كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 4067 - 2013 / 4 / 19 - 09:55
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المدخل: فترة ما قبل حرب الخليج الثالثة 2003
لم تقدم الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً أية مساعدة حقيقية وفعلية للمعارضة العراقية في نضالها من أجل إسقاط النظام الدكتاتوري قبل خوض الحرب الخارجية في العام 2003. وما الأموال التي دفعتها أو وضعتها تحت تصرف أبرز قوى المعارضة, بما في ذلك الصرف الباذخ على مؤتمر المعارضة ببيروت في ربيع العام 1991 ومنذ دفع 98 مليون دولار أمريكي, فلم تكن الأخيرة سوى سبباً لنشوء خلافات إضافية في صفوف المعارضة العراقية المتعاونة مع الإدارة الأمريكية حول توزيعها وسبل استخدامها. ومنذ أن عقد مؤتمر بيروت في العام 1991 وأثناء الانتفاضة الشعبية, تفاقم التدخل الفعلي والمباشر من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والمملكة العربية السعودية وإيران وسوريا وبعض دول الخليج العربي في شؤون المعارضة العراقية. وكان المؤتمر الوطني العراقي برئاسة الدكتور أحمد الجلبي, الذي كان قد تأسس بوحي من الولايات المتحدة الأمريكية ودعمها , هو سبيلها في هذا التدخل في شؤون المعارضة وفي شد أغلب قوى المعارضة العراقية المقيمة في الخارج أو في إقليم كردستان العراق لسياسات ومواقف الولايات المتحدة بالعراق. ولم يكن هذا يعني عدم وجود خلافات بين الدكتور أحمد الجلبي وتلك الجهات.
لم يكن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في حينها راغباً بشن حرب خارجية ضد النظام العراقي, ولكنه مارس توجيه الضربات العسكرية وتشديد الحصار الاقتصادي الدولي من أجل إضعاف النظام وتحجيمه في منطقة الخليج والشرق الأوسط, ولكن هذه الإجراءات تسببت بطحن الشعب العراقي جوعاً وسقوط الكثير من الضحايا العسكريين والمدنيين وتدمير الكثير من البنى التحتية أيضاً.
إلا إن مجيء جورج دبليو بوش إلى البيت الأبيض قد سهل وعجل في صعود صقور اللبرالية الجديدة والمحافظين الجدد وممارسة سياساتها العسكرية القائمة على الضربات "الاستباقية" وإشاعة الخوف من القدرة العسكرية الأمريكية, إضافة إلى ممارسة سياساتها الاقتصادية لصالح الاحتكارات الأمريكية الكبرى والشركات العابرة للقارات من جهة, والمنهكة والمستنزفة لاقتصاديات الدول النامية من جهة أخرى, وهي التي شجعت على توجه الولايات المتحدة صوب سياسة جديدة إزاء النظام العراقي.
كان الوضع هكذا قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. ولكن وحال وقوع العدوان الإجرامي في الحادي عشر من سبتمبر في العام 2001 من جانب تنظيم القاعدة الإجرامي وبدعم من دولة طالبان الإسلامية السياسية المتطرفة في أفغانستان, حين تم "تحويل اتجاه أربع طائرات نقل مدني تجارية وتوجيهها لتصطدم بأهداف محددة نجحت في ثلاث منها. وتمثلت الأهداف في برجي مركز التجارة الدولية بمنهاتن ومقر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون). "سقط نتيجة لهذه الأحداث 2973 ضحية و 24 مفقودا، إضافة لآلاف الجرحى والمصابين بأمراض جراء استنشاق دخان الحرائق والأبخرة السامة" . فتحت هذه العمليات الإرهابية الدولية الأبواب على مصارعها أمام سياسة القوى الجديدة في البيت الأبيض, فكانت الحرب ضد أفغانستان والتحضير للحرب ضد النظام العراقي. وكان المؤتمر الوطني العراقي وبعض القوى السياسية الأخرى تسعى للحصول على دعم مباشر لإسقاط الدكتاتورية بنفسها وبدون حرب خارجية ولكنها عجزت عن ذلك. وواحدة من تلك المحاولات تبناها الدكتور أحمد الجلبي وهيأ لها بالتعاون مع وكالة المخابرات المركزية وبدعم من القوى الكردستانية انطلاقام من أربيل, ولكنها فشلت بسبب رفض الإدارة الأمريكية دعم العملية في آخر لحظة أدت إلى فشلها وإلى تعريض بضعة مئات ممن كان مهيئاً لهذه العملية لمخاطر جمة جرى ترحيل الكثير منهم إلى الولايات المتحدة والبعض الآخر تعرض لمخاطر أخرى حين صعود القوات العراقية على كردستان أثناء الصراع الكردي-الكردي في العام 1996. بعد ذلك تم التوافق بين الإدارة الأمريكية الجديدة, التي كانت تنشد الحرب فعلاً, وأغلب قوى المعارضة التي رأت في الحرب خير وسيلة وأسهلها للخلاص من حكم البعث والدكتاتور صدام حسين. وحين قررت الإدارة الأمريكية شن الحرب فعلاً, قررت أيضاً منع المعارضة العراقية من المشاركة في النضال للإطاحة بالنظام وجمدت نشاطاتها النضالية ضد النظام وحصرتها بالدعاية للحرب الخارجية وفضح جرائم النظام العراقي والقبول بالحصار الاقتصادي الدولي دون إثارة المشاعر ضده وتأمين معلومات مهمة حول الوضع في العراق, إضافة إلى ترك مهمة الإطاحة بالنظام الدكتاتوري بيد القوات الأمريكية وقوات الدول الأخرى المتحالفة معها. كما طلبت من الأحزاب السياسية العراقية تزويدها بعدد كبير من الخبراء والسياسيين العراقيين لتقديم الدراسات الضرورية لها باتجاهين:
1) عن واقع العراق حينذاك والمشكلات السياسية والاجتماعية والقومية التي يعاني منها المجتمع.
2) سبل تغيير واقع العراق في المرحلة ما بعد الحرب وحل المشكلات الكبيرة التي تفاقمت عبر حروب النظام وسياساته المناهضة للشعب, وللكرد على نحو خاص ولكل القوى المعارضة له.
تؤكد المعطيات التي تحت تصرفنا وتصريحات الذين عملوا ضمن هذه المجموعات الكبيرة من الخبراء في مختلف الاختصاصات الاقتصادية والقانونية والثقافية والسياسية والنفسية بأن الولايات المتحدة لم تكن مهتمة أصلاً بالاستفادة منهم ولا من التقارير والمقترحات الكثيرة التي أعدوها والتي قدمت للإدارة الأمريكية وفريق العمل الأمريكي مع العراقيين, والتي بذل جهد كبير لإنجازها. وحين وصول هؤلاء الخبراء إلى العراق بعد سقوط الدكتاتورية, استخدموا كمترجمين أو كخبراء لا عمل لهم غير الجلوس والانتظار وتسلم الرواتب العالية من الولايات المتحدة الأمريكية. وكانت في جوهرها إهانة كبيرة وجهت لأغلب هؤلاء الخبراء والسياسيين العراقيين وأغلبهم شعر بهذه الإهانة.
لقد عملت الولايات المتحدة الأمريكية باتجاهات ثلاثة في ما يخص النظام العراقي :
1. إعاقة تطوير القوى الوطنية العراقية لقدراتها النضالية ومنع مشاركتها الفعلية في الإطاحة بالسلطة, ولكنها تتحمل مسؤولية الموافقة على خوض الحرب من جانب دول أجنبية؛
2. ربط أغلب قوى المعارضة العراقية بمشاريعها بالعراق وإلزامها بأداء مهمات معينة؛
3. اعتبار الولايات المتحدة هي التي أطاحت بالنظام وهي التي يحق لها تقرير مصير العراق ومستقبله السياسي والاقتصادي والثقافي وإدارة العملية السياسية, وما على المعارضة العراقية بعد الإطاحة بالنظام إلا الالتزام بما ترسمه وتقرره الإدارة الأمريكية ورئيس إدارتها بول بريمر الحاكم والمستبد بأمره. وهكذا كان الأمر لفترة غير قصيرة!
وكان الهدف من وراء هذه السياسة واضحاً تماماً ومرتبطاً بالأهداف الأساسية للحرب الأمريكية ضد النظام العراقي والتي تختلف تماماً عن أهداف القوى الوطنية العراقية.
