|
منطقة الفراغ معالجات في الشريعة والقانون
صادق جعفر الروازق
الحوار المتمدن-العدد: 4069 - 2013 / 4 / 21 - 17:52
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
المقدمة: منطقة الفراغ، مصطلحاً تشريعياً كَثُر استخدامه عند المشرعين المعاصرين من الفقهاء، مع حداثة ولادته في مرحلة ستينيات القرن الماضي الذي أطلقه الشهيد السيد محمد باقر الصدر في أدبياته التشريعية والفكرية( ). بيد ان لهذا المصطلح مفهومه الضارب في الجذور العميقة للتشريع. أو انه كممارسة عملية مع بدء ولادة التشريع الرسالي. أي مع بدايات مجتمع النبوة، ومع حقيقة الصورة التي كان عليها الرسول والمبتنية على الدورين الأساسيين من سيرته (الدور التبليغي) و(الدور التدبيري)، كونه بشراً وإنساناً: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ﴾( ). فالبشرية ليست تجريد من عظمة النبوة، وإنما النبوة تكليف ميّزه الخالق – رسولنا- عن غيره من البشر لخصالٍ وجدت فيه وندرت عند من أمثاله. فالصفة البشرية تحتاج إلى عامل التدبير في الحياة، التدبير في كلّ المستلزمات الطبيعية التي يحتاجها الإنسان، أما التبليغ فهو الخاص والمميّز والمقدس المحفوف بالأمانة والعصمة في النقل، وعدا نطاق التبليغ فهي من الأمور التي يلعب فيها العقل البشري دوره الطبيعي في التدبير والتنظيم. فالمقدس من التبليغ والمقدس من التدبير هما الأساس في قراءة روح الدين والوقوف على حركية الثابت والمتغير وفق الجدلية الترابطية بينهما للحفاظ على خلودية النص الديني والتي بمقتضاها يتسنى لنا معرفة أبعاد منطقة الفراغ التشريعي وكيفية إملائه. وهذا هو عين ما ذهب إليه المفكر الديني الشيخ محمد مهدي شمس الدين في تطوير حقيقة نظرته ومنهجه في فهم النص الديني الموسومة ((النص التدبيري والنص التشريعي))( ). ولم يقتصر شمس الدين على مفهوم منطقة الفراغ في مجال الاقتصاد الذي بحثه السيد الصدر، وإنما أمتد عنده ليشمل الاقتصاد والسياسة والتشريع والحكم في مناحي الحياة المجتمعية، باستثناء ما يعتبره من الأمور العبادية كالصلاة والصيام والحج، بل أصبح هذا المفهوم من إحدى الآليات المحورية في إنتاج الخطاب التجديدي الذي يعالج الهوة الكبيرة بين المفهوم السائد للنص الديني والواقع المجتمعي المتغير. مع ما يصاحب ذلك من انطباعية واقعية لخلود النص الديني إزاء أجواء حركية الفكر، وضمن هدفية الحديث النبوي ((حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة)). فعملية إملاء منطقة الفراغ هو ما يُبرّز دور الاجتهاد في إيجاد الأحكام الشرعية وفق الحاجة المستجدة المستحدثة التي يبتلى بها الإنسان المعاصر. وفي هذا البحث المختصر حاولنا أن نوجز التعريف الشامل والواضح لمصطلح منطقة الفراغ التشريعي والقانوني مع ما أسعفنا الإمكان بالشواهد والأمثلة من تاريخ التشريع الإسلامي والتشريع القانوني، فكان لهذا البحث ثلاثة فصول تسبقهما المقدمة وتتأخرهما الخاتمة، فتضمن الأول منهما العناوين التالية: مقصودية منطقة الفراغ، تحديد منطقة الفراغ، عوز النص، التدبر والتشريع في السنة، المصالح المرسلة ومنطقة الفراغ، والتطبيقات التاريخية. أما الفصل الثاني: فقد احتوى العناوين التالية: منطقة الفراغ في القانون، حُكميّة الحوادث المستحدثة، نظرية الضرورة، الشركات التجارية في الفقه والقانون. أما الفصل الثالث: فاحتوى على كيفية معالجات منطقة الفراغ. ومن ثم الخاتمة.
الفصل الأول
• مقصودية منطقة الفراغ • تحديد منطقة الفراغ • عوز النص • التدبر والتشريع في السنة • المصالح المرسلة ومنطقة الفراغ • تطبيقات تاريخية مقصودية منطقة الفراغ: ويُقصد بها تلك المساحة من الأمور والقضايا التي تركت الشريعة الإسلامية حق التشريع فيها لولي الأمر، أو السلطة التشريعية العامة كمجلس الشورى أو البرلمان بالتخويل لإصدار الحكم المناسب للظروف المتطورة بالشكل الذي يضمن الأهداف العامة للمجتمع، سواء كانت هذه الأهداف إسلامية في الدولة الإسلامية أو تنظيمية في الدول غير الإسلامية، ومما لاشك فيه ان منطقة الفراغ بحثت في الجانب الإسلامي للشريعة، فهي أيضاً متواجدة - كمفهوم- في شرائع أخرى لغرض ملازمة تطورات المجتمع واحتياجاته للأحكام وفق كل شريعة من الشرائع السماوية والأرضية ﴿لكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا...﴾( ). ففي الجانب الإسلامي يبرز مفهوم الطاعة لولي الأمر كونه المشرع والمقنن وفق مفهوم الآية الكريمة: ﴿يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾( ) وبغض النظر عن تعيين المقصود بولي الأمر، فيكون الإلزام بتخويل حق إصدار الحكم والأمر والنهي لولي الأمر في مساحة معينة من الأمور، وهي المساحة التي لم يرد فيها تكليف مباشر من قبل الشريعة، بحكم كون الرسالة الإسلامية أكمل الرسالات وأتمها فلابد لها أن تشمل جميع ما يقتضيه النظام الاجتماعي الصالح للبشرية من عناصر ثابتة وعناصر متحركة متطورة، كون انها لو باشرت بتشريع العناصر المتغيرة بصورة تفصيلية لأصبح حالها حال الرسالات السماوية السابقة التي كانت تستدعي التغيير والتجديد بين حينٍ وآخر، وهذا ما ينافي أبدية رسالة محمد (ص) وثباتها وخلودها وخاتميتها. كما ان حركية ولي الأمر في التشريع والتقنين وتحديد منطقة الفراغ لم يكن ذلك بالأمر اليسير كما يعتقد البعض، فهناك آلية في تحديد ولي الأمر اختلف عليها الفقهاء الإسلاميون، فمنهم من ذهب بالتحديد إلى مبدأ البيعة، ومنهم من ذهب إلى مبدأ الوصية، وتطور الأمر إلى مبدأ العصمة في المذهب الشيعي، كلّ ذلك حُرصاً على توفر الصفات العالية عند ولي الأمر ومن ثَمّ يُصار الأمر إلى عصر الغيبة عند المراجع الذين تتوافر فيهم الصفات التي ذكرها الإمام العسكري (ع): ((صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه)) حيث ان استقامة ولي الأمر وهو القائد الأعلى في المجتمع صيانةً لصون الحق والعدل والعدالة ومراعاة مصلحة الأمة في كلّ جوانبها الحياتية، إضافةً إلى ما ينبغي عليه من توافر مجلس نيابي من ذوي الخبرة والكفاءات العالية ليقوم بتشخيص مصالح الأمة وترشيح القانون المناسب لها في القضايا الهامة.
