|
تجليات زوراء اليمامة: هوامش يحيى
زيد كثير الحمداني
الحوار المتمدن-العدد: 4062 - 2013 / 4 / 14 - 17:02
المحور:
سيرة ذاتية
"ان ماساة مصرع الحسين بن علي يمكن ان تشكل مادة لعشرات المسرحيات الفاجعة". عبارة تجمع بين الحسين بن علي وما ارتبط بذاكرتي الطفولية عنه من طقوس مهيبة في عاشوراء وذلك في مدينة الكاظمية التي عشت فيها شطرا واسعا من حياتي وبين المسرحيات الفاجعة التي كنت أقرأها بشغف يفوق حد الوصف كمأساة يوليوس قيصر لشكسبير ومآسي سوفوكليس وغيرها من روائع التراجيديا. كلما تقدمت بي الأيام أدرك وبصورة شبه مؤكدة ان العبارة أعلاه لن تبارح عرصات ذاكرتي ابدا، بل اني اكاد استحضر في مخيلتي رقم الصفحة وموقعها فيها هذا فضلا عن أسم الكتاب الموجودة فيه: القافلة لعالم الانثربولوجيا كارلتون كون. وأنا اقرأ في ذلك السفر الجليل، كنت أشعر باني فرد من افراد قافلة "كون"، وفي حقيقة الأمر انا فرد فيها حقا لان الكتاب يحكي قصة الاقوام التي استوطنت الشرق الأوسط منذ عصور ما قبل التاريخ وصولا الى القرن العشرين، وما جعله أكثر متعة وأعم فائدة وأشد اثارة هي تلك الهوامش التي تزدحم في اسفل واعلى كل صفحة من صفحاته الصفراء ذات الرائحة التي تذكرني بعبق مكتبات شارع المتنبي العتيقة. فهامش يدفعني الى مراجعة كتب التاريخ وآخر يدفعني الى التنقيب عن مصطلح من مصطلحات الجغرافية، وهكذا صرت اقرأ كتابين في كتاب واحد، الكتاب الأصلي لكون وهوامش تكاد أن تكون كتابا آخر في داخله، صاحب الهوامش هو الاستاذ يحيى، ولاشك ان من يقرأ هذه السطور يريد أن يعرف من هو يحيى؟! هو واحد من أعز اصدقاء والدي، غير أن علاقتي به ترتقي الى مستوى الغرابة فعلا، لأني أعرف عنه الكثير ومطلع على جملة غير يسيرة من أفكاره بدون أن التقي به ولو للحظة واحدة! أذكر بعد قرائتي لكتاب "كون" صرت في حيرة من أمري، هل الرجل مؤرخ؟! أم عالم في الجغرافيا السكانية؟! ام متخصص في علم الأجتماع؟! أم بايولوجي؟! أم ماذا بحق السماء؟! " استاذ يحيى كان محاميا، وقارئا نهما وشاعرا ايضا، ولدي في المكتبة بعض الكتب التي اهداني اياها" هذا ما اخبرني به والدي بعد ان سألته عن مهنة الرجل وتحصيله العلمي فكان جوابه غير متوقع و زادني دهشة على دهشتي ومن يومها وحتى تركي لبغداد وأنا انقب في مكتبة بيتنا العامرة عن كتب الاستاذ يحيى، ولحسن حظي وجدت بعضا منها. فقرأت "تهافت الفلاسفة" للغزالي وكتاب عن الارهاب الفكري لا اذكر اسمه للمفكر هادي العلوي وكتاب عن التصوف للعلامة مصطفى كامل الشيبي، وفي كل كتاب كنت -وكما حصل معي عند قراءة كتاب القافلة- اقرأ كتابين في كتاب واحد!! للاستاذ يحيى خاتمة مفجعة مازالت حية في قلوب من احبوه وعاصروه وعرفوه عن قرب ومنهم والدي الذي مازالت تنتابه غصة ظاهرة كلما تحدث عن ذكرياته معه وأيامه الأخيرة التي قابلها فيها. حيث اعتقل الرجل في ظروف غامضة من قبل قوى الأمن في عهد حكومة البعث وقبل احتلال الكويت في العام الف وتسعمئة وتسعين ببضعة شهور وحكم عليه بالاعدام شنقا بتهمة الاضرار باموال الدولة، اما مليارات ابناء الرئيس واقاربه وسياراتهم الفارهة وعلب سيكارهم الثمينة وقصورهم المنيفة فلم تكن اضرار باموال الدولة؟!! يا لشقوتهم تركوا ما جمعوا في