لم تكن حجة الحرب ضد النظام العراقي مبررة دولياً ومرفوضة من جانب الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي, إذ إن الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى ركزتا على نحو خاص على وجود أسلحة دمار شامل, وخاصة السلاح النووي, بالعراق, وإن هذا السلاح يشكل تهديداً لدول المنطقة وبشكل خاص لإسرائيل, في حين إن المفتشين الدوليين الذين كلفوا بمراقبة وتدمير أسلحة الدمار الشامل بالعراق ومنها السلاح الكيماوي والبيولوجي, قد أكدوا بما لا يقبل الشك تدمير هذه الأسلحة بالكامل. واستناداً إلى ذلك جاء رفض مجلس الأمن الدولي قبول حجج الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها بشن الحرب ضد النظام العراقي, وكانت ألمانيا الاتحادية أقوى الدول الرافضة لهذه الحرب من دول حلف الأطلسي وامتنع مستشار الدولة, جيرهارد شرودر, عن المشاركة فيها مما حصد كراهية جورج دبليو بوش. وقد أجبر موقف مجلس الأمن الدولي الرافض للحرب توجه الولايات المتحدة نحو إقامة تحالف دولي خارج إطار اللوائح الأساسية وقرارات الأمم المتحدة وشن حرب لا تحظى بالشرعية الدولية. وفي حينها تورط وزير خارجية الولايات المتحدة كولن باول بكذبة كبرى في ما قدمه من معلومات غير صحيحة إلى مجلس الأمن الدولي وشاركه في ذلك رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) جورج تنت. لاحقت لعنة تورطهما بكذبة كبرى حتى بعد انتهاء خدمتهما في وزارة الخارجية وفي وكالة المخابرات المركزية على التوالي, رغم اعتراف الأول بكذبه واعتذار عنها!
لقد وقعت الحرب فعلاً في التاسع عشر من آذار 2003 وانتهت في التاسع من نيسان 2003 بهزيمة شنعاء للقوات المسلحة العراقية والنظام العراقي وهروب الدكتاتور الصغير صدام حسين بعنجيتهه المريضة وطغمته الجائرة. وكان هذا السقوط متوقعاً تماماً, رغم إن النظام العراقي لم يتوقع أن تقوم الولايات المتحدة بشن الحربين الأخيرتين, حرب العام 1991 وحرب العام 2003, وهو غباء سياسي استثنائي من جانب صدام حسين وطغمته الحاكمة. وكان معتمداً في ذلك على ما قدمه للولايات المتحدة من خدمات في حربه ضد إيران وكالة عنها ولإشباع هوسه بالقوة وأطماعه التوسعية في الفترة بين 1980-1988, وكان في الثانية يتوقع أن تقف روسيا معه مانعة عنه وقوع الحرب وخسارته فيها.
لقد ادعى جورج دبليو بوش أنه يريد تخليص العراق من أسلحة الإبادة الجماعية أولاً, وتحرير العراق وشعبه من الدكتاتورية ثانياً, وإقامة نظام ديمقراطي حر بالعراق ثالثاً, وإن الإدارة الأمريكية لا أهداف أخرى لها في البلاد. ويمكن الادعاء, وهو ما قلته مرات عديدة في محاضراتي ولقاءاتي الصحفية والتلفزيونية في ألمانيا أو في غيرها, بأن الإدارة الأمريكية كانت تكذب على شعبها وعلى الشعب العراقي والشعوب العربية وشعوب وحكومات العالم, لأن أهدافها لم تكن هذه كما لم يكن حباً في سواد عيون الشعب العراقي عموماً والشعب الكردي خصوصاً, بل كانت لها أهدافها الخاصة ضمن إستراتيجيتها في المنطقة وعلى الصعيد الدولي. وهدف الإطاحة بالنظام هو الذي التقت عنده مع أغلب قوى المعارضة العراقية. وقد لعب بعض قوى المعارضة العراقية دوراً كبيرا ومنذ وجود بيل كلينتون في البيت الأبيض لإقناع الإدارة الأمريكية بشن الحرب ولكن الحزب الديمقراطي وبيل كلينتون رفضا ذلك, في حين جورج بوش وإدارته الجديدة ومستشاريه اللبراليين الجدد وحزبه الجمهوري اليميني المحافظ مقتنعينً قبل قوى المعارضة العراقية بضرورة شن الحرب لأنها تتطابق مع سبل الوصول إلى أهدافهم في المنطقة.
حاولت قبل حرب الخليج الثالثة أن ألخص العوامل الكامنة وراء رغبة الإدارة الأمريكية الجديدة بشن الحرب ضد النظام العراقي وقد لخصتها في محاضرة قدمتها في ندوة سياسية أقيمت بلندن في شهر شباط/فبراير 2003, أي قبل الحرب بشهر واحد تقريباً, ومشاركة ثلاث شخصيات سياسية عراقية , وقفوا إلى جانب حرب التدخل في حين كنت ضدها. ويمكن الإشارة إلى ما ذكرته حينذاك في النقاط التالية:
1. من الناحية السياسية
- ضمان تحويل العراق بموقعه الاستراتيجي المهم إلى جانب سياسات الولايات المتحدة وإستراتيجياتها في المنطقة وتأمين وجود مناسب, ثابت وقوي لها بالعراق.
- ضمان الرقابة المستمرة على إيران وتحديد دورها في منطقة الشرق الأوسط ونشاطها العسكري وسعيها لامتلاك أسلحة الدمار الشامل (إنتاج القنبلة النووية) وإضعاف قدرتها على التوسع ودعم القوى المتطرفة.
- ضمان حماية إسرائيل من التطرف الإيراني والتطرف القومي العربي في آن واحد.
- ضمان حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني على وفق الرؤية والمصالح الإسرائيلية.
- ضمان القرب من روسيا الاتحادية والصين وإبعادهما عن "المياه الدافئة" في الخليج العربي بعد أن ضمنت قربها من الدولتين عبر وجودها في أفغانستان.
- استباق الأحداث المحتملة في منطقة الشرق الأوسط وتكريس وجودها في دول الخليج والعراق والعمل من أجل تغيير الوضع في إيران لصالح سياسات الولايات المتحدة.
- وكانت الإدارة الأمريكية ولجنة الأمن القومي وبعض المؤسسات البحثية المركزية قد بدأت تفكر بمحاولة جادة لإقامة تحالف سياسي بين قوى ودول مساندة للولايات المتحدة وفيها قواعد عسكرية وأكبر ترسانة سلاح أمريكي في العالم, وكذلك مع تنظيم الأخوان المسلمين على صعيد الشرق الأوسط تحت تأثير قناعة بإمكانية التعاون مع هذه القوى لضمان الاستقرار و "مصالحها الحيوية" في المنطقة. وكانت دولة قطر قد بدأت كعراب غير مباشر لسياسات ومواقف الولايات المتحدة, ومن ثم مباشر, إضافة إلى الاتفاق مع الفكر التحالفي الجديد للإدارة الأمريكية مع الإخوان المسلمين باعتباره العامل الضامن للأمن والاستقرار في المنطقة, كما يتجاوب مع الإسلام دين أكثرية شعوب هذه المنطقة.
2. من الناحية الاقتصادية
- ضمان فرض هيمنة الولايات المتحدة على مناطق استخراج وتصدير النفط الخام في المنطقة, وخاصة نفط العراق الذي يمتلك احتياطياً كبيرا, سواء المعروف منه أم المقدر. وأخيراً اعلن وزير النفط العراقي حسين الشهرستاني ان الاحتياطي النفطي القابل للاستخراج ارتفع الى ما مجموعه 143.1 مليار برميل بعد أن كان 115 مليار برميل. ولكن هناك توقعات بأن يرتفع احتياطي النفط إلى أكثر من ذلك بكثير خلال الأعوام القادمة. وكانت هذه المعلومة غير خافية عن شركات النفط الاحتكارية الدولية. كما أن الولايات المتحدة كانت قد ضمنت بحربها في أفغانستان إمكانية مد خط أنابيب لنقل النفط عبر باكو عبر افغانستان.
- ضمان الهيمنة على أسواق العرق والمنطقة في صراعها مع الصين وروسيا.
- فرض سياسة اللبرالية الجديدة (اقتصاد السوق الحر المنفلت) وبعيداً عن دور الدولة في الشأن الاقتصادي على العراق.