تحديد منطقة الفراغ: أما بخصوص تحديد منطقة الفراغ فهناك ضوابط يحق من خلالها التشريع والتقنين، ومنها: أولاً: في الأحكام الثابتة: كحرمة ممارسة الآلات المعدة للعبة القمار، فلو كان لهذه الآلات صفة تغلب على صفة لعبة القمار فحينها تكون الإباحة ومرةً تغلب الصفة المبهمة بين الحرمة والحلية، هذه الحيرة هي ما تسمى منطقة الفراغ التشريعي الذي توجب على ولي الأمر بيان حكمها الشرعي. وشبيه ذلك الألحان والغناء. ثانياً: التزاحم بين الأهم والمهم وفي التزاحم يبرز دور العقل في تفضيل الأهم أولاً كون ان ما يرد على المكلف حكمان متخالفان متنافيان من غير ان يكون التنافي بين الدليلين من ناحية الجعل والتشريع، بل يكون التنافي بينهما بسبب عجز المكلف عن امتثال الحكمين معاً في وقت واحد، أي بعبارة أخرى يكون التزاحم بين أمرين لا يكون أحدهما باطلاً. وكلّ من هذين الحكمين يلزمان المكلف بالامتثال المطلق، ولما لم يكن بمقدور المكلف الامتثال إلى الحكمين معاً، وجب من حركية العقل تقيد إحداهما. كحالة الطبيب الجراح – مثلاً- الواجب حضوره إلى غرفة العمليات لإنقاذ حياة إنسان من الموت وهو متوجه إلى إقامة فريضة الصلاة في آخر وقت لها، فهي مزاحمة بين إنقاذ نفس وبين أداء فريضة واجبة في آخر أوقاتها. أو من مثال آخر.. كمن يملك كمية قليلة من الماء في طريق مقطوع لحاجتين مهمتين هما الوضوء لأداء الصلاة وبين حاجته الماسة لشرب الماء، فهنا حكمين مختلفين لا يمكن له الجمع بينهما، فالتزاحم العقلي يوجب تقديم الأهم وهو إنقاذ النفس في المثال الأول وشرب الماء في المثال الثاني لإنقاذ النفس أيضاً. وتبقى الصلاة والوضوء في المثالين المتتالين حكمان مقيدان. وأيضاً ما ذهب إليه الفقه من حالات استخدام التزاحم من مثال: جواز انتزاع إحدى الكليتين من أجسام الأصحاء وزرعها في أجسام المصابين بعطل الكليتين، فان انتزاع إحدى الكليتين من جسم الأصحاء في حد ذاته عملاً حراماً لأنه من الأضرار البليغة بالنفس ولكن هذه الحرمة ترتفع إذا زاحمه حكم أهم. وأيضاً في حالة هدم البنايات المجاورة عند نشوب الحريق، فهدم البنايات هو عمل محرم، ولكن ترتفع الحرمة قبال إطفاء الحريق الهائل الذي قد يؤدي إلى إحراق البنايات والأسواق المجاورة. أما في التشريع القانوني، قد يبرز التزاحم بصورة واضحة هو الآخر وبالأخص الصور المحرمة من القانون الدولي الإنساني، كحالة الحروب الناشبة بين دولتين، ومنها قصف المدن الذي يلحق بالسكان الآمنين الموت والخراب. ففي حالة الخرق للقانون الدولي الإنساني من قبل إحدى الدول المتحاربة، تسعى الدولة الأخرى لمقابلة العدوان بالمثل لإجبار الدولة البادئة بالكف عن هذا العمل المحرم شرعاً وقانوناً. ولكن التساؤل المهم هنا: هل ان عمل الدولة المعتدى عليها بقصف مدنها ممارسة العمل بالمثل يكون جائز شرعاً؟ إنَّ التوجه الفقهي الصحيح هو السعي لإيقاف القصف العدواني بممارسة القصف المضاد ومقابلة العدو بالمثل ليكف عن هذا العمل. فمقتضى الحكم الشرعي الأولي يكون واجباً، وبالحكم الشرعي الثاني يكون حراماً. فهما حكمان متزاحمان، فإجبار العدو على الكف عن القصف واجب. ولكن هذه المبادلة محرّمة في الغالب أو كثيراً بالعنوان الأولي، إلا أنّ التزاحم أوجب هذه الضرورة كونه من الأحكام العقلية القطعية. أما قانوناً: فلا يجوز الرد بالمثل وترويع السكان الآمنين، وعلى الدولة المعتدى عليها تقديم الشكوى إلى مجلس الأمن الدولي. ولكون الإجراءات الدولية طويلة ومعقدة وتدخل في حساباتها عامل السياسة والمصلحة فان الحرب لم يكن فيها عامل الأمن مسترخياً وإنما تدور رحى الحرب سريعاً لتحقيق عامل القوة والانتصار. ومن ثم ليفعل مجلس الأمن ما يشاء!!! ثالثاً: المصالح الطارئة في دائرة المباحات، وتكثر مصاديقها في المجال الاقتصادي بشكل غالب لما تمر به الأمة أو الدولة من ضيق مالي تستدعي في بعض الأحيان فرض الضرائب بشكل أوسع أو تحديد الأسعار أو أحياناً وضع الضوابط الخاصة لتنظيم عملية المرور. إذن فمنطقة الفراغ هي المساحة الواقعة في المجال المتحرك والمتغير في منظومة الشريعة الإسلامية في نطاق المباحات. وليس لها وجود في المجال الثابت العبادي. ومن ذلك لا يمكن القول ان منطقة الفراغ ينقصها النص الديني، لأن الرسالة السماوية رسالة تكاملية متكاملة، وإذا أختل فكر أحد الباحثين ضّاناً انعدام النص الديني، هذا لا يعني الانعدام التام وإنما الانعدام يكمل في التفسير الذي اختلف فيه الفقهاء. وإضافة إلى ما تقدّم فان الشريعة الإسلامية أيضاً لها مصادرها المقررة في التشريع والتي لم تترك مجالاً في معالجة جميع القضايا والأمور المستحدثة. ومن تلك ((الإجماع، القياس، الاستصحاب، الاستحسان، المصالح المرسلة، العرف، قول الصحابي، شرع من قبلنا، وسد الذرائع)) فضلاً عن تفصيلات السُنة النبوية التقريرية، والفعلية والقولية، ومنها أيضاً المتواترة والمشهورة والآحادية. أما مجال منطقة الفراغ التشريعي فهو يشمل كل وضع جديد لم يرد فيه نص مباشر أو قاعدة عامة، حيث ان أوضاع البشر تحدث نتيجة للتطور ونمو المعرفة ونمو القدرة، وهما بطبيعة الحال يقتضيان أشكالاً جديدة ومتطورة من الضبط والسيطرة والتنظيم في تعامل الإنسان مع المجتمع أو من حيث العلاقة مع الطبيعة. والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها في مجال الطب – مثلاً- حيث ان تطور علم الطب وتعمق الخبرة بما يصيب جسم الإنسان والذي نشأ عنها عمليات نقل الأعضاء وزرعها كزراعة الكلى والقلب والأطراف والتلقيح الصناعي ضمن عمليات الإنجاب ومعالجة العقم، وغيرها. وأيضاً في مجال تطور العلوم الطبيعية الكيمياء والفيزياء والهندسة بكل مجالاتها وفروعها، وما نتج عنها من تطور هائل في صناعة أسلحة الدمار الشامل (الذرية، والهيدروجينية، والنيترونية، والكيمياوية، والجرثومية، والبيولوجية) وما يلزم ذلك من تجارب في الفضاء والأرض. وتحت الأرض وتحت المياه، والآثار الناجمة منها على الطبيعة وعلى حياة البشر. وحماية البيئة التي أصبحت بفعل التجارب النووية مصدر يهدد الكائنات الحية بشكلها الإجمالي بعد أن برزت آثارها على الفضاء الخارجي وسطح الأرض وجوفها والمياه ومصادرها والبحار إضافة إلى ما ينجم من استهلاك كمية الطاقة في مجال الصناعات وعلاقتها بالبيئة والنفايات التي تتركها وعلاقتها بها. وأيضاً ما ينجم من أزمة الطعام والمياه التي تواجه العالم وتواجه الشعوب الفقيرة أو العاجزة. والنمو السكاني وعلاقته بالتنمية وأزمة المياه والطاقة والطعام التي تحدد حرية الإنجاب وتنظيم النسل والأسرة. كل ذلك يستدعي تنظيم قوانين تناسب حجم الخطورة داخل المجتمع، ويستدعي تكوين سلطات على المستوى الإقليمي والدولي، كما يستدعي تقييد حريات الأفراد والمجتمعات والدول بما يتناسب مع أوامر هذه السلطات ونواهيها. فان جميع ما تقدم ذكره يستوجب مجالاً تشريعياً وهو المجال الذي نعنيه بمنطقة الفراغ التشريعي، فهي لم ترد فيها نصوص تشريعية خاصة ولا قواعد تشريعية عامة. وتعتبر هذه الأمور المستحدثة من المجهولات التي ينطبق عليها مفهوم منطقة الفراغ كما بحثها بإسهاب العلاقة شمس الدين في بحث نشر في مجلة المنهاج، العدد الثالث، السنة الأولى بيروت 1996م، الذي فصل فيه بأكثر دقة وعمق ممن خاض بهذا المجال، فهو حدد المفهوم المعني ((منطقة الفراغ)) فقط في مسائل المجهولات وفي مسائل الإباحات التي تتطلب استنباطاً اجتهادياً لا يورد فيه نص أو قاعدة عامة وإنما يستنبط الحكم من عمومات ومطلقات التشريع العليا وبعض المبادئ التشريعية الأدنى رتبة، المناسبة لكل مورد من موارد مجال الفراغ التشريعي. وبهذا السياق نرى الدكتور عبد الكريم سروش يؤكد ان حركة التشريع تغذى من قبل الأمور المستجدة المستحدثة والمجهولة أحياناً( )، ولذا فهي تتطلب فهماً اجتماعياً للنص لم يقتصر على العنصر اللفظي فقط( )، وهذا ما يتطلب الرؤيا العميقة والقدرة لاستيعاب الفقيه لمعطيات النص وهذا مالا يؤمن به التقليديون من الفقهاء الذين يرون ان الخروج عن معطيات اللفظ هو الخروج عن فهم النص! في حين ان التناسب طردياً بين التشريع والمستحدثات، ولا يمكن أن يكون تناسباً عكسياً لأن في الأخير دلالة على عجز الشريعة في إيجاد الأحكام للأمور المستحدثة، وهذا ما يراه الدكتور سروش في قوله: ((إذا تعرضت المعارف البشرية غير الدينية للقبض والبسط، فلابد أن يتعرض فهمنا للشريعة إلى القبض والبسط أيضاً، أحياناً بصورة ضعيفة وخفيفة، وأحياناً بصورة شديدة وقوية.. وهكذا تصبح المعرفة الدينية عصرية))( ).
عوز النص: إنّ مشكلة ما يُطرح بـ(عوز النص)، فالمشرع الإسلامي يُفِرِّق بينها وبين منطقة الفراغ، فالاجتهاد في منطقة الفراغ قد يقع فيه خلاف الفقهاء، أما مسألة عوز النص هو البحث عن الحكم الشرعي الثابت لقضية ما والتي لم يأتِ بها نصاً قرآنياً أو نصاً نبويّاً، فهو بمثابة البحث الاستنباطي للخروج من كليات المنظومة التشريعية إلى حكم خاص. مثلاً قضية التدخين، أو قضية التلقيح، فالمراد من هذه القضيتين معرفة مدى حكم الله فيهما وليس حكم ولي الأمر والذي يكون مفترض الطاعة أيضاً. فعوز النص يخضع عند جميع علماء المسلمين بمختلف مشاربهم الفكرية والعقائدية إلى العمومات والاطلاقات والقواعد العامة أو الأصول العملية حسب الموازين والضوابط الاجتهادية المطروحة في علمي الفقه والأصول. وان اختلفت هذه الضوابط عند البعض من الفرق الإسلامية إلا أنها جميعاً تهدف إلى معرفة الحكم الشرعي الثابت. أي معرفة حكم الله في هاتين القضيتين. أما الحكم في منطقة الفراغ فلا يعني ذلك معرفة حكم الله وإنّما معرفة حكم ولي الأمر أو السلطة التشريعية أو النيابية تحت مظلة التشريع الإسلامي. وهذا ما يدلل على ان هناك ثمة فارق بين (عوز النص) و(منطقة الفراغ التشريعي).