غمضة عين. الا ان خطيئة الاستاذ يحيى والتي دفع حياته ثمنا لها هو عمله كمحام في احدى الشركات التي تتعاقد مع وزارة الزراعة آنذاك ويبدو ان تلك الشركة كانت تنافس الابن البكر للرئيس في ذلك السوق ومن ينافس ابن الرئيس الا هالك وابن هالك وذو نسب في الهالكين عريق؟!! أذكر ذلك اليوم وكأنه حدث بالامس القريب، عاد أبي من عيادته وعلى غير عادته مبكرا بعض الشئ و ذلك في حوالي السابعة مساء، كان وجهه متجهما للغاية وعيناه محمرتين، لم أجرو على سؤاله عما ألم به، القى حقيبته على طاولة صغيرة موضوعة في المطبخ وهرع الى غرفة نومه، كانت أمي داخل الغرفة في انتظاره، صار قلبي يدق بسرعة لاني شعرت أن هناك كارثة حلت بنا، وعلى عادة الاطفال وبعض الفضوليين من الكبار الصقت اذني بباب الغرفة الموارب وصرت اسمع ما يقوله أبي بوضوح: " اتصلت بي ابنة استاذ يحيى، قالت لي سيتم مساء اليوم تنفيذ حكم الاعدام، لربما الرجل يعدم الآن او اعدموه!!" دنوت برأسي من الباب أكثر وصرت أرى من فتحته الضيقة جدا منظرا لن يغيب عن مخيلتي ما حييت: أبي ينهار في حضن امي و يجهش في بكاء مرير كبكاء طفل صغير تاهت عنه امه في زحمة سوق مكتظ بالغرباء. وصارت امي تبكي معه. في تلك الليلة لم أستطع النوم حتى تلاشى الاحمرار من عيني أبي الذي مازال حتى الساعة يئن بصمت على فراق صاحبه! غير أن صاحبه لم يفارقني منذ أن ركبت معه في قافلة "كون"، واسريت في دجى فلاسفة "الغزالي"، وانجذبت في أنوار متصوفة "الشيبي". وما برحت عبارته الأخيرة التي قالها لوالدي في آخر لقاء جمعهما داخل زنزانة ضيقة تجلجل في أذني وتغريني بقبول فكرة الرحيل: " لا تبك يا صديقي، فغدا سوف القى كل من قرأنا لهم واحبنناهم، غدا سوف اقابل المعري والمتنبي والكندي والفارابي وابن طفيل، وبكل تأكيد سابلغهم سلامك الحار اليهم!!"
#زيد_كثير_الحمداني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يا أيها الذين سقطوا...
-
بيانات الحرف العاري: كشف اللثام عن أولاد المتعة اللئام
-
تجليات زوراء اليمامة: أنسى بغداد
-
بيانات الحرف العاري: خطيئة بريمر
-
بيانات الحرف العاري: جنتي في بيجنغ
-
بيانات الحرف العاري: فانك تُسمِعُ الموتى!!
-
بيانات الحرف العاري: اشاعات من تأليفي
-
بيانات الحرف العاري: أبناء الوادي الخسيف
-
بيانات الحرف العاري: تساؤلات آخر الزمان
-
أطراس الذكورة
-
دليل المحتار في بيان أحوال الكفار
-
الرجل العراقي منذ الف عام
المزيد.....
-
لا تقللوا من شأنهم أبدا.. ماذا نعلم عن جنود كوريا الشمالية ف
...
-
أكبر جبل جليدي في العالم يتحرك مجددًا.. ما القصة؟
-
روسيا تعتقل شخصا بقضية اغتيال جنرالها المسؤول عن الحماية الإ
...
-
تحديد مواقعها وعدد الضحايا.. مدير المنظمة السورية للطوارئ يك
...
-
-العقيد- و100 يوم من الإبادة الجماعية!
-
محامي بدرية طلبة يعلق على مزاعم تورطها في قتل زوجها
-
زيلينسكي: ليس لدينا لا القوة ولا القدرة على استرجاع دونباس و
...
-
في اليوم العالمي للغة العربية.. ما علاقة لغة الضاد بالذكاء ا
...
-
النرويجي غير بيدرسون.. المبعوث الأممي إلى سوريا
-
الرئيس الكوري الجنوبي المعزول يتخلف عن المثول أمام القضاء
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|