- نشر النموذج الاقتصادي الأمريكي في بلدان المنطقة واعتبار الولايات المتحدة قدوة في الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية والمدافع عن حرية الشعوب!
3. من الناحية العسكرية
- الرقابة على عملية التسلح في دول المنطقة ومحاولة ربطها بالولايات المتحدة واحتكار تصدير السلاح لها وبما لا يسمح على تغيير التوازن العسكري المنشود من جانبها مع إسرائيل.
- منع النشاط النووي وبقية أسلحة الدمار الشامل في دول المنطقة الأخرى عدا إسرائيل.
- تحويل المنطقة كلها إلى قاعدة عسكرية وسياسية لصالح الولايات المتحدة في صراعها على الصعيد العالمي.
- تحويل نشاط قوى القاعدة وحربها ضد الغرب إلى ساحتين هما أفغانستان والعراق, وهو ما حصل فعلاً.
لقد وقفت ضد الحرب لعدة عوامل جوهرية , كما كنت ضد الدكتاتورية وأساهم في العمل لإسقاطها وألخص تلك العوامل بما يلي:
1. إن الحروب عموماً لا تعالج المشكلات القائمة بين البلدان بل من شأنها خلق مشكلات جديدة وزيادة التعقيدات والتشابكات في الأوضاع والمشكلات.
2. إن الحروب لا تخلق مستلزمات بناء حياة ديمقراطية, إذ أن الديمقراطية لا تفرض من الخارج, ولكن الخارج يعتبر عاملاً مساعداً لا غير. كما إن هدف الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها لا يسمح بالقناعة بأن نيتها كانت إقامة دولة ديمقراطية في العراق, في وقت كانت وما تزال تساند كل النظم الرجعية حتى بعد "الربيع العربي", إذ برزت مساومتها مع السعودية وقطر بشكل صارخ حالياً وفي الموقف من التدمير الهائل لسوريا وقتل أكثر من 100 ألف إنسان حتى الآن.
3. إن أهداف الحرب الأمريكية-البريطانية لا تتطابق مع أهداف القوى الوطنية والديمقراطية العراقية إلا في نقطة واحدة هي إسقاط النظام, ولكن ماذا بعد ذلك.
4. الخشية من تداعيات الحرب وعواقبها الوخيمة على العراق خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001, إذ كان لقوى الإرهاب الدولي نفوذ كبير في المنطقة غذته في حينها الولايات المتحدة والدول الغنية بالموارد النفطية والمالية وخاصة المملكة العربية السعودية وبعض دول الخليج, إضافة على دعم باكستان. كما إن الفكر الديني المتطرف هو السائد في هذه الدول العربية وباكستان التي كانت تصدر الأفكار والأشخاص والأموال للمتطرفين والإرهابيين على مدى سنوات, وبعضها ما يزال يواصل ذلك حتى الآن بصورة غير رسمية.
5. . القوى الوطنية والديمقراطية لم تكن مؤهلة لإسقاط السلطة ولا لتسلم الحكم بعد إسقاط الدكتاتورية عبر الحرب, بسبب أوضاعها ودور قوى الإسلام السياسي فيها وتأثير إيران ودول المنطقة على سياسات أغلب القوى السياسية ومواقفها, إضافة إلى عدم دعم القوى الدولية لها بما يساعد على إسقاطها عبر قواها الذاتية, رغم إن الظرف الموضوعي لإسقاط النظام كان جاهزاً, كما إن النظام كان مؤهلاً للسقوط.
وفي ما عدا ذلك لم تأخذ الولايات المتحدة وحليفاتها بنظر الاعتبار كيف سيكون عليه الوضع بعد إسقاط النظام, وكيف سيتعامل صدام حسين مع الوضع بعد سقوط نظامه؟ لقد تحدث الخبراء الأمريكيون بعد انتهاء الحرب عن الأخطاء الفادحة التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية في الحرب ضد العراق. لم تكن تمتلك استراتيجية ولا تكتيكات سليمة ودفعت بالعراق إلى أتون حرب مباشرة مع قوى الإرهاب دون أن تمنحه القدرة على مواجهة الإرهاب. لم يكن لدى الإدارة الأمريكية رؤية سليمة لما كان عليه العراق وما ينتظر الشعب بعد الحرب وسبل مواجهة العواقب المحتملة.
حين بدأت الحرب في العام 2003 كنت نزيل المستشفى, وفيها كتبت سلسلة مقالات تحت عنوان "نشاط صدام حسين في الداخل والخارج ما بعد سقوط النظام في العراق" نشرت في حينها في مواقع عدة, ثم نشرتها في كتاب بجزئين بعنوان "مقالات حول بعض المسائل الملتهبة في العراق للفترة 2003-2005" الجزء الأول, [صادر عن "مركز هافيبون للدراسات والنشر الكردية في برلين, الجزء الأول, سلسلة الدراسات 45. برلين 2005], شخصت فيه الإجراءات التي اتخذها صدام حسين لمواجهة الوضع الجديد بعد سقوط نظامه في المجالات التالية:
** أقام تشكيلات شبه عسكرية لمقاومة الوضع الجديد موزعة على مساحة القسم العربي من العراق.
** شكل المجموعات الأمنية التي تكون مهمتها الوصول إلى مراكز اتخاذ القرار وتوفير المعلومات الضرورية لمواجهة الأوضاع الجديدة وتأمين المعلومات الضرورية للعمليات التي يتقرر تنفيذها.
** تأمين أرشيف خاص للمهمات التي يراد تنفيذها من جانب تشكيلاته باتجاهين:
أ) أرشيف يضم أسماء القوى كانت معه وانقلبت عليه لتأديبها وبث الرعب في نفوس الآخرين للكف عن ذلك؛
ب) أرشيف ممن كانوا مع النظام وما زالوا على موقفهم للاستفادة منهم في الحصول على ما هو ضروري من معلومات حول أوضاع الوضع الجديد.
** ثبت تنظيمياً مجموعات العمل الحزبي السرية التي تبتعد عن الأضواء وتتقدم خطوة فخطوة نحو الأمام في عملها السياسي وفي أوساط المجتمع.
** شكل مجموعات الدعاية والإعلام التي تعمل في الصحف المحلية والعربية والأجنبية وبصورة عقلانية لكي لا تتسبب بانهيارها أو اعتقالها أو فقدان مواقعها المكتسبة وترفع من أساليب عملها تدريجياً.
** تأمين مخابئ موزعة على مساحة العراق في بغداد والوسط والجنوب وغرب بغداد وضع فيها الكثير من الأسلحة القابلة للاستخدام في الظروف الجديدة ولا يمكن أن يصل إليها إلا من شخص لهذه المهمات.
** كون المجموعات المالية التي وزعت عليها الأموال بالعملة الصعبة لكي تحتفظ بها لوقت الحاجة بهدف تمويل الفرق العسكرية والمدنية, وهي موجودة في الداخل والخارج ويسحب منها في ظروف معينة حين يستوجبها العمل.
** تشكيل مجموعات التخريب والتأديب والاغتيالات الفردية والابتزاز وكسب العناصر للعمل ضمن جماعة فدائيي صدام, وهي الجماعة الأكثر إخلاصاً لصدام حسين والنظام الدكتاتوري والتي صرف على تربيتها وتدبيرها الكثير من الأموال.
** مجموعات التغلغل في الأحزاب والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني.
ورغم إن صدام حسين لم يكن يتوقع الحرب, إلا إنه اتخذ الكثير من القرارات التي تضمن سير نشاطه المعادي للوضع الجديد.
لا شك في أن اعتقال وموت صدام حسين وولديه قد أثر على خطط صدام حسين, ولكنها لم تتوقف, إذ كان عزة الدوري هو المسؤول العسكري في حزب البعث قبل انقلاب 17 تموز 1968 وبقى كذلك طيلة الفترة التي كان البعث وصدام حسين في الحكم. وبالتالي فهو الذي أخذ المهمة على عاتقه, وكان صدام حسين قد منحه ثقة كبيرة رغم كل شكوكه بالناس وبأقرب المقربين إليه.
أما قوى المعارضة العراقية فكانت منقسمة على نفسها ومتباينة في موقفها من الحرب ضد العراق. كما كان لكل منها أهدافه التي لم يعلن عنها ويسعى إلى تحقيقها بعد سقوط الدكتاتورية على أيدي القوات الأمريكية وحليفاتها, رغم وجود أهداف مشتركة وضعها التحالف السياسي العراقي قبل سقوط النظام وفي مؤتمرات فيينا وصلاح الدين ولندن وواشنطن.