التدبير والتشريع في مجال السنة: بات من الصعب التمييز بين السنة التشريعية والسنة التدبيرية والصعوبة تكمن في ما اعتاد عليه العقل المسلم من التداخل بينها، بل باتت من العقائد المُسَلّم بها أحياناً. ولكن وعلى ضوء ما قرأه العلامة شمس الدين يؤكد بأن للعرف دور هام في التشريع وهو ما يسمى بالعرف المكمل الذي يأتي بعد القرآن والسنة لإكمال المبدأ، وهذا يشمل كل دليل (من النّص الديني) دل على حُكم موضوع لم تُحدد أبعاده وتفاصيله وحالاته فإن المرجع هنا في إكمال المبدأ التشريعي العام هو العرف العام الذي قد يتغير من مجتمع إلى آخر، أو من زمان إلى آخر. ((ولا يشترط البقاء على العرف الذي كان سائداً في عهد النبي والأئمة )). ومن الأمثلة على ذلك ((الأوضاع التنظيمية للمجتمع والدولة والمدن والعلاقات الدولية، وأساليب التجارة وعلاقات الزوج التفصيلية بالزوجة تحت عنوان المبدأ التشريعي العام حول المعاشرة بالمعروف أو شكل الزّي الذي يضمن لها مبدأ السّتر))( ). أما في مجال العلاقات الاقتصادية فيضم شمس الدين إلى منطقة الفراغ التشريعي ما يعتبر في الفقه التقليدي الموروث في حكم الربا المحرم مثل القروض الاستثمارية التي يرى فيها ان حكم الربا لا ينطبق عليها( ). أما موضوع الخُمس فيضعه شمس الدين في منطقة الفراغ التشريعي – فيما يعتبره جمهور الفقهاء الشيعة حُكماً دينياً إلزامياً وثابتاً- موضحاً قوله بأدق تعبير صريح: إن تشريع الخمس بدأ في وقت متأخر خلال عهد الأئمة( ) فهو يضعه ضمن تطبيقات النص التدبيري أي النص غير المطلق في كل الأزمان والأحوال. أما سلطة التشريع الاجتهادي، وكما يصفها شمس الدين فهي تعود في بعض المسائل إلى الفقيه أو يشترط أذنه بعد رجوعه إلى أهل الخبرة، والسلطة بكل الأحوال هي للأمة التي تحمل ولايتها على نفسها في جميع شؤون الحكم كعلاقاتها التنظيمية وتدبير شؤونها ورسم سياساتها التعليمية والتعميرية من خلال ممثليها في هيئات الشورى بآلية ديمقراطية، ويؤكد قائلاً: لا يشترط في هذه الحالة أبداً أن يكون رئيس الدولة فقيهاً( ). ومن ذلك فهو يقول: ((لابد من إعادة النظر فيما يعتبره معظم الفقهاء الأصوليين من الشيعة حكماً شرعياً إلهياً بينما كثير منها، أعني نصوص السُنة، لا يتضمن أحكاماً شرعية إلهية، بل يتضمن ما أُسميه تدبيرات. وهي أحكام تنظيمية إدارية...))( ). وعلى الفقهاء أن ((لا يكتفوا بأن النص وصل إلينا مطلقاً مجرداً من الخصوصيات، في الحكم بإطلاقه في الزمان والمكان والأحوال والأقوام وشريعة للأمة كلها في جميع أزمانها وأحوالها وظروفها وتقلياتها، فيجمدوا عليه كذلك في مجال الاستنباط))( ). إذن هناك خلط واضح بين التبليغ والتدبير، بين التشريع المطلق والتشريع المحدود (التنظيمي التدبيري) ولذا فهو يؤكد قائلاً: ((ولعل منشأ هذا الخلل في المنهج هو قضية مسلمة عند الأصوليين، وهي وظيفة النبي (ص) في أن يبين الأحكام الشرعية، وغفلوا عن جملة مناصب النبي (ص)، انه كان حاكم دولة، وقائد مجتمع، ورب أسرة، وإنه عضو في مجتمع، وإنه إنسان يتفاعل مع محيطه وحياته ومع معاشريه من الناس. ومن هذه المنطلقات كلها وفي هذه الأطر كلها، كان الرسول يقول ويفعل ويقرر))( ). ويضيف ((فان دراسة النصوص على هذا الأساس تكشف ان بعضها قد ورد متأثراً بعرف خاص حادث وطارئ، ومن ثم فهو لا يكشف عن الحكم الشرعي الإلهي، لأنه لم يصدر لتبيان هذا الحكم، وإنما عكس حالة اجتماعية وثقافية حادثة اقتضت الظروف التكيّف معها، فلابد في هذه الحالة من معاملة النص على أساس النظرة النسبية في الأحوال، لا على أساس الإطلاق في الأزمان والأحوال( ) وهذا هو عين ما نقصده لمجال التشريع في مناطق الفراغ، كون أن تَفهم الظروف الاجتماعية يسهم ذلك في اتساع فهم المطلب وتوفيقه مع التشريع الإسلامي. ولذا نرى التفاتة السيد محمد باقر الصدر في إطلاق مصطلح ((الفهم الاجتماعي للنّص)) الفهم الذي يمثل ذهنية موحّدة وارتكاز تشريعي عام، يستطيع الفقيه أن يحكم على ضوئه بأن الشيء الذي يناسب أن يكون موضوعاً للنص هو أوسع نطاقاً من الأشياء المنصوص عليها في الصيغة اللفظية للنص. فالفهم الاجتماعي للنص: ((فهم النّص على ضوء ارتكاز عام يشترك فيه الأفراد نتيجة لخبرة عامة وذوق موحّد، وهو لذلك يختلف عن الفهم اللفظي واللغوي للنّص الذي يعني تحديد الدلالات الوضعية والسياقية للكلام))( ). وما أروع ما قاله الصدر وما أبلغ من إشارات ودلالات حين وقف على كتاب (فقه الإمام الصادق) للشيخ محمد جواد مغنيه فيشده وعي هذا الفقيه بالبعد الاجتماعي، فيقول: ((أكبر الظن أنها أول مرّة أقرأ فيها لفقيه إسلامي من مدرسة الإمام الصادق (ع): أوسع نظرية لعنصر الفهم الاجتماعي للنّص، يعالج فيها بدقة وعمق الفرق بين المدلول اللغوي وبين المدلول الاجتماعي للنص، ويحدد للمدلول الاجتماعي حدوده المشروعة.. كانت هذه المرة الأولى التي قرأت فيها ذلك عن عنصر الفهم الاجتماعي للنص هي حين قرأت بعض أجزاء الكتاب المجدّد الخالد (فقه الإمام الصادق) الذي وضعه شيخنا الكبير الشيخ محمد جواد مغنيه، الذي حصل الفقه الجعفري على يده في هذا الكتاب المبدع على صورة رائعة في الأسلوب والتعبير والبيان))( ). أما عن فكرة (عوز النص) وإن لم يذكرها بالتحديد كمصطلح إلا أنه أكد ((إن كل وضع جديد لم يرد فيه نص مباشر أو قاعدة عامة من أوضاع البشر التي تحدث نتيجة للتطور ولنمو المعرفة، نحو القدرة، ما يقتضي أشكالاً جديدة ومتطورة من الضبط والسيطرة والتنظيم للمجتمع، وللإنسان في المجتمع أو من العلاقة مع الطبيعة))( )، بالإضافة إلى تطور العلوم الطبية والهندسية الوراثية والفيزياء والقضاء والتسليح والدمار الشامل وقضايا البيئة والغذاء والتنمية البشرية. ويتضح إجمالاً ان شمس الدين يسعى كفقيه معرفي يطمح بتكامل التشريع وجعل الشريعة دعامة أساسية لتساؤلات البشر في كلّ زمانٍ ومكان. وهذا ما سبقه السيد محمد باقر الصدر الذي لم يشر له شمس الدين حين تناول منهجية الفصل بين التشريع التبليغي والتشريع التدبيري وإن خاض شمس الدين فيها تفصيلاً إلا أن الصدر هو الذي أشار إلى الخلط بينهما عند تناوله المنهجية الاقتصادية في الإسلام في كتابه (اقتصادنا). المصالح المرسلة ومنطقة الفراغ. لا فرق في المفهوم بين المصالح المرسلة ومنطقة الفراغ، فكليهما تشريعاً وفق الدائرة الإسلامية لإنجاز المصلحة العامة، والاختلاف ينحسر في المصطلح باختلاف تعدد الفرق والمذاهب ويشترط الفقهاء لحجية المصالح المرسلة والعمل بها شروطاً، فإذا فقد واحد منها لا يصح العمل بها وهي: 1-أن تكون المصلحة من المصالح المحققة. فإذا كانت من المصالح الموهومة فلا يجوز العمل بها. 2-أن تكون المصلحة من المصالح التي لم يقم دليل شرعي معين على إلغائها، أما إذا قام دليل شرعي على إلغائها فلا يصح العمل بها، مثال ذلك انه لا يصح عد المصلحة التي تقضي بجواز الاستسلام للعدو وعدم محاربة المعتدي بحجة حفظ النفوس من القتل والأسر، والأموال من التلف والضياع، فهذه المصالح غير معتبرة، لأن المشرع أمر بالجهاد في سبيله والدفاع عن الدين والوطن. 3-أن تكون المصلحة من المصالح العامة، فاذا كانت خاصة لا يعمل بها. 4-أن تكون المصلحة معقولة في ذاتها. إذ لو عرضت على أهل العقول السليمة تلقوها بالقبول. 