ودّ في هذه العجالة التوقف عند <<استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة>>، التي أطلقها الرئيس جورج بوش أمام الكونغرس قبل أسابيع، لما تحتويه من مواقف ومفاهيم واعتبارات يمكن وصفها <<انقلابية>> على مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي اعتبرت ان الأمم المتحدة (ووثيقتها) المكان الوحيد والشرعي لاتخاذ القرارات على الصعيد الدولي، ولإرساء العلاقات بين الدول. إن ما طرحه بوش الابن امام الكونغرس يلغي مبدأ آخر هاما هو تحريم اي حرب إذا لم تكن <<دفاعية>>، وأيضا مبدأ اعتبر محسوما بعد الحرب يحث الدول على التنسيق في ما بينها على الصعيد العالمي، والتوافق على ايجاد حلول للأزمات التي قد تنشأ. وبرغم ان الدول المنتصرة في الحرب عام 1945 أمنت السيطرة على مجلس الأمن، إلا أنها حافظت على هدف قيام عالم مسالم، او على الأقل منظم بشكل مشترك.
إن الوثيقة التي طرحتها الادارة الاميركية الحالية تهدف الى إلغاء الجوهر والاسلوب على السواء: إن الولايات المتحدة هي التي تقرر الأهداف على الصعيد العالمي، وتحدد الأخطار وتسعى بكافة الوسائل لفرضها او التصدي لها. واذا أحب الآخرون اللحاق بها فهي لا تمانع، لكن ذلك ليس ضروريا. ثم، ليس هناك من ضرورة لاستشارة الامم المتحدة. يكفي وضعها في صورة ما يجري وما يتم اقراره. إن الاعلان مؤلف من مقدمة كتبها بوش، وبرنامج من مجموعة نقاط يبدو انها من عصارة فكر مستشارته للأمن القومي كونداليسا رايس. ويحدد هذا البرنامج ان هدف الانسانية هو <<الحرية السياسية>>، و<<الديموقراطية>> و<<حرية التجارة>>، وهي مبادئ لا يحق لأي بلد ان يزيح او يتراجع عنها في اي لحظة. <<إنه النموذج الوحيد المقبول، الذي خرج منتصرا من التهديد بحرب تدميرية كان الاتحاد السوفياتي يسعى اليها>>.
إن هذا النموذج لم يعد مهددا اليوم من قبل دولة ما، طالما أنه لم يعد هناك من هو قادر بين الأمم على استعمال أسلحة الدمار الشامل، بل من هذا <<التزاوج المخيف بين الراديكالية (الاصولية!) والتكنولوجيا>>. وبفضل هذه الأخيرة تقوم الراديكالية (الاصولية) بهجماتها واعتداءاتها وابتزاز العالم من طريق الارهاب. ولكن هذا الخطر، باعتراف مستشاري بوش، لا يوازي الخطر الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي السابق، وذلك لعدم امتلاكه سلاح الدمار الشامل، وإنما بمقدوره ان يدمي الديمقراطيات. ولهذا فان الولايات المتحدة مصممة على التصدي لهذا التهديد (الارهابي) ومنعه من أن ينمو وينتشر. تريد ان تضربه في <<أوكاره>> من هنا نظرية الحرب الوقائية وتطهير الدول التي يمكن ان يطالها هذا <<الوباء>>. إنها حرب لا حدود لها، لا جغرافية ولا زمنية. إنه بنظرها عدو خفي وسريع الانتشار. انه <<الشر>>، لذلك يجب التحرك السريع <<وعدم اضاعة الوقت في مفاوضات عقيمة وجانبية>> (كما جاء في الوثيقة). والولايات المتحدة ستتحرك واذا لم يلحق بها الآخرون <<فان التاريخ سوف لن يرحمهم>>. أما الأمم المتحدة فقد أنذرها سيد البيت الابيض بأن تتبعه او <<تصبح عديمة الفائدة>>. ولأن هذه الأخيرة عاجزة عن اتخاذ موقف فقد التزمت الصمت حيال انذار واشنطن.
إنها المرة الاولى منذ 1945 التي تعلن فيها أعظم قوة (دولة) في العالم بشكل رسمي ان نموذجها هو الوحيد، وأن اي معارضة له هي، بناء على موازين القوى، ارهابية بالقوة، وانه ليس هناك شرعية لأي خيار سياسي سوى ذلك الذي انتصر عام 1989. إن كونية هذا الأخيرة لا بد ان تؤدي الى قيام عدو كوني، تماما مثل المواجهة القديمة بين <<الخير>> و<<الشر>>. ولم يعد هناك بالتالي إلا الغرب من جهة، والارهاب من جهة اخرى. الارهاب المحدد اليوم ب <<الاصولية الاسلامية>>، التي هي بنظر الادارة الاميركية إجرام خالص لا تنفع معه، ولا تصلح حتى قواعد الحرب (من هنا معسكرات غوانتانامو)، ولا مطلقية الحقوق المدنية... وعلى الأمم المتحدة تطبيق هذه النظرية. وهذا ما يفسر اصرار واشنطن على المطالبة بتطبيق قرارات الأمم المتحدة (فقط القرارات؟) ضد العراق، ولا تطالب بتطبيقها ضد اسرائيل (برغم القليل منها). إن اسرائيل بلد ديموقراطي، أما فلسطين فهي ارض الارهاب، واذا لم يتم تصنيفها مع مجموعة <<الدول المارقة>> فيعود ذلك الى انه لا يعترف بها كدولة.