لقد وقعت أغلب قوى المعارضة العراقية تحت ضغط وتأثير الدول المجاورة والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانية. وإذ كان لإيران تأثير مباشر وفعال ومعلن على قوى الإسلام السياسية الشيعية والقوى الكردستانية, كان المملكة السعودية وبعض دول الخليج وسوريا تأثرهم المباشر على القوى القومية العربية اليمينية وعلى بعض القوى الإسلامية السياسية السنية. كما كان هناك تأثير مباشر للولايات المتحدة وبريطانيا على كل هذه القوى. وكان الدعم الأمريكي والبريطاني والإيراني والسوري قد توجه صوب القوى والأحزاب الشيعية والقوى الكردية باعتبارها قوى كانت مظلومة ومضطهدة من النظام الدكتاتوري. وتشكلت عدداً من التنظيمات, إضافة إلى قوى محافظة ليبرالية وذات توجه طائفي شيعي منذ العام 1991 التي وجدت التأييد والدعم من جانب ذات القوى المؤيدة للكرد والشيعة, ومنها المؤتمر الوطني العراقي وتنظيمات الشيوخ على سبيل المثال لا الحصر. وكانت القوى اللبرالية والقومية السنية ضعيفة عموماً بسبب إدعاء النظام وكأنه يمثل السنة.
وخلال فترة المعارضة وقبل الحرب بكثير تشكل تحالف سياسي بين القوى القومية الكردية والأحزاب والقوى الشيعية باعتبارهما من الجماعات المظلومة والمضطهدة من قبل النظام. وهذا التحالف الذي تشكل فعلياً قبل إسقاط النظام قد حظي بتأييد الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا مما جعل القوى الديمقراطية التي رفضت الحرب معزولة نسبياً عن ذلك التحالف الأثني - الطائفي في آن, وهو الذي تسلم السلطة بعد الاجتياح والاحتلال مباشرة وتمثل ابتداء في مجلس إدارة الدولة المؤقت ومن ثم في الحكومات الثلاث التي أعقبت ذلك.
لقد كان التيار الديمقراطي التقدمي, وبضمنهم الحزب الشيوعي العراقي, قد تعرض لضربات قاتلة من قبل نظام البعث الدموي, ولم يستطع النهوض السريع من تلك الضربات وخسارته كانت كبيرة بقواه وكوادره المقدامة والمثقفة والواعية والفعالة التي استشهد عدد كبير بسبب قمع النظام, إضافة إلى استشهاد عدد كبير منهم أثناء نضالهم في حركة الأنصار الشيوعيينفي الفترة بين نهاية 1978-1988. كما إن القوى الديمقراطية الأخرى كانت ضعيفة وغيبت تنظيماتها بسبب القمع الذي تعرضت له وسعي صدام حسين إلى تصفيتها أو فرض الهجرة أو العزلة عليها. وحاولت القوى الأخرى عزل التيار الديمقراطي العربي, رغم سعيه لإقامة أحسن العلاقات الممكنة مع قوى التيار القومي والديمقراطي الكردي, ولكن كان للقوى الإسلامية السياسية الشيعية تأثير كبير عليها من خلال دور وتأثير إيران أيضاً. لهذا لم يكن غريباً ما حصل من تحالف بين الأحزاب الكردية والأحزاب الشيعية بذريعة المظلومية المشتركة. ولكن هذه الحالة السياسية المعقدة هي التي ساهمت في ما حصل في أعقاب إسقاط الدكتاتورية بالحرب الخارجية وفرض الاحتلال والتداعيات التي نشأت والتي ما تزال متواصلة حتى الوقت الحاضر.
حصاد الفترة الواقعة بين 2003-2013
حين يحاول الباحث المحايد الإيجابي أن يتابع حصاد فترة عشرة أعوام من تاريخ العراق في أعقاب إسقاط النظام عبر الحرب الخارجية سيجد نفسه أمام مجموعة من النتائج والعواقب المتناقضة, أي من النتائج الإيجابية والعواقب السلبية التي تسببت بها حروب العراق العديدة الداخلية منها والخارجية. وازدادت اللوحة قتامة والعواقب أكثر سوءاً للمجتمع وتطوره إذ كانت لدى منفذ الحرب عوامل وأهداف إضافية غير عقلانية سعى إلى تحقيقها بعيداً عن الوعود التي قطعها للشعب والقوى السياسية التي وافقت على خوض الدول المتحالفة الحرب خارج نطاق قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. وقد أصبحت تلك الأهداف معروفة للشعب العراقي وشعوب العالم كلها. ولهذا, وخلال الفترة المنصرمة, تداخلت الجوانب الإيجابية في الخلاص من الدكتاتورية البعثية الغاشمة بالعواقب السلبية, مثل نظام المحاصصة الطائفي والإرهاب والفساد والتمييز وتراجع الحريات العامة وحقوق الإنسان والمرأة على نحو خاص, في لوحة شديدة التعقيد والتشابك المتفاعل والمتبادل التأثير والدافعة في المحصلة النهائية إلى اتجاه محدد غير مضمون العواقب, بل ويحمل معه مخاطر جمة بالنسبة على اتجاه تطور الأحداث ومجمل التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي, إضافة إلى الاتجاهات الأمنية والعسكرية والعلاقات الخارجية.
امتلكت الإدارة الأمريكية إرادة الحرب وإسقاط النظام وإدارة العراق بواسطة قواتها العسكرية وإدارتها المدنية وإبقاء القوى السياسية العراقية المعارضة كاحتياطي لها من خلال فرض الاحتلال على البلاد بعد الحرب, وكانت تريد الوصول إلى تلك الغايات دون أن تفكر بما سيكون عليه موقف المجتمع والقوى السياسية, وبالتالي لم تضع مخططاً عقلانيا لإدارة البلاد وحمايتها بعد الإسقاط, كما لم تضع أسس عقلانية لتنظيم الدولة بعد تدمير الدولة ومؤسساتها وأجهزتها العسكرية والمدنية, كما إنها لم تسلم مقاليد الحكم مباشرة بيد قوى المعارضة لمنع وقوع فراغ قاتل في البلاد كما حصل فعلياً. ونتيجة لكل ذلك برزت ابتداءً, كما كان منتظراً, عدة عواقب شديدة الأثر السلبي على مستقبل العراق, رغم الترحيب الشعبي العام بالإطاحة بالنظام الدكتاتوري والاستقبال الطيب للقوى العسكرية التي دخلت البلاد:
1. حصول فراغ سياسي وإداري كاملين في البلاد تسببا في نشوء فوضى عارمة ونهب وسلب لمؤسسات الدولة المدنية والعسكرية الفارغة من موظفيها وعسكرييها وكذلك البنوك ودور مسؤولي الحكم السابقين.
2. ترك المناطق الحدودية دون رقابة فولج منها الإرهابيون وأتباع القاعدة بتوجيه من قيادتهم في الخارج.
3. توفرت إمكانية هروب الكثير من قادة النظام من العسكريين والمدنيين وضباط الأمن والمخابرات وفدائيي صدام حسين إلى خارج البلاد وعدتهم فيما بعد لمواصلة نشاطاتهم البعثية بأساليب وأدوات أخرى, وهو ما يحصل الآن وبمساعدة مباشرة من رئيس الوزراء العراقي على وفق قراراته الأخيرة إزاء فدائيي صدام حسين!
4. بدء عمليات انتقام واسعة ضد جمهرة من البعثيين من غير القتلة والمجرمين دون محاكمات شرعية وعادلة.
5. عجز المعارضة العراقية عن إعادة تنظيم صفوفها بصورة سليمة والتوحد وراء أهداف محددة, بل بدأ كل منها يسعى إلى تأمين مصالحه على حساب المصلحة العامة ومواجهة الوضع الجديد على أسس عقلانية.