5-أن يكون الأخذ بها لرفع حرج لازم. إذ لو لم يؤخذ بالمصلحة المعقولة في موضعها لوقع الناس في الحرج( ). ويقول الإمام الغزالي: يجب أن تكون المصلحة ضرورية، فلا يكفي العمل بها ان تكون حاجية أو تحسينية، بل تكون ضرورية لحفظ الضروريات الخمس من دين ونفس ونسل وعقل ومال، كما يجب أن تعم جميع المسلمين لا فئةً منهم وأطلق عليها اسم (الاستصلاح)( ) وهي ذاتها المصالح المرسلة. فالمصالح المرسلة هي من المصادر التبعية لمصادر الاستنباط، وفي هذا السياق جاء قرار الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في منع العطاء نصيباً من الزكاة للمؤتلفة قلوبهم كونه حاكماً للدولة الإسلامية، وولي أمرها المتحسس لمواقع الضرورة. فرأى من الواجب منع العطاء لهؤلاء الناس بعد أن استقرت الدولة الإسلامية وزال احتمال خطرهم، فكان في ذلك مصلحة لإبراز وإشهار عظمة المسلمين وقدرتهم وإمكانيتهم في حفظ الدولة الإسلامية. وأيضاً قراره في حث المسلمين عند فتح العراق على عدم الزواج من الذميّات لأن في ذلك فتنة لنساء المسلمين. وأيضاً ما فرضه من مالٍ على الأغنياء لتقوية الجيش وحماية البلاد. وأيضاً حكمه الشهير في إيقاف حدّ السرقة عام المجاعة. ومنها أيضاً حكمه بتأبيد الحرمة على من تزوج امرأة في عدتها ودخل بها، زجراً لأمثاله( ). فالمساحات المتروكة في التشريع هي مساحات تواجه كُلّ جيل إزاء التطور الهائل في عالم الإلكترون، وبالأخص جيلنا المعاصر. ولذا فإن مساحات (منطقة الفراغ) (المصالح المرسلة) تأخذ دورها الملحوظ في التشريع فهي من المباحث الهامة في دراسة الثابت والمتغير في التشريع الذي ظلّ مرناً ومفتوحاً لاستيعاب حركة التطور الهائل والسريع في الحياة الإنسانية. ومن الأمثلة عليها – في واقعنا- هي مساحات الشروط والعقود في مختلف المعاملات التي يتعامل بها الأشخاص لإنشاء العقود وتثبيت الشروط التي يتعاملون بها حسب ظروفهم وأوضاعهم المدنية. وأمثلة ذلك ان طلاق المرأة في الشريعة الإسلامية بيد الرجل، ومن حق الرجل أن يوكل شخصاً عنه لإيقاع الطلاق. فاستنتج الفقهاء جواز توكيل الرجل المرأة على طلاق نفسها منه. كما يحق أن تشترط عليه في متن العقد أن يجعل الطلاق بيدها وفق الشروط والأوضاع التي تثبت في متن العقد. التطبيقات التاريخية: 1-نقل الترمذي عن رافع بن خديج انه قال: نهانا رسول الله عن أمرٍ كان لنا نافعاً إذ كانت لأحدنا أرض أن يعطيها ببعض خراجها أو بدراهم. وقال: إذا كانت لأحدكم أرض فليمنحها أخاه أو ليزرعها( ) في حين ان إجارة الأرض في الشريعة جائزة من خلال عدّة روايات منقولة عن صحابة الرسول وبالأخص فيما لو كانت النقود هي ثمن الإجارة. إلاّ إن هذا المنع جاء وفق ظروف خاصة، مارس فيها الرسول دوره كولي أمر أو قائد مجتمع رأى فيه المصلحة. 2-عن الإمام الباقر انه قال: ((قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل انه لا يمنع نفع الشيء، وقضى بين أهل البادية انه لا يمنع فضل ماء ليمنع فضلاً كلا...)) في حين جميع الفقهاء لهم رأي في عدم حرمة منع الإنسان غيره من فضل ما يملكه من الماء الكلأ، فكان حكم الرسول هو في ملئ منطقة الفراغ حيث كان مجتمع المدينة المنورة بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية، وألزم أهل البادية ببذل ما يفضل من مائهم وكلئهم للآخرين تشجيعاً للثروتين الزراعية والحيوانية. 3-سئل الإمام الصادق عن الرجل يشتري الثمرة المسماة من أرض فتهلك ثمرة تلك الأرض كلها. فقال: قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله (ص) فكانوا يذكرون ذلك فلما رآهم لا يدعون الخصومة نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة، ولم يحرّمه ولكن فعل ذلك من أجل خصومتهم)) وهذا مما يوضح ان النهي الصادر من الرسول (ص) لم يكن تعبيراً عن الحرمة الشرعية بل كان منعاً عن هذه الخصومة التي أشارت إليها الرواية. 4-نقل الصدر الأول في كتابه (اقتصادنا) جاءت في عهد الإمام إلى مالك الأشتر أوامر مؤكدة بتحديد الأسعار، وفقاً لمقتضيات العدالة، قد تحدث الإمام إلى واليه من التجار وأوصاه بهم، ثم عقب ذلك قائلاً: ((وأعمل – مع ذلك- أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات. وذلك باب مضاربة للعامة، وعيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فان رسول الله (ص) منع منه، وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازين عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين في البائع والمبتاع( ). يقول الصدر (رض): من الواضح فقهياً ان البائع يباح له البيع بأي سعر أحب، ولا تمنع الشريعة منعاً عاماً عن بيع المالك للسلعة بسعر مجحف. فأمر الإمام بتحديد السعر، ومنع الاتجار عن البيع بثمن أكبر، صادر منه بوصفه ولي الأمر، فهو استعمال لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ، وفقاً لمقتضيات العدالة الاجتماعية التي يتبناها الإسلام( ).
الفصل الثاني حكميّة الحوادث المستحدثة
• منطقة الفراغ في القانون • نظرية الضرورة • الشركات التجارية في الفقه والقانون
حُكميّة الحوادث المستحدثة: ما من حادث إلا وله حكم في الشريعة، وهذا القول من المسلمات التي لا يشك فيه أحد من المسلمين، والأحكام الخمسة هي الضابط لكل الموضوعات والحوادث بضرورة الدين والتي تتجلى في 1-الوجوب. 2-الحرمة. 3-الكراهة. 4-الاستحباب. 5-الإباحة. وهي حدود الله سبحانه تعالى في مسار وحياة الإنسان، ولا تخرج كل الموضوعات منها إطلاقاً. فعن الإمام الباقر (ع): ((ان الله تبارك وتعالى لم يدع شيئاً تحتاج إليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله، وجعل لكل شيء حداً، وجعل عليه دليلاً يدل عليه، وجعل على من تعدى ذلك الحد حداً))( ). وعن الصادق (ع): ((ما من شيء إلا فيه كتاب أو سنة))( ). وعن الباقر (ع): قال خطب رسول الله (ص) في حجة الوداع، فقال: ((أيها الناس والله ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أمرتكم به. وما من شيء يقربكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا وقد نهيتكم عنه))( ). وأمام ذلك، ان النصوص الشرعية من الكتاب والسنة محدودة من حيث الكم وثابتة على عمود الزمان فأما علة إنها محدودة من حيث الكم لأن النصوص جميعاً تنتظم فيما جاء به الكتاب العزيز وما صح عن الرسول (ص) وما يصح عن أهل البيت (ع) من الأحاديث والعلوم التي ورثوها عن الرسول (ص) بطرقهم الخاصة. فليس لهم عليها رأي أو اجتهاد كسائر أئمة المذاهب الإسلامية. فهي في الواقع نصوص محدودة مهما بلغت. وأما إنها ثابتة فهي لما اشتهر عن الرسول (ص): ((حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرام محمد حرام إلى يوم القيامة)). ففي قبال ذلك ان الحوادث تتطلب حكماً شرعياً فهي متجددة ومتطورة. وفي تغير وتبدل دائم، وبذا فهي غير محددة بعكس حال النصوص الشرعية، والتطور والتغير السريع في الحوادث كثيرة، وهذا ما نلمسه ونلاحظه جلياً في التطورات الآخذة في عصرنا وفي كافة المجالات الحياتية كالطب والتجارة والعلاقات الدولية. وهنا يتطلب من الفقيه خطاباً تجديدياً يعالج فيه الهوة الكبيرة بين الفهم السائد للنص الديني والواقع المجتمعي المتغير وهذا ما أشار إليه السيد محمد باقر الصدر بالبعد الاجتماعي للنّص وأيضاً ما خاض به العلامة شمس الدين في مسألة الحكم التدبيري أو بنص ما أطلق عليه بـ(سلطة التشريع الاجتهادي) وتتجلى عند عدم وجود نص ديني إلزامي مباشر، بحيث إذا دعت حاجة المجتمع أو الجماعة أو الأفراد في تحريم مُباح بالمعنى الأعم أو الإلزام بوجوبه، فانه يحق للسلطة التي وصفها شمس الدين بأنها سلطة التشريع الاجتهادي ان تحول المباح (بالمعنى الأعم) إلى حكم إلزامي وهذه الصلاحية تأخذها هذه السلطة ليس باعتبارها سلطة دينية بل سلطة تنظيمية وتدبيرية( ). أي بعبارة أخرى تمثل (سلطة مجتمعية مدنية)( ). حتى ولو كان الحاكم نبياً أو إماماً أو فقيهاً( ). منطقة الفراغ في القانون في البلاد الإسلامية، يعتبر التشريع الإسلامي من أهم مصادر القانون بعد الإشارة الصريحة إليه في الدستور. كون الفقه الإسلامي خاض في كلُّ مجالات الحياة، كبيرة وصغيرة، حتى بات مرجعاً مهماً لا يمكن الاستغناء عنه حتى لبعض الدول غير المسلمة لما يمتلكه من تنظيم ودقة في رسم خارطة التعايش العقلاني مع ظروف الطبيعية ومع تحديد نوع العلاقة بين الأفراد داخل المجتمع. كما هو الحال مع ما يعرف بـ(نظرية الضرورة) والتي اعتبرها البعض من الفقهاء أنها من متبنيات مجلس الدولة الفرنسي أبان الحرب العالمية الأولى، مع ان حقيقة هذه النظرية ينشأ مصدرها الأول في أحكام الشريعة الإسلامية. والتي مفادها منح سلطة الإدارة من التصرف بقدر من الحرية ومنحها بعض السلطات الخاصة في إطار المشروعية الاستثنائية، لأن سلامة الشعب هي القانون الأعلى الذي يجب أن يسمو على القوانين الوضعية( ). أي ان الإدارة خرجت عن مبدأ الالتزام بالقواعد القانونية المرسومة لها في وقت السلم والظروف الطبيعية إلى ممارسة سن قوانين وأنظمة وتعليمات تواجه حالة الاستثناء الطارئ كالحروب والفيضانات والأزمات الخانقة اقتصادياً واجتماعياً، فمثل هذه الظروف تحتاج الإدارة إلى سن القوانين بما تراه يتناسب وعبور الأزمة، وهذا ما يطلق عليه بالفراغ التشريعي، أو بما يسمى بالفقه الإسلامي الحديث (منطقة الفراغ). كما نجد أثرها واضحاً – أيضاً- في قانون العقوبات العراقي (مثلاً)، ففي بعض الجنايات يترك اختيار نوع العقوبة إلى صلاحيات القاضي وفق تصوراته لواقع الجريمة وملابساتها. ومن أخرى صلاحياته في اختيار إحدى العقوبتين اما السجن أو الغرامة المالية. فيكتفي – وفق قناعاته- بإحدى هاتين العقوبتين. وأيضاً لها أثرها الواضح في القانون المدني العراقي في أحكام العقود المسماة وحالة انتقال الملكية. وبالأخص في عقد المقايضة التي تتجلى فيها صورة منطقة الفراغ عند إثارة أحكام الشفعة ومقدار الأخذ بها في عقد المعاوضة؟! كون ان مبدأ الشفعة يسري مع أحكام البيع وهل المقايضة بيعاً؟ فبعض الفقهاء والشراح يذهب بعدم جواز سريان الشفعة على المقايضة كون الشفعة تسري مع أحكام البيع وليس مع أحكام المقايضة، وفريق آخر قال بجواز الأخذ بالشفعة لأن المقايضة نوع من أنواع البيوع. ومما يعزز هذا الرأي ان الشريعة الإسلامية لا تميز بين المقايضة والبيع بل تعتبرها بيعاً، لأن الغرض من إقرار الشفعة هو دفع الضرر عن الشفيع. فمبدأ الأخذ من عدمه هو فراغ تشريعي في البيئة الواحدة. وشبيه ذلك – ما اختلف عليه الفقهاء الفرنسيون بالنسبة لبيع ملك الغير، فكانت لهم ثلاثة آراء: أولاً: يرى بعضهم أن العقد لا يعتبر باطل بل هو قابل للفسخ لعدم تنفيذ البائع لالتزامه وهو نقل ملكية المبيع للمشتري. والفريق الثاني منهم يرى أن العقد باطل بطلاناً مطلقاً. لانعدام المحل أو السبب، فسبب التزام المشتري بدفع الثمن هو نقل الملكية وهذا غير ممكن بالنسبة إلى البائع. والفريق الثالث يرى أن العقد باطل بطلاناً نسبياً بسبب الغلط الذي وقع فيه المشتري في شخص البائع وفي صفة جوهرية في المبيع في وقت واحد. فبين هذه الآراء التي صدّرت أحكامها بالبطلان المطلق والبطلان النسبي وصحة العقد القابل للفسخ، هي مساحة كبيرة توفرت لحرية القاضي في إصدار حكمه، وهذه المساحة في الاختيار هي ذات المنطقة التي قصدها المشرع الإسلامي. وبعيداً عما يفهم أنها منطقة تزاحم – وان كانت هي الأخرى من آليات إملاء منطقة الفراغ- إلا أنها مساحة تتصدر التقدير وفق الحالة. كما تجلت منطقة الفراغ في القضايا المستحدثة التي لها حضورها المباشر في التعامل اليومي بين الناس، ففي القانون التجاري أوضح كيفية نشوء الشركة وأنواعها (التضامنية والمساهمة) ولكل منهما أحكام في المسؤولية والحقوق، فالشركة التضامنية (وهي شركة الأشخاص) يدخل فيها الشريك بكل ذمته المالية ويكون لدائني الشركة حق تقاضي حقوقهم من كلّ ممتلكات الشركاء. وأما الشركة المساهمة (وهي شركة الأموال) وتسمى بشركة التوصية بالحصص إذا كانت الحصص غير قابلة للتداول، وتسمى بشركة الأسهم إذا كانت الحصص قابلة للتداول. وبقدر ما يملك الشريك من الأسهم تكون حصته من الأرباح والخسائر. ولها حضورها أيضاً في القانون الدولي في قواعد وأحكام ونظم لعملية المرور والتي لم تكن قل زمن قصير ما يعادل 100 عام. فتطورت وتبلورت أنظمة الملاحة البحرية والجوية والبرية والنهرية. فكان من ذلك معاهدة باريس عام (1919) ومعاهدة شيكاغو عام (1944)( ) بما يخص المرور الجوي واستناداً إلى قول علماء القانون: ان من يملك رقبة الأرض ملك ما يعلوها إلى عنان السماء، وملك ما تحتها من تخوم الأرض. كما ولم يكن الإنسان يواجه المشكلة الدولية في توزيع المياه، فقد كانت المياة متوفرة وتنتقل من إقليم إلى آخر مجاور له، ولكن بعد ان تقدمت هندسة بناء السدود ازدادت الحاجة إلى المياه وأصبحت مسألة تنظيمها مسألة معقدة شديدة التعقيد في القانون الدولي. كما وأصبح استخراج النفط والغاز والثروات المعدنية من قاع البحار مسألة دولية في رسم حدود المياه الإقليمية لكل إقليم أو دولة. فيما كانت سابقاً ليست ذات شأن، فأصبحت اليوم الحاجة ملحة لتنظيم القانون الدولي. كما لمنطقة الفراغ حضورها في قانون حقوق الإنسان كما ظهر ذلك جلياً في معاهدة جنيف (1945) ومعاهدة لاهاي والبروتكولين الأول والثاني عام 1972 ولها أثرها أيضاً في المجال الأمني بعد تطور الآليات الأمنية، مثل الانصات السري والتصوير السري،وتسجيل المكالمات الهاتفية والسلكية واللاسلكية، وبعض الأساليب الجديدة في التحريات الأمنية، يقول الفقهاء بهذا الخصوص: ان مسألة التحريات الأمنية غالباً أو أحياناً تدور بين محظورين: التجسس المحظور شرعاً والآخر إهمال الأمن. فالتردد بين محظورين هي منطقة الفراغ تستوجب حكماً شرعياً أو قانونياً. مثال ذلك: فيما لو أشتبه على مسؤول الأمن داراً أو مكتباً يحتمل أن يكون مخبأ سريا لمحظورات أمنية فإذا ثبت الأمر وجب الاقتحام وإذا لم يثبت لم تجز المداهمة، فعدم التيقن هو مورد التردد بين محظورين. نظرية الضرورة في البدء، يستشف من عنوان هذه النظرية بأن هناك ضرورة ملحة جعلت المشرع أن يخالف القانون في الظروف غير الطبيعية، لأن الأصل هو تطبيق القانون بما يخدم الناس والمجتمع. فالتوقف في تطبيق القانون يلزمه تشريع خاص يمكن أن نطلق عليه بـ(تشريع أزمة) وهذا التشريع الجديد المؤقت في الغالب هو ما يسمى أحياناً أو بما يقترب من مصطلح منطقة الفراغ، كون ان الحالة الجديدة التي فرضت نفسها على المجتمع وحياة الناس وخطورتها يجب ان تواجه بتشريعات تخرج عن دور الرقابة بشكلها المعتاد لتحقق إبعاد المخاطر وتقليل الخسائر والتي يمكن ان تسجل امور جسيمة وفادحة في المجتمع. فكما يمكن أن يطلق على تشريعاتها بـ(قوانين أزمة) فهي قوانين لا يُستمد لها روح الاستمرار وفق الحالة الطبيعية وإنما تنتهي وينتهي العمل بها بعد زوال الأزمة أو الخطر المحدق. وهذه النظرية التي يعتقد أكثر الفقهاء هي من خلق مجلس الدولة الفرنسي انه قول يجانب الحقيقة، حيث نجد مداليلها في أحكام الشريعة الإسلامية، بيد انه لا مستعبد أن يكون مجلس الدولة الفرنسي قد اقتبسها من التاريخ الإسلامي والتشريعات الأوّل من صدر الإسلام، فقد جاء في الحديث الشريف: ((بعثتُ بالحنيفية السمحة)) وقوله (ص): ((ان الله يحب أن تؤتى رخصهُ كما يحب أن تؤتى عزائمه)) وقوله (ص): ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام))، كما ان قصة عمار بن ياسر من المصاديق البارزة لهذه النظرية حينما أُكره على سب النبي، وقد شكا عمار ذلك إلى الرسول (ص) وقال: يا رسول الله ما تُركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير. فقال (ص): كيف تجد قلبك؟ قال عمار: مطمئناً بالإيمان، فقال (ص) ان عادوا فعد، مع ان القتل هو حكم من سب رسول الله (ص)( ). ومن موقف آخر للخليفة الثاني عمر بن الخطاب الذي نهى عن قطع يد السارق في عام الرمادة، وهو العام الذي أصيبت فيه الجزيرة العربية بالمجاعة والقحط، وذلك تقديراً منه للظرف الاستثنائي المتمثل في حالة العوز والجوع التي أصابت الناس. فالهدف الأساس من هذه النظرية هو الأساس الوقائي لحفظ النفس من مخاطر قد تقع لا يقدر الإنسان على دفعها. وأرى ان مبدأ نظرية الضرورة يتماشى كثيراً بالتوافق والانسجام مع مفهوم (التقية) الذي يتمسك به الشيعة المسلمون، كون ان التقية هي وقاية النفس بالقول خلاف الإيمان به مع وجود مصدر الخطر المحدق فالمثل الذي تقدم به الأستاذ البرزنجي في قصة عمار بن ياسر حول نظرية الضرورة هو ما يطابق مبدأ التقية حرفياً ووصفياً. إذن المهم من نظرية الضرورة هو الفراغ التشريعي الذي يواجه المؤسسة التشريعية أمام الأزمات الحالكة والعاصفة التي تهدد كيان المجتمع وأرواح الناس كالكوارث الطبيعية والأزمات السياسية الخانقة والحروب. وهذا الفراغ هو ما نعنيه في دراستنا حول مفهوم منطقة الفراغ التشريعي.