هذه هي نظرية بوش (هل هي فعلا نظريته هو؟) التي تقوم على قلب المعادلة الدولية التي أرست مفاهيم التعايش والوفاق على مدى القرن العشرين، وهي تحويل جميع الدول الاعضاء في الأمم المتحدة والمتساوية في الحقوق الى دول حليفة تابعة للولايات المتحدة، وبالتالي تحويل منظمة الأمم الى مجرد <<كاتب عدل>> يسجل ويصادق، وليس لديه القدرة على الاعتراض. وكان قصر نيويورك الزجاجي قد غطى في السابق اكثر من تدخل عسكري غير مشروع علني او عبر جهاز الاستخبارات الاميركية، في العالم. وبعد 11 ايلول قبلت الأمم المتحدة، او وقفت تتفرج، على توسيع الصلاحيات الخاصة التي أعطاها الكونغرس للرئيس الأميركي، والتي تمثل خرقا فاضحا لروحية ونص وثيقة الأمم المتحدة. مع العلم بأنه لا تزال هناك معارضة جزئية في اوروبا يلاقيها في ما وراء الأطلسي السناتور الديموقراطي أدوارد كينيدي ونائب الرئيس الاميركي السابق وخصم بوش، آل غور على أمل ان تستعمل فرنسا وروسيا والصين حق النقض (<<الفيتو>>) على قرار الهجوم على العراق. وحدها المانيا أعلنت موقفا واضحا رافضا، ولكن ليس لديها صلاحية وضع الفيتو. وستنفجر هذه العقدة، اذا انفجرت، فقط داخل مجلس الأمن لندخل اذا غالينا في التفاؤل في الفيتوات والفيتوات المضادة.
ومع الحرب على العراق ومضاعفاتها على منطقة الشرق الأوسط سنشهد إنسياقا واصطفافا عاما وراء الولايات المتحدة، او حالة من التوتر لم تعرف منذ اكثر من ثلاثين عاما. وهذا اضعف الاحتمالات ربما... الولايات المتحدة تفعل ما تريد، وليس كوفي أنان هو الرجل الذي يمتلك الشجاعة اللازمة لاتخاذ مواقف. وهذا يعني مجموعة مشاكل لا يمكن التكهن بنتائجها، اولها إعادة الاعتبار الى الحرب كوسيلة <<حل>> للأزمات، والثاني جنوح الولايات المتحدة الى عدم احترام، او عدم الأخذ بالاعتبار اي مؤسسة لا تضمن اي سيطرة عليها، مثل رفضها لبروتوكول كيوتو ولسلطة محكمة الجزاء الدولية، مما يؤدي الى خلخلة مفهوم، وامكانية تطبيق القانون الدولي. وهناك ثالثا التأكيد على <<التكامل>> بين السوق والديموقراطية، لأن السوق بحاجة الى حرية، وبالتالي أساس الحرية هو في لعبة السوق. أما المعضلة الرابعة، وربما الأهم هي طبيعة الديموقراطية في الولايات المتحدة نفسها وانعكاسات ذلك على مفهوم ودور الدولة بشكل عام. فإذا كان نورمان بيرنباون يعود الى توكشيل في كلامه حول سلطوية محددة تنتجها <<الاعلامية الديموقراطية>>، مجذرا من الاجماع الذي تشكل حول هتلر والرايخ الثالث، تصبح عندها نظرية نيغري وهارث (في كتاب صدر لهما مؤخرا) حول امبراطورية بدون امبريالية، جديرة بالاهتمام عندما تعتبر ان تعميم النموذج الرأسمالي الحالي للإنتاج يمكن ان يؤدي الى ضعف في الآليات السياسية الأساسية للسلطات، بدءا من الدولة. وهل ممكن قيام امبراطورية بدون امبريالية وبدون نزوع نحو الهيمنة العسكرية والسيطرة على المواد الأولية؟ الايطالي نيغري يعتبر ان نظرية بوش هي نوع من <<الاستفراغ>> لمفاهيم تخطاها الزمن، وأن الرأسمالية ستطيح بها... ربما بعد مرور وقت من الزمن وبعض المجازر!
إن استنباط ديناميكية توفق او توازن بين قيام نظام عالمي جديد للإنتاج يكون بمنأى عن الذاتيات التاريخية المتراكمة والسلطات التي تحكمها المصالح أمر ليس سهلا على الاطلاق. إن ايديولوجية <<الآباء المؤسسين>> والشعور <<بالحنين الى الله>>، والى قدسية الملكية والنظام، وتجسيد ذلك في عقلية ونمط <<الوسترن>>، ثم التيقن في استعمال خيرات الكرة الارضية، او بالأحرى السيطرة عليها... كل ذلك يشكل وعيا متماسكا ينتج امثال جورج بوش ويرخي بثقله اكثر بكثير مما خلفه <<ايار 68>> على اوروبا بشكل خاص. إن واشنطن تكون صادقة عندما تنشد: "God bless America"، وتضع يدها اليمنى على قلبها المبلل بالنفط... إن التاريخ في الثلاث عشرة سنة الأخيرة التي تفصلنا عن عام 1989 قد جنح بشكل قوي نحو اليمين الذي يشرع اجنحته، فيما اليسار مثقل بالجراح.
() كاتب لبناني
©2002 جريدة السفير