6. ومما زاد في الطين بلة تعيين الحاكم بأمره بول بريمر لإدارة البلاد مدنياً وتوجهه صوب تشكيل مجلس الحكم الانتقالي على أسس طائفية وأثنية مناهضة لمبدأ المواطنة العراقية, وتشكيل أكثرية شيعية فيه, دون اعتماد مبدأ المواطنة ثم فرض الاحتلال على البلاد رسمياً استناداً إلى قرار مجحف صادر عن مجلس الأمن الدولي بطلب من الولايات المتحدة ورفضه الشعب العراقي وقواه السياسية. وقد أشعر هذا الموقف السنة بالضعف وكأنها المسؤولة عن جرائم نظام عنصري فاشي دموي, وخلق الأرضية الصالحة للصراع الطائفي لا على مستوى الأحزاب الإسلامية السياسية فحسب, بل وعلى مستوى المجتمع.
7. ترك الوضع الجديد جمهرة غفيرة من الموظفين والعسكريين دون رواتب أو بدنانير عراقية لا قيمة لها ولا تغني من جوع ولا تسمن, مما دفع الكثير منهم إلى التوسل بأي وسيلة تساعدهم على العيش وتوفير الغذاء لعائلاتهم. وهي التي ساعدت على كسب قوى غير قليلة منهم إلى جانب القوى المناهضة للوضع الجديد.
8. لقد كان الوضع في فترة صدام حسين فاسداً جداً من الناحيتين المالية والإدارية, ولكنه اشتد وتعمق بعد سقوط النظام وبممارسات من جانب بول بريمر وسلطة الاحتلال وجمهرة من السياسيين العراقيين الذين تسلموا السلطة ووجدوها فرصة مناسبة للنهب والسلب على نطاق واسع, وهي الحالة التي ما تزال متواصلة ومتفاقمة حتى اليوم.
وفرت هذه الحالة أوضاعاً جديدة من خلال:
- بدء الجماعات البعثية الهاربة بإعادة تنظيم صفوفها وامتلاك السلاح المنهوب والمخبأ لمواجهة الوضع الجديد على وفق خطط وضعها صدام وأتباعه سلفاً.
- بدأت قوى القاعدة التي توفر لها السلاح بتنظيم صفوفها بشكل واسع والتأثير على مناطق بعينها لكسبها إلى جانبها وتنظيم ما أطلق عليه بالمعارضة المسلحة, كما بدأ أول تلك التحالفات بين القوى المضادة في مواجهة الوضع الجديد. وتوفرت البنية التحتية الضرورية لإرهاب المجتمع بشكل جدي وواسع وابتزاز الناس.
- بدء العمليات العسكرية ضد القوى السياسية المحلية وضد القوات الأجنبية ومن أجل تشديد التمايز والاصطفاف الطائفي.
- وفي ذات الوقت نشأت ميليشيات مسلحة وطائفية تابعة للأحزاب الإسلامية السياسية, الشيعية منها والسنية, التي مارست عمليات انتقامية متبادلة أصبح الشعب ضحيتها.
لقد أسقطت الحرب النظام, ولكنها لم تكسب السلام وتجلبه للمجتمع, بل جلبت معها الفوضى والخراب والموت على نطاق واسع. كما وفر الوضع الجديد حرية الكلام والنشر, ولكنه وفر معه إمكانية وحرية قتل الناقد والمتكلم دون معرفة أو تحديد الجهة المنفذة لقرار القتل. وإذا كان الخوف سابقاً من النظام البعثي الحاكم بأجهزته القمعية, أصبحت الخشية بعد السقوط من قتلة كثيرين غير مشخصين من داخل وخارج قوى الحكم. كما إن احتمالات تحول الصراعات الراهنة إلى نزاعات مسلحة طائفية ما تزال غير مستبعدة تماماً من قاموس بعض جماعات سياسية وطائفية في الحكم وخارجه. وإذ كان الوضع في إقليم كردستان العراق مستقراً وآمناً قبل إسقاط النظام ومنذ انسحاب قواته وإدارته منها, فإن الوضع الأمن والمستقر قد استمر بعد إسقاطه أيضاً وتوفرت له فرصة مواصلة تغيير وجه الإقليم عمرانيا واجتماعياً, في ما عجز حكام بغداد القيام بذلك في المناطق العربية من العراق حتى الآن. وإذا كانت العلاقات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم بدأت بصورة أولية غير متوترة, فإنها تشهد اليوم توتراً كبيراً ومخاطر تعقيدات إضافية في هذه العلاقات لا بسبب حداثة التجربة وعدم وجود خبرة ونقص في القوانين التي تحكم هذه العلاقة وضبابية بنود في الدستور فحسب, بل بسبب سياسات الحكومة الاتحادية التي لا تريد معالجة المشكلات القائمة على وفق بنود الدستور, ومنها مشكلة ما يطلق عليها اليوم بالمناطق المتنازع عليها, أو بشأن عدم دفع رواتب الپيشمرگة الكردستانية كجزء من القوات المسلحة العراقية ...الخ, وردود الفعل الكردستانية على تلك السياسات.
ما هي حصيلة الأعوام العشرة المنصرمة؟
من الناحية الإيجابية يمكن الحديث عن خلاص العراق من دكتاتورية غاشمة لم يشهد مثلها تاريخ العراق الحديث ولا دول منطقة الشرق الأوسط من حيث طبيعته الوحشية وذهنيته العنصرية والعسكرية الفاشية وأطماعه التوسعية ورغبته في حل المشكلات بالقوة العسكرية الغاشمة محلياً وإقليمياً ومن مطلق إن الحق والقوة هما وجهان لعملة واحدة أحدهما يستوجب الآخر ويشترطه أولاً. كما يمكن الإشارة إلى تحسن أوضاع استخراج وتصدير النفط الخام مما فسح في المجال إلى زيادة عائدات العراق من موارد النفط الخام المصدر سنوياً ثانياً. وإلى تحسن في مستوى حياة ومعيشة بعض فئات المجتمع وليس كلها, ومنها نشوء فئة واسعة متوسطة بين موظفي الدولة العسكريين والمدنيين البيروقراطيين وفي التجارة والمقاولات والعقار, متجاوزين أو بعيداً عن نشوء فئة متوسطة في الصناعة والزراعة باعتبارها الحاملة لفكر المجتمع المدني, إضافة إلى وجود مؤسسات وأحزاب سياسية دون وجود قانون ينظم هذه الأحزاب, ووجود منظمات مجتمع مدني, رغم إن أغلبها وفي الغالب الأعم شكلية ومن مواقع دينية, وانتخابات عامة على وفق قانون غير ديمقراطي يسمح بالتجاوز على اصوات الناخبين.
هذه الجوانب الإيجابية نسبياً عليها تحفظات كثيرة بارزة للعيان. فإذا كانت الدكتاتورية البعثية الصدامية قد أُسقطت بفعل العامل الخارجي, فإن أرضية نشوء دكتاتورية جديدة لحزب وفرد حاكم ما زالت قائمة بسبب الأرضية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الدينية التي ما تزال سائدة في المجتمع. وها نحن نشهد ظهورها بوضوح كبير ومخاطر متفاقمة يوماً بعد آخر والتي تشير إلى احتمال وقوع كارثة. وإذا كان النفط قد تحسن وضعه, فإن العقود الكثيرة التي وقَّعت على دفعات لم تكن كلها في صالح العراق وغير ضرورية ومؤثرة سلباً على حقول النفط ذاته, إضافة إلى الغاز, وعلى سوق النفط وأسعاره وغير منسجمة مع قدرات العراق الفعلية وطاقاته التصديرية, كما تحمله أعباء تلك العقود ولسنوات طويلة قادمة, إضافة إلى عدم إقرار قانون النفط والغاز حتى الآن, ونشوء مشاكل جديدة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق بشأن عقود النفط الكردستانية, والتي فيها إشكاليات ومشكلات أخرى تختلف عن إشكاليات عقود النفط التي وقعت ببغداد, خاصة وإنها عقود مشاركة غير مفيدة للعراق, وهو اتجاه سلبي بالنسبة لموارد العراق النفطية والمالية وبالنسبة إلى ضعف القوة التفاوضية للطرف العراق واستخدام الخلاف من جانب شركات النفط الدولية لصالحها وفي غير صالح العراق. كما إن مؤسسات الدولة ليست مؤسسات حرة وديمقراطية بالمعنى الصحيح لأنها كلها قائمة على قاعدة المحاصصة الطائفية السياسية اللعينة التي قسمت الشعب العراقي إلى طوائف وملل مدمرة وليست جامعة. إذ إن الهويات الفرعية تصبح قاتلة للهوية الوطنية حين تأخذ مكان الصدارة وتدفع بالهوية الوطنية العراقية إلى الخلف أو تنسفها من الأساس. وتقوم الكثير من الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني على أساس ديني ومذهبي يتعارض تماماً مع قواعد وأسس المجتمع المدني ومع الدستور العراقي واعتبار "الدين لله والوطن للجميع".
