لا أجود به مقابل تمضية بضعة أيام بقربك , أنت , الكائن الوحيد المتعلقة حياتي به" . إذن فالملمح الرئيسي لتلك الفترة كان الحب , إلا أن طقوس العلاقة بينه و بين والديه أوحت لإدراكه الطفولي بمعنىً خاص لمفهوم الحب. فوالده المسن, الفار من قبضة الموت كان يبحث عن الخلود بطريقة ما؛ و خيار أوديب بالعودة إلى رحم الأم لتجديد الولادة كان قد فاته أوانها, لذا كانت ولادة بودلير المنفذ الذي أنقذه من العدم, ومنحه الاستمرار في الوجود, والخلود خلال شخص الولد؛ وهو بدوره وهب مخلّصه(بودلير) كل رصيده من الحب, وألغى بحرية إرادته أمام إرادة الطفل ليرى صورته الجديدة في حياة هذا الكائن, ويتغلب على الخوف من الموت بولادته مرة ثانية . والأم أخذت نفس المنحى, ووصلت إلى النتيجة ذاتها, وإن كانت دوافعها مختلفة عن دوافع الأب, فهي كانت ما تزال محصنة ضد الشيخوخة, وغزوات العدم, و صباها كان يفجر فيها إقبالا نحو الحياة, إلا أنها كانت تعاني من عقدة ذنب مستقبلية اتجاه كل من زوجها وولدها؛ أمّا الزوج فلعلمها برغبتها في الزواج بعد موته . وأمّا ولدها فلأنّ زواجها سيصرفها عنه بطريقة ما . ولأن بودلير ابنها من جهة و من جهة أخرى سيبقى رمزاً للعلاقة الظاهرة المجسدة لرابطة الزواج السابقة, فإن جهد الأم المبذول للتكفير عن خطيئتيها انصب عليه, وتمثل ذلك بدرجات عالية من الحب و تعديم الإرادة, وبكيفية مطابقة لكيفية الأب, الأمر الذي حفر في لا وعي الطفل بأن الحب هو " أعطني و حسب" و مهد الطريق لالتفاته مبكراً نحو ذاته, ورؤيتها على نحو نرجسي . هذه الحالة النفسية للأب و الأم خلال تلك السنوات من عمر بودلير- و هي السنوات التي تتشكل فيها هوية الإنسان و طبيعته – و ذلك النموذج العاطفي المختل من العلاقة بينهما و بينه, كلها شكّلت معطيات و أحجار أساس لإيمان بودلير بعظمته و تفوقه على الآخرين, واهباً نفسه صفة المركزية في أي علاقة إنسانية يكون طرفاً فيها و لو من بعيد .
أما عقدة الاضطهاد و هي معلم أساسي من معالم المصابين بالبارانويا, فقد تجلت عند بودلير بعد وفاة والده, و زواج أمه بعد ذلك بسنة من المقدم (أوبيك) . كانت هذه الواقعة تهديداً مباشراً لذاتية بودلير و مفهومه عن الحياة, والإنسان, ومستقبل مركزيته التي بدا يشعر بها تنسل منه لتستقر في شخص أوبيك . لقد حدث ذلك أمام عيني بودلير, وهو يرى موافقة أمّه ورضاها على هذا المنحى الجديد من حياته.