الشركات في الفقه والقانون: قديماً لم يتبلور مفهوم الشركة مثلما هو عليه اليوم عند فقهاء المسلمين, فمنهم من أكد فكرة العقد في الشركة وهذا ما يخص شركات الأشخاص التي تكون فيها حرية الأطراف أكثر. ومنهم من أكد على نفي مفهوم العقد كما في شركات الأموال التي قيدت إرادة الشركاء فيها. بيد ان لكل من الفقهاء المختلفين حجج وأسانيده المنطقية التي لا يمكن تجاوزها, والى ذلك ذهب أصحاب فكرة العقد من أمثال الشيخ الطوسي. في كتابه المبسوط في الفقه: ((الشركة جائزة لقوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾( ))) فجعل الغنيمة مشتركة بين الغانمين وبين أهل الخمس, وجعل الخمس مشتركاً بين أهل الخمس ومثلها في قوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنثَيَيْنِ﴾( ) فالتركة مشتركة بين الورثة, ومثلها أيضاً قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ.....﴾( ) فالصدقات جعلها مشتركة وهي تدخل في إطار الشركة. ويؤكد الشيخ الطوسي بقوله: وهذا عليه إجماع الفرقة, بل إجماع المسلمين( ). ويستطرد الشيخ الطوسي في كتاب آخر له المسمى بـ(كتاب الخلاف في الأحكام) ويقال له أيضاً (مسائل الخلاف) وهو مرتب على ترتيب كتب الفقه, وقد صرح فيه بأنه ألفه بعد كتابي (التهذيب) و(الاستبصار) وناظر فيه المخالفين جميعاً. يقول فيه وهو بصدد ذكر محل الشركة: ((لا تنعقد الشركة إلا في مالين مثلين في جميع صفاتهما ويخلطان, ويأذن كُلّ واحد من الشريكين لصاحبه في التصرف فيه, وبه قال الشافعي, وقال أبو حنيفة: تنعقد الشركة بالقول وإن لم يخالطهما بان يعينا المال ويحضراه ويقولا: قد تشاركنا في ذلك, صحت الشركة. وقيل هذه شركة العنان... دليلنا: ان ما اعتبرناه مجمع على انعقاد الشركة به, وليس على انعقادها بما قاله دليل, فوجب بطلانه))( ). ثم يقول: ((الشركة على أربعة أضرب: شركة المفاوضة, وشركة العنان, وشركة الأبدان, وشركة الوجوه)). فمن العلماء ما توافق مع رأي الطوسي على عقدية الشركة أمثال المحقق الثاني علي بن الحسين الكركي (ت940هـ) في كتابه (جامع المقاصد في شرح القواعد للعلاقة الحلي) وصاحب كتاب (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام) محمد حسن بن باقر النجفي (ت1266هـ) وصاحب (العروة الوثقى) السيد محمد كاظم اليزدي (ت1337هـ)، وصاحب المستمسك للسيد محسن الحكيم (ت1390هـ). أما من أنكرها من العلماء هم صاحب الحدائق (الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة) للشيخ يوسف بن أحمد الشهير بالمحدّث البحراني (ت1186هـ). والسيد البروجردي في قوله: ((والذي يقتضيه التتبع في كلام القدماء من أصحابنا, عدم وجود عقد لنا في عداد سائر العقود, يسمّى بالشركة, بل المزج تمام العلة لحصول الشركة)). ثم يضيف موضحاً: ((أنه لمّا كان مقتضى الشركة عدم جواز تصرف أحد الشريكين إلا بأذن شريكه, وكان الناس يريدون مزج أموالهم وتصرف كُلّ واحد من الشريكين بالبيع والشراء, ليحصل الفائدة لهما, فلا محالة احتاج الشريكان ان يوكل كل واحد منهما الآخر في جميع التصرفات التجارية أو يوكل أحدهما الآخر فقط, من دون عكس؛ بأن يفوض أمر التجارة إلى احدهما, ثم شاع بينهم إجراء صيغة التوكيل والأذن بلفظ (تشاركنا) وأمثاله, فلفظ (تشاركنا) لا دخالة له في حصول الشركة والإشاعة, وإنما المؤثر فيها عندنا هو المزج, وفائدة اللفظ الدلالة على التوكل, ولذا لا يجب في أداء هذا المقصود قول (تشاركنا), بل يكفي فيه مزج المالين, ثم أذن كل منهما للآخر بأيّ لفظ كان)). ثم يؤكد البروجردي قائلاً: ((ما ذكره المتأخرون في عداد سائر العقود وسموه عقد الشركة لا أثر له في كلام القدماء, بل كان عندهم من شعب التوكيل, ويدل عليه: أنّه لو فسخ أحد الشريكين ما تعاقدا عليه بعد مزج المالين, لم يكن للآخر التصرف في المال الممزوج, ولكن يجوز للفاسخ التصرف فيه ما لم يفسخ الآخر, لأن فسخ أحدهما إبطال لوكالة الآخر وعزل له, ولكن وكالة نفسه باقية))( ). أما المحدث البحراني فهو ينفي تماماً ان يكون ثمة معنى للشركة يدخلها في جملة العقود, فلفظ الشركة كما يعتقد لا تزيد عن المعنى اللغوي والعرفي وربما قد يكون سبب العقد بأن يشتري اثنان مالاً أنصافاً أو أثلاثاً, أو يشتري نصف حيوان بنصف حيوان آخر( ). أما تعريفات الشركة عند فقهاء أهل السُنّة تمثلت فيما قاله: أولاً: الحنفية: ((الشركة عبارة عن عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح))( ). ثانياً: المالكية: ((هي إذن في التصرف لهما مع أنفسهما, أي أن يأذن كل من الشريكين لصاحبه في أن يتصرف في مالٍ لهما مع إبقاء حق التصرف لكلٍ منهما))( ). ثالثاً: الحنابلة: ((هي الاجتماع في استحقاقٍ أو تصرف))( ). رابعاً: الشافعية: ((ثبوت الحق في شيء لأثنين فأكثر على جهة الشيوع))( ). إلى هنا نكون قد استعرضنا ما قاله الفقه واختلف فيه الفقهاء. أما أصحاب القانون فقد عَرّفوا الشركة: ((الشركة عقد بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهم في مشروع مالي (مشروع اقتصادي) بتقديم حصة من مالٍ أو عمل, لاقتسام ما قد ينشأ عن هذا المشروع من ربح أو خسارة))( ). ويتضح أن تعريف الشركة عند علماء السُنة هي الأقرب إلى تعريف القانونين. الذين هم أكثر قرباً إلى واقع الشركة. ومن التعريف القانوني يتضح ان المشرع رجح المعنى القانوني الأول للشركة فركز على كونها عقداً, وهذا ما يتوفر من اجلها قيام الأركان العامة لإبرام أي عقد, وهي الرضا والمحل والسبب, كما ينبغي ان تتوافر فيها أركان خاصة تستلزمها الطبيعة الخاصة لعقد الشركة. ومنها الشركاء ومساهمة كل منهم في رأس المال؛ عملٍ أو مال, واقتسام الشركاء الربح والخسارة, وتوافر نية المشاركة. ولذا تميّز عقد الشركة بالخصائص الآتية: 1- أنه من العقود المسماة. 2-أنه من عقود المعاوضة. 3- انه من العقود الملزمة للجانبين. 4- الآثار المترتبة على عقد الشركة. أ-الحقوق والالتزامات. ب- الشخصية المعنوية للشركة. وقد عرف القانونيون الشخصية المعنوية للشركة بالقول: ان الشركة شخص اعتباري مستقل عن شخصية كُلّ من الشركاء ويتمتع بمعظم خصائص الأشخاص, فله ذمة مستقلة عن ذمم الشركاء, وله موطن خاص, ويتمتع بأهلية للوجوب وأهلية للأداء( ). وقد أختلف علماء القانون في تفسير الشخصية المعنوية، فمنهم من قال: انها مجازاً قانونياً يقصد بها تبسيط الأمور من الناحية العملية. ومنهم من قال: انها حقيقة قانونية لها حياة خاصة، ووجود محسوس لا يختلف عن وجود الأشخاص الطبيعيين. وأيضاً قال بعضهم: بأنها ليست حقيقة ولا مجازاً, وانما هي تعبير عن قيام ذمة مالية مستقلة عن ذمم الشركاء لا تستقر في شخص مستقل عن أشخاص الشركاء, ولكنها تكون مخصصة للوفاء بديون دائني الشركة( ). أما في الفقه الإسلامي فقد عُرفت الشخصية المعنوية بالقول: الوصف القائم بالشيء بحيث يكون له وجود حكمي مستقل, وذمة تؤهله لأن يكون له حقوق وعليه واجبات. كالدولة وبيت المال, والمؤسسة والشركة, وجهة الوقف, والمسجد( ). وسميت بالفقه الإسلامي بالشخصية الحكمية في مقابل الشخصية الحقيقية. لأن الشارع حكم له بالوصف الذي ثبت بالأصل للإنسان. والشخص الحكمي دائماً يمثله شخص حقيقي, أو مجموعة أشخاص، مثل رئيس الدولة بالنسبة للدولة, ووزير المالية بالنظر إلى بيت المال, وناظر الوقف بالنظر إلى الوقف. أنواع الشركات: قُسمت الشركات وفق معايير محددة نَصّ عليها الفقه وأشارت إليها النصوص القانونية. أولاً: الشركات التجارية والمدنية. ثانياً: الشركات حسب ملكية رأس المال, (خاصة, عامة, مختلطة). ثالثاً: شركات الأشخاص وشركات الأموال. وقد أعتمد قانون الشركات العراقي التصنيف الثالث من أنواع الشركات, حيث جاء في القانون رقم 36 لعام 1983 وأيضاً في القانون 21 لعام 1997 المعدل ما يلي: أولاً: شركات الأشخاص وتضم (الشركة التضامنية- الشركة البسيطة- المشروع الفردي). ثانياً: شركات الأموال وتضم (الشركة المساهمة والشركة المحدودة).