سأحاول هنا أن أتتبع حصاد عشر سنوات منصرمة من عمر الشعب العراقي في عدد من المجالات المهمة:
1. في السياسة الداخلية
تفقد البلاد, وبعد مرور عشر سنوات, يومياً وساعة بعد أخرى الحرية والحياة الديمقراطية النسبية التي نشأت بعد إسقاط الدكتاتورية والتجاوز الفظ والمستمر على حقوق الإنسان وفقدان القضاء والهيئات المستقلة دستورياً لاستقلالها وخضوعها للحاكم الفرد وحزبه, الذي يحل يوماً بعد آخر محل حزب البعث في سلوكه العام وهيمنته, وهي تنذر بكارثة محدقة. ومنذ سنوات يجري اعتداء مستمر على حرية الفرد من خلال التطبيق غير السليم لقانون المساءلة والعدالة في الاعتقال الطويل الأمد دون تحقيق أو محاكمة, ثم ممارسة ابشع أشكال التعذيب التي بلغت إلى مستوى التعذيب الذي مارسته أجهزة القمع الصدامية أو التي مارستها أجهزة الأمن الخاصة التابعة للإدارة الأمريكية في سجن أبو غريب. خلال الفترات المنصرمة جرى اعتداء على صحف عديدة منها جريدة المدى ومقر الحزب الشيوعي العراقي وحزب الأمة, وأخيرا جرى الاعتداء على أربع صحف محلية وعلى مقر حزب الأمة ثانية, ثم نفذت عمليات اغتيال للكثير من الشخصيات العراقية السياسية والمناضلة في سبيل المجتمع المدني, ولنا في ما حصل للمناضل الوطني وفي سبيل إقامة المجتمع المدني والديمقراطية الشهيد كامل عبد الله شياع أو غيره ما يؤكد دور أجهزة وزارة الداخلية بذلك والمرتبطة عمليا بمكاتب رئيس الوزراء. ولسنا بعيدين عن غياب الأمن بالعراق, إذ إن قوى الإرهاب المحلية والعربية والدولية ذات التوجه الإسلامي المتشدد والمتطرف تمارس عملياتها الإجرامية بكل حرية, رغم ادعاء الحكومة بقدرتها على ضرب هذه التنظيمات الإرهابية. لقد أصبحت قوات عمليات بغداد وقادتها اليد الضاربة لرئيس مجلس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة, وهي قوات لم تنشأ على وفق الدستور العراقي والقوانين المرعية. وأصبحت مهمتها ملاحقة النشاطات الاحتجاجية للمواطنات والمواطنين واعتقالهم وتعذيبهم وزجهم في بيوت غير معروفة, تماماً كما كانت تفعل قوات الأمن وفدائيي صدام حسين.
وبسبب نهج الحكومة الذي يمارس سياسات أمنية بدلاً من ممارسة السياسة لحل المشكلات القائمة, فإن الصراعات بالبلاد قد تفاقمت في السنوات الثلاث الأخيرة واقتربت من أن تتحول إلى نزاع عسكري طائفي مدمر.
إن العراق يفقد يومياً بمعدل عشرة اشخاص شهداء ضحايا الإرهاب وجرحى بالعشرات نتيجة عجز الحكومة سياسياً في مواجهة الوضع الراهن. وسياستها البائسة والطائفية سمحت بعودة جادة لثلاث قوى سيئة وإرهابية هي: تنظيم القاعدة على صعيد المنطقة مندمجاً بتنظيماته العراقية المحلية أولاً, وعود تنظيم البعث إلى الساحة السياسية لا بقواته المدنية المتغلغلة في أجهزة الدولة على مستويات قريبة من رئيس الوزراء فحسب, بل وتنظيماته العسكرية السرية وبوضوح كبير ثانيا, وتنظيمات هيئة علماء المسلمين السنة التي يترأسها الدكتور حارث الضاري والمتحالفة مع التنظيمين المذكورين, القاعدة والبعث, إلى التأثير المباشر على أوضاع البلاد.
والمشكلة الداخلية تبرز بوضوح كبير في التدخل المباشر لمرشد الثورة الإيرانية الإسلامية علي خامنئي بشؤون البلاد الداخلية والموجه الفعلي لسياسة الحكومة العراقية عبر مستشاريه العاملين بالعراق وعلى مقربة من رئيس الوزراء العراقي. وتمتلك إيران أجهزة أمنية تابعة لجهازها الأمني وأخرى للحرس الثوري منتشرة في المدن العراقية كافة دون استثناء, بما في ذلك كردستان العراق, إضافة إلى وبشكل خاص العاصمة بغداد. وهو أمر يثير الحزن والكآبة في النفس ويعتبر خطراً كبيراً على استقلال وسيادة البلاد وقراراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في آن.
وتتعرض الهيئات المستقلة العراقية التي ورد ذكرها في المادة 99 من الدستور العراقي لعام 2005 مثل المفوضية العليا لحقوق الإنسان والمفوضية العليا المستقلة للانتخابات وهيئة النزاهة والبنك المركزي إلى تدخل مباشر من جانب السلطة التنفيذية في حين منحها الدستور الاستقلالية التامة عن السلطة التنفيذية وغير الخاضعة لقراراتها, وأخضعا لرقابة السلطة التشريعية, أي مجلس النواب. وما حصل للبنك المركزي خلال الأشهر الأخيرة يعتبر تجسيداً حياً لتجاوزات فظة من جانب السلطة التنفيذية ورئيسها في شؤون البنك المركزي ومفوضية الانتخابات المستقلة بحيث أدى إلى خرق فظ للدستور العراقي والمادة 99 منه. وإن ما حصل لطاقم البنك المركزي من إهانة واعتقال وإساءة للسمعة يؤكد النهج الجديد للسلطة التنفيذية المهدد للعملية والحياة السياسية والدستورية بالبلاد. ونحن شهود أيضاً على ما يجري اتجاه المرأة وفقدانها للكثير جداً من حريتها وحياتها المستقلة ومكانتها في المجتمع وابتعادها كثيراً عن مساواتها بالرجل.
وفي حينها قال رئيس الحكومة الحالي بأنه أخذ الحكم ولن يعطيه لغيره بعد اليوم "أخذناها بعد ما ننطيها", وهو مماثل تماماً لما قاله صدام حسين حين وصول البعث للسلطة بأنه جاء ليبقى!! , وعدا عن ذلك فالإرهاب يخطف كل يوم عشرات الناس والفساد يسرق الملايين والمليارات من خزائن الشعب العراقي!
2. الاقتصاد ومستوى معيشة الشعب
خلال السنوات العشر المنصرمة لم يعرف العراق تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية وتغيير في واقع البيئة المتدهورة, بسبب غياب الرؤية الاقتصادية والاجتماعية لما يفترض أن ينشأ بالعراق, غياب الإستراتيجية التنموية والخطط العقلانية القابلة للتنفيذ وآفاق تقدمه. فالاقتصاد العراقي كان ريعياً نفطيا واستهلاكياً منذ عشرات السنين وما يزال كذلك, بل يمكن الادعاء بأن الطابع الريعي النفطي قد تعمق وتفاقم فيه بسبب غياب الإنتاج الصناعي والإنتاج الزراعي إلى ابعد الحدود, وحل محلهما الاستيراد المنفلت لكل السلع الصناعية والزراعية, حتى ما كان تقليدياً ينتج بالعراق. ويؤدي هذا الواقع إلى عواقب سلبية معروفة جداً لكل إنسان له خلفية اقتصادية أو إطلاع على الاقتصاد والحياة الاقتصادية للشعب, ومنها:
** إن غياب الرؤية السليمة والواضحة للسياسة الاقتصادية, كما هو حال البلاد حالياً, يعقد على الساسة المالية والنقدية مساهمتها الفاعلة والمؤثرة إيجابياً على الحد من نسب التضخم وتقلب سعر صرف العملة العراقية, إذ إن السياسة المالية والنقدية هي الأداة التنفيذية للسياسة الاقتصادية, وحين تكون السياسة الاقتصادية بائسة حقاً يصعب تنفيذ سياسة مالية ونقدية ناجحة. ورغم ذلك تسنى للبنك المركزي, بسبب علمية ونزاهة وحصافة طاقم البنك, أن يخفف من الآثار السلبية لغياب وفردية السياسة الاقتصادية في الاحتفاظ باحتياطي جيد ساعد على حماية العملة الوطنية من التقلبات من جهة, وحد من التضخم الذي كان يصاحب الوضع الاقتصادي والمؤثر سلباً على مستوى حياة ومعيشة الفقراء وذوي الدخل المحدود بشكل خاص. وكان لإجراءات رئيس السلطة التنفيذية المخالفة للدستور أن ألحق أضراراً بهذه السياسة ودفع بالدينار إلى التراجع أمام الدولار الأمريكي بنسبة غير قليلة وازداد التضخم والحقا بأضرار ملموسة بالمواطن وبقدرته الشرائية ومستوى معيشته.