إذن كرهه للمقدم أوبيك, و الذي رافقه إلى نهايات عمره, ليست كما تعتقد المدرسة الفرويدية ناجماً عن عقدة أوديب, و إنما عن البارانويا. فحقيقة ارتباط بودلير الشديد بأمه لم يكن حباً بالمعنى الفرويدي, و إنما لكونها المرآة التي يرى فيها عظمته و مركزيته . فالأم بنظره لم تكن أمّاً فحسب, وإنما هي أيضاً مجمع الكهنة, حيث تُبارك فلسفة بودلير, وتحاك سيادته على الآخرين . و بتقاعد الأم عن الوظائف المهمة لحياته, و تحوّلها للطرف النقيض له, بدأ الاضطهاد يسدل شعوره على نفس بودلير, والأبيات التالية من قصيدته " المباركة" أولى قصائد ديوانه (زهور الشر) تبرز جلياً هذه الشعور :
" و تقول ليتني وضعت وكراً من الأفاعي
بدلاً من أن أضع هذا الطــــفل التافــــــه
ملعونة هي ليلة المتعة الزائلة التي حملتها فيها"
وكتب في نفس القصيدة :
" هكذا تزرّدت زبد حقدها
و دون أن تدرك المقدرات السرمدية
هيأت بنفسها في قعر جهنم
المحارق المخصصة لجرائم الأمومة"
بارانويا بودلير بعد هذا البيان الشعري استوفت عناصرها البنيوية لتتحول إلى المستوى الثاني من حياتها, وهو مستوى التمظهر والتجلي على الأصعدة الفكرية و الاجتماعية و حتى الاقتصادية . أمّا معالم البارانويا الفكرية فتتمركز في قصائد بودلير و يومياته . ففي قصيدة (المباركة) نقرأ الأبيات التالية :
" لكن ملاك خفياً يبسط حمايته على الولد المحروم
فيسكر بالضياء , و في كل ما يأكل و يشرب
يجد الرحيق و شراب الآلهة
يلهو مع الريح و يتحدث إلى الغيوم
و يمشي على درب الآلام و هو يغني"
الملاحظ أنه يتعامل في هذه الأبيات - و هي التي تلت الأبيات التي هجا فيها أمه – مع كائنات ميتافيزيقية ( ملائكة , آلهة أسطورية ) و يُضفي على نفسه صفات غير بشرية من مثل قوله: يسكر بالضياء, رحيق و شراب الآلهة, يلهو مع الريح, يتحدث إلى الغيوم ), إنها بالمجمل ثورة الابن ضد كهنوت الأم لإقصائها عن منصبها, وليُبنّي نفسه للآلهة, ويحجز مكاناً في عالمها لتكون البرهان و الدليل القاطع على عظمته . ولأن المجتمع هو صورة الأم في المستوى الأخير من الارتقاء النفسي للإنسان فإن بودلير تجنب الاندماج فيه انتقاماً من أمه, أي أن إنكاره للمجتمع, هو إنكار للأم, لذا فهو لم يتوانى عن انتقاد المجتمع ورشقه بصفات بذيئة و في قصيده " سمو " نقرأ مثلاً :
"طيري يا نفسي بعيداً عن هذه الروائح الكريهة
واذهبي و تطهري في الفضاء الواسع العالي
و ليكن شرابك الإلهي النقي هذا الضياء اللامع"
وبمقابل هذا الترقّي عن المجتمع, شد بودلير وثاقه أكثر بالسماء كما هو واضح في تلك الأبيات, و غاص أعمق في ذاته, متواصلاً بكثافة مع أناه ليتعرف على ملكاتها و أسرارها, ويعي دوافعه الرئيسية ورغباته, و قدراته, ويحيط بمجمل الخبرات الحسية و العقلية المعتملة بداخله؛ وبالنتيجة يدرك شخصيته والوسائل التي تتيح له الحضور المميّز, والذي يشهد له بالعظمة و الانفراد .
وفي آرائه حول الجمال يقول في يومياته :" الغموض و الندم هما أيضاً من صفات الجمال" و كلا المفهومين(الغموض والندم) يحملان دلالات إيحائية, و يحرّضان على التأمل العميق بالذات, والذوات, ويفرض على الإنسان طقوس الوحدة و العزلة . و بودلير يتبنى الوحدة كإحدى شروط عظمته فقد كتب في يومياته : "البطل الحقيقي يلهو وحيداً ". هذه العزلة و الوحدة البودليرية تنجح أن تفلت من فخ الاغتراب, أو أن تكون " لا انتماءاً" بالمعنى الذي قصده "كولن ويلسون ", لأن بودلير يحافظ على نموذج تواصل مع المجتمع, لكن وفقاً للعلاقة البدائية من حياته, أي أن يكون هو بؤرة الاتصال و مركزيته, ووضع منهجاً لهذه الغاية أطلق عليها اسم "الداندية " .
مسعود محمود حسن
إعلامي كردي من سوريا
[email protected]
Facebook: Masoud Omery
#مسعود_محمود_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