الفصل الثالث معالجات منطقة الفراغ
معالجات منطقة الفراغ: على الفقيه (المجتهد) ان يمتلك أدواته الفقهية أو ما يسميه البعض بالآليات الفقهية التي تمكنّه من تغطية مساحة المتغيرات غير المحدودة بالثوابت المحدودة من النصوص. ومن هذه الآليات: أولاً: التزاحم: ومعناه؛ ان يرد على الشخص المكلف حكمان مختلفان متنافيان من غير ان يكون التنافي في الدليلين من ناحية الجعل والتشريع, بل يكون التنافي سببه عجز المكلف نفسه من الامتثال إلى الحكمين معاً في وقت واحد. والتزاحم يختلف عن التعارض, إذ ان التعارض يحصل فيه التنافي بين الدليلين من حيث الجعل والتشريع كما لو ورد دليل على حرمة عمل ودليل آخر على وجوبه. فيما التزاحم ينحسر عن عجز المكلف نفسه في تطبيق حكمين لم يحصل فيهما التنافي في الدليلين من ناحية الجعل والتشريع في وقت واحد. ومثال ذلك ما ذكرناه سابقاً في موضوع (تحديد منطقة الفراغ) في الفصل الأول وهو حالة الطبيب الجراح ومسألة حضوره الفوري في غرفة العمليات لإنقاذ حياة إنسان مسلم وهو متوجه إلى إقامة فريضة الصلاة في آخر أوقاتها. ومن مثال آخر... هو انتزاع إحدى الكليتين من أجسام الأصحاء وزرعها في أجسام المصابين بعطل الكليتين, فان انتزاع إحدى الكليتين من جسم الأصحاء في حد ذاته عمل حرام, لأنه من الأضرار البليغة بالنفس, ولا إشكال في حرمة الإضرار بالنفس إذا كان بليغاً, ولكن هذه الحرمة ترتفع إذا زاحمه حكم أهم وهو وجوب إنقاذ حياة المصاب بعطل الكليتين وهذا المثال يقترب إلى صفة التعارض أكثر مما يقترب إلى التزاحم في إطاره الخاص. ولكن يقترب له في الإطار العام من حيث تقديم مقبولية العقل ورجحان ما يقرره من تقديم الأهم على المهم. ثانياً: الأحكام الواقعية الثانوية: في علم الفقه, حدد الفقهاء أحكاماً أولية وأحكاماً ثانوية فربما يكون الحكم الأولي واجباً ويكون الحكم الثانوي محرماً أو بالعكس فمثلاً عند نشوب حريق في مخزن كبير أو سوق داخل المدينة يستوجب من عمال الإطفاء إلى تخريب بعض الأبنية المجاورة لإيقاف الحريق ومنعه من التأثير على البنايات والأسواق الأخرى المجاورة. ففي هذه الحالة الحكم بتحريم هدم البنايات المجاورة ترتفع وهي ما يطلق عليها الفقيه بالحكم الثانوي. وشبيهاً بذلك ما ذهب إليه احد الفقهاء المعاصرين (الشيخ المنتظري) في مسألة حكم المرتد والذي أكد على أن حكم المرتد بالعنوان الأولي لا إشكال فيه وإنما الإشكال ينجم في العنوان الثانوي والذي يلازم الارتداد وهو زعزعزة العقيدة الإسلامية في المجتمع أو التهديد بأمن المجتمع( ). ثالثاً: الأحكام الظاهرية: ويقصد به الفقهاء حرمة الأعمال العدوانية. ومثال ذلك ما يحصل أثناء الحروب من قصف مدفعي متبادل بين الطرفين, فالمقابلة بالمثل وردع الطرف البادئ بالعدوان كدليل لجواز هذا العمل هو دليل لا ينهض شرعاً سيما وان القصف لا يقع غالباً على الطرف المتعدي وإنما يقع على البيوت والعوائل الآمنة التي لم تمارس أي عدوان ولا هي بالمشجعة للعدوان فيكون هذا العمل محرماً على الطرف الراد بمثله، إلا أن التوجه الفقهي الصحيح لمثل هذا العمل هو السعي لإيقاف القصف العدواني من ناحية العدو وإجباره على الكف عن العدوان. فالعمل المقابل بمقابلة العدو القصف بالقصف مبادلة محرمة في العنوان الأولي إلا أن التزاحم بين الحكمين يرفع هذه الحرمة وهو من الأحكام العقلية القطعية في باب تقديم الأهم على المهم... والعمل على إجبار العدو عن الكّف عن القصف أهم من حرمة القصف في مثل هذه الضرورات الحربية كما أجمع الفقهاء على ذلك. إحلال الحكم القانوني محل الحكم الأولي الحكم الأولي: هو الحكم أو الخطاب الشرعي الموجه إلى المكلفين ويشمل الأحكام الخمسة المعروفة: الواجب، الحرام، المستحب، المكروه، المباح. أما الحكم الثانوي: هو الحكم الذي يتعلق بموضوع الحكم الأولي بعد أن يطرأ عليه ويحوله من حكماً أولياً إلى حكماً ثانوياً، كتحول حكم الصيام والحج من الوجوب إلى الحرمة، وحكم الغسل والوضوء إلى الحرمة ووجوب التيمم, وحكم شرب الخمر وأكل الميتة من الحرمة إلى الإباحة أو الوجوب أحياناً. فيجوز أكل الميتة أو المسكر إذا اقتضت الضرورة بذلك. واضطر المكلف إليه اضطراراً. ويحرم الصوم والحج إذا كان الصوم والحج يضران بالمكلف ضرراً بليغاً ويحرم عليه الغسل والوضوء إذا كان استعمال الماء يضره ضرراً بليغاً. كما إن الحكم في الربا هو الحرمة تكليفاً, وفساد المعاملة وضعاً, فإذا طرأ على الموضوع (التعاطي بين الوالد والولد) ارتفعت الحرمة والتكليف, كما يرتفع الفساد وضعاً لقوله (عليه السلام): ((لا ربا بين الوالد والولد)). ولقد ذكر سبحانه وتعالى في كتابه العزيز غلبة العناوين الثانوية على موضوعات الأحكام الأولية في كثير من الموارد ومنها: ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾( ) ﴿ فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾( ) ﴿ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾( ) ﴿ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾( ) ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾( ) ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾( ) ويقول الرسول (ص): ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)). وعن أبي عبد الله الصادق في الحديث المعروف بالرفع المعروف عن حريز بن عبد الله قال: قال رسول الله(ص): ((رفع عن أمتي تسعة أشياء 1- الخطأ 2-النسيان 3- ما أكرهوا عليه 4- ما لا يعلمون 5- ما لا يطيقون 6- ما اضطروا إليه. 7-الحسد. 8- الطيرة 9- التفكير في الوسوسة في الخلقة, ما لم ينطقوا بشفة))( ). والعناوين الثانوية تُعدّ باباً واسعاً من أبواب الاجتهاد, كما وتعتبر واحدة من أهم الآليات الاجتهادية المعروفة عند الفقهاء. العنوان الثانوي في المسائل المستجدة المستحدثة مما لا شك فيه ان الفقه يتساير مع تطورات المجتمع في أغلب حركته للمسائل المستحدثة, وله رؤيته التحكمية في بناء الدولة, كما له رؤيته في مجالاتها المتعددة كالسياسة والإدارة وأيضاً في المسائل المستحدثة في الطب والتكنولوجيا والاختصاصات العلمية الدقيقة التي تستوجب الكفاءات العلمية التي يحتاجها المسلمون, فهي حاجة ماسة وملحة تدخل في مجال الحكم الأولي, فتطور الخدمة الطبية والخدمة الهندسية والاكتفاء الذاتي في المجالين الصناعي والزراعي والصناعة العسكرية هي مما يوجب تقوية الدولة وعدم خضوعها للآخر المهيمن كون ان نفوذ الآخر القوي بتقدم هذه الخدمات يفرض نوعاً من الهيمنة وسلطنته على الدولة المسلمة, وقد حرّم سبحانه وتعالى ذلك بقوله: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾( ) والسبيل: هو السلطان والنفوذ والتحكم بأمور أمة المسلمين. كما ان العقود والاتفاقيات والمعاهدات الدولية مع الأنظمة غير الإسلامية في أمور السياسة والاقتصاد وتبادل الخبرات العسكرية والاقتصادية والتمثيل الدبلوماسي هي من الأمور المحرّمة بالعنوان الأولي بدليل الآيات الأوائل من سورة التوبة: ﴿بَرَاءَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ...﴾( ) ولكنها تجوز وتجب بمقتضى العناوين الثانوية وهي عناوين المصلحة والضرورة. كما منع الإسلام من الاحتكام إلى المحاكم المدنية في الأنظمة غير الإسلامية في الحكم الأولي إلا انه جوّز ذلك لئلا يقع ضرراً بليغاً بالمؤمنين في شؤونهم الاقتصادية والعائلية وأجاز لهم مراجعة المحاكم المدنية في أمور التنظيم المدني لاستعادة الحقوق استدلالاً من الحديث الشريف ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) فالأضرار البليغة هي العنوان الثانوي الذي يقلب الحكم الأولي في الحرمة إلى الجواز في هذه الموارد والموارد المشابهة لها. وهي كثيرةً في حياتنا المعاصرة. سيما وقد أبتلي الكثير من المسلمين العراقيين اليوم بهجرتهم العراق إلى مختلف الدول الأوروبية والأمريكية في تعاملاتهم اليومية وما يترتب عليها من واجبات وحقوق وفق أنظمة وقوانين تلك الدول التي تتناول القوانين الوضعية الأرضية التي لم يقر أو يجيزها الفقه في بعضها ولكنها قوانين إنسانية تجلت فيها العدالة والعدل وروح الإسلام التي ينشدها من رسالته الخالدة. اما معالجات الفراغ التشريعي في القانون فيعتمد مشرّعوه على الكليات العليا لمصادر القانون أو ما يسمى بالقواعد العامة فضلاً عما نجم وينجم من اتفاقات ومعاهدات دولية في إيجاد قوانين منظمة بما يهم المستحدث والمتعلق بين الدول، فمثلاً في حالة المستحدث في نظم المرور الجوي أو البحري أو البري بين الدول فان ذلك يحتاج إلى معاهدة جديدة تجمع بين الدول المعنية لحل الإشكال المستحدث أو لمرور الأزمة التي كان ينبغي لها نصاً تشريعياً. وربما قد يكون في قوانين الدول الأخرى ما يسّد الفراغ الحاصل في التشريع، كما فعل الفقيه عبد الرزاق السنهوري حينما عمل على صياغة القانون المدني العراقي عام 1943م الذي جعل من الشريعة الإسلامية مصدراً رئيساً للتقنين العراقي الجديد، مع تطعيمه بتشريعات من التقنين المدني المصريّ الجديد المستمد في اغلبه من التقنيات الغرّبية.( ) وبشكل عام نخلص من دراستنا لمنطقة الفراغ: بأن القانون هو الذي يسير وراء خطوات المجتمع، وليس المجتمع سائراً وراء القانون. وهذا ما ينّم عن الوظيفة الحقيقية للتشريع بحركيته ومرونته ومسايرته لمتطلبات الحياة وضروراتها ومستجداتها، وهذا بعيداً عما يعتقده البعض من شمولية وتكاملية التشريع واكتمالية المنظومة القانونية.