** استنزاف موارد النفط المالية من خلال إغراق السوق العراقية بالسلع الاستهلاكية المستوردة ودفع المزيد من الرواتب لموظفي الأجهزة الإدارية والحكومية متضخمة والمنتفخة, وهي ثروة ناضبة لا بد أن تكون للأجيال القادمة حصة منها ومن استخدامها في التنمية الاقتصادية الإنتاجية.
** ضعف شديد, أقرب إلى الغياب, في توجيه الموارد المالية النفطية صوب التثمير الإنتاجي لتحقيق التراكمات الرأسمالية لصالح تنويع الاقتصاد الوطني وتخليصه من ريعيته الشديدة وتنويع بنية الدخل القومي, وإغناء الثروة الوطنية بموارد جديدة من الإنتاج الصناعي التحويلي والزراعة المحلية.
** استمرار البطالة في المجتمع لعجز الدولة عن توفير فرص العمل عبر التنمية الاقتصادية والتصنيع وتحديث وتطوير الزراعة, وتوجيه القوى الفائضة صوب الجهاز الحكومي والإداري مما ساهم بخلق بطالة مقنعة تصل إلى أكثر من نصف العاملين بكثير. وهي تستنزف الدخل القومي دون أن تساهم في إغنائه, إضافة إلى تعطيل عمل الدوائر بسبب إغراق الدوائر بالمزيد من الموظفين الفائضين عن الحاجة الفعلية وغياب المسؤولية المباشرة لكثرة الموظفين. وتشير المعلومات الموثقة إلى إن الموظفين يواظبون على عملهم الوظيفي يومين أو ثلاثة ايام في الأسبوع, والأيام الأخرى يعملون في مجالات أخرى لتأمين دخل إضافي مالي لهم.
** استمرار وجود نسبة مهمة من سكان العراقي تعيش تحت خط الفقر المقرر دولياً لدول مثل العراق. ورغم محاولات بعض المسؤولين تقليص هذه النسبة رسمياً, فإنها تتراوح اليوم بين 20-25/ من إجمالي السكان, وهي نسبة عالية جداً في بلد نفطي كالعراق.
** ومع الفردية السائدة في مجلس الوزراء وغياب المنهجية, فإنه يعاني من غياب المتابعة الرصينة والواعية لما تصدر من قرارات حكومية, إضافة إلى تخلف الإدارة الاقتصادية والحكومية وغياب المستوى العلمي والحداثة في إنجاز مهماتها بما لا يسهم في تحسين الأداء. إضافة إلى مستشارين لا يساهمون إلا في مدح رئيس الوزراء وتحويله إلى مستبد جديد, إنهم ليسوا بمستشارين بل هم بطانة, والبطانة ترقص على أنغام سيدها. والشاعر يقول:
إذا كان رب البيت بالدف ناقر فشيمة أهل البيت كلهم الرقص
** ومما يزيد في الطين بلة ويؤذي المجتمع ضعف شديد في الخدمات العامة كالكهرباء والماء والنقل والمواصلات الآمنة ..الخ, رغم الأموال الخيالية التي صرفت على إقامة منشآت الطاقة الكهربائية والتي طمر الكثير من تلك الأجهزة المستوردة في رمال الصحراء العراقية والأموال في جيوب الفاسدين من أجهزة الدولة بمستوياتها المختلفة, ومنهم من صرف مليون دولار لإقامة حفلة خاصة في الولايات المتحدة لزواج ابنه!
** ومن الظواهر السلبية غياب التنسيق بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم وبين الحكومة الاتحادية ومجالس المحافظات, وتفاقم الصراعات. ويمكن أن يلاحظ المتتبع عواقب ذلك على الحياة اليومية للمجتمع. وإذ تسعى الحكومة الاتحادية إلى الهيمنة على القرارات مركزياً وحصرها بها, يسعى الإقليم ومجالس المحافظات الي الحصول على أقصى ما يمكن الاستقلالية عن المركز. وبين هذين الاتجاهين, وبغياب القوانين المنظمة لهذه العلاقات وغياب التقاليد الديمقراطية والتعامل الإنساني, تنشأ وتتفاقم الصراعات وتتحول إلى نزاعات يصعب حلها.
** ومن يتابع الوضع بالعراق سيجد نفسه أمام نظام جديد سدد ضربة قاتلة للنزاهة ونظافة اليد بالبلاد. فالفساد المالي والإداري والحزبي قد أصبح نظاماً سائداً معمولاً به على نطاق شامل. فالدولة والحكومة بكل مؤسساتهما وكذلك المجتمع يمارسونه كمسألة ثابتة لا يمكن الفرار منها. وهي التي تجهد خزينة الدولة وتعطل التوجه صوب التنمية الاقتصادية والتثمير الإنتاجي وتنشط الإرهاب وخراب البلاد. إنه نهب منظم لم يعد الحديث يجري على ملايين, بل مليارات الدولارات التي نهبت من البلاد عبر الفساد. وإذ كان الفساد المالي والإداري والحزبي موجوداً وواسعاً في زمن الدكتاتور صدام حسين, فإنه اليوم أصبح أشمل وأعمق وأكثر إرهاقاً لمالية البلاد. وقد ساهمت به سلطة الاحتلال ومجلس إدارة الدولة المؤقت والحكومات الثلاث المتعاقبة وأجهزة الدولة والشركات الأجنبية والمحلية.
** ومن الجدير بالذكر هنا إن البيئة العراقية التي ألحقت الحروب الخارجية والداخلية الدموية خلال العقود المنصرمة أضراراً فادحة بالبيئة العراقية وبحياة الإنسان وعلاقته بالطبيعة, تزداد تدهوراً وتلحق أفدح الأضرار بالإنسان وأمه الطبيعة. وخلال الأعوام المنصرمة لم تتخذ إجراءات كثيرة ملموسة في هذا الصدد, في ما عدا إقليم كردستان العراق ومنطقة الأهوار, حيث أمكن للمخلصين من أبناء البلاد وبمبادرات خاصة ودعم أجنبي إلى إعادة ثلث المساحة التي كانت تحتلها أهوار العراق بعد أن جففها الدكتاتور الأرعن صدام حسين وحرم أهلها, وهم من أصل عراقي سومري, العيش في المنطقة. فما أن تمطر السماء حتى تمتلئ بغداد, دع عنك مناطق أخرى من العراق, بالمستنقعات الآسنة. وعلى الناس أن يسعوا للحصول على قوارب وماطورات مائية للسير في مياه وأوحال تلك المستنقعات في وسط مدينة بغداد.
إن الشعب العراقي يعيش في هذه المرحلة مأساة ومهزلة في آن. فموارده السنوية تبلغ 138 تريليون دينار عراقي أو ما يعادل 116 مليار دولار أمريكي, وهو رقم فلكي بالنسبة لموارد العراق في انصف الأخير من القرن العشرين, نجد هناك بطالة واسعة وبطالة مقنعة وفقر واسع ونهب أوسع لتلك الأموال جهارا نهارا. ونتيجة ذلك ارتفع عدد أصحاب الملايين والمليارات من الدولارات بالعراق, منهم من هو نائب في المجلس ومنهم من هو في الحكومة أو في رئاسة الدولة, ومنهم من هو في المؤسسات والحوزات والمراجع الدينية, ومنهم من يعمل في التجارة والمقاولات والعقار والعقود والمضاربات المالية, ومنهم من يحتل مواقع مهمة في الأحزاب الإسلامية السياسية أو القومية أو العلمانية غير الديمقراطية.
