|
فلسفة الثقافة البديلة والمثقفين في العراق
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1167 - 2005 / 4 / 14 - 10:26
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
إن أية محاولة للبحث عن "قاسم مشترك" في الثقافة وفي إبداع المثقفين في العراق المعاصر ينبغي أن تجيب على ماهية وكيفية الوحدة الجامعة للممكن والضروري فيه. أي هل من الممكن صنع قاسما مشتركا وفعالا في الظروف الراهنة في ميدان الثقافة والمثقفين؟ وهل هناك من ضرورة له؟ في اعتقادي أن الإجابة بكلمة نعم على هذين السؤالين جلية للغاية وقد ترتقي إلى مستوى البديهة. غير أن الإشكاليات المعقدة عادة ما تلازم الأمور الجلية خصوصا عندما تصبح محط الخلاف والجدل. إذ من المكن القول، بأن منطق الثقافة والإبداع الثقافي يفترض بذاته توحيد المثقفين وجمع القواسم المشتركة بينهم. الا أن تجارب الماضي والحاضر وتاريخ العراق المعاصر تجعل من هذا الحكم البديهي إشكالية غاية في التعقيد. وهو الأمر الذي يفترض بدوره إعادة النظر بها بالشكل الذي يمكن أن نجعل من البديهيات النظرية مرجعيات عملية فاعلة في العقل والضمير الإنسانيين للثقافة والمثقفين في العراق. بمعنى كيفية العمل على توحيد الثقافة والمثقفين بقواسم مشتركة دون الوقوع في وحل التوتاليتارية والدكتاتورية، وكيفية تفعيل القواسم المشتركة دون إلغاء حرية الإبداع والتنوع الدائم فيه. فالتجارب التاريخية للأمم والثقافات جميعا تبرهن على أن الثقافة الحقيقية تتجلى في تكامل مثقفيها وكذلك في منظومة الإبداع وتنوعه. وهي مهمة ممكنة التحقيق في ظروف العراق الحالية والمستقبلية عندما نجعل من تكامل السلطة بمعايير الحق، والحقيقة بمعاييرها الذاتية شعارنا النظري والعملي، أي مرجعية متسامية للثقافة والمثقفين العراقيين. فعندما ننظر إلى تاريخ العلاقة بين المفكر والسلطة بشكل عام وفي تاريخ العراق الحديث بشكل خاص، فإننا نقف أمام واقع يقول، بأن المفكرين الأحرار هم على الدوام ضحية المؤامرة والمغامرة والتشريد والتشرد، بينما كانت تنعم السلطة وتتلذذ بأنصاف "أهل العلم" في المعابد والمساجد ودور "العلم والمعرفة"، والدعاية والإعلام! وليس مصادفة أن تقرر الثقافة الإسلامية في إحدى مواقفها الحكيمة بهذا الصدد القول "اللهم نجينا من أنصاف المتفقهين والأطباء"! لقد عرفت بتجاربها أن الأول يفسد الروح والثاني يخرّب الجسد. بينما تفترض الحقيقة وجود العقل السليم في الجسد السليم. وهي عبارة بسيطة كالحقيقة وإشكالية كالحقيقة أيضا. فالخلاف والصراع والتناقض بين المفكر الحقيقي والسلطة، واقع لا يمكن لأحد تجاهله أو التغاضي عنه، لاسيما وانه شكل وما يزال يشكل أحد مصادر الدراما التاريخية للوجود الإنساني. فهو معقل الفضيلة ومعتقل الرذيلة. وبينها كما بين كل ثنويات الوجود الكبرى، تاريخ عريق من المواجهة والهدنة. وهو تاريخ معقول ومقبول ومرفوض. إلا أن القضية الأكثر جوهرية الآن تقوم في البحث عن بديل يتجاوز دراما الدماء والإماء إلى دراما العطاء والسخاء الحر. وبالتالي العمل من اجل تحويل الإبداع إلى كلمة الروح الفاعل، والروح الفاعل إلى الكلمة الفصل في معارك البحث عن الحقيقة وإقرار الحق. وهي معادلة