الخاتمة: لا يمكن أن ينحسر دور الاجتهاد في التشريعات السماوية والأرضية على ما قدمه السلف الصالح، ومن ثم الدعوة إلى غلق هذا الباب بحجة لم يترك الأولون إلى المتأخرين من شيء، وكأن لم يحصل متطوراً أو مستحدثاً لم ينله تشريعاً من قبل الأوائل من الفقهاء. فالثورة المعلوماتية والتطور الهائل بالتكنولوجيا وحاجات الإنسان وبلائه في زحمة هذا الانفجار المعرفي والخدمي لابد له من إيجاد أحكام شرعية توجه مساره وتنظم حياته وتحفظ له حيثياته وحقوقه. فالاجتهاد عقلاً ومنطقاً يجب أن يواكب مستحدثات العصر وليس بما يعتقد البعض من الاكتفاء بما جاء في الكتاب والسنة والبعض يعتقد بما جاء بهما وبما شرعه المجتهدون في أزمانهم الماضية وكأن مسائل الابتلاء قد توقفنا ولم يحصل من المستحدث ما يوجب معرفة حكمه، وهذا ما قال به أبي إسحاق الشاطبي (ت790هـ-1388م) في كتابه (الموافقات) وخلاصته: ((أنه لابد من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً في حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد. عند ذلك لابد للاجتهاد في كل زمان، لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان))( ). نقول: ان للاجتهاد آماد فسيحة وآفاق رحبة إلا أننا – ووفق هذا البحث- نتطلع إلى المسائل التي لم يرد فيها نص، حيث ان المهمة صعبة على المجتهد ودقيقة، فتكون مشروطة في تحقيق أغراضها ومقاصدها بمدى كفاءة المجتهد وتوسع قدرته وإلمامه بقضايا زمانه، وضرورات عصره، فهو مطالب ان ينتزع حكماً شرعياً للواقعة المستجدة تلاءم مقصد الشريعة في جلب المصالح ودرء المفاسد، وهو غرض أساسي لرفع المشقة والحرج عن المكلّف في تحقيق مصلحته مع مراعاة سياق الضوابط والشروط المعتبرة نصاً وعقلاً، وبذلك يُنجي المجتهد نفسه من الوقوع في التعطيل والجمود سواء بإعاقة العقل عن أداء دوره أو إلجام النص وإزاحته عن واقع الأحداث. ومن مجمل هذا البحث قد سلطنا كثير من الضوء على المستجدات التي لم يكن فيها نصاً أو تشريعاً لكثير من مواقف البلاء والضرورة، فأظهرنا من ذلك دور الاجتهاد في إملاء الفراغ التشريعي سواء في الفقه كان أم بالقانون. مع ما يلحظ من ثنايا هذا البحث عظمة دور الاجتهاد في استيعاب فهم الواقع ضمن إطار النص المرجع، وفي ضوء القدرات والاستطاعات المتوفرة، وضمن القضايا والإشكالات التي تطرحها سياقات العصر وتمخّضات الأحداث، لتكتمل بذلك عناصر المعادلة وهي: النص والعقل والحادثة مع ملاحظة توفر المعارف والتخصصات والأدوات المساعدة التقنية والعلمية التي تمكن من التعامل مع حركة الحياة والمجتمع، من شأنها أن تساعد على تولد الأفكار وتجديدها، مجردةً عن المشاعر الضيقة والأماني القصيرة المدى. والحمد لله رب العالمين
صادق جعفر الروازق 1/1/2013 مصادر البحث: 1-القرآن الكريم. 2-إسلاميات السنهوري باشا، محمد عمارة، القاهرة، دار الوفاء، الطبعة الأولى، 2006م. 3-اقتصادنا، السيد محمد باقر الصدر، وهو أول نتاج إسلامي يعالج المسائل الاقتصادية وفق منهج الشريعة الإسلامية. 4-أصول الفقه، الشيخ الخضري. 5-أصول الكافي، محمد بن يعقوب الكليني (329هـ)، تحقيق علي أكبر غفاري، منشورات المكتبة الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388هـ. 6-الاجتهاد والتجديد، محمد مهدي شمس الدين. 7-الاجتهاد والحياة، حوار على الورق، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، إعداد محمد الحسيني، 1997م. 8-جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، محمد حسن النجفي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة السابعة. 9-الحدائق الناظرة في أحكام العترة الطاهرة، يوسف البحراني، مؤسسة النشر الإسلامي، جماعة مدرسين. 10-الخلاف، الشيخ الطوسي (ت460هـ)، دار الكتب العلمية. 11-الدين العلماني، د. عبد الكريم سروش، ترجمة احمد القبانجي. 12-سنن الترمذي، محمد بن عيسى الترمذي (ت279هـ)، تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان، دار الفكر، الطبعة الثانية، بيروت، 1403هـ. 13-شرح قانون الشركات التجارية العراقي، د. خالد الشاوي، الطبعة الأولى، مطبعة الشعب، بغداد، 1968م. 14-الشركات التجارية، علي حسين يونس، مطبعة الاعتماد، مصر. 15-الشركة في الإسلام، محمد علي المدرسي اليزدي، الطبعة الأولى، 1414هـ. 16-الشركة بين الشريعة الإسلامية والقانون المدني، عبد المحسن فضل الله. 17-الشركة المساهمة في النظام السعودي، دراسة مقارنة بالفقه الإسلامي، د. صالح بن زاين المرزوقي (رسالة دكتوراه). 18-الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي، دار الفكر، سوريا، 1989م. 19-فقه الشركة، محمد حسين فضل الله، تقريرات محمد الحسيني، دار الملاك، 2003م. 20-فقه الشركة على نهج الفقه والقانون، عبد الكريم الموسوي الاردبيلي، مكتبة الإعلام الإسلامي، الطبعة الأولى، 1414هـ. 21-القانون الدولي العام، د. عصام العطية، الطبعة السادسة. 22-القانون التجاري اللبناني، د. مصطفى كمال طه، الطبعة الثانية، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1975م. 23-القانون التجاري العراقي. 24-القبض والبسط في الشريعة، د. عبد الكريم سروش، ترجمة د. دلال عباس، دار الجديد، الطبعة الأولى، بيروت، 2002م. 25-القضاء الإداري والرقابة على أعمال الإدارة، د. عصام عبد الوهاب البرزنجي، ملزمة دراسية صادرة من كلية القانون، جامعة بغداد. 26-المبسوط في الفقه، الشيخ الطوسي (ت460هـ). 27-محمد مهدي شمس الدين، دراسة في رؤاه الإصلاحية، د. حسين رحال، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2010م. 28-الموافقات في أصول الأحكام، أبو إسحاق الشاطبي، الطبعة الثانية، مطبعة دار المعرفة، بيروت، 1975م. 29-المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، الدكتور مصطفى الزلمي والأستاذ عبد الباقي البكري، بغداد، 2009م. 30-مسائل حرجة في فقه المرأة، محمد مهدي شمس الدين. 31-مستمسك العروة الوثقى، محسن الحكيم، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1384هـ. 32-الموفقيات، الزبير بن بكار (ت256هـ)، تحقيق: د. سامي مكي العاني، مطبعة العاني، بغداد. 33-الوجيز في القانون التجاري، د. جمال عوض. 34-وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الحر العاملي محمد بن الحسن بن علي (ت1104هـ)، طبع المكتبة الإسلامية.
#صادق_جعفر_الروازق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاهوار في جنوب العراق
-
مشكلات المراهقة والشباب في الوطن العربي
-
مسألة الحرية في مدوّنة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
-
تجديد العقل النهضوي
-
مؤلف وكتاب
المزيد.....
-
الأغذية العالمي يحذر: الجوع ينتشر بكل مكان في قطاع غزة
-
وزير الخارجية السوري: لن نتوانى عن تقديم من تورط بالتعذيب بـ
...
-
الخارجية الإيطالية: اعتقال المراسلة سيسيليا سالا في طهران
-
العراق.. اعتقال عصابتين تمارسان تجارة -بيع أطفال- في محافظتي
...
-
تركيا: اعتقال مطلوب دولي بشبهة الانتماء إلى -داعش-
-
تحت ضغط أميركي.. سحب -تقرير المجاعة- بشأن غزة
-
-سوريا الجديدة-.. كيف توازن بين ضبط الأمن ومخاوف الأقليات؟
-
إنفوغرافيك.. اللاجئون السوريون يعودون إلى وطنهم
-
ارتفاع وفيات المهاجرين لإسبانيا عبر الأطلسي في 2024
-
مصدر أمني: ضبط أجهزة تجسس بين خيام النازحين في غزة
المزيد.....
-
التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من
...
/ هيثم الفقى
-
محاضرات في الترجمة القانونية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة
...
/ سعيد زيوش
-
قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية
...
/ محمد أوبالاك
-
الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات
...
/ محمد أوبالاك
-
أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف
...
/ نجم الدين فارس
-
قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه
/ القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ اكرم زاده الكوردي
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ أكرم زاده الكوردي
-
حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما
...
/ اكرم زاده الكوردي
المزيد.....
|