كلنا يدرك بأن الحكم الطائفي السياسي والفساد المالي والإداري والحزبي وغياب الحلول السياسية واعتماد الحلول الأمنية العسكرية وتفاقم الفردية في الحكم هي من العوامل المحفزة للإرهاب واستمرار نزيف الدم وسيل الدموع في البلاد. وليس هناك من أفق للخلاص من ذلك إلا بالخلاص من الحكم القائم على المحاصصة الطائفية والأثنية, والخلاص من الأرضية التي تعيد إنتاج كل ذلك ! ولدي الثقة بأن الشعب سينتصر في المحصلة النهائية وأن طال الزمن وأجبر الشعب على تقديم المزيد من التضحيات والدنيا دوارة, كما يقول المثل اشعبي العراقي, ولا تستقر على أحد ولو استقرت على أحد لما وصلت لمن هو في السلطة الآن ولن تبقى عنده طويلاً والعاقبة تلائم الأفعال... هكذا يعلمنا التاريخ الذي تكتبه الشعوب ولا يكتبه المستبدون المنتصرون في غفلة من الزمن!!!
إن مهمة المجتمع اليوم أن تمنع تحول العراق إلى الدكتاتورية ثانية, رغم وجود الأرضية الصالحة لذلك, وهي مهمة القوى الديمقراطية وسائر المخلصين لهذا الشعب ومن عانى من الدكتاتورية الغاشمة السابقة. إنه النداء الذي يسبق وقوع الكارثة, فما يجري بالعراق عبارة عن رياحٍ صفراء تسبق العاصفة التي يفترض أن نبعدها عن أرض وشعب العراق بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه وقواه الوطنية الأمينة لشعبها.
16/4/2013 كاظم حبيب
الهوامش
استطاع الدكتور أحمد الجلبي أن يحقق تعاوناً واسعاً مع الولايات المتحدة بحكم علاقاته مع ثلاث أطراف أمريكية هي: 1: البنتاگون (وزارة الدفاع), 2) وكالة المخابرات المركزية (CIA) , 3) وزارة الخارجية الأمريكية, 4) بعض أهم مراكز الأبحاث والدراسات الأمريكية بشأن الشرق الأوسط وذات الصلة المباشرة بتلك الجهات الرسمية, ومن خلال هذه الجهات انفتح له الطريق على البيت الأبيض, وكان لتلك الجهات صلات متينة ومباشرة مع إسرائيل وبهذا انفتح الدرب أيضاً على الأخيرة أيضاً. كاظم حبيب
الموسوعة الحرة, ويكيبيديا, أحداث 11 سبتمبر 2001.
المصدر السابق نفسه.
ملاحظة: شارك في هذه الندوة أربع شخصيات سياسية عراقية هم: السادة محمد بحر العلوم, الدكتور محمود عثمان, والدكتور كاظم حبيب, ثم التحق بالندوة الأستاذ يونادم كنا, الذي كان لتوه قادماً من الولايات المتحدة الأمريكية. وحين انتهيت من محاضرتي وبين أسباب رفضي للحر, رجاني السد بحر العلوم الاحتفاظ بنص محاضرتي المطبوعة لديه. كاظم حبيب
ملاحظة: لم يكن وقوفي ضد الحرب خيار اعتباطي, بل ومن المؤسف أن أقول أني كنت أتوقع ما يجري اليوم على الساحة العراقية وربما بأكثر مما حصل حتى الآن. وهذا يعود لمعرفتي بالمجتمع العراقي وبنيته وبالقوى الإسلامية السياسية وروحها الانتقامية وطائفيتها البشعة وقدرتها على إلحاق الأذى بالمجتمع ووحدته ومستقبله. وهذا ما هو حاصل فعلاً. قبل الحرب كانت كردستان منذ العام 1991 مستقلة تماماً عن حكم الدكتاتور وانتهت في العام 1998 من حربها الداخلية بين الحزبين الكرديين, الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني, وبدأ العمل لتطوير الإقليم بطيئاً. ومع ذلك لم يكن بحاجة إلى الإسقاط للحصول على ما حققه بعد ذلك وبعد الحرب بالضرورة. ولكن لم يكن المجتمع الذي وقع تحت حكم الدكتاتورية لعقود ثلاث عاجزاً عن استخدام إسقاط النظام عبر الحرب لصالحه. وهكذا كان حال القوى الديمقراطية. وحين أُسقطت الدكتاتورية بالحرب, لم ترغب الإدارة الأمريكية تسليم السلطة للمعارضة, بل كانت تريد أن تتولاها هي, وحين رفض المجتمع هذا المخطط سلمت السلطة لمن لا يقود البلاد إلى الوحدة, إلى من سمي بالأكثرية الشيعية. أي بيد الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية التي تقود البلاد إلى الصراع وتعميق الهوة بين الشيعة والسنة من المسلمين وتساهم, شاءت أم أبت بما حصل لأتباع الديانات الأخرى في البلاد من عواقب وخيمة وقتل وتشريد وتهجير وسلب ونهب ...الخ. لا يمكن أن تلد الحرب ديمقراطية, بل فوضى وخراب ودمار وموت كبير, فالحرب تلد حرباً أخرى. وهي المشكلة التي تواجه العراق حالياً. إن لم تكن الحرب قد اسقطت صدام حسين, كيف يمكن أن نتصور حال العراق الآن؟ سؤال يصعب الإجابة عنه, وربما الحرب الأمريكية ضد العراق هي التي ساعدت على انطلاقة الربيع العربي. ورغم الكبوة الراهنة للربيع, فإن ما حققه من جرأة الجماهير واندحار خوفها من الدكتاتوريات هو الكفيل بتعديل المسارات اللاحقة للشعوب العربية صوب الديمقراطية. أن النظم الدينية الراهنة لن تدوم طويلاً وعمرها قصير بالقياس إلى عمر الشعوب. كاظم حبيب
لقد كتبت سلسلة المقالات في الشهر الرابع من العام 2004 ونشرت في الحوار المتمدن في حينها كما نشرت بكتاب. بعد نشر هذه المقالات اتصل بي الصديق الشاعر صادق الصائغ من مقر الخبراء العراقيين في الولايات المتحدة واستفسر عن مصدر هذه المعلومات. قلت له من يرف صدام حسين يدرك الإجراءات التي اتخذها لمواجهة الوضع الجديد.وترجمت تلك المقالات إلى الإنجليزية ووضعت تحت تصرف الخبراء والمتعاونين معهم من الإنجليز والبريطانيين. ومن المحزن أن أقول بأن ما كتبته قد برهنت الحياة عليه بنسبة عالية جداً, وهي مصدر حزني.
في العام 1995 نشرت كتاباً ببيروت تحت عنوان: "ساعة الحقيقة: مستقبل العراق بين النظام والمعارضة". وقد أكدت في حينها على خطأ التحالفات الجارية التي خلطت الأوراق بين القوى المدنية والديمقراطية والقوى الإسلامية السياسية, دون أن تكون هناك حدوداً واضحة بين هذه القوى, إذ كنت أدرك طبيعة هذه القوى وقدرتها على التهام كل شيء لستة اسباب جوهرية:
1. الجواب العام الذي كان يسود العراق بسبب إرهابه ضد الشيعة وبالتالي ستدفع الأحزاب الإسلامية السياسية إلى الانتقام من السنة وكأنهم المسؤولين عما حصل بالعراق وأنهم سيحققون تعاطفاً بسبب هذا الموقف.
2. تحالفهم مع الكرد الذي يمنحهم قوة إضافية تفوق قوتهم الاعتيادية.
3. التأييد الواسع من جانب نظام الحكم الإسلامي الإيراني الشيعي للأحزاب والقوى الشيعية.
4. تأييد الولايات المتحدة وبريطانيا لقوى الإسلام السياسي وتحالفها مع الكرد ورغبتها في إقامة نظام سياسي لا يوحد الشعب العراقي بل يمزقه طائفياً.
5. ضعف القوى الديمقراطية العراقية, رغم إن الحزب الشيوعي كان أقوى الضعفاء بين القوى الديمقراطية العراقية حينذاك.
6. الجهل والأمية والبؤس والفاقة التي كان يعيش تحت وطأتها المجتمع العراقي وخاصة في الوسط والجنوب وغوص الكثير من الناس في الدين والغيبيات وأعمال السحر وما شابه ذلك, بحيث غيب الوعي الديمقراطي كثيراً.
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