ضرورية لتقويم وترسيخ تقاليد وعي الذات الثقافي الحر. لاسيما وان المسار العام والخاص للتاريخ سوف يضع الجميع بالضرورة أمام إشكاليات الحرية. وسواء جرى وعي هذه الحرية على أساس أنها "المصير" الفردي للمفكرين والمبدعين أو مصير الدولة والأمة، فإنها تضع الجميع بالضرورة أمام امتحان تاريخي يصعب التحضير له بالمقاييس المدرسية أيا كانت تقاليدها ومستوى رقيها. وذلك لان الحرية وإشكالياتها بالنسبة للمفكرين والمبدعين هي أولا وقبل كل شئ إشكالية وعي الذات. مما يضع بالضرورة مهمة التعامل معها بوصفها العصارة المتراكمة لكيفية حل المعادلة الواقعية بين السلطة وأهل الفكر، وكذلك علاقة المؤسسة بالحقيقة. فإبداع الحقيقة والإخلاص لها هو منبع أرواح الثقافات والأمم، وما عداه مجرد أشباح! إننا نقف أمام شروط جديدة لتطور الدولة والمجتمع بعد سقوط التوتاليتارية البعثية والدكتاتورية الصدامية. وهو واقع أثار ويثير تضافر وتنافر مختلف المكونات الفاعلة في آفاق البدائل السياسية والاجتماعية. إذ يقف العراق اليوم أمام احتمالات متنوعة لتجسيد مختلف البدائل المتعلقة بالنظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. وإذا كان هناك شبه إجماع خفي حول ما يمكن دعوته "بالبديل الديمقراطي" عند الأغلبية الساحقة من المجتمع، فإن ذلك لا يشكل بحد ذاته ضمانة لتحقيق الديمقراطية السياسية والاجتماعية بمعناها السليم. كما انه لا يحتوي بذاته على حلول عقلانية. أما الشيء الوحيد المؤكد فهو الإمكانية الواقعية لتحقيق هذه البدائل في حال صياغة فلسفة خاصة بمرحلة تأسيس الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني في العراق المعاصر. وهي فلسفة تفترض الانطلاق من واقع العراق المعاصر وإشكاليات وجوده المشوه بعد خروجه من دهاليز العقود الأربعة المظلمة للتوتاليتارية والدكتاتورية. كما انها تستلزم وحدة مكوناتها النظرية والعملية بطريقة تؤسس لمنظومة البديل الواقعي والعقلاني. وهي فلسفة تفترض حسب نظري وحدة كل من · فكرة الاستعراق، بوصفها فلسفة بناء الهوية العراقية، · وفكرة الاعتدال العقلاني، بوصفها فلسفة تذليل الذهنية الراديكالية، · وفكرة المرجعية الثقافية، بوصفها فلسفة تذليل مختلف أصنام المرجعيات. وإذا كانت الأولوية هنا "للتذليل"، فلأنه الشرط الضروري لتأسيس الرؤية النقدية والعقلانية في تجاوز الخلل التاريخي الهائل في البنية الاجتماعية والذهنية السياسية والمزاج الثقافي للعراق. كما انه الشرط التاريخي والواقعي لإرساء أسس ما ادعوه بمعاصرة المستقبل في العراق. وهي معاصرة لا يمكن تحقيقها دون تربية الرؤية والمواقف الاجتماعية العاملة على تعميق وترسيخ وعي الذات الاجتماعي والسياسي. فهو الأسلوب الوحيد القادر على بناء منظومة قادرة على تحصين المجتمع من إمكانية السقوط ثانية في أوحال الدكتاتورية والاستبداد، وتحفزه في نفس الوقت على صياغة وخوض تجارب البدائل الواقعية لتطوير المجتمع والدولة في كافة الميادين. وتشكل الثقافة بهذا الصدد المكون الروحي لما ادعوه بمعاصرة المستقبل في العراق. إذ يستحيل تحقيق فكرة البديل الشامل من حيث كونه إمكانية واحتمال عقلاني وواقعي دون فلسفة للثقافة تناسب هذه الرؤية. وذلك لأن التحول التاريخي العاصف الذي مس ويمس بنية الدولة والمجتمع ويرافق مجرى إمكانياته الداخلية، يعطي للثقافة أهمية جوهرية بالنسبة للبدائل واحتمالاتها المتنوعة. والقضية هنا ليست فقط في أن الثقافة هي المكون الروحي الضروري للدولة والمجتمع، بل ولأنها الأسلوب الذي لابد منه لترتيب البنية الاجتماعية والذهنية السياسية في منظومة معقولة ومقبولة للأغلبية، ومستجيبة لمتطلبات المعاصرة. وليس هناك من صيغة فعلية قادرة على الاستجابة لمكونات المعقول والمقبول التاريخية في ظروف العراق الحالية، اكثر مما يمكن دعوته بفلسفة الالتزام الثقافي. طبعا، هناك التزامات متنوعة. ومن الصعب حصر أنواعها. لاسيما وأن عملا كهذا لا يضفي على حقيقة الالتزام أبعادا اكثر مما هو موجود في الفكرة القائلة، بأن الالتزام موقف علمي وعملي يتحدد مضمونه وقيمته بمدى اقترابه من الحق والحقيقة وابتعاده عنهما. وهو تمسك لا يمكن فصله عن ماهية الحق والعمل من اجل بلوغ حدوده في كل شئ. وهو الأمر الذي يضع أمام المشروع الثقافي المعاصر في العراق أولوية رفع مبدأ الالتزام إلى مصاف المرجعية العملية الدائمة. والمقصود بالالتزام هنا ليس التأييد الجزئي أيا كان شكله ومحتواه وميدانه وأسلوبه، بل الإبداع الحر المقيد بمنطق ومعايير الحق والحقيقة، أي بمنطق الرؤية المتجردة عن كل شكل من أشكال الحزبية الضيقة. فمن الناحية الواقعية هو منطق الالتزام الحر بقيمة الاستعراق بوصفه أسلوب بناء الهوية الوطنية العراقية المعاصرة، ومن الناحية العملية هو التمسك الدائم بقيم الاعتدال العقلاني بوصفه أسلوب بناء الدولة الشرعية والمجتمع المدني. ومن الناحية المجردة هو منطق الالتزام الحر النابع من رؤية متسامية عن النفس والآخرين (المرجعية الثقافية). وهو التزام يستحيل تحقيقه دون استكماله بما يمكن دعوته بثقافة الواجب. إذ أن تحويل الالتزام إلى فعل ذاتي متجرد من مختلف أشكال الضيق السياسي والحزبي يفترض بالضرورة ارتقاءه إلى مصاف العمل بمعايير وقيم الواجب. والواجب هو الصيغة الأكثر رقيا وسموا لوحدة الفضيلة والجمال. وهي صيغة مجردة لا تفقد قيمتها مع مرور الزمن، لكنها تفترض في ظروف العراق الحالية تجسيدها وتحقيقها ضمن حلقات الانتقال الديناميكي من الأخلاق إلى السياسة ومن السياسة إلى الثقافة، بوصفها سلسلة الالتزام العملي للثقافة تجاه الإشكاليات الكبرى التي تواجه العراق بعد مرحلة التوتاليتارية والدكتاتورية. ويمكن تجسيد هذه الحلقات من خلال تحقيق ثلاث مهمات كبرى على مستوى الأفكار والأعمال وهي: أولا: ألا تتحول الثقافة إلى أداة لسحق الحقائق وتحويلها إلى مساحيق لتغطية تجاعيد السلطة وتجميلها. وفي ذلك تتجلى حقيقة المهمة الأخلاقية للثقافة. ثانيا: نقد "قدسية" الواقع والقيم والأفكار أيا كان مصدرها وشكلها. وفي ذلك تتجلى حقيقة المهمة السياسية للثقافة. ثالثا: التأسيس النظري والعملي للبدائل والالتزام الشخصي بالاستنتاجات المترتبة عليه. وفي ذلك تتجلى حقيقة المهمة الثقافية للمبدعين. إن تحقيق هذه المهمات هو الأسلوب الكفيل بصنع أسس ما يمكن دعوته بثقافة الخيال المبدع، بوصفها الغاية الفعلية من مشروع فلسفة الثقافة البديلة. وفيها ومن خلالها فقط يمكن بناء "القاسم المشترك" في الثقافة وفي إبداع المثقفين. من هنا فإن المهمة التاريخية للمثقف العراقي الآن تقوم في إنقاذ الفكر من أن يكون ميدانا لتدخل رجل السياسة، ورفع رجل السياسة إلى مصاف الإدراك المتزايد لقيمة الحقيقة. والعمل على تقليص قيمة وأهمية رجل السياسة وجعله في افضل الأحوال موظفا عاديا في بنية مرنة وفعالة لمؤسسات حقوقية. فهي المهمة التي تجنب في حال تنفيذها المجتمع والدول من تكرار المآسي التاريخية الهائلة التي تعرضوا لها في مجرى القرن العشرين. وهي مهمة يستحيل تحقيقها دون التمسك بالمبدأ العام عن الأهمية العملية لفكرة الحدود ومكوناته الست، واقصد بذلك · إدراك قيمة الحدود في الأقوال والأعمال والأفعال، · وإدراك وحدة الحقيقة في العلم والعمل (الإبداع) وحقيقة الوحدة المتكاملة في إبداع الجميل، · وان المعرفة الحرة لا تتقيد بغير ذاتها، · وان المبدع الحر هو من تقيده الحقيقة فقط، · وان للحقيقة حدودها في الحق فقط، · وأن الحقيقة تنقذ الثقافة والمثقفين (المبدعين) بكافة المعايير والمقاييس والحالات. ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل العراق بحاجة إلى قضية كردية؟
-
العمران الديمقراطي في العراق (4-4) فلسفة الثقافة البديلة
-
العمران الديمقراطي في العراق (3-4) المجتمع المدني ومهمات بنا
...
-
انتخاب الطالباني: مساومة تاريخية أم خيانة اجتماعية للقيادات
...
-
العمران الديمقراطي في العراق (2-4) الدولة الشرعية - البحث عن
...
-
العمران الديمقراطي في العراق (1-4) التوتاليتارية والدكتاتوري
...
-
الإصلاح والثورة في العراق – البحث عن توازن واقعي
-
الراديكالية العراقية - التيار الصدري وآفاقة المسدودة - الحلق
...
-
الراديكالية الشيعية المعاصرة وآفاق البدائل السياسية في العرا
...
-
الاعلام العربي وإشكالية الأمن والأمان والحرية والاستبداد في
...
-
الراديكالية والرؤية المأزومة في العراق – 2-4
-
الرؤية السياسية - لا الرؤية الحزبية
-
الراديكالية العراقية - الطريق المسدود 1-4
-
المرجعيات الثقافية لفكرة الإصلاح في العراق
-
الصحافة العربية المرئية والمسموعة وظاهرة الصحّاف والتصحيف
-
المغزى التاريخي للانتخابات العراقية الاخيرة
-
الصورة والمعنى في الصراع العربي – اليهودي
-
اليهودية – الصهيونية في روسيا
-
السياسة والمقدس أو التاريخ الفعلي والزمن الضائع في العراق –
...
-
السياسة والمقدس أو التاريخ الفعلي والزمن الضائع في العراق –
...
المزيد.....
-
رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق
...
-
محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا
...
-
ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة،
...
-
الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا
...
-
قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك
...
-
روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
-
بيع لحوم الحمير في ليبيا
-
توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب
...
-
بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
-
هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|